مركز ابن أبي الربيع السبتي للدراسات اللغوية والأدبيةقراءة في كتاب

«مفاهيم في التماسك ووحدة بناء النص» من خلال كتاب « قراءة في الأدب القديم» محمد محمد أبو موسى دراسة إحصائية معجمية (حلقة 14)

صوغ

 [صياغة/صيغ/صيغت/يصوغ]

سياق المصطلح:

«ثُمَّ يُسْمِعُك أَصْواتَ هذا الحَشدِ وهُو يُؤكِّدُ لهُ نَعيَّه، ويَقولونَ جَميعًا بلِسانٍ واحِدٍ وصَوتٍ واحدٍ وصِيغَةٍ واحِدةٍ  « إنَّكَ يابْنَ أَبي سُلْمى لَمَقْتولُ» وكأنَّهُمْ يَسْعَونَ حَولَ جَنازةٍ تَتحرَّكُ والجَنازَةُ هُو وهُوَ عَلى ناقَتهِ ويذْكرُ بجُمْلةِ « لمَّا نَعى بكرَها النَّاعونَ» الّتي جَاءتْ مُعْترِضةً فَيأْتي باعْتِراضٍ في نَعيِ هذهِ الحُشودِ لَهُ، وذلِك قولُه « يا بْنَ أَبي سلمى» فقَد وَقعَ اعْتِراضٌ بيْنَ اسْمِ إنّ وخَبرها كَما كان نَعيُّ البِكرِ اعْتِراضًا بَينَ خَبرِ لَيسَ واسْمِها، وهذا التَّشابُهُ والتَّآخي في الصِّيَغِ لا يَخْلو مِنْ دَلالَةٍ».[1]

-«وهَكَذَا نَرَى شَبَكةَ الكَلامِ ولُحْمَتَهُ، وبِناءَ بَعْضهِ على بَعضٍ، حتّى صارتْ عدّةُ الجُملِ جُملَةً واحِدةً، ومِثلهُ «إذا انْتَبَهَتْ حَدْرَاءُ» والكَلام إلى قَولهِ «أخْضرَ مِنْ نَعْمانَ» شَرْطٌ وجَوابُهُ، وقَولُهُ «ثُمَّ جَلّتْ بهِ» مَعطُوفٌ على قَوْلهِ «دَعَتْ» وداخِلٌ في الجَوابِ وهذا الضَّربُ من الصِّياغةَ وسَبْكِ الكَلامِ ونَسْجهِ هُو الذي يُسمّيهِ عَبدُ القاهرِ النَّمطُ العالي، والبابُ الأعْظمُ، ووَصَفَهُ بأنّ لِمزِيَّتهِ سُلْطانًا يُعظَّمُ، وأنّ سُلطانَ المَزيّةِ في الكَلامِ كُلِّه لا يُعظَّمُ في شَيءٍ كما يُعظّمُ فيهِ».[2]

-« وكَأنّ الشِّعرَ نَفسَه أَصْداءٌ لأَصواتٍ خَفيَّةٍ مُكتَّمةٍ قَبعتْ في ضَميرِ القَلبِ، وقَولُه تَعالى: «يَقُولُونَ مَالَا يَفْعَلُونَ» يعْني إلْغاءَ فِعْلِ الشِّعرِ وحَدَثِه، والاكْتِفاء بِحدِيثهِ، وهَذا يَعني أنَّ الفاجِرَ في الشِّعرِ لَيسَ بفاجِرٍ والنّاسك فيهِ لَيْسَ بِناسِكٍ، لَيسَ ما يُثْبِتُه الشِّعرُ ثابِتًا ولا ما يَنْفيهِ مَنْفيًّا وإنَّما هُو صِيَاغَةٌ ونَسْجٌ وتَحْبيرٌ».[3]

-«…لأنَّ الشَّيخَ رَحِمهُ الله ذَكرَ نَماذِجَ لِهذا مِنْ شِعرٍ يُوحِي بأنَّ مُرادَهُ أَشْياءُ تَتَعلَّقُ بالصِّيَاغَةِ وتَرابُطِ البِناءِ في حُدودِ الجُمْلةِ الشَّرْطِيةِ أو التَّشْبيهِ المُركَّبِ أو المُزاوَجَةِ وغَير ذَلكَ ممّا نَجدُ طَبائِعَ الصِّياغَةِ تَسْتَلْزمُ أنْ يَكونَ البَيتُ أو البيتانِ أوِ الثّلاثة كأنَّها جُمْلةٌ واحِدةٌ كَأنْ يَجرِيَ الكَلامُ على التَّقْسيمِ أوِ التَّفْصيلِ أوْ ما شابَهَ ذلِك ممّا تَرى فيهِ الجُملُ كأنَّها ألْفاظٌ مُفْرَدةٌ، وإنَّما يَتمُّ المعْنى بجُمْلةٍ منَ الجُملِ تَتكوَّنُ مِنْها فائِدةٌ مَحْدودَةٌ».[4]

– « اُنظرْ إلى قولهِ « ثَابِتَ المَوْطِن كتَّامَ الوَجَع» وتَأمَّلْ ما فيهِ منْ صَبرٍ وجَلادَةٍ، وتَماسكٍ، فهو ثابتُ المَوطنِ وإن كانَ الموْطِنُ فَزِعًا مَخوفًا، ثُمّ هو كَتّام الوَجَع، ولا يُخْطِئكَ ما في كلِمةِ «كَتّامٍ» من مُعاناةٍ يَبذُلها الشّاعرُ حتّى لا يُرى إلّا جَلِدًا، ثُمَّ كيفَ سَلكَ أُسلوبَ التَّجْريدِ، وهُو ضَربٌ من الفُنونِ التي تُوَسِّعُ على الشّاعرِ والأديبِ فَيستطيعُ بها أنْ يَصوغَ المَوقفَ والوَصفَ صِياغةً لا تَخلو من العُنصُرِ القَصَصِيِّ».[5]

-«يُشْبهُ في التَّركيبِ والصِّيَاغَةِ قَوْلَ الخَنْساءِ صَخرٌ « هُو الحامِلُ الثِّقلِ المُهمُّ»، «هُو الجابِرُ العَظْمِ» إلى آخِرهِ ولكنّه في أداءِ المعْنى يَخْتلِفُ لأنّ مُرادَ الخَنْساءِ كَما بيّنّا أنّ هذهِ الأفعال تَتكرَّرُ منه، أو هي أجْناسٌ منْ أفْعالٍ يَنْهضُ بها أبَدًا، ولا يَنْهضُ بها غَيرُهُ…».[6]

-«ثُمّ بعْدَ ذَلكَ تَأمَّلْ هذِهِ الأبياتَ الثّلاثةَ الأَخيرَة وسَوفَ تُذَكِّركَ أنْغامُها بنِياحِه النّادِيةِ التي تَعْمدُ في نِياحَتِها إلى هذا اللّونِ منَ النَّغمِ فَتَرجعُ في أوَّلِ صَوتِها وتَقْطعُ ثُمّ تَمدُّهُ وتُرْسِلُهُ مُسْتَويًا، وأظُنُّكَ تَعْتَقدُ مَعي الآنَ أنّ هذا اللّونَ مِنَ الصِّياغَةِ في شِعرِ الخَنْساءِ يَحتاجُ إلى دَرسٍ مُستَقلٍّ، يَنْهضُ بِبحْثِ ألْوانِ المَعاني الّتي صيغَتْ هَذهِ الصِّياغَةَ مُحاوِلًا تَفْسيرَ هذا التَّموُّجِ الصَّوتِيِّ في ضَوءِ الخِبرةِ بحِسِّ الشّاعرةِ وألْوانِ انْفِعالِها».[7]

-«…الاسْتِفْهامُ هُنا فيهِ عِتابٌ رَفيقٌ بالنَّفسِ، ولَفْتٌ ناعِمٌ إلى ما هِيَ فيهِ مِنْ خَطأٍ حينَ تَتَوجَّعُ مِنْ رَيبِ الدّهرِ وهُو لَيسَ بمُعتِبٍ، وأبو ذُؤيبٍ كانَ دَقيقًا في صِياغَتِهِ مُبينًا عَنْ خَفِيِّ حِسِّهِ وفِكْرتهِ، فقَدْ أدْخلَ هَمْزةَ الاسْتِفْهامِ التي تَحْمِلُ الجُزْءَ الأهمَّ مِنْ مَعنى البَيتِ وهُو عِتابُ النّفسِ ولَومُها عَلى تَوجُّعِها مِنَ المَنونِ، وكانَ يَجْدرُ بها أنْ تَتلَقّى هذهِ النَّكباتِ كَما تَتلقّى الأَشْياءَ المَأْلوفةَ، وسَوْف تَرى أنَّ هَذا المَعنى ليْس أَساسَ البَيتِ فَقَطْ وإنّما جَرَى في القَصيدَةِ كُلِّها حتَّى كأنّه أُشيعَ نَغمَةً بيْنَ أنْغامِها وأدارَ مَعنىً في أجْزائِها».[8]

-«…وهُم يَقُولونَ إنَّ المقصودَ بمعْنى الهَمزةِ هُو ما يَليها، وهَذا أَصْلٌ عَظيمٌ من أُصُولِ الصِّيَاغةِ يُبَيِّنُ لَنا أنّ الشّاعرَ لا يَقصِدُ إنْكارَ التَّوجُّعِ  وإنّما يَقْصدُ أنْ يكونَ منَ المَنونِ ورَيبِها». [9]

-« النَّغمَةُ هُنا هادِئةٌ وعَميقةٌ، والعِبارةُ سَلِسةٌ ومُتَحدِّرةٌ، والطَّبعُ مَوَّاتٌ والنَّبعُ رَقْراقٌ، ولَو أنَّ الغَنوِيَّ نَشَأَ في العَصْرِ العبَّاسِيِّ لَالْتَبسَ شِعرُهُ بشِعرِ البُحْتُريِّ، ذلكَ الشِّعرُ الّذي لا تَطْفُو عَليْه آثارُ التَّكلُّفِ والمُعاناةِ، وإنْ كانَ يَحْتوِي صَنْعَةً دَقيقةً، وتَفْكيرًا عَميقًا في البِناءِ والصِّياغَةِ، انْظُرْ إلى هَذهِ النَّغْمةِ المُسْتَرْسلَةِ في قَوْلهِ: « لَقَدْ كانَ أمّا حِلْمُهُ فَمُروَّحٌ» انْظُر إلى كَلمةِ «أمَّا» وما أَفادَتهُ منَ التَّقسِيمِ والتَّحْديدِ، والتَّقْسيمُ مِنْ مَزايا الأُسْلوبِ ومَظاهرِ ضَبْطهِ وتَحْديدِهِ وبَلاغَتهِ، ثُمّ ما فيها مِنْ مَعنَى التَّوْكيدِ الّذي أَعْطَى العِبارَةَ فَضْلًا مِنَ المَتانَةِ وتَأْصيلِ المَعنى وتَقْرِيرهِ…». [10]

-« … والحَقيقَةُ أنَّ هذه كلّها تَصوُّراتٌ نَثْريةٌ نُفْرِغُها على الشِّعرِ، وأنَّ التَّسَلْسُلَ في الشِّعرِ يَخْضعُ لِمَقايِيسَ أُخْرى تَسْتَمدُّ منَ الوَعْيِ بطَبيعةِ الإحْساسِ والإِبْداعِ وأحْوالِ الانْفِعالِ وما يُعانيهِ الشَّاعرُ، وأنَّ مِنْ هذهِ المَشاعرِ والخَواطرِ والأفْكارِ ما يَشْتدُّ تَركُّزهُ، فَيَصُوغُهُ الشّاعرُ صِيَاغَةً مُجْمَلةً، وقدْ رأيْنا الشّاعرَ هُنا قَبْل أنْ يَنْتقِلَ إلى تَحليلِ هذا الشُّعورِ المُرَكّزِ، وتَفْصيلهُ يَتوقَّفُ ليُؤكِّدَ أَهْليتَهُ لهاتَينِ الصِّفَتيْنِ الكَبيرَتَيْنِ… ». [11]

التعريف اللغوي:

جاء في لسان العرب: صوغ: الصَّوْغُ: مَصْدَرُ صاغَ الشيءَ يَصُوغُه صَوْغاً وصِياغةً وصُغْتُه أَصوغُه صِياغةً وصِيغةً وصَيْغوغةً؛ الأخيرة عن اللِّحْيانِيِّ: سَبكَهُ، ومِثْلُهُ كانَ كَيْنونةً ودامَ دَيْمومةً وَسادَ سَيْدودةً. قالَ: وقالَ الكِسائِيُّ كانَ أَصلُه كَوْنونةً وسَوْدودةً ودَوْمومةً فقُلبت الواوُ ياءً طلبَ الخِفَّةِ، وكُلُّ ذلك عِنْدَ سيبويه فَعْلُولةً، كانَتْ مِنْ ذَواتِ الياءِ أو من ذَواتِ الواوِ. وَرَجُلٌ صائِغٌ وصَوَّاغٌ وصَيَّاغٌ مُعاقِبةٌ فِي لُغَةِ أَهل الْحِجَازِ. وَفِي حَدِيثِ عَلِيٍّ: واعَدْتُ صَوَّاغاً مِنْ بَنِي قَيْنُقاعَ؛ هو صَوَّاغُ الحَلْي، والصَّوْغُ: مَا صِيغَ، وَقَدْ قُرِئَ: قالوا نَفْقِدُ صَوْغَ الْمَلِكِ. وَرَجُلٌ صَوَّاغٌ: يَصُوغُ الكلامَ ويُزَوِّرُهُ، ورُبّما قالوا: فُلانٌ يَصوغُ الكَذِبَ، وهُوَ اسْتِعارَةٌ. وصاغَ فُلانٌ زوراً وكَذِبًا إذا اخْتَلَقَهُ. وهذا شَيْءٌ حسَنُ الصِّيغةِ أي حسَنُ العَملِ. وفي الحَديثِ أكْذَبُ النّاسِ الصَّبّاغُون والصَّوّاغُون؛ هُمْ صَبّاغُو الثيابِ وصاغةُ الحُلِيّ لأنهم يَمْطُلُونَ بالمواعيدِ الكاذِبَةِ، وقيلَ: أراد الذين يرتِّبون الحَديثَ: ويَصُوغُون الْكَذِبَ. يُقَالُ: صَاغَ شِعْرًا وَكَلَامًا أَي وَضَعَهُ ورتَّبَه، وَفُلَانٌ حسَنُ الصِّيغةِ أَي حسَنُ الخِلْقةِ والقَدِّ. وصاغَه اللهُ صِيغةً حَسَنةً أَي خَلَقَه، وصِيغَ عَلَى صِيغَتِه أَي خُلِقَ خِلْقَتَه، وصاغَ اللهُ الخلقَ يَصُوغُها. ابْنُ شُمَيْلٍ: صاغَ الأُدْمُ فِي الطَّعَامِ يَصُوغُ أَي رَسَبَ، وصاغَ الماءُ فِي الأَرض رَسَبَ فِيهَا. وَفِي حَدِيثِ بُكَيْرٍ المُزْنِيِّ فِي الطَّعَامِ: يَدْخُلُ صَوْغاً ويَخْرُجُ سُرُحاً أي الأَطْعِمةُ المَصوغةُ ألواناً المهيأة بَعْضها إلى بَعْضٍ. والصِّيغةُ: السِّهامُ التي مِنْ عَمَلِ رَجُلٍ واحِدٍ وهو مِنْ ذلكَ؛ قالَ العَجّاجُ:

وصِيغة قَدْ راشَها ورَكَّبا

وسِهامٌ صِيغةٌ مِنْ ذَلِكَ أَي مِنَ عَمَلِ رجُل واحدٍ، وَهُوَ مِنَ الواوِ إِلا أنها انْقَلَبَتْ ياءً لِكَسْرَةِ ما قَبْلَها؛ قالَ ابْنُ بَرِّيّ: شاهِدُهُ قَوْلُ حُمَيْدٍ الأَرقط:

شَرْيانة تَمْنَعُ بَعْدَ اللِّينِ، /// وصِيغة ضُرِّجْنَ بالبَشْنِينِ

وفي تاج العروس: صاغَ الشَّيءَ: يَصُوغُه صَوْغاً: هَيأَهُ على مِثالٍ مُسْتَقِيمٍ وسَبَكَه عليْهِ فانْصَاغَ. [12]

التعريف الاصطلاحي:

صياغة الكلام: سَبكُه وتَأليفهُ وتَركيبُه وإنْشاؤهُ على هَيئةٍ مَخْصوصة، ومنه صِياغةُ الشِّعرِ في قالبٍ مَحبوكٍ من الألفاظِ والمَعاني والأدواتِ، ولا يُمكنُ أن نتصوَّر نصًّا مُحْكمَ البِناءِ مُتَماسكَ الأجْزاءِ دون أنْ يَتّخذَ من الصِّياغةِ قاعدَتهُ الأساسيّة.

///

صور

 [تصور/تصوير/صورة]

سياق المصطلح:

-«وكَعبٌ يُرْدِفُ هذا البَينَ الّذي افْتتحَ بهِ إنْشادهُ، بِقوْلهِ « فَقَلْبي اليَومَ مَتْبولُ» فيذْكرُ القَلبَ، والتَّبْلَ الّذي هُو الضَّنَا، والسّقمَ معَ البَيْن، ثُمّ يُتْبِعُ ذلكَ بقوْلهِ مُتَيَّم فَيُعيدُ المِيمَ والتّاءَ مِن مَتْبول، وكأنَّهُ يُقوِّي الإنْشاد، ويَرْتَقي بالمعْنى، لأنّ المُتيَّم الّذي أذْهلهُ ما يَجد، وهُو غيْر ذي الضّنا والسّقمِ، لأنّ هذا فيهِ قَدرٌ مِنْ ذَهابِ العَقلِ، وليسَ الجِسم فحَسْبُ، ثُمّ يُلحُّ عليْه ما يَجِدُ فيُضيفُ «لَمْ يفدْ» أي أَسيرٌ لمْ يُستَنْقذ، ويَدخُلُ بالصّورَةِ مَدخلًا آخرَ فَيجْعل قَلبهُ أَسيرًا، ثُمّ يَزيدُ فَيضعُ القَيدَ أو الكَبلَ لَيسَ في قَدمَيْهِ، وإنّما يَضعُ فيهِ قَلْبهُ، ويُعيدُ الصَّوتَ الأَوّلَ الذي هُو مَتْبولُ، والشَّبهُ بيْن مَكْبول ومُتْبول شَبهٌ في الوَزنِ، وأوّل الكلمَةِ وآخِرها، وكأنّه يَردُّ عَجُزَ النَّغمِ إلى صَدرهِ، ويُرجِّعُ صَوتَ شَجَنهِ ونَوْحهِ على قلْبهِ».[13]

-«وسَأكْتَفي مِنْ وَصْفِ النَّاقةِ بهَذا وبِوصْفهِ لأَوْبِ ذِراعَيْها لأنّه ذَكرَ في هَذا صُورَةً قَويَّةَ الإيحاءِ بمعْناه، والأبْياتُ الّتي سَأتَجاوَزُها تَدورُ حَولَ وَصْفِها بالشِّدَّةِ، وأنّها كالعَيْرِ، وأنَّها قُذِفتْ باللَّحْمِ وأنّها لمْ تُطْرَق ولمْ تُرْضِع فَيَنْتَقِصُها ذلِكَ، وأنّها قَنْواءُ أيْ فيها ما يُشْبهُ الشَّممَ في الرِّجالِ، وأنَّ العَينَ لا تُخْطئُ العِتقَ في حَرَّتَيْها أي أُذُنَيْها، وإِذا تَحدَّبَتْ أُذنُ النّاقةِ دلّ ذلكَ على عِتْقها، وأنّها تُسْرعُ حتّى تَكاد تُفارقُ الأَرضَ، ولا تَمسُّها أخْفافها، إلّا مسًّا سَريعًا كأنَّه تَحلّة القسم، وأنّها تَنْجلُ الحَصَى وتَرْميهِ بأخْفافِها…».[14]

-«…وهَذا التّرْشيحُ مع هَذا المَجازِ صَبَغَ الصُّورَةَ بصِبْغةٍ حِسِّيَّةٍ فَصارَتْ كأنَّها مَحْسُوسةً باليَدِ بعْدَما كانتْ مَحْسوسةً بالعَينِ، والتَّشبيهُ في قَوْله «بِعَيْنَيْ مُفْرَدٍ» وأصْلُ الكلامِ بعَيْنيْنِ كَعَيْنَيْ مُفْرد وإنَّما خَصّ المُفْردَ أي الّذي قَطعهُ القَطيعُ، وأَفْردوهُ، لأنّهُ يَكونُ أحدَّ نَظرًا، وأكْثرَ تَوجُّسًا، وتَيقُّظًا، وابْنُ هِشامٍ يقولُ أيّ مَدْخلٍ لِوصْفهِ بأنَّهُ لَهِقٌ في حِدّةِ نَظَرهِ؟ وربّما كانَ بَياضُهُ الشّديدُ ممّا يَجْعلُهُ هَدفًا للصَّيدِ، فَزادَ ذلكَ مِنْ حدَّتهِ، وتَوجُّسهِ، وقَولهُ «إذا تَوقَّدتِ الحِزانُ والمِيلُ» أيْ اشْتدَّتِ الشَّمسُ عليْها حتّى صارتْ تَتوقَّدُ، وإنَّما جمَعَ الحِزان أيْ الأرضَ الصَّلبةَ، والمِيلُ أي مُنْعقدُ الرَّملِ، لِيشْملَ الحَزْنَ والسَّهلَ، وشِدَّةُ الحرِّ هذهِ ممّا تَكْسِرُ النَّظرَ، وتُحدِّدُ مَداهُ».[15]

-« ثمَّ قولُهُ:

مِنْ ضَيْغَمٍ مِنْ ضِرَاءِ الأُسْد مُخْدَرُه /// ببَطْنِ عَثَّر غِيلٌ دُونَه غِيلُ

تَأَمّلْ اخْتِيارَ ضَيْغمٍ، وإيثارَها عَلى كَلِمةِ أَسدٍ، ومُلاحظةَ ما في ضَيْغمٍ مِنْ صورةِ الضَّيْغمِ، والعَضِّ والقَضْمِ، وهذه الكَلمةُ تُحْضرُ لكَ منَ الأَسدِ أَعْنفَ ما فيهِ، وأهْولَهُ، وهيَ حالة مَضْغهِ، وضَغْمهِ لِفَريسَتهِ، ثُمّ هيَ مُتَناسِبةٌ مع سِيَاقِ الصُّورةِ المَليئةِ بخَراذِيلِ اللَّحمِ، وكأنَّ هذهِ الصُّورَ منَ الخَراذيلِ، والمعْفور، ومُطرَّحِ البَزَّ، والخِلْقانِ، والمَأْكولِ، كلّ ذلِك خَارجٌ منْ لَفْظةِ ضَيْغمٍ، وهَذا مِنْ أَدَّقِ مُناسَباتِ الأَلْفاظِ لِسِيَاقِهَا، وقالُوا لكلِّ كَلمةٍ معَ صاحِبَتِها مَقامٌ».[16]

-«ومنَ الحِكْمةِ ودَقيقِ الصَّنْعَةِ أنْ يَجْعلَ الشّاعرُ غَرضَهُ منَ الجُملةِ في أنف كَلامهِ كَما يقُولُ الشَّيخُ عَبدُ القاهرِ، ثُمّ الفِعلُ المُضارعُ في قَولهِ «تَظَلُّ» وكَأنَّك – كَما قُلت مِرارًا- تَرى في هَذا المُضارعِ الصُّورةَ المُتَجَدِّدةَ في إطارِ فِعلِ « تَظَلُّ» الدَّالِّ بِمادَّتهِ على الثُّبوتِ، كَما قَالَ « لَظَلَّ يُرْعدُ» ولاحِظْ تَكْرارَ هَذهِ المادَّةِ مَعَ حَميرِ الوَحشِ، وقَدْ سَبقَ ذِكْرُها مَعَ الفِيلِ، وكأنَّها هُنا تَسْتَصْحبُ شَيئًا مِمَّا هُناكَ، وقَدْ أَسْقطَ هُنا الارْتِعادَ، ولَمْ يَقُلْ تَظَلُّ مِنهُ حَميرُ الوَحشِ تُرْعدُ لأنَّ الارْتِعادَ كَما قُلنا مُرْتَبِطٌ بِضَخامَةِ الفِيلِ ولأنَّ السِياقَ تَغيَّرَ…».[17]

– « ولا مَعنى لِصُعوبةِ المَصعدِ إلَّا أنْ تَحرِصَ على الوصولِ إلى خَوافي الدَّلَالَاتِ، والإشاراتِ، وأنْ تَكونَ قَادرًا على أن تَعرُجَ إلى الأُفقِ الّذي تَتَرامى فيهِ، وفَهمِ المَعاني الطَّافيَةِ على سَطحِ الكَلامِ…وهَذهِ الأقْسامُ في القَصيدةِ واضِحة المَعالمِ، وبَيِّنةُ التّصْويرِ، وتَراها كأنَّها حُقولٌ أوْ أَوْدِيةٌ في خَريطةِ القَصيدةِ…والقِسم الذي ذَكرَ فيهِ سُعادَ لهُ وَجهانِ وَجهٌ صَوَّرَ فيهِ شَوقَهُ وتَوْقهُ الشَّديدَ إلى سُعاد، ولَاحَظَ أنَّ وصْفَها بأنَّها أغنُّ وأنّها “تَجْلُو عَوارِضَ ذِي ظَلمٍ إذا ابْتسمتْ” كلّ ذلكَ تَوْقٌ إليْها وإنّما ذَكرَ هذا التَّوْقَ ذِكرًا صَريحًا… وفي الوَجهِ الثّاني صَوَّرَ فيهِ كَعْبٌ اليَأسَ الطّاحِنَ وقدْ أحْسنَ كَعبٌ تَصْويرَ هذا اليَأسِ الدّاكنِ المُقْبض…ولا شَكَّ أيضًا أنَّ العناصِرَ المُكوِّنةَ للوجهِ الثَّاني للصُّورة تَصيرُ هي الأُخْرى ذاتَ دَلَالَةٍ، وليست فقط أنَّ صَاحبةً تَعبثُ بعقلِ مُحبٍّ ».[18]

-«… ولا تُهْملْ قرانَ هذه الصُّورَةِ في سِياقِها بحَدْراءَ الّتي مَضى حَديثُها، وأنَّ هَذا الاقْتِرانَ يُفيدُ أنَّ هذهِ الصُّورَةَ مِنْ حَدْراءَ بِسبِيلٍ، وأنَّ الكلامَ وإنْ كانَ انْتقلَ إلى بابِ الاسْتِرْجاعِ والذِّكْرى، فإنَّهُ إنّما يَسْتَرْجِعُ صُوَرًا ذَاتَ وَشَائِجَ…».[19]

-«… وهَذا منْ أَهمِّ دِلالاتِ هذا البَيتِ، لأنَّ جَوْهَرَ الصُّورَةِ هُو بَيانُ أنّ الفَرزدقَ ينالُ ما لَمْ يَنلْهُ غَيرُهُ، وهذا ما يُنازعُهُ الأنصاريُّ فيهِ…».[20]

-« ومِنَ الشِّعرِ حِكْمة، وهكَذا نَجدُ الكَلامَ يَقْترِبُ ولا يَتَلامَسُ، وتَجدُ صُوَرًا ومَعَانِيَ تَحْتها صُوَرٌ أُخْرى، ومَعانٍ أُخْرى، وهَذا هُو الرَّنينُ الثَّاني والجَرْسُ الخَفِيُّ…».[21]

– «…وهذه الجملُ الحاليةُ التي تَراها ذَات قِيمةٍ أَساسيةٍ في بِنَاءِ المَعْنَى حتَّى كأنَّها هي الأَصلُ أَحيانًا، وكأَنَّ ما قَبْلها كانَ مُقدِّمةً لَها، وهِيَ في البَيتِ الذي نَحْنُ فيهِ لَيْستْ أصْلَ المعْنى وإنّما هي أَصْلُ المعْنى في الصُّورةِ، لأنّ الصُّورةَ منْ أوَّلِها تَسْعى لِتنْتَهي عِندَ هذا القَرارِ الذي هو قُرْبُهُ منْها، ورُؤْيتُه لها، ودُنوُّها مِنهُ، ثُمّ تَرشُّفهُ مِنْ سُلافِها…وهذا لَفْتٌ واضِحٌ مِنْ أبي فِراسٍ إلى أنّ مَضْمونَ هذهِ الصّورةِ ومَغْزاها لابُدّ أنْ يَكونَ مُخْتلِفًا عنْ نَظائرِها، ثُمَّ إنَّهُ حِرْصٌ بِنَسيجِ مَسْألةِ العِلّةِ والدُّعاءِ وأنّه أطَبُّ إلى آخِرهِ على أنْ يَكونَ وهُو قَريبٌ منْ ربَّةِ القَصْرِ، حَكيمًا مُداوِيًا…».[22]

-« وكلّ هذه من أُصولِ بِناءِ هذا المَطلعِ الذي تَعدَّدتْ صُوَرُهُ، وهو منْ جَوهرِ صَنعةِ الفَرزدقِ، وقَبْلَ أنْ أَعْرضَ صُورَةً منْ شِعرهِ هيَ منْ جِنسِ هذه الصُّورَةِ لأُبَيِّنَ بِقدرِ الإمْكانِ الفَرْقَ في التَّصويرِ والمَغْزى، أَبْدَأُ الكَلامَ في شَيْءٍ مِنْ شَرحِ هذهِ الأُمْنِيةِ الّتي بَدأها بقوْله «فَيَا لَيْتَنا كُنَّا بَعِيرَيْنِ» لأنَّهُ رَبطَ هَذهِ الأُمْنيةَ بما قَبْلها وشَدَّ هذهِ العُرْوةَ بحَرفِ الفاءِ فَلا يَجوزُ أنْ نَفْصِم كَلامَهُ الّذي شَدَّ أَسْرهُ، وبعْد بَيانِ هَذا الرَّبْطِ انْتقلَ إلى الصُّورةِ حتّى تَكونَ قَريبةً منْ أُخْتِها».[23]

-«وكأَنَّ الصُّورَةَ تُدَاخِلُها ضُروبٌ منَ النَّشوةِ، النَّشْوَةُ في قَوْلهِ « دَعاني دُونَهُ» والنَّشْوةُ في قوْلهِ « وقَدْ عَلِموا أنّي أطبُّ وأَعْرفُ» والنَّشْوةُ في قَوْلهِ «فَأرْشُفْ سُلافَةَ جَفْنٍ» ثُمّ تَغْلي النَّشْوةُ وتَفورُ بهِ حتَّى كأنَّها نَشْوةٌ مَجْنونَةٌ بهِ فَيخْلعُ نَفْسهُ منْ نَفسهِ « فَيا لَيْتنا بَعيرانِ».

وأعودُ إلى ذكْرِ صُورَةٍ مُشابِهَةٍ، ومِنَ الضَّروريِّ أنْ نُقَدِّمَ سِياقَها لأنّنا لنْ نَفهمَ عَناصِرَها إلا إذا قدَّمْنا هذا السِّياقَ والقَصيدة كلّها يَجْري فيها معْنى التَّشَوُّقِ، إلى خَليط ذَهب».[24]

– «ولَمْ يَصِفْ هُناك حَلاوةَ حَليلِها بها، وإنَّما هيَّأَ هُنا بهذا الوصْفِ، وهذهِ الحَفاوةِ، لعَناصرَ مُهمَّةٍ في بِنَاءِ هذه الصُّورةِ…».[25]

-«وكأنّ كُلَّ هذهِ الصُّورَةِ مُجْتَمعةً في هذا التَّشْبيهِ، الذي ذَكرَ وَجْهَهُ في قوْله:

فَلَمْ يَبْقَ مِنْ عانِيكَ إلا بَقِيَّةٌ /// شَفًا كَجَناحِ النَّسْرِ مُرّطَ سَائِرُهُ

أما الانْقِضاضُ الذي هُوَ أصلُ هذه الصّورَةِ فَذلكَ ما كانَ عَليْه، وهُو يَتذكَّرهُ ويَحِنُّ إليْه ويبْكيه، بعْدَما صارَ جَناح نَسرٍ، تَحاتَّ ريشُه ولا يُبْكي الإنْسانَ شَيئًا آحَرَّ منْ بُكائِهِ حَياتَهُ، وقُوّتهُ، وفَراهَتَهُ، والصّورَةُ معَ أنّ صُرَّتَها ومَحْضَها هُو «كَما انْقَضَّ بَاز أَقْتَمُ الرِّيشِ كاسِرُهُ» قدْ تَخطَّتْ هذا واقْتَحمَتْ حَياةَ النّاسِ وأَخْرَجَتْ خَبْأَها وما تَنْطوِي عليْه مِنْ فَسادٍ..».[26]

-« ودَوْداةُ الجَواري هيَ الأَرْجوحَة، وتَأمَّل انْتِقالهُ منَ الدّساكرِ المُغَلَّقةَ والقِباب المَصونَة، والعَزيزةِ المخْدومَة المُحجّبة، ذاتِ الثَّراءِ والحُظْوة، والنِّعْمةِ إلى هذه الصّورةِ القَبيحةِ التي تُمثِّلُ أبْشَعَ صُوَرِ الانْحِطاطِ، وكيْف يَضعُ المُتَقابِلاتِ بيْن الظّاهرِ الذي يَسْطعُ بَهاؤُهُ، والباطِن الّذي تَمْتَلكُهُ شًياطينُ الرَّذيلةِ، ثُمّ تَأمّلْ كَيف يَسْخرُ مِنْ هذا الشّريفِ الكَريمِ الوَدودِ الجَوادِ الوَفيِّ، وكيْف يَخْتارُ لهُ داء يُقيمُه، ويُقْعِدهُ وهو عارِي السَّوأة، «كَثيرٌ دَواعي بَطْنهِ وقَراقِرُهُ»، في الوقْتِ الذي تَكونُ فيهِ حَليلتُهُ ومَوضِعُ عِرضهِ وتَكْريمِه وإعْزازِه هيَ أيْضا كدَوْداةِ الجَواري، وفِيها عَناصِرُ مُشْتَركةٌ معَ صورَةِ هذا الحَليلِ المِسْكينِ».[27]

-«…وهذا كما قُلتُ تَأكيدٌ لمعْنى ما تَرشَّفه، وأنّ هذا الذي تَرشّفه هو الذي بُنِيتْ عليهِ هذهِ الأُمْنيةُ كَما بُنيتْ عليْه صُورَةُ المَحْبوسةِ…».[28]

-«الواوُ في قوْله «ومائِرَةِ الأعْضادِ» هيَ واوُ رُبَّ الدّاخِلةِ على قوْلهِ «ومُسْتَنْفِراتِ للقُلوبِ» وقَولهُ «ومَحْبوس دَعاني» وهَذا يعْني أنّهُ يَسْتدْعي صُوَرًا وحِكاياتٍ كما قُلتُ ويَقْطعُ هذهِ الرِّحْلةَ عنْ ذِكرِ أميرِ المُؤْمِنين، وأنّها لَيْستْ رِحلةً لهُ، كما كانَ يَصْنعُ في غيْرِها، وإنّما هي صُوَرٌ وبِناءٌ شعريٌّ زاخرٌ، وحكاياتٌ، كأنها لوحاتٌ تفيضُ  وتُمطرُ شِعرًا. ومِنْ حِذْقِ الفَرزْدقِ وبَصيرتِهِ في شعْره، أنّهُ يُوشِكُ أنْ يَجْمعَ لكَ كلَّ ما في الصُّورةِ في كَلِماتٍ مَحْدودَةٍ ورُبّما في جُمْلةٍ أوْ كَلمةٍ».[29]

-«…وكأَنَّ الصُّورَةَ بُنِيتْ كُلّها على الجدِّ في السّيرِ، و«مائِرة الأَعْضادِ» وقدْ ذَكرَ الأَعْضادَ وهيَ جَمعُ عَضُدٍ، وإنّما تَمورُ النّاقةُ بِعضُدَيْها، وكأَنّهُ بهذا الجَمعِ يُشيرُ إلى شِدَّةِ مَوَرانِها، وتَداخُلِ عَضُدَيْها في هَذا المَوَرانِ حتّى لَيُخَيَّلُ إليْك أنَها تَمورُ بأعْضاد، وليْس بعَضُدَينِ،  ويَجبُ أنْ نُراجِعَ عَلاقاتِ الجُملِ، وتَرابُطِها وتَشابُكِها، في هذه الصُّورَةِ لأنَّ هَذا منْ جَوْهرِ بِناءِ الشِّعرِ، ولا تَعزِل تَذَوُّق الشِّعرِ عنِ الوَعيِ بعَلاقاتِهِ وإعْرابِهِ».[30]

-« …وقد يَكونُ وراءَ هَذا الشَّوبِ منَ الحَنينِ إشارةٌ إلى أنّ هذهِ الرِّحْلةَ، أو هذهِ الصُّورَةَ جُزْءٌ منَ الواقعِ وليْست مِنْ نَسيجِ الخَيالِ، وأنَّ الشّاعرَ بِهذا يُشْعِرُنا أنّهُ لا يَتزَيَّدُ في شَيءٍ، وخُصوصًا أنّ الكلامَ بعْد هذهِ الرِّحلةِ سَينْتَقلُ إلى صُوَرٍ منْ كَرمِ قَومهِ، ومِنْ شَجاعَتِهمْ وبَأسِهمْ، فهُو يُهيِّئُ ويَربِطُ الشِّعرَ بالأرْضِ والواقعِ، حتّى إذا انْتقلَ بكَ إلى وَصفِ صُوَرِ إطْعامِهِمْ وكَرمِهِمْ ونَحْرهِمْ وقراهُم، كُنتُ قدْ تَهيّأتُ لقَبولِ ذلكَ منْ حَيثُ هُو حَقيقةٌ واقِعةٌ، وليْس منْ بابِ الخَيالاتِ الشِّعْريةِ، ولذلِك تَرى الفَرزْدقَ هُنا يُكرِّرُ في آخرِ الصُّورَةِ ذِكْرَ الأَمكِنةِ، ويَقولُ « ذَرَعْنَ بِنا ما بَيْنَ يَبْرينَ عَرْضَهُ إلى الشَّامِ»».[31]

-«وإنَّما هيَّأَ الكَلامَ بهذا النَّفيِ الذي أَدْخَلَهُ على قَولهِ «بَلَغَتْ» ثمّ جاءَ بـ «حتى» التي هي لانتِهاءِ الغايةِ، والمعْنى أنّها ما بَلغَتْ حتَّى انْتهتْ إلى هذه الأحْوالِ الّتي وصَفَ، والتي أَطالَ فيها الكلامَ، وكأنها هي جَوهرُ الصّورةِ وأصْلها، وجِذْمُها… ».[32]

– «…وقدْ قُلتُ إنَّ ذِكرَ الأَمْكنةِ في مثلِ هذا السِّياقِ تَعني تَأْكِيدَ الحَقِيقَةِ في الصُّورَةِ…».[33]

-«…ثُمّ إنّهُ كانَ قدْ بَنَى الصّورَةَ التي قَبْلَها على مائِرةِ الأعْضادِ وأحْوالِها، ثُمّ إنّهُ أدْخلَها أيضًا في حِكايةِ ربَّةِ القَصرِ…».[34]

-« ومِثلُ هَذا يورِثُ الكَلامَ نَغمًا مُتَقارِبًا، ويُؤلِّفُ بيْن أجْزاءِ الصُّورَةِ، بهذا النَّغمِ المُتَقارِبِ، ومِثلُ هذا تَجدهُ في الجُملِ الحاليَةِ، الّتي قَابلتْ هذه الجُملَ منْ حَيثُ إنّ هَذهِ ابْتِداء الأبْيات، والجُمل الحاليَة انْتِهاؤُها».[35]

-«وهاتانِ الصّورَتانِ أعْني لَعبَ السُّيولِ والشُّجْيْراتِ والأعْشابِ الصَّغيرةِ – في هذا البَيتِ الحَيِّ المُتَوثِّبِ المُتَزاحِمِ بالصُّوَرِ والحَركةِ والتَّدَفُّقِ والانْدِفاعِ، والتي تَراها في -السُّيولِ اللّاعِبةِ – الماءُ يَجري غَللًا- الأشْجارُ والأعْشابُ الطَّرِيّةُ الغَضّةُ والصَّبا تُميلُها في حَركةٍ آخِذةٍ، هاتان الصُّورتانِ في هذا البيت المُتوثّبِ الحيِّ تَتناغَيانِ تَناغِيًا قَريبًا وواضِحًا مع غَريضِ السّاريةِ في بِدايةِ البيتِ السّادسِ لأنّ الغَريضَ هُو بِدايةُ ماءِ السّاريةِ وسُمِّي غَريضًا لأنّه لوحِظ فيه معنى البِدايةِ والطَّراوةِ وكأنَّهُ الدَّفْقةُ البِكرُ لهذه السّاريةِ، والتَّناغي هُنا أُريدَ به أنّ هذه الصُّورةَ كأنّها تَتهامَسُ بصِلةٍ…».[36]

-«…ثُمّ تَرى الصّورَةَ تبْدأُ في الحَركةِ الصّاخِبةِ فصاحَبَهُ عَبابٌ هادِرٌ آذيُّهُ، مُضْطرِبُ الأَمواجِ، وهذهِ الأمْواجُ أمْواجٌ صَعبةٌ، لا يُطيقُها السَّبّاحُ الماهِرُ ولا يَجِد لهُ فيها مَدْخلًا، وهكذا تَجدُ هذهِ الصُّورَةَ فيَّاضةً بجُمْلةِ مَعانٍ لا تَسْتطيعُ تَحْديدَها، فهذِهِ الأَمْواجُ المُتلاطِمةُ، وهذا الماءُ الغَزيرُ، الّذي لا يَجدُ الحاذِقُ لهُ فيهِ سَبيلًا يَصْلُحُ أنْ يَكونَ وصفًا لقُوَّتهِ، وأنّهُ كالبَحرِ في الاقْتِدارِ، والرَّهْبةِ، وأنّهُ لا طاقَةَ لأحَدٍ بهِ، وليْس لِباسِلٍ سَبيلٌ إليْه، ويُمكِنُ أنْ يَكونَ وصْفًا لعَطاءِ نَفسهِ، وخُصوبةِ شَخْصهِ، فهُو يَفيضُ فَيضًا لا يُطيقُهُ غَيْرهُ، ويُمْكنُ أنْ يكونَ وصْفًا لفِعالهِ، ومُروءَتهِ، وأنّ يَدهُ تَنالُ منَ المَكارمِ،  ما لا تَنالُهُ يَدُ غَيْرهِ وهكَذا….قالَ بعْدما ذَكرَ وعْيَ الشّاعرِ ببِناءِ قَصيدتِهِ  وتَصوُّرِ سَوابقِها ولَواحِقِها تَصَوُّرًا واضِحًا، وأحْكمَ ما بَيْن هذه السَّوابقِ، واللَّواحِقِ منَ المَلاءاتِ، والرَّوابِطِ وأنّ الشّاعرَ انْدفعَ بعْد ذلك في إبْداعهِ على خُطّةٍ مَدْروسةٍ، وطَريقٍ مُتْقنٍ…».[37]

-«…وهذهِ الصّورَةُ وما شابَهَها مِنْ صُوَرِ حِمارِ الوَحشِ وإنْ كَثُر تَردُّدُها في الشِّعرِ، فإنَّنا نَراها لا تَتكرَّرُ بِدَقائِقِها وشياتِها، فالنَّظْرةُ التَّحليليَةُ الواعِيةُ تُؤكِّدُ تَفرُّدَ هذهِ الصّورةِ في الشِّعرِ الجَيِّدِ، وليْس المُهمُّ في دِراسَةِ الصُّوَرِ وتَذَوُّقِها وتَحْليلِها هُو الهَيْكلُ العام. فالحِمارُ الوَحشِيُّ وأتانُه ومَرْعاهُ والثَّورُ وكلابُ الصَّيدِ، كلّ هذا يُعدُّ هَيكلًا عامًّا لهذهِ الصُّوَرِ، ويَتكرَّرُ كَثيرًا، وليْس بَحثه عِندنا هُو المُهمّ، وإنّما المُهمُّ المَلامِحُ الخاصّةُ، ودَقائقُ الصُّورَةِ، وفُروقُ ألْوانِها وظِلالِها، لأنَّ هذهِ الفُروقَ وهذهِ الدّقائِقَ هي لُبُّ ما فِيها منْ شِعرٍ، وهي مَدْلولُها الشِّعريُّ الّذي تَنْعكِسُ فيهِ صَنْعةُ الشّاعرِ وإحْساسهُ ومَوْقِفهُ…».[38]

-«الواقِعُ أنَّ هذا التَّصوُّرَ لبِناءِ القَصيدةِ يَحتاجُ إلى كَثيرٍ منَ الضّوابطِ حتّى يَسْتقيمَ، فإنَّ هُناك قَصائدَ بَدأتْ بِغيْرِ الوُقوفِ على الأطْلالِ، كما قُلنا وهُناكَ قَصائدُ انْتهتْ بالأطْلالِ والنَّسيبِ والرِّحْلةِ، ولا يَدْلِفُ منْها الشّاعرُ إلى غَرضٍ خاصٍّ، وكأنّهُ يَقولُ الشِّعرَ لمُجرَّدِ التَّصْويرِ والغِناءِ، ووصْفِ التَّجربةِ التي عاناها في النّسيبِ والرّحلةِ، إنّهُ الشّعرُ منْ أجْلِ الشِّعرِ أوِ الشِّعرُ الّذي غَرضُهُ الشِّعرُ».[39]

التعريف اللغوي:

جاء في معجم اللغة العربية المعاصرة: صوَّرَ يُصوِّر، تصويرًا، فهو مُصوِّر، والمفعولُ مُصوَّر، صوَّر الشَّخصَ ونحوَه: جعل له صورةً مجسَّمة، جعل له شكلاً وصورة «هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ». وصُوِّر له الشَّيءُ: تخيَّلَه وبدا لَه، رسَمَه على الورق ونحوِه بالقلم أو الرِّيشة أو بآلة التَّصوير، صوَّر مُستندًا: استخرج نسخة مصوَّرة منه. وصوَّر الأمرَ: وصفه وصفًا يكشف عن جزئيَّاته، وصوَّر الشَّخصيّةَ: مثَّلها.

والتَّصويرُ الشِّعريّ: تصوير شخص أو شيء في القصيدة من خلال التَّشبيه والاستعارة وغيرهما من الصُّور البلاغية. وصُورة الأمر: صِفَتُه قدَّم الموضوعَ بصُورة واضحة، وصُورة المسألة- مشى بصورة جيِّدة، بصُورة ملحوظة: على نحو يَلفتُ النَّظرَ، ووضَعَه في الصُّورة: أشرَكَه في الأمر، أطلَعَه على الموضوع. والصُّورةُ البلاغيَّة: كلُّ حيلة لغويَّة يراد بها المعنى البعيدُ للألفاظ، أو يُغيَّرُ فيها التَّرتيبُ المألوفُ لكلمات الجملة أو لحروف الكلمة، أو يحلّ فيها معنى مجازيّ محل معنى حقيقيّ، أو يُثار فيها خيالُ السّامع بالتَّكنية عن معانٍ يستلزمها المعنى المألوف للَّفظ.

وجاء في لسان العرب: صور: في أَسماء اللَّهِ تَعالى: المُصَوِّرُ وَهُوَ الذي صَوَّر جميعَ المَوْجوداتِ ورَتَّبَها فأَعطى كُلَّ شَيْءٍ مِنْها صورَةً خاصَّةً وهَيْئَةً مُفْرَدَةً يَتَمَيَّزُ بها على اخْتِلافِها وكَثْرَتِها. قال ابْنُ سيدَه: الصّورَةُ في الشَّكْلِ، قالَ: فأما ما جاءَ في الحَديثِ مِنْ قَوْلِهِ خَلَقَ اللَّه آدَمَ على صورَتِهِ فَيحْتَملُ أن تَكونَ الهاءُ راجِعَةً عَلى اسْمِ اللَّه تَعالى، وأَن تَكونَ راجِعَةً عَلَى آدَمَ، فإذا كانَتْ عائِدَةً على اسْمِ اللَّه تعالى فَمَعْناهُ على الصّورَةِ التي أَنشأها اللَّه وقدّرها، فَيَكونُ المَصْدَرُ حينَئِذٍ مُضافًا إلى الفاعِلِ لأنه سُبْحانَهُ هُوَ المصَوِّر لَا أَنّ لَهُ، عَزَّ اسْمُهُ وَجَلَّ، صُورَةً وَلَا تمْثالا، كَما أنّ قَوْلَهُمْ لَعَمْرُ اللَّه إِنما هُوَ والحياةِ التي كانَتْ باللَّه والتي آتانيها اللَّهُ، لا أن لَهُ تَعَالَى حَيَاةً تَحُلُّهُ ولا هُوَ، عَلا وجهُه، مَحلٌّ للأعراضِ، وإِن جَعَلْتَها عائِدَةً على آدَمَ كانَ مَعْناهُ عَلَى صورَة آدَمَ أي على صورَةِ أمثاله مِمَّنْ هُوَ مَخْلوقٌ مُدَبَّر، فيكونُ هذا حينَئِذٍ كَقَوْلِكَ لِلسَّيِّدِ والرَئيسِ: قَدْ خَدَمْتُه خِدْمَتَه أي الخِدْمَةَ التي تحِقُّ لأَمثاله، وفي العَبْدِ والمُبتَذل: قَدِ اسْتَخْدَمْتُه اسْتِخْدامَهُ أَي اسْتِخْدامَ أَمثاله مِمَّنْ هُوَ مأْمور بِالخُفوفِ والتَّصَرُّف، فَيَكونُ حينَئِذٍ كَقَوْلِهِ تَعالى: “في أيِّ صورَةٍ ما شاءَ رَكَّبَكَ”، وَالْجَمْعُ صُوَرٌ وصِوَرٌ وصُورٌ، وَقَدْ صَوَّرَهُ فَتَصَوَّرَ. والصِّوَرُ، بِكَسْرِ الصَّادِ، لُغَةٌ فِي الصُّوَر جَمْعُ صُورَةٍ، وصَوَّرَهُ اللَّهُ صُورَةً حَسَنَةً فَتَصَوَّر. وتَصَوَّرْتُ الشيءَ: تَوَهَّمْتُ صورتَه فتصوَّر لِي. والتَّصاوِيرُ: التَّماثِيلُ. وَفِي الْحَدِيثِ: أَتاني الليلةَ رَبِّي فِي أَحسنِ صُورَةٍ. قَالَ ابْنُ الأَثير: الصُّورَةُ تَرِدُ فِي كَلَامِ العَرَبِ عَلَى ظَاهِرِهَا وَعَلَى مَعْنَى حقيقةِ الشَّيْءِ وهَيْئَتِهِ وعلى مَعْنَى صِفَتِه. يُقالُ: صورةُ الفعلِ كَذَا وكذا أَي هَيْئَتُهُ، وصورةُ الأَمرِ كَذَا وَكَذَا أَي صِفَتُه، فَيَكُونُ المُرَادُ بِمَا جَاءَ فِي الحَدِيثِ أَنه أَتاه فِي أَحسنِ صِفَةٍ، وَيَجُوزُ أَن يَعُودَ المَعْنَى إِلى النَّبِيِّ، صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَتاني رَبِّي وأَنا فِي أَحْسَنِ صُورةٍ، وَتَجْرِي مَعَانِي الصُّورَةِ كُلُّهَا عَلَيْهِ، إِن شِئْتَ ظَاهِرَهَا أَو هَيْئَتَهَا أَوْ صِفَتَهَا، فأَما إِطلاق ظَاهِرِ الصُّورَةِ عَلَى اللَّه عَزَّ وَجَلَّ فَلَا، تَعَالَى اللَّه عَزَّ وَجَلَّ عَنِ ذَلِكَ عُلُوًّا كَبِيرًا. وَرَجُلٌ صَيِّرٌ شَيِّرٌ أَي حَسَنُ الصُّورَةِ والشَّارَةِ.[40]

التعريف الاصطلاحي:

صورةُ الشيءِ: حَقيقَتُه وهَيئتُه ووصْفُه، وهوَ منَ عناصرِ النّصِّ الشِّعريِّ وعليْها يقُوم، حيثُ تُتَرجَم المعاني في قالَبٍ فنِّيٍّ باسْتخدامِ الصُّورِ البيانيّة المتنوّعةِ، حتّى تَبلغَ الصُّورةُ الشعريّة دَرجةً عاليةً من حيثُ التأمّل والإدراك الدقيق للجزئيّات، تَجعلُ القَصيدةَ تَسري في تناغُمٍ وتَسلْسُل.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الهوامش:

[1] قراءة في الأدب القديم ، ص:59

[2] نفسه، ص: 117

[3] نفسه، ص: 127

[4] نفسه، ص: 236

[5] نفسه، ص: 247

[6] نفسه، ص: 282

[7] نفسه، ص: 285

[8] نفسه، ص:300

[9] نفسه، ص: 301

[10] نفسه، ص: 328

[11] نفسه، ص: 383

[12] لسان العرب، 8/442-443، تاج العروس، 22/533

[13] قراءة في الأدب القديم، ص: 30-31

[14] نفسه، ص:40

[15] نفسه، ص: 46

[16] نفسه، ص:76

[17] نفسه، ص: 79

[18] نفسه، ص: 90

[19] نفسه، ص:119

[20] نفسه، ص: 133

[21] نفسه، ص:136

[22] نفسه، ص: 136-137

[23] نفسه، ص: 138

[24] نفسه، ص:140

[25] نفسه، ص: 145

[26] نفسه، ص: 149

[27] نفسه، ص: 150

[28] نفسه، ص: 155

[29] نفسه، ص: 161

[30] نفسه، ص: 161-162

[31] نفسه، ص: 164-165

[32] نفسه، ص: 166

[33] نفسه، ص:176

[34] نفسه، ص: 182

[35] نفسه، ص: 188

[36] نفسه، ص:202

[37] نفسه، ص: 248

[38] نفسه، ص: 358

[39] نفسه، ص:369-370

[40] لسان العرب، 4/473-474، معجم اللغة العربية المعاصرة، 2/1332-1334

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق