مفهوم الشعر عند ابن سلام الجمحي من خلال مقدمة كتاب «الطبقات»
مقدمة في تطور مفهوم الشعر عند القدماء:
إن البحث عن مفهوم الشعر فكرة راودت النقاد العرب منذ القرنين الثاني والثالث الهجريين فقدموا تعريفات كثيرة كلٌّ حسب فهمه لِكُنْهِ الشعر؛ وقد كان للشعراء – إلى جانب النقاد- وظيفة في تأسيس هذا المصطلح النقدي، ومنهم الشعراء الجاهليون والإسلاميون، قبل أن يصبح مفهوم الشعر مصطلحا نقديا كباقي مصطلحات النقد العربي، فنجد الشعراء يتداولون تعريفات كثيرة لمفهوم الشعر في أشعارهم سواء من جهة المعنى، أو من جهة الغرض، أم من جهة الصدق أو الكذب، كما قال حسان بن ثابت:
وإنما الشِّعر لُبُّ المرءِ يعْرِضُه على المجَالِسِ إن كَيْساً وإِنْ حُمُقَا
وإنَّ أشعرَ بيت أنت قائله بَيْتٌ يُقال إذا أنشدتَه: صَدَقَا(1)
"ومن ثم فليس من العسير التماس عناصر الشعر، أو استخراجها من هذا التعريف الذي لم يقصد منه – لشعريته وسياقه- التعريف. وهو على ذلك يفيد:
أن الشعر لُبّ.
وأنه تعبير.
وأنه تصوير.
وأنه إنتاج.
وأنه رسالة قائل لسامع.
وأنه أداة للخير والشر.
وأنه للجميع لا للنخبة.
وأن أجوده أصدقه.
إلى آخر ما يسمح به النص، ولا سيما إذا روعي فيه، إلى جانب المقال، المقامُ، وأدخل في المقام، إلى جانب السياق والمخاطِب والمخاطَب، الظرفُ العامُ: الخضرمة وصدر الإسلام"(2).
ونجد ابنَ سلام الجمحي وهو من نقاد الشعر المبرزين وصاحب أول كتاب نقدي ممنهج في الأدب العربي وهو كتاب «طبقات فحول الشعراء» بعدما كان النقد نقدا ذوقيا يعتمد على الفطرة، ويفتقر إلى وجود منهج علمي دقيق يَقْرِنُ الحُكْمَ بالدليل والتعليلِ المفصَّل؛ فنجده مثلا يُفَاضِلُ بين الشعراء ويضعُ شروطا لهذه المفاضلة ومنها كثرة شعر الشاعر وتَعَدُّد أغراضه وجودتُه...إلخ، يقول:" ففصلنا الشُّعَرَاء من أهل الجَاهِلِيَّة وَالإِسْلَام والمخضرمين الَّذين كَانُوا في الجَاهِلِيَّة وأدركوا الإِسْلَام فنزلناهم مَنَازِلهمْ واحتججنا لكل شَاعِر بِمَا وجدنَا لَهُ من حجَّة وَمَا قَالَ فِيهِ العلمَاء"(3).
ولقد كان مفهوم الشعر من أبرز القضايا التي دارت حولها الأفكار النقدية منذ القرون الأولى ونخص بالذكر مقدمة كتاب «طبقات فحول الشعراء» لابن سلام الجمحي التي اشتملت على مجموعة من القضايا النقدية وأبرزها قضية الانتحال وكذا مفهوم الشعر، وإن كان مفهوم الشعر عنده يُلتَمَسُ من كلامه التماساً، إذ لم يقصده ابن سلام قصداً مباشراً ولمْ يُفصِح عنه بصورة واضحة كما فعل قدامة بن جعفر مثلا في كتابه «نقد الشعر» في عبارته الشهيرة:" إنه قول موزون مقفى يدل على معنى"(4) ، وقبله تعريف الناشئ الأكبر فالشعر عنده " قيدُ الكلام، وعقالُ الأدب، وسورُ البلاغة، ومحلُّ البراعة، ومجالُ الجنان، ومسرحُ البيان، وذريعةُ المتوسل، ووسيلةُ المتوصل، وذمامُ الغريب، وحرمةُ الأديب، وعصمةُ الهارب، وعذرُ الراهب، وفرحةُ المتمثل، وحاكمُ الإعراب، وشاهدُ الصواب"(5).
وليس غريبا أن يكون قدامة انتهى إلى تعريفه ذاك من خلال استقراءه واطلاعه على مجموعة من الكتب النقدية التي قدمت الإرهاصات الأولى لمفهوم الشعر ومن بينها كتاب «طبقات فحول الشعراء» موضوع حديثنا.
مفهوم الشعر عند ابن سلام من خلال كتاب مقدمة كتاب «الطبقات»:
يمكن القول إن مفهوم الشعر عند ابن سلام الجمحي يتحدد في رأيي من ثلاث جهات كالآتي: جهة المعنى وجهة الغرض وجهة البناء، وتُقَدم هذه الجهات عند جمعها مفهوما للشعر بحسب فَهْم ابنِ سلام ونقدِه مع مراعاة الظرفِ العام - كما تقدم في كلام الدكتور الشاهد البوشيخي- وهي:
أولا: جهة المعنى: وليس يُقْصَدُ بالمعنى هنا الغرض بل المقصود بالمعنى الأفكار المعبر عنها، يقول ابن سلام في مقدمة الكتاب:" وفى الشّعْر مَصْنُوع مفتعل مَوْضُوع كثير لَا خير فِيهِ وَلَا حجَّة في عَرَبِيَّة وَلَا أدب يُسْتَفَاد وَلَا معنى يسْتَخْرج وَلَا مثل يضْرب"(6).
ويقدم ابن سلام - ضمنيا- في كلامه هذا شروط أو مقاييس جودة الشعر ، من جهة المعنى، وتدخل كلها في مفهوم الشعر عنده؛ فالشعر الذي فيه خير هو الحجةُ في العربية، وكما قال التوحيدي في «الإمتاع والمؤانسة»: "قال ابن نباتة : من فَضْل النظم أن الشواهد لا توجد إلا فيه، والحجج لا تؤخذ إلا منه، أعني أن العلماء والحكماء والفقهاء والنحويين واللغويين يقولون : قال الشاعر ؛ وهذا كثيرٌ في الشعر ، والشعر قد أتى به ،فعلى هذا الشاعر هو صاحب الحجة ، والشعر هو الحجة"(7) ؛ فالشعر الذي لا حجة فيه لا خير فيه.
والشعر الذي لا يستفاد منه أدب ولا يستخرج منه معنى ولا يضربُ فيه المثل لا خير فيه عند ابن سلام ومنه قول العرجي:
بَدَتهَا بقولٍ لَينٍ، وتمثلتْ مِنَ الشِّعرِ ما يرقَى به المتَمثِّلُ(8)
وبانتفاء هذه المكونات لا يستقيم مفهوم الشعر عند ابن سلام من جهة المعنى.
ثانيا: جهة الغرض: ومن جهة الغرض يقول ابن سلام:" وَلَا مديح رائع وَلَا هجاء مقذع وَلَا فَخر معجب وَلَا نسيب مستطرف"(9)؛ فالمديح والهجاء والفخر والنسيب ليست سوى نماذج من أغراض الشعر العربي، ولكل منها سمة عند ابن سلام فسمة المديح الروعة، وسمةُ الهجاء الإقذاع، وسمة الفخر الإعجاب، وسمةُ النسيب الطرافة.
وإلا " فعدد الأغراض الشعرية، من ناحية غير ثابت، ومن ناحية أخرى، فإن المواضيع الأكثر أهمية في عصر الناقد هي التي تبدو أساسية عند تقسيم الشعر إلى فنون وأغراض، لذلك كان النقاد يفضلون الحديث عن الأغراض الأكثر استعمالا دون اللجوء إلى حصر نهائي لها"(10).
ويبدو أن الشعراء فطنوا لهذا المبدأ الذي يتأسس عليه مفهوم الشعر عند ابن سلام وغيره، فقد روي عن جرير أنه قال:" إني لمدينة الشعر التي منها يخرج وإليها يعود، نسبت فأطربت، وهجوت فأرديت، ومدحت فَسَنَّيتُ.... "(11)، وكل هذا حديث عن الأغراض التي ذكرها ابن سلام وهي: المديح والنسيب والهجاء مع اختلاف سماتها عندهما.
وفي حديث الأخطل أيضا قال:" فَضَلْتُ الشعراء في المديح والهجاء والنسيب بما لا يُلْحَقُ بِي فِيه"(12).ويبدو أن تكرر ذكر هذه الأغراض سواء عند جرير أو الأخطل يؤكد أنها تدخل في مفهوم الشعر عند هؤلاء انطلاقا مما حدده ابن سلام في مقدمة كتاب «الطبقات».
وفي التشبيب والنسيب يقول نابغة بني شيبان:
أَثْقِفِ الشعرَ مرتينِ وأَطْنِبْ في صُنُوفِ التشْبيبِ والأَمثَالِ(13)
وقال ابن سلام:" فَلَو كَانَ الشّعْر مثلَ مَا وضع لِابْنِ إِسْحَاق وَمثل مَا روى الصحفيون مَا كَانَت إِلَيْهِ حَاجَة وَلَا فِيهِ دَلِيل على علم"(14).
ويظهر أن غاية الشعر عند ابن سلام ما كانت الحاجة إليه كما قال الحجاج للمساور بن هند: « لم تقول الشعر بعد الكبر؟ قال: أسقي به الماء، وأرعى به الكلأ، وتقضى لي به الحاجة، فإن كفيتني ذلك تركته»(15) ، فجعل غاية الشعر قضاء الحاجة وهي عند ابن سلام من صميم مفهوم الشعر.
ثالثا: جهة البناء: أما من جهة البناء فيقول ابن سلام في مقدمة كتابه في حديثه عن محمد بن إسحاق:" ثمَّ جَاوز ذَلِك إِلَى عَاد وَثَمُود فَكتب لَهُم أشعارا كَثِيرَة وَلَيْسَ بِشعر إِنَّمَا هُوَ كَلَام مؤلف مَعْقُود بقواف"(16).
ويظهر من كلام ابن سلام أن الشعر عنده ليس هو الكلام المؤلف الذي ينتهي بقافية؛ ولذلك قال «فكتب» ولم يقل مثلا «ونظم» لأن لنظم الشعر شروطا لا تنحصر في الوزن والقافية كما يفهم من كلامه – رحمه الله تعالى-.
وقال في رده أيضا على محمد بن إسحاق:" فَنحْن لَا نُقِيم فِي النّسَب مَا فَوق عدنان وَلَا نجد لأولية العَرَب المعروفين شعرًا فَكيف بعاد وَثَمُود، فَهَذَا الكَلَام الواهنُ الخَبيثُ، وَلم يَرْوِ قطّ عربي مِنْهَا بَيْتا وَاحِدًا وَلَا راوية للشعر مَعَ ضعف أسره وَقلة طلاوته"(17) ؛ فالأسر: شدة الخلق والبناء، والطلاوة: الحسن والبهجة والقبول والرونق، وإنما وصف هذا الشعر بضعف الأسر وقلة الطلاوة زيادة في تحقير هذا الشعر الذي رواه ابن إسحاق.
ومن جهة أخرى ليعلم أن هذه الأوصاف هي صفات الشعر المقبولِ عند ابن سلام؛ فالشعر الجيد هو الشديد الخلق، المحكم البناء ذو البهجة والرونق؛ لذلك وُجِدَ من الشعراء من تباهى بتجويد الشعر وحسن طلاوته، فقد قال عبدة بن الطبيب لأصحابه:« والله لو أن قوما طاروا من جودة الشعر لطرتم»(18).
وقد حاول محمود محمد شاكر في كتابه «قضية الشعر الجاهلي في كتاب ابن سلام» لَمَّ شتات هذا التعريف أو المفهوم، وحاولَ من خلال اطلاعه على هذا الكتاب ودقة معرفته به أن يضع لعلم الشعر تعريفا جامعا مانعا يستوعب كلام ابن سلام في مقدمة كتاب «طبقات فحول الشعراء»، يقول الشيخ محمود محمد شاكر:" ووجه «الشعر» عندنا نحن عرب اليوم، وعند أسلافنا منذ دهور متطاولة، ومنهم ابن سلام نفسه، وجه معروف لا يتنازع في تبينه أحد، هذا أمر مسلم به فيما أظن. ولفظ « الشعر»" في لسان العرب موضوع للدلالة على كل كلام شريف المعنى، نبيل المبنى، محكم اللفظ، يضبطه إيقاع متناسب الأجزاء، وينتظمه نغم ظاهر للسمع، مفرط الإحكام والدقة [...] وهذا اللحن المتكامل هو الذي نسميه «القصيدة»، وهذا اللحن المتكامل مقسم أيضا تقسيما متعانق الأطراف متناظر الأوصال، تحدده قواف متشابهة البناء والألوان، متناسبة المواقع، متساوية الأزمان، هذا هو «الشعر»"(19).
وهذا كلام متضمن في كلام ابن سلام لأنه - رحمه الله تعالى- كما قلنا سابقا لا يفصح عن هذا المفهوم أو التعريف بكيفية مباشرة وإن كان معروفا عنده، لأسباب متعددة أهمها بعد الوقت عن مرحلة وضع وتوثيق المصطلحات النقدية لعلم الشعر لأنها كانت معروفة عندهم بالسليقة والفطرة، وأهمها مفهوم «الشعر» نفسه باعتباره جنسا أدبيا قائم الذات له أنواعه ومكوناته ونعوته وألفاظ نقده وعيوبه التي تحدده وتميزه عن غيره من الأجناس والفنون الأدبية.
خاتمة:
يمكن القول إن الشعر عند ابن سلام الجمحي صناعة وثقافة وعلم يتحدد مفهومه من خلال ثلاث جهات وهي: جهة المعنى، وجهة الغرض، وجهة البناء.
فهو من جهة المعنى منبع الحجج في العربيةِ، وخزانة الأمثال والأدب والحكمةِ، وبه قضاءُ الحاجةِ، ومن جهة الغرض فهو كلُّ هجاء مقذعٍ ومديح رائعٍ، وفخر معجب ونسيب مستطرف(20)، ومن جهة البناء فهو شديد الأسر والبناء، ذو رونق وبهجة وسناء.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الهوامش:
1- ديوان حسان بن ثابت ص:174.
2- مصطلحات النقد العربي لدى الشعراء الجاهليين والإسلاميين قضايا ونماذج للدكتور الشاهد البوشيخي ص:101 – 102.
3- طبقات فحول الشعراء 1/24.
4- نقد الشعر ص:3.
5- البصائر والذخائر 5/219.
6- طبقات فحول الشعراء 1/4.
7- الإمتاع والمؤانسة ص:302- 303.
8- ديوان العرجي ص:153.
9- طبقات فحول الشعراء 1/4.
10- مقاييس جودة الشعر عند نقاد القرن الرابع الهجري ص:252.
11- الأغاني 8/39- 40. ومعنى: سَنَّيْتُ: سهلت وفتحت.
12- الأغاني 8/212- 213.
13- ديوان نابغة بني شيبان ص:65.
14- طبقات فحول الشعراء 1/11.
15- الشعر والشعراء 1/337.
16- طبقات فحول الشعراء 1/8.
17- طبقات فحول الشعراء 1/11.
18- الموشح ص:97.
19- قضية الشعر الجاهلي في كتاب ابن سلام ص:37.
20- ليس المقصود بالهجاء والمديح والفخر والنسيب هذه الأغراض بعينها وإنما هي نماذج للأغراض الأكثر استعمالا في عصر ابن سلام وإلا فأغراض الشعر العربي أكثر من أن تحصى أو تعد.
*************
المصادر والمراجع:
- الأغاني، لأبي الفرج الأصفهاني، تحقيق الدكتور إحسان عباس، الدكتور إبراهيم السعافين، الدكتور بكر عباس، دار صادر بيروت، الطبعة الثالثة سنة 2008م.
- الإمتاع والمؤانسة، لأبي حيان التوحيدي، تحقيق محمد حسن محمد حسن إسماعيل، شاركه في التحقيق الدكتور أحمد رشدي شحاتة عامر، الطبعة الأولى: 1424هـ/ 2003م، منشورات دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان.
- البصائر والذخائر، لأبي حيان التوحيدي، تحقيق الدكتورة وداد القاضي، الطبعة الأولى: 1408 هـ/ 1988 م، منشورات دار صادر، بيروت.
- الشعر والشعراء، لابن قتيبة الدينوري، تحقيق وشرح أحمد محمد شاكر، منشورات دار الحديث، القاهرة، عام الطبع: 1427هـ/2006م.
- قضية الشعر الجاهلي في كتاب ابن سلام الجمحي، لأبي فهر محمود محمد شاكر، الناشر: مطبعة المدني بمصر، ودار المدني بجدة.
- الموشح في مآخذ العلماء على الشعراء، تحقيق علي محمد البجاوي، منشورات دار الفكر العربي.
- ديوان العرجي، رواية أبي الفتح الشيخ عثمان بن جني، شرحه وحققه خضر الطائي ورشيد العبيدي، الطبعة الأولى: 1375هـ/ 1956م، منشورات الشركة الإسلامية للطباعة والنشر، بغداد.
- ديوان حسان بن ثابت، ديوان حسان بن ثابت، شرحه وكتب هوامشه وقدم له الأستاذ علي مهنا، الطبعة الثانية 1414هـ /1994م، منشورات دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان.
- ديوان نابغة بني شيبان، الطبعة الأولى: 1351هـ/ 1932م، منشورات دار الكتب المصرية، القاهرة.
- طبقات فحول الشعراء، لمحمد بن سلام الجمحي، تحقيق محمود محمد شاكر، منشورات دار المدني، جدة.
- قضية الشعر الجاهلي في كتاب ابن سلام، أبو فهر محمود محمد شاكر، منشورات مطبعة المدني بمصر ودار المدني بجدة.
- مصطلحات النقد العربي لدى الشعراء الجاهليين والإسلاميين قضايا ونماذج، للدكتور الشاهد البوشيخي، الطبعة الأولى 1413هـ/1993م، منشورات دار القلم.
- مقاييس جودة الشعر عند نقاد القرن الرابع الهجري للدكتور محمد الحافظ الروسي، رسالة لنيل دبلوم الدراسات العليا، ، تحت إشراف الدكتور محمد الكتاني، السنة الجامعية 1989هـ/ 1990م.
- نقد الشعر، قدامة بن جعفر، الطبعة الأولى: 1302هـ، منشورات مطبعة الجوائب، قسطنطينية.