مركز ابن أبي الربيع السبتي للدراسات اللغوية والأدبيةقراءة في كتاب

«معجم الهيآت والإشارات والرموز في القرآن الكريم من خلال تفسير «التحرير والتنوير» للإمام الطاهر ابن عاشور»(الحلقة التاسعة عشرة)

الإشارات

الألف

[1] الإشارة: ومن دلالات الإشارة في القرآن الكريم:

1- التعيين: قال الله تعالى: (فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا) [مريم: 29]، قال الطاهر ابن عاشور: «أَيْ: أَشَارَتْ إِلَيْهِ إِشَارَةً دَلَّتْ عَلَى أَنَّهَا تُحِيلُهُمْ عَلَيْهِ لِيَسْأَلُوهُ عَنْ قِصَّتِهِ، أَوْ أَشَارَتْ إِلَى أَنْ يَسْمَعُوا مِنْهُ الجَوَابَ عَنْ تَوْبِيخِهِمْ إِيَّاهَا وَقَدْ فَهِمُوا ذَلِكَ مِنْ إِشَارَتِهَا»(1).

وقال أيضا: «وَأُطْلِقَ القَوْلُ عَلَى مَا يَدُلُّ عَلَى مَا فِي النَّفْسِ، وَهُوَ الإِيمَاءُ إِلَى أَنَّهَا نَذَرَتْ صَوْمًا مَجَازًا بِقَرِينَةِ قَوْلِهِ: (فَلَنْ أُكَلِّمَ اليَوْمَ إِنْسِيًّا). فَالمُرَادُ أَنْ تُؤَدِّيَ ذَلِكَ بِإِشَارَةٍ إِلَى أَنَّهَا نَذَرَتْ صَوْمًا بِأَنْ تُشِيرَ إِشَارَةً تَدُلُّ عَلَى الِانْقِطَاعِ عَنِ الأَكْلِ، وَإِشَارَةً تَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا لَا تَتَكَلَّمُ لِأَجْلِ ذَلِكَ، فَإِنْ كَانَ الصَّوْمُ فِي شَرْعِهِمْ مَشْرُوطًا بِتَرْكِ الكَلَامِ كَمَا قِيلَ، فَالإِشَارَةُ الوَاحِدَةُ كَافِيَة، وَإِن كَانَ الصَّوْم عِبَادَة مُسْتَقِلَّة قَدْ يَأْتِي بِهَا الصَّائِمُ مَعَ تَرْكِ الكَلَامِ تُشِيرُ إِشَارَتَيْنِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّهَا نَذَرَتِ الأَمْرَيْنِ، وَقَدْ عَلِمَتْ مَرْيَمُ أَنَّ الطِّفْلَ الَّذِي كَلَّمَهَا هُوَ الَّذِي يَتَوَلَّى الجَوَابَ عَنْهَا حِينَ تُسْأَلُ بِقَرِينَةِ قَوْلِهِ تَعَالَى: (فَأَشارَتْ إِلَيْهِ)»(2).

قال الدكتور محمد الأمين أحمد موسى: «ويتضح من صيغة السؤال المطروح في هذه الآية، أن مريم العذراء عليها السلام رمزت إيماءة بمعنى: وجهوا كلامكم إليه»(3)، قلت: ولا نعلم هيئة الإشارة التي أشارت بها مريم عليها السلام، وإنما نعلم أنها إشارة تعيين لعيسى عليه السلام وإحالة عليه، ويبدو أن التواصل بالإشارة لم يكن غريبا عنهم بدليل أنهم فهموا مرادها بسرعة -بدون حتى حرف العطف- بل أجابوا بقولهم: (كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا) ولو لم يفهموا معنى إشارتها لما استمر الحوار بينهم.

الباء

[2] بريق البصر: ومن دلالات هذه الإشارة في القرآن الكريم:

1- الفزع: قال الله تعالى: (يَسْأَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ فَإِذَا بَرِقَ الْبَصَرُ وَخَسَفَ الْقَمَرُ وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ يَقُولُ الْإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ) [القيامة: 6- 7- 8- 9- 10].

وقد وردت هذه الإشارة في سياق الحديث عن أهوال يوم القيامة وصورها القرآن بأن «يفزع الإنسان من هول ما يرى فتبرق عينه وتلمع من شدة الفزع وتتحير حتى لا تطرف»(4). والإنسان يبرق بصره إذا فزع في الدنيا من أمر ربما يكون بسيطا، فما بالك بالفزع من هول يوم القيامة، يوم لا مفر من أمر الله!

التاء

 [3] تقلب الوجه: ومن دلالات هذه الإشارة في القرآن الكريم:

1- الانتظار والترقب: قال الله تعالى: (قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ) [البقرة: 144]، قال الطاهر ابن عاشور: «وَ(التَّقَلُّبُ): مُطَاوِعُ «قَلَّبَهُ» إِذَا حَوَّلَهُ، وَهُوَ مِثْلُ قَلَبَهُ بِالتَّخْفِيفِ، فَالمُرَادُ بِتَقْلِيبِ الوَجْهِ الِالْتِفَاتُ بِهِ، أَي: تحويله عَن جِهَتِهِ الأَصْلِيَّةِ، فَهُوَ هُنَا تَرْدِيدُهُ فِي السَّمَاءِ»(5). وقال الدكتور محمد الأمين أحمد موسى: «تقلب الوجه النظر المتعدد نحو جهة أو عدة جهات بحثا عن شيء ما دلالة على الانتظار والترقب»(6)، وهو ما نفعله حقيقة إن كنا ننتظر قدوم شخص ما إلينا فإننا نقلب وجهنا ذات اليمين وذات الشمال ترقبا لقدومه.

[4] تقلب الأبصار: ومن دلالات هذه الإشارة في القرآن الكريم:

1- الخوف والوجل: قال الله تعالى: (وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ) [الأنعام: 110]، ومنه قوله تعالى أيضا: (رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ) [النور: 37]. و«تقلب الأبصار أي: اضطرابها عن مواضعها من الخوف والوجل. وفسر البعض أن أبصار الناس يوم القيامة تنقلب من أي ناحية يؤمر بهم، أمن ناحية اليمين أم من ناحية الشمال؟ ومن أي ناحية يعطون كتابهم أمن قِبَلِ الأيمان أم من قِبَلِ الشمائل؟ بصفة عامة، يكون تقلب الأبصار دليلا على الحيرة وبحثا عما يبدد الشك والخوف»(7).

[5] التضرع برفع اليدين إلى السماء: ومن دلالات هذه الإشارة في القرآن الكريم:

1- الدعاء والطلب: قال الله تعالى: (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) [الأنعام: 42- 43].

ومنه قوله تعالى: (وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ) [الأعراف: 94].

ومن الدعاء ما يكون باستعمال لغة الإيماء، فقد ورد في السنة النبوية دعاء النبي صلى الله عليه وسلم لأسامة بالإشارة عن طريق رفع يده إلى السماء، ومن منا يدعو إلى الله من غير أن يرفع كفيه تضرعا إلى الله تعالى؟ وقد قال ابن إسحاق: «وحدثني سعيد بن عبيد بن السباق، عن محمد بن أسامة، عن أبيه أسامة بن زيد، قال: لما ثقل رسول الله صلى الله عليه وسلم هبطت وهبط الناس معي إلى المدينة، فدخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد أُصْمِتَ فلا يتكلم، فجعل يرفع يده إلى السماء ثم يضعها علي، فأعرف أنه يدعو لي»(8).

 [6] تقليب الكفين: ومن دلالات هذه الإشارة في القرآن الكريم:

1- التحسر والندم: قال الله تعالى: (وَأُحِيطَ بِثُمُرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنْفَقَ فِيهَا وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّيَ أَحَدًا) [الكهف: 42]، قال الطاهر ابن عاشور: «وَ(تَقْلِيبُ الكَفَّيْنِ): حَرَكَةٌ يَفْعَلُهَا المُتَحَسِّرُ، وَذَلِكَ أَنْ يُقَلِّبَهُمَا إِلَى أَعْلَى ثُمَّ إِلَى قُبَالَتِهِ تَحَسُّرًا عَلَى مَا صَرَفَهُ مِنَ المَالِ فِي إِحْدَاثِ تِلْكَ الجَنَّةِ. فَهُوَ كِنَايَةٌ عَنِ التَّحَسُّرِ»(9).

وهذه الإشارة ما زالت تستخدم إلى يومنا هذا في التواصل اليومي للتعبير عن التحسر والندم وذلك «بتبادل ضرب باطن الكفين إحداهما للأخرى، بحيث تكون الأولى في الأسفل والثانية في الأعلى في وضع متشابك والأصابع شبه معقوفة، وينتج عن ذلك صوت»(10).

[7] التصدية أو (التصفيق): ومن دلالات هذه الإشارة في القرآن الكريم:

1- السخرية والاستهزاء: قال الله تعالى: (وَمَا كَانَ صَلَاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكَاءً وَتَصْدِيَةً فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ) [الأنفال: 35]، وهذا الأمر فعله المشركون للتشويش على النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه فقد «كَانَ مِنْ جُمْلَةِ طَرَائِقِ صَدِّهِمْ إِيَّاهُمْ تَشْغِيبُهُمْ عَلَيْهِمْ وَسُخْرِيَتُهُمْ بِهِمْ يُحَاكُونَ قِرَاءَةَ المُسْلِمِينَ وَصَلَاتَهُمْ بِالمُكَاءِ وَالتَّصْدِيَةِ»(11)، وهو فعل خبيث لا يصدر إلا عن الجاهلين.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الهوامش:

1- التحرير والتنوير 16/97.

2- التحرير والتنوير 16/93.

3- الاتصال غير اللفظي في القرآن الكريم ص: 326.

4- لغة الجسد في القرآن الكريم ص: 10.

5- التحرير والتنوير 2/27.

6- الاتصال غير اللفظي في القرآن الكريم ص: 221.

7- الاتصال غير اللفظي في القرآن الكريم ص: 221.

8- السيرة النبوية لابن هشام 4/301.

9- التحرير والتنوير 15/327.

10- الاتصال غير اللفظي في القرآن الكريم ص: 328.

11- التحرير والتنوير 9/339.

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق