وحدة الإحياءدراسات عامة

منهج اعتبار السياق.. في فقه النص الشرعي وضوابطه

أول ما نظر المحققون من علماء الإسلام، من المفسرين وشراح الحديث وعلماء أصول الفقه، في الخطاب الشرعي، قرروا أن النظر فيه قائم على المعرفة بلسان العرب، ولهذا قاموا بتحليل الخطاب الشرعي من جهة اللغة، واشترطوا فيمن ينظر في النص الشرعي أن يكون عالما بلسان العرب. ثم أدركوا أيضا أن المعرفة بهذا الجانب اللغوي من الخطاب الشرعي، كثيرا ما لا يفي بالغرض الذي هو فهم هذا الخطاب وإدراك معناه الصحيح، ولهذا قرروا أن هناك عناصر غير لغوية تدخل في فهم الخطاب، وأن هذه العناصر كثيرا ما تكون بعيدة عن النص محل الفهم ومنفصلة عنه. فإذا كان الناظر العارف باللغة، يدرك العناصر اللغوية التي يتوقف عليها النص بالنظر فيه منفردا، فإن هناك عناصر غير لغوية لا تظهر في النص الشرعي المنظور فيه، وإنما تتوارى عنه في جهات أخرى، ولا يصح ادعاء الفهم إلا باستحضارها والعبور إليها والبحث عنها في مواضعها، ثم ضمها إلى النص المنظور فيه وإلحاقها به فينظر فيه مضموما إلى ذلك كله مجتمعا مع هذه العناصر غير اللغوية.

ومما يؤيد ذلك أن الخطاب الشرعي تتلبس به مقتضيات، ويرد في سياقات خاصة، وإن هذه المقتضيات والسياقات قد تنفصل في النقل عن نصوصها بعد أن كانت ملابسة لها في الوقوع. فيجب على الناظر في الخطاب الشرعي أن يعبر بنظره إلى ملابسات النص وظروفه، فيضمها إليه ويعتبر بها في نظره.

ثم إن هناك نصوصا شرعية تحمل في ظاهرها صفة عدم الاكتفاء بها وحدها، وتدل الناظر فيها بنفسها على ضرورة استحضار عناصر خارجية؛ لأن الإعراض عن ذلك يوقع في فهم لا يستقيم مع قواعد الشريعة المعلومة المقررة. من ذلك مثلا قوله، صلى الله عليه وسلم، لأبي ذر “لا تتولين مال يتيم” فمن نظر فيه عرف بالضرورة أن معناه الظاهر لا يمكن أن يكون عاما؛ لأن النهي عن كفالة اليتيم مناقض للشريعة لأن الثابت المقرر فيها الأمر بكفالة اليتيم وأنه من أعظم القربات وأكبر الطاعات.

وقد عبر الشاطبي، رحمه الله تعالى، عن هذا الأصل في قوله: إن “المجتهد متى نظر في دليل على مسألة احتاج إلى البحث عن أمور كثيرة لا يستقيم إعماله الدليل دونها”1. وحكم الشاطبي بالغلط على الوقوف عند ظواهر النصوص من غير التفات إلى العناصر الخارجية فقال: “اتباع ظاهر القرآن الكريم على غير تدبر ولا نظر في مقاصده ومعاقده، والقطع بالحكم ببادئ الرأي والنظر الأول… ألا ترى أن من جرى على مجرد الظاهر تناقضت عليه الصور والآيات وتعارضت في يده الأدلة على الإطلاق والعموم”2. وفي العمل بالنص الشرعي وتنـزيله على محله قال رحمه الله تعالى: “اقتضاء الأدلة للأحكام بالنسبة إلى محالها على وجهين: أحدهما؛ الاقتضاء الأصلي قبل طرء العوارض… والثاني؛ الاقتضاء التبعي وهو الواقع على المحل مع اعتبار التوابع والإضافات، كالحكم بإباحة النكاح لمن لا أرب له في النساء ووجوبه على من خشي العنت… وبالجملة كل ما اختلف حكمه الأصلي لاقتران أمر خارجي… إن الدليل المأخوذ بقيد الوقوع معناه التنـزيل على المناط المعين، وتعيين المناط موجب في كثير من النوازل إلى ضمائم وتقييدات لا يشعر المكلف بها… إذا اقترن المناط بأمر محتاج إلى اعتباره في الاستدلال فلابد من اعتباره”3.

ومن المعاصرين يقول الطاهر بن عاشور: “… يقصر بعض العلماء ويتوحل في خضخاض من الأغلاط، حين يقتصر في استنباط أحكام الشريعة على اعتصار الألفاظ، ويوجه رأيه إلى اللفظ مقتنعاً به، فلا يزال يقبله ويحلله ويأمل أن يستخرج لبه، ويهمل ما قدمناه من الاستعانة بما يحف بالكلام من حافات القرائن والاصطلاحات والسياق…”4، ومعنى هذا أن فقه النص الشرعي لا يحصل بتحكيم قواعد اللغة وأصول العربية، وإنما هناك عناصر أخرى متنوعة تدخل في فهم النص. وفي ضبط هذه العناصر وحصرها استعمل العلماء صيغا مختلفة واصطلاحات متنوعة عبر العصور وبحسب العلوم المهتمة بفهم الخطاب. لكن هذه الاصطلاحات تشترك كلها في أصل واحد، وهو الالتفات إلى خارج النص والتماس عناصر تفيد في فهم معناه، فينصون من هذه العناصر، التي تقع خارج النص، على ظروف التنـزيل، وأسباب الورود، ومقاصد الشريعة وكلياتها، والمقام، ومقتضى الحال، والقرائن، والسياق، وظروف الخطاب، وحال المتكلم، والعناصر غير اللغوية في فهم الخطاب، أو العناصر فوق لغوية. وكل هذه الاصطلاحات بينها عموم وخصوص، ومنها ما يطلق على ذلك كله. وكان مصطلح السياق مما استعمل للتعبير أحيانا عن جزء من هذه العناصر وهو السياق الخاص، وأحيانا أخرى للتعبير عن جميع العناصر التي تقع خارج النص وهو السياق العام.

 أما السياق الخاص؛ فيقصد به سوابق النص ولواحقه وما له تعلق به من النصوص التي من جنسه مثل آية من القرآن مع غيرها من الآي أو من غير جنسه مثل الآية من القرآن مع السنة النبوية؛ فإن النص الشرعي قد يأتي وسط نصوص كثيرة متتابعة سابقة ولاحقة، فلابد للناظر فيه من الالتفات إلى السوابق واللواحق من النصوص. مثل ذلك ما يحصل في تفسير آية من القرآن الكريم، فإن اعتبار سياق ورودها قد يحوج إلى الالتفات إلى الأجزاء السابقة واللاحقة في جميع السورة التي وردت بها، وفي جميع القرآن الكريم، وما يتعلق بمعناها من السنة النبوية. يقول الشاطبي: “فالذي يكون على بال من المستمع والمتفهم، الالتفات إلى أول الكلام وآخره، بحسب القضية وما اقتضاه الحال فيها، لا ينظر في أولها دون آخرها، ولا في آخرها دون أولها، فإن القضية وإن اشتملت على جمل فبعضها متعلق بالبعض، لأنها قضية واحدة نازلة في شيء واحد. فلا محيص للمتفهم عن رد آخر الكلام على أوله، وأوله على آخره، وإذ ذاك يحصل مقصود الشارع في فهم المكلف”5، وقبل الشاطبي تحدث الشافعي، رحمه الله، عن فائدة اعتبار السياق في فهم القرآن الكريم في كلامه على أصناف النص الشرعي، فقال: “الصنف الذي يبين سياقه معناه”6، وقال أيضا: “… وظاهر يعرف في سياقه أنه يراد به غير ظاهره…”7، ويقول ابن القيم: “السياق يرشد إلى تبيين المجمل وتعيين المحتمل، والقطع بعدم احتمال غير المراد… وهذا من أعظم القرائن الدالة على مراد المتكلم، فمن أهمله غلط في نظره، وغالط في مناظرته، فانظر إلى قوله تعالى: ﴿ذُقْ اِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ﴾ (الدخان: 46)، كيف تجد سياقه يدل على أنه الذليل الحقير”8. وقد يطول سياق النص المنظور فيه حتى تبعد بعض أجزائه عنه، فلابد هنا من اتساع النظر لئلا يغيب أي جزء من أجزاء السياق السابقة أو اللاحقة. فإن “أفضل قرينة تقدم على حقيقة معنى اللفظ، موافقته لما سبق له من القول واتفاقه مع جملة المعنى وائتلافه مع القصد الذي جاء له الكتاب بجملته”9.

أما السياق العام فهو كل ما له تعلق بالنص ولا يصح الاستشهاد به وادعاء فقهه إلا مضموما إليه، وهو ما قصده الشاطبي بقوله إن: “المجتهد متى نظر في دليل على مسألة احتاج إلى البحث عن أمور كثيرة لا يستقيم إعماله الدليل دونها”10.

وإذا كان المقصود هو عدم الغفلة عن كل ما يفيد في فقه النص الشرعي فالمعتبر هو السياق بمعناه العام، فإذا أطلق انصرف إليه، ومن أراد السياق الخاص فينبغي التنصيص. ومن استعمل غيره من الاصطلاحات للتعبير عن هذا المنهج فله ذلك، فلا يضر اختلاف الاصطلاحات بعد الاتفاق على جوهر المعاني.

وعلى هذا فاعتبار السياق معناه، الالتفات إلى كل ما له تعلق بالنص محل البحث والنظر من العناصر، واستحضار كل ما له فائدة في بيان معناه، والحذر من الغفلة عن كل ما له تأثير في الحكم المأخوذ منه وفي العمل به وتنـزيله على محله. فالنص ليس دليلا إلا مع سياقه، وقد أحسن الرازي في التعبير عن هذا في كلامه على القرينة المنفصلة بقوله: “ما يكون بحيث لو ضم إليه آخر لصار المجموع دليلا على الحكم”11. فلا يستقيم إعمال النص في موضع الاستدلال للحكم والعمل إلا مضموما إلى سياقه، مضافا إلى كل ما يتصل به فيكون المجموع دليلا.

وفائدة السياق ضبط الفهم وحسن العمل والتنـزيل، وإن الغفلة عن السياق يوقع في الإشكال والشذوذ. يقول الجويني: “المقصود من النصوص الاستقلال بإفادة المعاني على القطع مع انحسام جهات التأويلات وانقطاع مسالك الاحتمالات، وهذا إن كان بعيدا حصوله بوضع الصيغ ردا إلى اللغة، فما أكثر هذا الغرض مع القرائن الحالية والمقالية”12، فبين، رحمه الله، أن الالتفات إلى القرائن، وهي من السياق لأنها عناصر غير لغوية، به يحصل انحسام جهات التأويلات، وأن عدم استحضارها يبقى به النص مفتوحا على احتمالات كثيرة. فمن حصر نظره في ألفاظ النص وصيغه لا يستقل بفهم المعنى وإدراك المقصود في غالب أحيانه.

فهذا المنهج حاضر عند المحققين من علماء الإسلام في جميع العلوم التي تتخذ النص الشرعي موضوعا لها بقصد فقه معناه وتنـزيله على محله. وإنما حصل الركود في علوم الشريعة في العصور الأخيرة لما وقعت الغفلة عن هذا المنهج، فراجت غرائب الأحكام واشتهرت شواذ الأعمال والتصرفات باسم تنـزيل الشريعة والعمل بالسنة، فصار منهج الفهم يقوم على النظر في النص الشرعي رأسا منفردا عن غيره معزولا عما سواه، ولم يكن ذلك أبدا منهج أهل التحقيق المعتد بهم في علوم الإسلام المختلفة.

اعتبار السياق في علوم القرآن وفهم مراد الله تعالى من كلامه

إن فهم مراد الله تعالى من كلامه لا يحصل بالوقوف عند تحليل ألفاظ الآية من القرآن وبيان معاني كلماتها من جهة اللغة، ولا عند بيان ما تدل عليه جملها وتراكيبها من حيث العربية، ولا يحصل بالاقتصار على النظر في الآية منفردة بعينها والتدبر فيها بذاتها فحسب، وإنما ينبغي مجاوزة ذلك إلى خارج الآية للبحث عن كل ما له صلة بها قريبة أو بعيدة، وكل ما له تعلق بها من جهاتها المختلفة: من موضوعها ومعناها، وظروف ورودها الزمانية والمكانية، وما يتصل بها من السنة النبوية وكلام الصحابة الذين شهدوا التنـزيل وعاينوا ظروف نـزول الآية، ومن نـزلت فيه. ومعنى ذلك أن ترديد الفكر والنظر بين الآية والمعجم اللغوي وقواعد العربية، لا يكفي لبيان مراد الله تعالى من كلامه، ولا يغني لمعرفة مقاصد الآيات القرآنية وغاياتها التي نـزلت من أجلها.

يقول الزركشي: “ليكن محط نظر المفسر مراعاة نظم الكلام الذي سيق له، وإن خالف أصل الوضع اللغوي لثبوت التجوز ولهذا ترى صاحب “الكشاف” يجعل الذي سيق له الكلام معتمدا، حتى كأن غيره مطروح”13. وفي بيان طرق إزالة الإشكال يقول: “دلالة السياق، فإنها ترشد إلى تبيين المجمل والقطع بعدم احتمال غير المراد، وتخصيص العام وتقييد المطلق، وتنوع الدلالة، وهو من أعظم القرائن الدالة على مراد المتكلم، فمن أهمله غلط في نظره وغالط في مناظراته”14. وفي كلامه على ما لم يرد فيه نقل عن المفسرين، جعل السياق طريقا إلى الاجتهاد في تفسيره، فقال: “وطريق التوصل إلى فهمه النظر إلى مفردات الألفاظ من لغة العرب ومدلولاتها واستعمالها بحسب السياق، وهذا يعتني به الراغب كثيرا في كتاب “المفردات” فيذكر قيدا زائدا على أهل اللغة في تفسير مدلول اللفظ، لأنه اقتنصه من السياق”15. ونقل الزركشي كلاما نحو هذا عن غير واحد من العلماء منهم ابن العربي والرازي والعز بن عبد السلام، وكلهم على أن الالتفات إلى سوابق الآية ولواحقها له فائدة في إدراك معاني الآيات، حتى إن العز بن عبد السلام جعل ذلك أول ما يجب البداءة به في كل آية، فقال: “والذي ينبغي في كل آية أن يبحث أول كل شيء عن كونها مكملة لما قبلها أو مستقلة، ثم المستقلة ما وجه مناسبتها لما قبلها؟ ففي ذلك علم جم، وهكذا في السور يطلب وجه اتصالها بما قبلها وما سيقت له”16.

ولضبط منهج اعتبار السياق في فهم مراد الله، انطلق علماء الإسلام إلى حصر العناصر التي تقع خارج النص، وترتيبها وتصنيفها كل بحسبه، فصنفوها حسب الموضوعات العامة، ثم عمدوا إلى كل موضوع فصنفوا أجزاءه ورتبوا عناصره. ومن أمثلة العناصر العامة التي نصوا عليها ما يتعلق بالآية من أحوال الزمان والمكان. لأن من ينظر في الآية من كتاب الله عز وجل، عليه أن يستحضر الملابسات الزمانية والمكانية للآية، وكل ما يحتف بها من القرائن والمقامات، وما يحيط بها من الظروف والأحوال العامة. وكلما تمكن الناظر من ذلك كان فهمه للآية أتم وأمكن. وقد أورد المصنفون في علوم القرآن الكريم أنواعا كثيرة تدخل كلها في الملابسات الزمانية، والمكانية التي يجب على المفسر استحضارها عند النظر في الآيات. وهذه الأنواع هي المكي والمدني، وأول ما نـزل، وآخر ما نـزل، والحضري والسفري، والنهاري والليلي، والصيفي والشتائي، والفراشي والنومي، والأرضي والسمائي، وسبب النـزول، وأسماء من نـزل فيهم القرآن الكريم، وما نـزل من القرآن الكريم على لسان بعض الصحابة.

ونقل الزركشي عن أبي القاسم الحسن بن محمد بن حبيب النيسابوري قوله في كتاب “التنبيه على فضل علوم القرآن”: “من أشرف علوم القرآن علم نـزوله وجهاته، وترتيب ما نـزل بمكة ابتداء ووسطا وانتهاء، وترتيب ما نـزل بالمدينة كذلك، ثم ما نـزل بمكة وحكمه مدني، وما نـزل بالمدينة وحكمه مكي وما نـزل بمكة في أهل المدينة، وما نـزل بالمدينة في أهل مكة، ثم ما يشبه نـزول المكي والمدني، وما يشبه نـزول المدني في المكي، ثم ما نـزل بالجحفة، وما نـزل ببيت المقدس، وما نـزل بالطائف وما نـزل بالحديبية، ثم ما نـزل ليلا، وما نـزل نهارا، وما نـزل مشيعا، وما نـزل مفردا، ثم الآيات المدنيات في السور المكية، والآيات المكية في السور المدنية، ثم ما حمل من مكة إلى المدينة وما حمل من المدينة إلى مكة، وما حمل من المدينة إلى أرض الحبشة، ثم ما نـزل مجملا وما نـزل مفسرا، وما نـزل مرموزا، ثم ما اختلفوا فيه فقال بعضهم مدني. هذه خمسة وعشرون وجها، من لم يعرفها ويميز بينها لم يحل له أن يتكلم في كتاب الله تعالى”17. وكما يظهر فجميع هذه الأنواع يمكن جمعها في نوعين هما مكان نـزول الآية وزمن نـزولها. وأن استحضار زمن النـزول ومكانه يفيد في فهم آي القرآن الكريم ومعرفة الأحكام الشرعية المستنبطة منها معرفة صحيحة، ويفيد في استيعاب أطوار الدعوة الإسلامية وترتيب مراحل التشريع وأدواره.

وعلى هذا بني الشاطبي أن المدني من السور ينبغي أن يكون منـزلا في الفهم على المكي، وكذلك المكي بعضه مع بعض، والمدني بعضه مع بعض على حسب ترتيبه في النـزول18، لأن الأصول الكلية للشريعة نـزلت بمكة ثم وقع تكميلها وتفصيلها في المدينة، فما من أصل في المدني إلا وهو جزئي بالنسبة لأصل مكي19. وقال أيضا “فلا يغيبن على الناظر في الكتاب هذا المعنى فإنه من أسرار علوم التفسير، وعلى حسب المعرفة به تحصل له المعرفة بكلام ربه سبحانه”20. وقد ذكر الشاطبي أمثلة تؤيد ذلك وتشهد لفائدة الالتفات إلى زمن النـزول ومكانه في فهم الشريعة وإدراك مقاصد القرآن الكريم21، وقال إن ذلك “تصريح بأن اعتبار الترتيب في النـزول مفيد في فهم الكتاب والسنة”22.

وفي هذا المعنى يقول عبد الرحمن حبنكة الميداني: “على متدبر كتاب الله أن يجتهد في تتبع مراحل تنـزيل القرآن ويبني فهمه على أساس تدرج التشريع حتى لا يقع خطأ في اعتماد آية سابقة النـزول في تدرج التشريع، مع أنه نـزل بعدها تكميل وبيان كاشف لأحكام المرحلة اللاحقة… أما النصوص الخبرية المبينة للعقائد وأصول الدين الكبرى فيضم اللاحق منها إلى السابق وتفهم متكاملة الدلالة، كأنها أنـزلت في وقت واحد”23. والأمثلة العملية على فائدة استحضار زمن النـزول ومكانه كثيرة جدا، يجدها الناظر في كتب التفسير وفي كتب علوم القرآن وفي كتب الفقه، وأقتصر هنا على بعضها. يقول الله عز وجل: ﴿وَمِنْ ثَمَرَاتِ اِلنَّخِيلِ وَالاَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَرِزْقاً حَسَناً﴾ (النحل: 67)، في معنى قوله تعالى: (سكرا) أورد ابن العربي خمسة أقوال: الأول؛ تتخذون منه ما حرم الله، قاله ابن عباس والحسن وغيرهما. الثاني؛ أنه خمور الأعاجم. الثالث؛ أنه الخل، الرابع؛ أنه الطعم الذي يعرف من ذلك كله. الخامس؛ أنه ما يسد الجوع، مأخوذ من سكرت النهر إذا سددته. ورجح ابن العربي القول الأول لما اعتبر زمن النـزول وذلك في قوله: “أما هذه الأقاويل فأسداها قول ابن عباس إن السكر الخمر، والرزق الحسن ما أحله الله بعدها من هذه الثمرات… والصحيح أن ذلك كان قبل تحريم الخمر، فإن هذه الآية مكية باتفاق من العلماء، وتحريم الخمر مدني”24.

وزادوا في تفصيل العناصر التي تدخل في الظروف العامة والملابسات الخارجية التي يجب الاعتبار بها عند النظر في كتاب الله تعالى، فذكروا فيها أيضا أخبار العرب وأحوالها زمن التنـزيل وقبله. يقول الشاطبي: “معرفة عادات العرب في أقوالها وأفعالها ومجاري أحوالها حالة التنـزيل وإن لم يكن ثم سبب خاص، لابد لمن أراد الخوض في علم القرآن منه، وإلا وقع في الشبه والإشكالات التي يتعذر الخروج عنها إلا بهذه المعرفة”25. ويدخل فيها أيضا سيرة رسول الله، صلى الله عليه وسلم، قبل البعثة وبعدها، وأحوال الدعوة الإسلامية وأخبار قريش وتاريخ البيت الحرام، فإن ذلك كله يعتبر المقام الذي ورد فيه النص القرآني، والظروف المحيطة بنـزوله فوجب اعتبار ذلك كله.

يقول الشيخ عبد الرحمن حبنكة الميداني: “على متدبر كتاب الله أن يضع في اعتباره لدى تدبر نص منه ملاحظة الأمور التالية:

  1. تصور العصر الإسلامي الأول وحال الذين تتنـزل عليهم… تصور بيئتهم العامة ومفاهيمهم التي كانت سائدة بينهم بوجه عام.
  2. تصور الحالة النفسية والفكرية والاجتماعية التي كانوا عليها حين نـزول الآيات.
  3. تصور الظرفين الزماني والمكاني اللذين أنـزلت فيهما الآيات”26.

اعتبار السياق في فقه السنة النبوية

إن من الأمور التي لا تظهر لمن ينظر في الحديث منفردا عن غيره، ما يكون قد أحاط بالحديث زمن وروده من الملابسات وقرائن الأحوال. فكثيرا ما يقف الناظر على الحديث في كتاب من كتب الحديث فلا يظهر له منه إلا أسماء رجاله الذين رووه، ومتنه الذي يقوم به معناه، فيلزمه أن يعبر بنظره إلى مواضع أخرى، ويلتفت إلى جهات أخرى لعله يظفر بالحال والمقام والزمان الذي ورد فيه ذلك الحديث. وإن فائدة ذلك تتجلى في معرفة فقه الحديث على وجهه، وفي العمل به وتنـزيله على محله. ولهذا نص العلماء على أن من مسالك الفهم الصحيح للحديث استحضار ما ارتبط بالحديث من أسباب خاصة، إما منصوص عليها في موضع آخر، أو مفهومة من الواقع الذي سيق فيه الحديث. فالحكم الذي يحمله الحديث قد يظهر عاما مطلقا، لكنه باعتبار ملابساته وسبب وروده يتبين أنه ورد على سبب خاص، وارتبط بعلة معينة يبقى ببقائها ويزول بزوالها.

وإذا كان علماء التفسير قد نصوا على أن من مسالك الفهم الصحيح للآية من القرآن الكريم استحضار سبب النـزول، مع أن القرآن الكريم في أكثر آياته ينـزع نحو العموم والشمول والإطلاق، فإن السنة أولى بذلك لأنها تعالج كثيرا من الجزئيات وتنـزل على حوادث آنية. يقول الشاطبي: “وقد يشارك القرآن في هذا المعنى السنة إذ كثير من الأحاديث وقعت على أسباب ولا يحصل فهمها إلا بمعرفة ذلك”27. فلابد من التفرقة بين ما هو خاص وما هو عام، وما هو مؤقت وما هو خالد، وما هو جزئي وما هو كلي، فلكل منها حكمه، والنظر إلى السياق والملابسات والأسباب تساعد على سداد الفهم واستقامته لمن وفقه الله”28. ولعل أقدم من أشار إلى ذلك في كتابه الإمام الشافعي في كلامه على السنة في كتاب “الرسالة”، حيث قال: “ويحدث عنه يعني الرسول، صلى الله عليه وسلم، الرجل الحديث قد أدرك جوابه ولم يدرك المسألة، فيدله على حقيقة الجواب بمعرفة السبب الذي يخرج عليه الجواب”29، فصرح أن حقيقة جواب الرسول صلى الله عليه وسلم تعرف بمعرفة السبب وهو السؤال الذي ورد عليه الجواب.

ولما صنفت كتب مصطلح الحديث عقد المصنفون أنواعا من علوم الحديث، تدخل في ظروف الحديث وملابساته لفائدتها في الفهم الصحيح. منها ما ذكره الحاكم النيسابوري في النوع الثامن والأربعين من علوم الحديث وهو معرفة مغازي رسول الله، صلى الله عليه وسلم، أورد فيه ما لا يسع المحدث جهله من سيرة رسول الله، صلى الله عليه وسلم، ومغازيه وبعوثه وسراياه وسنته في ذلك كله. ووجه ذلك أن عهد النبي، صلى الله عليه وسلم، هو الزمن الذي وردت فيه الأحاديث، وأن أحوال عهد النبوة هي الظروف العامة المحيطة بالحديث النبوي، وأن استحضار أحداث السيرة والمغازي له فائدة في تنـزيل الأحاديث على محالها، لأن أعمال رسول الله، صلى الله عليه وسلم، في تجهيز الجيوش وبعث السرايا وغيرها مما يدخل في السيرة، من السنن الفعلية التي تدل على أنواع هذه التصرفات، هل هي تصرف بالتبليغ أم بالإمامة أم بالقضاء؟ يقول الحاكم: “هذا النوع من هذه العلوم: معرفة مغازي رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وسراياه وبعوثه وكتبه إلى ملوك المشركين وما يصح من ذلك، وما يشذ وما أبلى كل واحد من الصحابة في تلك الحروب بين يديه ومن ثبت ومن هرب، ومن جبن عن القتال ومن كر، ومن تدين بنصرته، صلى الله عليه وسلم، ومن نافق، وكيف قسم رسول الله، صلى الله عليه وسلم الغنائم، ومن زاد، ومن نقص، وكيف جعل سلب القتيل بين الاثنين والثلاثة، وكيف أقام الحدود في الغلول. وهذه أنواع من العلوم لا يستغني عنها عالم…”30.

وتوالى التصنيف في مصطلح الحديث حتى جاء الإمام سراج الدين البلقيني (توفي 805ﻫ) فزاد في أنواع علوم الحديث نوعين يدخلان في الظروف والملابسات التي تحيط بالحديث. أما النوع الأول؛ فهو “معرفة أسباب الورود”، قال رحمه الله: “واعلم أن السبب قد ينقل في الحديث كما في حديث سؤال جبريل… وقد لا ينقل السبب في الحديث، أو ينقل في بعض طرقه، فهو الذي ينبغي الاعتناء به”31، ثم أورد أمثلة لذلك. وأما النوع الثاني؛ فهو معرفة التاريخ المتعلق بالمتون قال رحمه الله: “هذا النوع فوائده كثيرة، وله وقع في معرفة الناسخ والمنسوخ ويعرف به ابتداء مشروعية ذلك الشيء، فيظهر بذلك خلو الزمان الذي قبله من مشروعية ذلك الشيء، إما لأن الحكم إلى ذلك الوقت لم يكن محتاجا إليه، أو لم يطلب إلا ذلك الوقت، وإنما لأنه كان قبله حكم آخر ارتفع بهذا فيكون من قسم الناسخ والمنسوخ، أو لم يرتفع بالكلية بل اقتضى الحال التخيير”32. وهذه كلها فوائد ترجع إلى ظروف الحديث وما يحتف به. ثم ذكر البلقيني أن هذا هو أصل تصنيف العلماء في “الأوائل” وأورد أمثلة من الأوائل المتعلقة بالأنبياء والشريعة، وكثير منها داخل في عصر النبوة والمغازي، مثل أول ما نهى عنه، صلى الله عليه وسلم، وأول ما خوطب به، وأول البعثة وأول جمعة، وأول مولود في الإسلام، وآخر كلامه صلى الله عليه وسلم33. وتبع البلقيني في ذلك الإمام السيوطي ومما قال عن فائدة الاعتبار بسبب الورود: “فبذكر السبب يتبين الفقه في المسألة”34.

ومن العلماء من أفرد أسباب ورود الحديث بالتصنيف مثل السيوطي وابن حمزة الدمشقي. ومن المتأخرين الذين نصوا على ضرورة هذا الاعتبار الشيخ الطاهر بن عاشور في قوله: “وعليه يعني الفقيه أن ينظر إلى الأحوال العامة في الأمة التي وردت تلك الآثار عند وجودها”35 وذكرها الدكتور محمد أبو الليث الخير آبادي في كلامه على الخطوات التي يتبعها المحدث لاسترجاع السنة في ضوء الواقع المعاصر، والخطوة الأولى هي معرفة واقع السنة وهو “كل ما يكتنفها وقت صدورها من أبعاد الظروف الزمانية والمكانية، والمقاصد العامة أو الخاصة للشريعة، والأسباب ودلالات الحديث اللغوية والعرفية والشرعية، وذلك لأن المتكلم عندما يتكلم تحف بكلامه تلك الأبعاد، ويسمعه سامعه المباشر كذلك في جوها وملابساتها، فلذلك هو لا يخطئ في فهم مراد المتكلم، بينما نرى الوضع مختلفا عن ذلك إذا وجد ذلك الكلام مكتوبا أو بلغ إلى الشخص، لفقده تلك الأبعاد… ولذلك لابد من أخذ تلك الأبعاد بعين الاعتبار؛ لأنه عنصر أساسي للوصول إلى مراد السنة وإدراك روحها، وبه يسهل التعامل مع السنة في ضوء الواقع المعاصر. بينما من يتمسك بحرفية النص دون مراعاة لتلك الأبعاد، لا يؤمن وقوعه في كثير من الزلل والخطل”36.

وأن الظروف العامة للحديث وملابساته تشمل سبب ورود الحديث، وهو معرفة ما جرى الحديث في سياق بيان حكمه أيام وقوعه، كأن يكون جوابا عن سؤال سائل، أو بيانا لحكم واقعة أو تعليقا على حال شخص معين، وخاصة إذا لم يكن هذا السبب مذكورا في الحديث، فيجب العبور إليه والالتفات إليه في طريق آخر من طرق الحديث المنظور فيه، أو في حديث آخر غيره. وتشمل الظروف العامة أيضا كل ما يتصل بمعنى الحديث المنظور فيه وموضوعه من أحوال زمن الورود وهو عهد النبوة والصحابة، وما كان عليه في الأحوال الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والعادات والأعراف. فكل هذه القضايا ينبغي الالتفات إليها وعدم إغفالها فهي من وسائل الإيضاح والبيان، ومن وسائل تنـزيل الحديث على محله، وهي أداة للتنـزيل في كل زمان ومكان، فهي أشبه بالتجربة المخبرية في العلوم التجريبية التي تعتبر الأساس للانطلاق منها والتصنيع في ضوئها، واعتمادها في التطبيقات المختلفة والمتعددة داخل المجتمع”37.

 ومن الأمثلة الدالة على ضرورة السياق وفائدته بيان حكم غسل الجمعة في قول الرسول صلى الله عليه وسلم: “اغتسلوا يوم الجمعة واغسلوا رؤوسكم وإن لم تكونوا جنبا وأصيبوا من الطيب”38. قال أبو جعفر الطحاوي: “فذهب قوم إلى إيجاب الغسل يوم الجمعة… وخالفهم في ذلك آخرون فقالوا ليس الغسل يوم الجمعة بواجب ولكنه مما قد أمر به الرسول صلى الله عليه وسلم لمعان قد كانت، ثم أورد الطحاوي بسنده عن عكرمة قال سئل ابن عباس عن الغسل يوم الجمعة أواجب هو؟ قال لا ولكنه طهور وخير، فمن اغتسل فحسن ومن لم يغتسل فليس عليه بواجب، وسأخبركم كيف بدأ. كان الناس مجهودين يلبسون الصوف ويعملون على ظهورهم، وكان المسجد ضيقا مقارب السقف إنما هو عريش فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في يوم حار وقد عرق الناس في ذلك الصوف حتى ثارت رياح حتى آذى بعضهم بعضا، فوجد النبي، صلى الله عليه وسلم، تلك الرياح فقال يأيها الناس: إذا كان اليوم فاغتسلوا وليمس أحدكم أمثل ما يجد من دهنه وطيبه”، قال الطحاوي: “فهذا ابن عباس رضي الله عنه يخبر أن ذلك الأمر الذي كان من رسول الله بالغسل لم يكن للوجوب عليهم، وإنما كان لعلة ثم ذهبت تلك العلة فذهب الغسل”39. وأيضا فإن ابن عباس إنما ذهب إلى هذا الحكم في معنى الحديث باعتبار سببه ومراعاة حال وروده. وفائدة هذا أن حكم الاغتسال للجمعة وأمثالها من العيدين، ليس على صفة واحدة بالنسبة لجميع المكلفين، وإنما يختلف بحسب حال الشخص، فمن كان بدنه على حال غير مرضية من حيث النظافة والرائحة الاغتسال في حقه واجب، وإلا كان مندوبا.

ـ يقول، صلى الله عليه وسلم: “لا تدفنوا موتاكم بالليل إلا أن تضطروا”40، فالوقوف عند ظاهر الحديث يفيد منع الدفن بالليل، لكن الاعتبار بسبب الورود يدل على خلاف ذلك، ففي صحيح مسلم أن النبي، صلى الله عليه وسلم، خطب يوما فذكر رجلا من أصحابه قبض فكفن في كفن غير طائل وقبر ليلا فزجر النبي، صلى الله عليه وسلم، أن يقبر الرجل بالليل حتى يصلى عليه إلا أن يضطر إنسان إلى ذلك، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: “إذا كفن أحدكم أخاه فليحسن كفنه”41. قال الطحاوي: “ويجوز أن يكون النهي… ليس من طريق كراهة الدفن بالليل ولكن لإرادة رسول الله، صلى الله عليه وسلم، أن يصلى على جميع موتى المسلمين”، ثم روى الطحاوي بسنده عن الحسن أن قوما كانوا يسيئون أكفان موتاهم فيدفنونهم ليلا فنهى رسول الله عن دفن الليل”، قال الطحاوي: “فأخبر الحسن أن النهي عن الدفن ليلا إنما كان لهذه العلة لا لأن الليل يكره الدفن فيه”42.

ـ عن رافع بن خديج قال: “حدثني عماي أنهم كانوا يكرون الأرض على عهد النبي، صلى الله عليه وسلم، بما ينبت على الأربعاء، أو شيء يستثنيه صاحب الأرض، فنهى النبي عن ذلك”43. وقد سلك الأئمة مسلك الاعتبار بمورد النهي فظهر أن النهي كان لسبب خاص ولحالة معينة، ولذلك قال الليث: “وكان الذي نهي من ذلك ما لو نظر فيه ذووا الفهم بالحلال والحرام لم يجيزوه لما فيه من المخاطرة”44، وسبب النهي قد بينه رافع بن خديج بقوله: “كنا أكثر أهل المدينة مزدرعا، كنا نكري الأرض بالناحية منها مسمى لسيد الأرض، فمما يصاب ذلك وتسلم الأرض ومما يصاب الأرض ويسلم ذلك، فنهينا، وأما الذهب والورق فلم يكن يومئذ”45، فأفاد هذا السبب أن النهي عن كراء الأرض ليس مطلقا وإنما إذا كان الكراء على صفة فيها مخاطرة.

تدل هذه الأمثلة على ضرورة الاعتبار بأسباب الورود وما يحتف بالحديث من الملابسات، وأن ذلك يعين على معرفة العلة التي ارتبط بها الحكم الوارد في الحديث، ويفيد في رفع ما يبدو في الحديث من الإشكال وما يظهر فيه من معارضة غيره من أدلة الشريعة، لأن الغفلة عن الملابسات من الأسباب التي يحصل بها التعارض بين النصوص.

وإذا كانت أسباب ورود الحديث قد تذكر فيه أو تفهم منه، فإن الأمر ليس كذلك في جميع الأحاديث فوجب التنبيه، لأن الحديث في طريق من طرقه لا ينقل سبب الورود، ولا تذكر ظروف الحديث، فوجب الاعتبار بالطرق الأخرى إن ذكر فيها سبب الورود، وإلا وجب الاجتهاد والتأمل، فقد تكون للحديث ملابسات بعيدة لا يفطن لها إلا من اتسع نظره، وكمل اطلاعه على أحوال عصر ورود الحديث عامة، وعلى الأخبار والمعارف المتعلقة بعناصر الحديث مثل الأشخاص الواردة فيه، والأماكن والبقاع المذكورة فيه، والأزمنة والتواريخ التي يرتبط بها، وغيرها من العناصر الأساسية في الحديث أو العناصر الثانوية التي تذكر فيه عرضا، لكنها تفيد الناظر المعتبر.

ثم إن هناك من الملابسات والظروف العامة ما يكون في الظاهر بعيدا عن الحديث المنظور فيه، فهو مظنة الغفلة عنه، لكن الاعتبار به والالتفات إليه له من الفوائد الكثير، وإن من استحضره في حكمه على الحديث ليس كمن غفل عنه. ولهذا نجد الأئمة المحققين يعتبرون بأخبار وحوادث بعيدة في الظاهر عن الحديث، فكانوا يستحضرون الوقائع التاريخية والأحوال العامة لعصر النبوة، وكان ذلك الزمان كله بأحواله المختلفة حاضرا في أذهانهم، لا يغفلون عنه وهم يقلبون النظر في الحديث. وكان هذا المسلك راسخا عند المحققين من علماء الإسلام منذ زمن الصحابة، رضوان الله تعالى عليهم، بل إن هذا الأصل له إشارة وأساس في السنة النبوية. فقد كان النبي، صلى الله عليه وسلم، يسأل في أوقات مختلفة، ومن أشخاص مختلفة عن أفضل الأعمال وخيرها، فكان يجيب بأجوبة مختلفة. فالسؤال واحد لا يتغير، والسائل مختلف، فجاء الجواب على حسب السائل مختلفا أيضا، وما ذلك إلا لأن أحوال السائلين تختلف، وملابسات كل سؤال تختلف عن ملابسات السؤال الآخر، واعتبر الرسول صلى الله عليه وسلم ذلك فكان كل جواب منها، لو حمل على إطلاقه أو عمومه لاقتضى التعارض والتضاد في هذا التفصيل، لكن قصد كل جواب إنما هو بالنسبة إلى وقت السؤال وموضعه وحال السائل46. والرسول صلى الله عليه وسلم لا ينطق عن الهوى، فكل ما يصدر عنه تؤخذ منه قواعد التفكير وضوابط المعرفة، وعمله هذا إشارة إلى ضرورة الاعتبار بالأحوال والملابسات العامة للخبر، بل هي تعليم لهذا المسلك بالتجربة العملية وهي أبلغ من التلقين بالقول.

 وعن جبير بن مطعم أن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، قال: “لا حلف في الإسلام، وأيما حلف كان في الجاهلية لم يزده الإسلام إلا شدة”47، وظاهره يفيد تحريم إقامة الأحلاف والدخول في المعاهدات والاجتماع من أجل المآزرة والنصرة. وقد اعتبر الأئمة بأحوال العرب في الجاهلية وبداية الدعوة الإسلامية، فوجدوا أن الحلف كان من أمر الجاهلية، وأن من عاداتهم أن يتعاقد الرجلان على المواساة والتناصر والتوارث كما لو كانا أخوين نسبا، فكان أحدهما ينصر الآخر ولو ظالما، وإذا مات أخذ من ماله بالتوارث، ولما جاء الإسلام حرم إعانة الظالم على ظلمه، ثم نـزلت أحكام الفرائض والمواريث فمنعت التوارث بما كان عليه أهل الجاهلية من الحلف48. ولهذا ذهب الأئمة إلى أن الحلف الذي نفاه النبي، صلى الله عليه وسلم، يتنـزل على ما كان معروفا في الجاهلية من حلف التوارث والتناصر على الحق والباطل، فأبطل ما كان منه مخالفا للإسلام، وأبقى ما عدا ذلك على حاله49 قال النووي: “وأما قوله “لا حلف في الإسلام”، المراد به حلف التوارث والحلف على ما منع الشرع منه” 50.

تبين هذه التصرفات من علماء الحديث كيف كانوا يعتبرون بالظروف العامة والملابسات المتصلة بالخبر، وأن هذه الظروف تشمل الأسباب الخاصة لورود الحديث، وتشمل أيضا الأحوال العامة للزمن الذي ورد فيه الحديث وهو زمن النبوة، فيستعينون في معرفة ذلك بالأخبار التاريخية.

ومما يدل أيضا على ضرورة الاعتبار بالظروف والملابسات عند النظر في الحديث ما نص عليه العلماء من التفريق بين تصرف النبي، صلى الله عليه وسلم، بالإمامة وتصرفه بالفتوى والتبليغ، وتصرفه بالقضاء، وإنما يعرف ذلك باعتبار ظروف ذلك الفعل وملابساته، وفائدة ذلك كما يقول القرافي: “فكل ما قاله صلى الله عليه وسلم أو فعله على سبيل التبليغ كان ذلك حكما عاما على الثقلين إلى يوم القيامة، فإن كان مأمورا أقبل عليه كل أحد بنفسه… وكل ما تصرف به عليه السلام بوصف الإمامة لا يجوز لأحد أن يقدم عليه إلا بإذن الإمام… وما تصرف فيه صلى الله عليه وسلم بوصف القضاء لا يجوز لأحد أن يقدم عليه إلا بحكم حاكم…”51.

ومن الاعتبار بالظروف والملابسات حرص علماء الإسلام على تقديم فهم الصحابي للحديث وعمله به، خاصة إذا لم يعارضه أحد، وذلك لأن الصحابة حصل لهم هذا الاعتبار وهو مشاهدة القرائن والأحوال والملابسات المتصلة بالخبر.

ضوابط اعتبار السياق

يثبت مما تقدم أن منهج اعتبار السياق في فهم النص الشرعي والعمل به يقوم على النظر في النص الشرعي أولا من جهة قواعد اللغة وأصول العربية، حتى إذا تم معنى النص على مقتضى اللغة، تم العبور خارج النص والتماس كل ما له صلة به من العناصر، فحيثما وجد ما له علاقة به في جهة من جهاته ضم إليه، وكلما ظفر بما له فائدة في بيان معناه والعمل به ألحق به، فينظر في ذلك كله على جهة الاجتماع كأنه دليل واحد، فيكون بيان المعنى المراد والحكم المعتمد في العمل بالنص باعتبار هذه العناصر كلها على تنوعها واختلافها وتباعدها وتفرقها هنا وهناك.

وإن عناصر السياق لا تدخل تحت الحصر والتخمين فلا مناص من ضبطها بالوصف الجامع الذي تدخل فيه كلها، لأن حصرها بالعد والتفصيل متعذر.

وإن التدبر في عناصر السياق يفيد أنها على كثرتها وتنوعها لا تخرج عن صنفين هما: الصنف الأول: النظائر والأشباه، والصنف الثاني: اللوازم والملابسات.

أما النظائر والأشباه فهي جميع النصوص التي لها تعلق بالنص محل البحث والنظر، وقد تكون قريبة مثل ما ينتظم معه من السوابق واللواحق، وقد تكون بعيدة عنه في موضعها لكنها تتعلق به في جزء منه.

أما اللوازم والملابسات فهي كل ما يحتف بالنص من الأحوال الزمانية والمكانية، وما يتعلق به من الأشخاص والأماكن والقضايا والأحكام. وهي أيضا قد تكون قريبة أو خاصة مثل سبب النـزول أو سبب الورود، وقد تكون بعيدة أو عامة مثل أحوال عصر التنـزيل عامة وأخبار أهله.

وعليه، فاعتبار السياق يبدأ أولا بحصر عناصر النص محل البحث والنظر لتكون منطلقا للبحث عن عناصر السياق إما من الأشباه والنظائر، وإما من اللوازم والملابسات. ونمثل لذلك بعمل الصحابة في حديث جرير بن عبد الله البجلي في المسح على الخفين. وقد وردت في المسح على الخفين أحاديث أخرى صحيحة عن المغيرة بن شعبة، وعلي بن أبي طالب، وصفوان بن عسال، وأبي بكر، رضي الله عنهم52، لكن الأمر قد يشكل مع آية المائدة وهي قوله تعالى: ﴿يَأَيُّهَا اَلذِينَ ءاَمَنُوْا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ﴾ (المائدة: 7). وليس فيها المسح على الخفين، والمائدة إنما نـزلت بعد الفتح، فلعل ما ورد في هذه الأحاديث منسوخ بآية المائدة. لكن الاعتبار بالأشباه والملابسات والظروف العامة يزيل الإشكال. فقد نظر الصحابة في حديث جرير بن عبد الله البجلي، رضي الله عنه، فحصروا عناصره وهي:

  1. المسح على الخفين.
  2. الوضوء؛ لأن المسح متفرع عنه.
  3. راوي الحديث وهو جرير بن عبد الله البجلي.

أما العنصران الأولان فقد التفت الصحابة إلى ما ورد في شأن الوضوء والمسح على الخفين في القرآن الكريم والسنة النبوية، واستحضروا زمن ذلك كله، فوجدوا أن آية الوضوء وردت في المائدة وليس فيها ذكر المسح، ووجدوا أن المائدة قد تأخر نـزولها. وأما العنصر الثالث وهو راوي الحديث، فقد بحث الصحابة في أحواله وحياته فوجدوا فيها ما له تعلق بالموضوع وهو زمن إسلامه وتاريخ تحديثه بخبر المسح، وهو أنه أسلم بعد نـزول المائدة، فانتفى الإشكال في احتمال النسخ. ولهذا ورد عقب حديث جرير بن عبد الله البجلي قول الراوي: “وكان أصحاب عبد الله بن مسعود يعجبهم حديث جرير لأن إسلامه كان بعد نـزول آية المائدة”53، قال ابن دقيق العيد: “ومعنى هذا الكلام أن آية المائدة إن كانت متقدمة على المسح على الخفين، كان جواز المسح ثابتا من غير نسخ، وإن كان مسح الخفين متقدما كانت آية المائدة تقتضي خلاف ذلك فينسخ بها المسح، فلما تردد الحال توقفت الدلالة عند قوم وشكوا في جواز المسح. وقد نقل عن بعض الصحابة رضي الله عنهم أنه قال: “قد علمنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مسح على الخفين، ولكن أقبل المائدة أم بعدها؟” إشارة منه بهذا الاستفهام إلى ما ذكرناه. فلما جاء حديث جرير مبينا المسح بعد نـزول المائدة زال الإشكال…”54.

وفي حديث ابن عباس “أن النبي، صلى الله عليه وسلم، تزوج ميمونة وهو محرم”55، وقد نسب بعضهم الوهم إلى ابن عباس؛ لأن ظاهر حديثه مخالف لحديث آخر وهو حديث أبي رافع قال: “تزوج رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وهو حلال، وبنى بها وهو حلال، وكنت أنا الرسول فيما بينهما”56. وذهب بعضهم إلى أن حديث ابن عباس مستقيم ليس فيه وهم ولا تعارض مع حديث ميمونة وحديث أبي رافع، وإنما حملهم على ذلك ما ظهر لهم من الاعتبار بالظروف العامة المتصلة بخبر ابن عباس، رضي الله عنهما، وهي حال اللسان وقانون اللغة الذي كان متعارفا عليه زمن ورود الحديث، وما عرف عن ابن عباس من الآراء والمذاهب في أحكام الحج والمناسك، وحوادث السيرة النبوية، وخاصة منها حجه، صلى الله عليه وسلم، وعمرته، وفي بيان هذه الظروف والملابسات المعتبر بها يقول الحافظ ابن حجر: “وحديث ابن عباس واقعة عين تحتمل أنواعا من الاحتمالات: فمنها أن ابن عباس كان يرى أن من قلد الهدي يصير محرما كما تقدم تقرير ذلك عنه في كتاب الحج والنبي كان قلد الهدي في عمرته تلك التي تزوج فيها ميمونة، فيكون إطلاقه أنه، صلى الله عليه وسلم، تزوجها وهو محرم أي عقد عليها بعد أن قلد الهدي وإن لم يكن تلبس بالإحرام، وذلك أنه كان أرسل إليها أبا رافع يخطبها فجعلت أمرها إلى العباس فزوجها من النبي… ومنها أن قول ابن عباس تزوج ميمونة وهو محرم أي داخل الحرم أو في الشهر الحرام، قال الأعشى: “قتلوا كسرى بليل محرما”، أي في الشهر الحرام، وقال آخر: “قتلوا ابن عفان الخليفة محرما” أي في البلد الحرام، وإلى هذا التأويل جنح ابن حبان وجزم به في صحيحه”57. فكانت سيرة رسول الله وأخبار ابن عباس وعلمه، وما جرى به العرف اللغوي آنذاك في كلمة “الحرام”، ظروفا عامة تحيط بالخبر، فهي من السعة حتى دخلت فيها دواوين الشعراء والخطب المتداولة بين الناس في ذلك العهد.

وعن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “إن أمثل ما تداويتم به الحجامة والقسط البحري لصبيانكم من العذرة، ولا تعذبوهم بالغمز”58. والظاهر أن ذلك عام في حق جميع المسلمين. لكن اعتبار السياق عند ابن القيم يفيد غير ذلك، ولهذا حصر عناصر الحديث وهي التداوي عامة، والعناصر المنصوصة في الحديث وهي الحجامة والقسط البحري، وما له تعلق بالحجامة وهو الفصد، وأحوال الزمان والمكان التي ورد فيها الحديث وهي بيئة الحجاز وجميع عناصرها الجغرافية، وحال من خوطبوا بالحديث وهم أهل الحجاز، وباعتبار ذلك كله قال، رحمه الله، عن الحجامة والفصد: “والتحقيق في أمرها وأمر الفصد أنهما يختلفان باختلاف الزمان والمكان والأسنان والأمزجة، فالبلاد الحارة والأزمنة الحارة والأمزجة الحارة التي دم أصحابها في غاية النضج، الحجامة فيها أنفع من الفصد بكثير، فإن الدم ينضج ويرق ويخرج إلى سطح الجسد الداخل، فتخرج الحجامة ما لا يخرجه الفصد. وقوله، صلى الله عليه وسلم، خير ما تداويتم به الحجامة، إشارة إلى أهل الحجاز والبلاد الحارة؛ لأن دماءهم رقيقة، وهي أميل إلى ظاهر أبدانهم لجذب الحرارة الخارجة لها، واجتماعها في نواحي الجلد ولأن مسام أبدانهم واسعة، وقواهم متخلخلة ففي الفصد لهم خطر”59. فقد استحضر ابن القيم وهو ينظر في أحاديث الفصد والحجامة، أحوال بلاد الحجاز وطبيعتها وخصائصها المناخية، وخصائص أهل الحجاز وأسنانهم وأمزجتهم، فحمله ذلك على القول بأن أحاديث الأمر بالحجامة خاصة بأهل الحجاز وأمثالهم ممن يسكن مثل بلادهم.

ومما يعين على استحضار عناصر السياق وييسر العثور عليها في السنة النبوية خاصة، منهج الاعتبار وهو جمع المتابعات والشواهد؛ لأن الأحاديث تختلف ألفاظها باختلاف طرقها، فتكون بعض الألفاظ أكمل من غيرها فيرد فيها ما يعين على معرفة السياق. مثال ذلك ما ورد عند الإمام أحمد في المسند عَنْ أَبِي ذَرٍّ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَا أَبَا ذَرٍّ لَا تَوَلَّيَنَّ مَالَ يَتِيمٍ. “فليس في لفظه سوى النهي عن ولاية اليتيم. لكن في لفظ آخر عند الإمام مسلم: “يَا أَبَا ذَرٍّ إِنِّي أَرَاكَ ضَعِيفًا، وَإِنِّي أُحِبُّ لَكَ مَا أُحِبُّ لِنَفْسِي لَا تَأَمَّرَنَّ عَلَى اثْنَيْنِ وَلَا تَوَلَّيَنَّ مَالَ يَتِيمٍ”. ففيه زيادة مفيدة جدا تلقي بعض الضوء على الأسباب التي حملت على تخصيص أبي ذر بهذا النهي وهي قوله: “إني أراك ضعيفا” وهذا الحديث أحسن مثال يقدم لبيان ضرورة اعتبار السياق وفائدته في فقه النص والعمل به، وفي ضوابطه ومنهجه. فمن وقف عند الحديث منفردا معزولا عن غيره لم يأمن من الإشكال. فالنظر الظاهر يفيد منع ولاية اليتيم وهذا لا يستطيع أن يقوله من شدا في علوم الإسلام فكيف بالعالم. فعناصر الحديث هي أولا أحكام اليتيم، ثم أخبار أبي ذر وأحواله. فلا مناص لمن ينظر في الحديث من البحث المفصل عن هذه العناصر خارج النص. أما أحكام اليتيم فقد قامت الحجة الواضحة من نصوص كثيرة في القرآن الكريم وفي السنة النبوية على أن رعاية اليتيم من أعظم الطاعات وأكبر القربات. وأول فائدة تستخلص من ذلك، المنع من حمل الحديث على الإطلاق.

أما العنصر الثاني وهو المخاطب بالحديث فالمنهج يحمل على البحث عن أخباره وأحواله فإنها قد تلقي أضواء على معنى الحديث. وخلاصة النظر فيها يفيد أن أبا ذر انفرد عن سائر الصحابة بصفات خاصة أظهرها التشدد في أمر الدنيا والتحرج في الأموال، وقد كان يشدد النكير على من توسع من الصحابة في ذلك، وكان يرى عدم جواز أن يمتلك الرجل شيئا زائدا على قدر حاجاته الضرورية، وقصته مع أهل الشام في زمن عثمان مشهورة. ولعل هذا ما يشير إليه النبي، صلى الله عليه وسلم، بقوله هنا: “إني أراك ضعيفا”. فهذه الصفات تجعله ضعيفا في أمر الولاية وأمر رعاية، وليس الضعف مطلقا. والفائدة من كل هذا أن حكم رعاية اليتيم باق على حكمه العام، وأن النهي هنا خاص بأبي ذر ومن في صفته ممن يضعف عن هذا العمل العظيم.

فلا مناص لمن ينظر في النص الشرعي بقصد فقهه من الاعتبار بالسياق بجميع عناصره. وليس كل ما له صفة عناصر السياق يصلح الاعتبار به، وإنما لابد من استجماع شروط الاعتبار حتى يعتد به، لأن عناصر السياق مثل الأدلة، فليس كل دليل يعتد به. ولهذا يشترط في العنصر من عناصر السياق أن يكون صالحا للاعتبار به. وليكون صالحا للاعتبار لابد فيه من شرطين: الشرط الأول أن يكون معتدا به في ميزان العلم أي أن يكون الدليل الذي يدل على هذا العنصر قويا، فلا يحتج مثلا بما جاء عن طريق خبر ضعيف. والشرط الثاني أن يكون العنصر واضحا وحقيقيا، قويا في صلته بالنص، أي ألا يكون متوهما. مثال العنصر المتوهم من السياق قول القائل إن النصوص الشرعية في الحدود يراعى فيها السياق الزماني والمكاني، وهو أن تقرير هذه الحدود إنما كان بسبب عدم وجود السجون في العهد النبوي. وهذا السياق متوهم وليس حقيقيا لأنه لم يرد دليل يفيد ذلك ولو ضمنيا، ثم لأن السجون قد وجدت في زمن الصحابة ولم يربط أحد منهم ولا من علماء الإسلام عبر العصور بين هذه النصوص وبين هذا السياق.

وخلاصة القول أن اعتبار السياق مفيد في الفهم السليم للنص الشرعي وفي حسن العمل به وتنـزيله على محله. ومنهجه يبدأ أولا بتحكيم قواعد اللغة وتحليل النص من جهة العربية، ثم حصر عناصره، ثم البحث عنها خارج النص. وفي عملية البحث يراعى الجمع بين نوعين من عناصر السياق وهما أشباه النص ونظائره من النصوص القريبة والبعيدة والتي لها صلة به في جهة من جهاته، ولوازم النص وما يحتف به من الأحوال الزمانية والمكانية والأشخاص والأحكام، فيضم ذلك كله إلى النص المنظور فيه، مع تحكيم النظرة الشمولية المستوعبة التي لا تذر شاردة ولا واردة في موضوع النص إلا استحضرتها. ولابد في عناصر السياق من شرطين هما أن يكون دليله قويا، وأن يكون حقيقيا وليس متوهما.

الهوامش

  1. “الموافقات” للشاطبي، 3/45.
  2. نفسه، 4/179.
  3. “الموافقات”، 3/47.
  4. “مقاصد الشريعة الإسلامية” للطاهر بن عاشور ص27.
  5. “الموافقات”، 3/249.
  6. “الرسالة ” للشافعي، ص62.
  7. نفسه، ص52.
  8. “بدائع الفوائد” لابن القيم، 4/9.
  9. “تفسير المنار” لرشيد رضا، 1/22.
  10. “الموافقات”، 3/45.
  11. “المحصول” للرازي، ج: 1/1/578.
  12. “البرهان في أصول الفقه” للجويني، 1/414.
  13. “البرهان في علوم القرآن” للزركشي، 1/317.
  14. نفسه، 2/200-201.
  15. نفسه، 2/172.
  16. نفسه، 2/235.
  17. نفسه، 1/192.
  18. ينظر: الموافقات، 3/244-245.
  19. ينظر: الموافقات، 3/26. نظرية المقاصد عند الإمام الشاطبي، لأحمد الريسوني، ص153-155.
  20. نفسه، 3/245.
  21. نفسه، 3/244-245-246، 149.
  22. نفسه، 3/246.
  23. “قواعد التدبر الأمثل لكتاب الله عز وجل” لعبد الرحمن الميداني، ص151.
  24. “أحكام القرآن” لابن العربي، 3/1153.
  25. “الموافقات”، 3/204.
  26. “قواعد التدبر الأمثل” ص53.
  27. الموافقات”، 3/205.
  28. “كيف نتعامل مع السنة” ليوسف القرضاوي، ص126.
  29. “الرسالة”، ص213.
  30. “معرفة علوم الحديث” للحاكم النيسابوري، ص238.
  31. “محاسن الاصطلاح”، مع مقدمة ابن الصلاح للبلقيني، ص632-633.
  32. نفسه، ص649.
  33. نفسه، ص650-674.
  34. “تدريب الراوي” للسيوطي، 2/395.
  35. “مقاصد الشريعة الإسلامية”، ص47.
  36. المنهج العلمي عند المحدثين في التعامل مع متون السنة، محمد أبو الليث الخير آبادي، إسلامية المعرفة، عدد 13، السنة الرابعة صيف 1419ﻫ/1998م، ص32.
  37. تقديم عمر عبيد حسنه لكتاب أسباب ورود الحديث، محمد رأفت سعيد،    ص17.
  38. صحيح البخاري، كتاب الجمعة، باب الدهن للجمعة. صحيح مسلم، كتاب الجمعة، باب الطيب والسواك يوم الجمعة.
  39. “شرح معاني الآثار” للطحاوي، 1/116-117.
  40. سنن ابن ماجة، كتاب الجنائز، باب ما جاء في الأوقات التي لا يصلى فيها على الميت ولا يدفن.
  41. صحيح مسلم، كتاب الجنائز، باب في تحسين كفن الميت. وأخرجه النسائي في سننه، كتاب الجنائز باب الأمر بتحسين الكفن.
  42. “شرح معاني الآثار” 1/513-514.
  43. صحيح البخاري، كتاب الحرث والمزارعة، باب كراء الأرض بالذهب والفضة.
  44. نفسه.
  45. صحيح البخاري: كتاب الحرث والمزارعة، باب بغير ترجمة بعد باب قطع الشجر والنخل.
  46. ينظر: “الموافقات” 4/52-54.
  47. صحيح مسلم، كتاب فضائل الصحابة، باب مؤاخاة النبي صلى الله عليه وسلم بين أصحابه.
  48. ينظر: “أحكام القرآن” لابن العربي، 1/415. “شرح الأبي والسنوسي على صحيح مسلم”، 6/355.
  49. ينظر: “فتح الباري” لابن حجر، 5/379.
  50. “شرح النووي على صحيح مسلم”، 5/389-390.
  51. “الفروق” للقرافي، الفرق السادس والثلاثون. وينظر: “مقاصد الشريعة الإسلامية” الطاهر بن عاشور، ص28.
  52. ينظر: “بلوغ المرام من أدلة الأحكام” لابن حجر، ص13-15.
  53. صحيح مسلم، كتاب الطهارة، باب المسح على الخفين. الترمذي، الطهارة، باب المسح على الخفين.
  54. “إحكام الأحكام شرح عمدة الحكام” لابن دقيق العيد، 1/66.
  55. صحيح البخاري كتاب الحج، باب تزويج المحرم. صحيح مسلم، كتاب النكاح، باب تحريم نكاح المحرم وكراهة خطبته.
  56. جامع الترمذي كتاب الحج، باب ما جاء في كراهية تزويج المحرم.
  57. “فتح الباري”، 9/165-166.
  58. صحيح البخاري كتاب الطب، باب الحجامة من الداء. صحيح مسلم، كتاب المساقاة، باب حل أجرة الحجام.
  59. “زاد المعاد في هدي خير العباد” لابن القيم، 4/54-55.
Science
الوسوم

د. عبد الكريم عكيوي

كلية الآداب/جامعة ابن زهر-أكادير

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق