مركز الإمام أبي عمرو الداني للدراسات والبحوث القرائية المتخصصةدراسات عامة

معالم الغَرام ب‍ (كتاب سيبويه) في المقارئ المغربية

الحمد لله رب العالمين وبه نستعين وصلوات ربي وسلامه على رسوله الأمين وعلى آله وصحبه والتابعين

وبعد؛ فسياقة القول في هذا المقامة ومطية بيانه إلى اجتذاب أزمّة أدبيات البيان والتبيين لمزايا العلوم الآلية الخادمة المُسعفة في تفهّم أوضاع القرآن الكريم التي من بينها علم التجويد والأداء للحرف القرآني وما إليه والسير به نحو محطِّ الأمن الفكري وتبليغه شطَّ الطمأنينة الروحيه لتعلق النظر في كل ذلك – بدءًا ومنتهى – بأشرف متلوّ أُنزل، مع رقيّ سلّم الإلحاف في حمله على أحسن الأحوال المعهودة من لسان العرب وجميل المراتب والهيآت النظمية المروية في البيان والبلاغة، والنظر في تلك الكيفيات الأدائية والأنماط النطقية التي أُنزل القرآن الكريم وَفقها، من معرفة مخارج الحروف وصفاتها وتفخيمها وترقيقها، وكشف خطئها ولحنها ـ خفيها وجليها ـ وبصَـر مقاطعها وابتداآتها  …وعليه فنشْـر أدبيات فنّ الأداء المسنَد (إقراء ودرسا وتدوينا) ترتدُّ – في سياقتها – إلى عهود التلقي الفعلي الأوَل في ضبط أوضاع المتْلُوِّ المنزل (دِرْية وتَنمية)، وحَشْد طائفتها المروية المسموعة من لدن الرواد الأشاوس النُّظار – عبر الزمن – كابراً عن كابر، وتكريس جُملتها في سِفْر نابه جامع (برنامجٍ أو ثَبَتٍ أو معجمٍ أو مشيخةٍ …) أو ما أشبهه، مما اختلف لفظه ومَبْناه واتَّحد لَمْحُه ومَغْناه، منذ الخليل بن أحمد الفراهيدي (ت‍ 170 ه‍) ووارث سره أبي بشر عمرو بن عثمان سيبويه (ت‍ 180 ه‍) (ت‍ 175 ه‍) وعَوْجاً على الكسائي (ت‍ 189 ه‍)، والقاسم بن سلام(ت‍ 224 ه‍)، وأبي حاتم السجستاني (ت‍ 255 ه‍)، وأبي زكرياء الفراء (ت‍ 207 ه‍) وأبي عُمَرَ الجَرْمي (ت‍ 225 ه‍) وأبي الحسن بن كيسان (ت‍ 299 ه‍) وجماعة، ثم إنه لما صار علم الأداء والتجويد مدوَّنا مستقلا مكرسةً مباحثُه وأجزاؤه بين الدفتين مع طلائع القرن الرابع الهجري فإذ ذاك صدع الإمام أبو مزاحم موسى بنُ عبيد الله الخاقاني (ت‍ 325ه‍) برائيته الفذة ثم نضِج واستوسق في القرن الخامس في استطالة ومدٍّ إلى زمننا الآن، مع أمثال الحذّاء أبي الحسن (ت‍ 410 ه‍) في (التنبيه على اللحن) ومكي بن أبي طالب القيسي (ت‍ 437 ه‍) في (الرعاية لتجويد القراءة وتحقيق لفظ التلاوة بعلم مراتب الحروف ومخارجها وصفاتها وألقابها)، وأبي عمرو الداني (ت‍ 444 ه‍) في (التحديد في الإتقان والتجويد)، والأرجوزة (المنبهة على أسماء القراء والرواة وأصول القراءات وعقد الديانات بالتجويد والدلالات) وعبد الوهاب القرطبي أبي القاسم (ت‍ 461 ه‍) صاحب (الموضَح في التجويد)، ثم إننا إن نتتبعْ فنتقصص فلا نَغْفُل أو نطْوِ عن إسهام ابن شيطا (ت‍ 445 ه‍) والأهوازي (ت‍ 446 ه‍) والنمَري ابن عبد البر (ت‍ 463 ه‍) صاحب (التجويد والمدخل إلى العلم بالتحديد) و(البيان عن تلاوة القرآن) وابن البناء الحنبلي البغدادي أبو الحسن (ت‍ 471 ه‍) صاحب (بيان العيوب التي يجب أن يجتنبها القراء وإيضاح الأدوات التي بنى عليها الإقراء) تح غانم قدوري 2001 م، وابن الباذش (ت‍ 541 ه‍) وسبط الخياط (ت‍ 541 ه‍) والشهرزوري أبي الكرم (ت‍ 550 ه‍) وابن أبي مريم (ت‍ 565 ه‍) والشاطبي (ت‍ 590 ه‍) وابن شريح أبي الحسن (نهاية الإتقان في تجويد القرآن) وابن الطحان (ت‍ 560 ه‍) (الإنباء في تجويد القرآن) و(مرشد القارئ إلى تحقيق معالم المقارئ) والعطار الهَمَذاني (ت‍ 569 ه‍) (التمهيد في معرفة التجويد)والسخاوي أبي الحسن (ت‍ 643 ه‍) (جمال القراء وكمال الإقراء) والعماد الموصلي (ت‍ 682 ه‍) (التجريد في التجويد) والبرهان الجعبري (ت‍ 732 ه‍)في نظم (عقود الجمان في تجويد القرآن) وحاشيته (الحدود في حواشي العقود) وغيرهما وابن أم قاسم المرادي (ت‍ 749 ه‍) شارح قصيدة السخاوي (المفيد في شرح عمدة المُجيد في النظم والتجويد)، والحِكْري أبو إسحاق (ت‍ 749 ه‍) شيخ الإقراء بمصـر، وابن الجندي (ت‍ 769 ه‍) تلميذ الجعبري في (التسديد في التجويد)، وغيرها من التصنيفات الظواهر العجيبة …مما يدل على شدة الاتصال في التعني بحروف الكتاب العزيز والتحفّي بتقويم صور أدائه ولحونه وما إليه على رأس كل قرن، على الرغم من اختلاف وضعها ومبناها وتباين الحافزِ لترتيبها وتمهيد فصولها مما توجبه – ضرورة – جوالبُ طبعيةٌ قد رُكِزَتْ في جبلّة هذا الفن من تعدد المنازع واختبال المدراج والتياث الاعتبارات المقاصدية المبذولة على قدْر إدراك زمانها وحدود أفهامها وبمقتضى قيام الحاجة وما تفرضه خواطر أهل ذاك الإبّان والأوان.

وعليه؛ ف‍ (المقارئ) هنا – واحدها (مَقرأ) (مَقرأة) المراد بها – هنا – مَحْض الظروف وأَحْياز الدرس المهيَّأة للتمرين والتأديب والأخذ الفكّي والتلقي اللساني عن الشيوخ، فهي تباين – لأجل ذلك – مفهوم (المدارس) ذات المقومات البنائية الفَذَّة من كل علم أو فنّ والخصائص الصناعية المُزَيَّلة وتخالفها، وتطلق أيضا ويراد لها الحرف أو الوجه الأدائي أو المذهب القرائي المختار وما يقرأ في الحضرة وما إلى ذلك، وأما وجه النسبة إلى المغاربة فله استعمالان شائعان قديم وحديث، والاستعمال القديم كان أوسع نطاقا إذ يراد منه ما يقابل المشارقة بوجه عام؛ فالمغرب بذلك يُسَامت إطلاق الغرب الإسلامي بأقاليمه وأحيازه.

وعليه؛ فمقالتنا في الكتاب لسيبويه وشئانه، تُعد تَوْثيراً أَثيلاً لتجديد ذكرى أبي بشْر عمرو بن عثمان بن قنبر الحارثي البصري (180ه‍)، وارث سرِّ الخليل بن أحمد الفرهودي (170ه‍)، ومؤلف (الكتاب) أو (الظاهرة النحوية) دستور صنعة العربية ورصيف قوانينها الكلامية، وذلك بتنوير الأفهام بإلمامات شتى من سيرة الرَّجُل وخبره، وبذْل إسهامه الفَذّ في تثوير فروع الدرس القرائي بإنهاج سبيل الحجَّة فيه والتعليل لأجزائه ومباحثه ؛ وقد تذرَّعتْ للضَّلاعة بذلك حُبكة من البيان تشفُّ في صيانة عن حذاقته النحوية، كما تُعْرب في نَباوَة عن مهارة صناعية بادية في بسط قوانين العربية، واستيعاب فصولها وغاياتها التي جرتْ وَفْقَ مناسبات خفية واتفاقات سماوية، مع ما حُبي من الإحسان والزيادة في ضبط عوارض اللسان، ونشْر ظواهر تصريف ألفاظه وأساليبه وما إليه، دَقَّ مُدْرَكها ورَقَّ مسلكها، فأضحى بذلك غُرَّة الكتيبة ودرّة النتيجة.

على أن النظر في سيبويه وإسهامه اللغوي وإن كان مُستراداً  نضيجاً محترقاً؛ فإنه من قبيل الحديث المستلذّ غير المملول، فكأنما هوحياةٌ أعيدت في امرئ بعدما قضى، ولأجل ذلك شُدَّت عليه يد الضّنانة شرحا وتعليلا وتنكيتا وتأويلا وترتيبا وتجديدا … في كل أوان وحين، ومع كل جيل ورعيل… ولقد ناءتْ فهارس المكتبة العربية المخطوطة وكذا المترجمة إلى الألسن غير العربية في خزائن العالم ببثِّ طائفة من الإتحافات المجلِّية لقدر الكتاب وصاحبه، ثم خاضت في تَبْدية مواقع المؤيدين لسيبويه وكذا من ناوأَه من المعارضين لكتابه، من جهة ظروف الجمع والحشْد وطرائقهما وكذا السماع والأخذ وأنماط الرواية وما أَشبه، فَسِيقَ لذلك شواهد علماءَ أفذاذ ونُشر فقه مثالاتها وتخريجاته وأقيسته، حَلِيَتْ بوَشْي كل ذلك أوضاعُ العلماء – عبر الزمن – وَعَضَّلَتْ بها مشيخاتهم ومعاجمهم؛ كأبي الطيب (351ه‍) في كتاب (مراتب النحويين)، وابن النديم (438ه‍) في (الفهرست)، وابن الأنباري (577ه‍) في (نزهة الألباء) وغيرهم، ثم لا تذهبنَّ على الدراس المؤتسي فواضل الأخفش الأوسط (سعيد بن مسعدة) (ت‍ 215ه‍) في إعلاء ألوية مذهب سيبويه بالبصـرة، وكذا الجرْمي (225ه‍) الذي عَدَّه صيارفة النقّاد من أثبت الناس في كتاب سيبويه، ثم المازني (249ه‍) والحسن بن هانئ (199ه‍) والجاحظ (255ه‍) والشاطبي أبي إسحاق (790ه‍) وابن جني (392 ه‍) والمعرّي (449ه‍) والمبرّد (286ه‍) وكثير من الناس، ممن احتفى وقرَّظ، ودبَّج أو طرَّز … إذن؛ فعرفان مزايا الكتاب والاحتفال به وبصاحبه؛ لم يبق أسيرا بالمشـرق حبيسا بربوعه وأقاليمه، كلاّ بل سارت به ركبان التمثُّل والعناية والغَرام عَنَقاً فسيحا إلى القطر الغربي الأندلسي عن طريق جِلَّة المميَّزين أمثال: محمد بن موسى بن هاشم الأقُشْتَيْن (307ه‍)، وطريق منذر بن سعيد البَلّوطي (355ه‍)، وطريق محمد بن يحيى الرَّبَاحي (358ه‍)، وطريق عبد الله بن حمود الزبيدي (372ه‍)، فحفظه الناس واستظهروا مسائله، وأثاروا كنوزه وفكّوا رموزه، وقرّبوا قاصيَه وراضوا عَصيّه، وفتحوا مغلّقه وأوضحوا مشكله … ثم بلغت الحال بالكتاب وبالعناية به؛ أَن زخرت المكتبة اللغوية والقرائية بحشود عريضة من الأعلام، الذين اتصلت أياديهم به على جهة التصحيح لمتنه والشرح لشواهده وأبنيته، والاِكتناه لنكته والبسط لتعليقاته واعتراضاته وانتصاراته وما إلى ذلك.

ومن معالم التظرّف بالكتاب والغَرام بأدبياته في المقارئ المغربية؛ بروز الجماء الغفير من الإسهام الطريف الجلي مثل: تأليف الأعلم الشَّنتمَري (476 ه‍) المسمى ‍(النكت في تفسير كتاب سيبويه)، ثم تقريظ ابن العربي (ت‍ 543ه‍) لسيبويه ضمّنه – خاصة – كتابيه الفذّين: (العواصم من القواصم) و(قانون التأويل) له، ثم إشادة العلامة ابن خلدون (ت‍ 808ه‍‍) به في (مقدمة) كتاب العبر له، وكذا ابن هشام (ت‍ 761ه‍) في (مغني اللبيب)، ثم تقريظ ابن خروف ( ت‍ 609ه‍) للكتاب وصاحبه، كما لا ننسى اهتمام العلامة السهيلي (ت‍ 581ه‍) بالكتاب في (نتائج الفكر) وتوقيره له، وغير ذلك كثير.

فعلى كل ما سبق بيانه يُحمل صَنَع الناس – قديما وحديثا – في المبالغة بالاعتناء بمسائله حتى أدركوا فيه شأوا شاسعاً تحصيلا ونظرا وتصـرفا …، قال العلامة أبو حيان الأندلسي (754 ه‍): وما زال بأفقنا المغربي الأندلسي على بعده من مهبط الوحي النبوي علماء بالعلوم الإسلامية وغيرها … ومما برعوا فيه علم الكتاب (لسيبويه) انفردوا بإقرائه … دون غيرهم من ذوي الآداب، … أنهجوا شعابه وذللوا صعابه وأبدوا معانيَه في صورة التمثيل وأبدعوه بالتركيب والتحليل … ولم أَلْق في هذا الفن من يقارب أهل قطرنا الأندلسـي فضلا عن المماثلة، ولا من يناضلهم فيداني في المناضلة (خطبة كتاب البحر المحيط ص 11)، وهو بذلك يصور لنا واقع الدرس النحوي الأندلسي المغربي وما آل إليه بعد تحوّل الكتاب من الضفة الشرقية إلى الضفة الغربية، حتى أضحت حيازة كتاب سيبويه وعرضه بمسائله معلما من معالم النبوغ والتفوق وما إليه، وعليه؛ فقد أَحْدث أهلُ الأندلس مذهبا خاصا في تعليم الكتاب وتدوين مسائله وادَّرَكوا إغفال أهل المشرق (ق 4) وأصلحوا فَواتهم بالذي تُرجم بما عُرف – بعد ُ –  ب‍‍ مذهب المغاربة أو الأندلسيين (ق 5)، ففي بداية القرن الخامس الهجري اتخذ المغاربة كتاب سيبويه قِبْلةً ومَثابةً وأَمَنَةً لتحقيق النهضة النحوية وتبلُّغ الشأن البعيد فيها، والعودة بينابيعها إلى عهد البداوة الفطرية النقيّة، والسليقة العربية الصَّفيّة، فتكاثرت حَفَظَته وتوفَّرتْ سَدَنتَه وعزّت عن الحصْـر خدَمتُه أمثال: حمدون النحوي القيرواني (بعد 200ه‍) وخلف بن يوسف الشنتريني (532ه‍‍) وغيرهما، ثم اتسع نطاق شرّاحه والمعلّقين عليه أمثال أبو بكر الخشني (323ه‍) وابن الطراوة (528ه‍) وابن خروف (609ه‍) وابن الباذش(538ه‍) وغيرهم، وما إسهامات ابن الضائع أبي الحسن الإشبيلي (680ه‍‍) شارح كتاب سيبويه بغائبة عن تصوير مشهد الحَراك التأدُّبي اللغوي وشتى تفريعاته، وتبيين حدود الطَّفرة الفنية التي أوسعتْ مسائل الكتاب بحثا وتبياناً، وبلغت به مقام التتميم والتكميل مع التثمير وما إليه، فقد أُثرت عنه أوضاع ومشاركات رائقة جمّة مثل: (رد اعتراضات ابن الطراوة على سيبويه)، (رد اعتراضات البطليوسي على الزجاجي) وغيرهما، قال المقّري (1041ه‍) عن ابن سعيد المغربي (685ه‍): والنحو عندهم في نهاية من علو الطبقة، حتى إنهم في هذا العصـر (ق 7) فيه كأصحاب عصر الخليل وسيبويه، لا يزداد مع هرم الزمان إلا حدّة … والبحث فيه وحفظ مذاهبه كمذاهب الفقه، وكل عالم لا يكون متمكنا من علم النحو بحيث لا تختفي عليه الدقائق؛ فليس عندهم بمستحق للتمييز ولا سالم من الازدراء (نفح الطيب، الباب الأول: القرآن والعلوم الشرعية بالأندلس)، فامتدت لأجل ذلك مسائل مذهب المغاربة والأندلسيين وحججهم، واستطالت قواعد استنباطهم ودَقَّتْ أصول استدلالهم، وتعددت تخريجاتهم وتنوعت اختياراتهم، التي عَمَّت عائدتُها أهل المشرق وما إليه خاصة بعد أُفول نجم الصنعة النحوية بأقطارهم، ثم تدفّقت وفود المغاربة – للحج أو الإقامة – بعد انقطاع مَدَد العراق وانحسار شآبيبه عن مدن الشرق كمصـر والشام، في مخالفة صريحة لمذاهب البصـرة والكوفة وبغداد والمشاكسة لها …، والشواهد الدالة على هذا النَّفاق الذي مَسَّ جوانب الدرس النحوي أكثر من أن تُحسب أوتستقصى، فقد ترددت اختيارات المغاربة – صراحة – في المدونات وخزائن العلم بالأمصار، للدلالة على جديد مذهبهم وحديد نظرهم وما إليه، كما هو مبثوث عند ابن هشام (761 ه‍) والسيوطي (911 ه‍) والأشموني (929 ه‍) والصبّان (1206 ه‍) وغيرهم … ففي كل ذلك وغيره تجد عبارة: (ومنعه أكثر المغاربة)، (قال جماعة من المغاربة)، (أجاز بعض المغاربة)، (عند المغاربة)، (والمغاربة يقولون)، (عليه طائفة من المغاربة)، (لم يشترط ذلك المغاربة)، (إليه ذهب متأخرو المغاربة) وغير ذلك من التركيبات المفهمة والتصريحات الدالة على قدر المغاربة وهيمنتهم على مقرَّرات الدرس اللغوي، وتمّكنهم من الاستيلاء على أدبيات الصنعة النحوية ومآلاتها بعد، ولقد تتبع المقّري في (نفح الطيب) أشهر أعلام نحاة الأندلس والمغرب، فلفَّها ونشرها في تناغم بديع مَثَّل له ب‍‍ ‍‍: ابن عثمان النحوي المغربي الشهير ب‍جودي (198ه‍)، ومحمد بن إسماعيل حمدون (كان حيا في 200ه‍)، محمد بن موسى الأقشتين الأندلسي (307ه‍)، محمد بن يحيى الرباحي الأندلسي (358ه‍)، أبو بكر محمد بن الحسن الزبيدي (379ه‍)، ويوسف بن سليمان الشهير بالأعلم الشَّنتَمَري (476 ه‍)، وابن السِّيد البَطليوسي(521 ه‍)، وابن الطراوة سليمان بن محمد المالقي (528 ه‍)، وابن الباذش أبو الحسن علي بن أحمد الغرناطي (538ه‍)، وابن طاهر أبو بكر الخدبّ الإشبيلي (580 ه‍)، والسهيلي أبو القاسم عبد الرحمان بن عبد الله المالقي (581 ه‍)، وابن مضاء أبو العباس أحمد بن عبد الرحمان القرطبي (592 ه‍)، وأبو موسى الجزولي المراكشي (605 ه‍)، وابن خروف علي بن محمد الإشبيلي (609 ه‍)، والشّلوبين أبو علي عمر بن محمد الإشبيلي (645 ه‍)، وغير هؤلاء من ذوي الدراري المضيئة على الدرس اللغوي والنحوي.

ومما يُجلّي – أيضا – اهتمام المغاربة بسيبويه وتعلُّق نياط القلب به؛ أَن ذاع بالقطر المغربي وشاع ما يُعرف ب‍ الحوالات الوقفية أو الحبسية، التي تُتَرجم في المخصَّصات المادية المكرَّسة لإقامة أَندية العلم وحِلَقه بجامع القرويين بفاس ومعاهده، حيث اتخذ المغاربة كرسيّا لقراءة كتاب سيبويه يُنتدب له كبار النظار من جُدراء العلماء، وينخرط في سلك الإفادة منه من له عَزْمة التجرّد للدرس النحوي – خاصة – وَفق النمط البصري على طريقة سيبويه، فقد جاء في ترجمة المكودي الفاسي (807ه‍) أنه كان يلقِّن كتاب سيبويه بمدرسة العطارين ويتولى مَهَمّة تلقينه، وقيل إنه آخر من درّس سيبويه بفاس، وإن كان  ثمة من يرى أنّ تدريس سيبويه استمر بعد المكودي مع العلامة أبي حفص الفاسي(1188ه‍) وعبد الله كنون (1410ه‍) وغيرهما.

ومما يتصل بفائق العناية التي حظي بها الكتاب من لدن أهل القطر المغربي؛ أنهم أنهجوا في تلقي النحو مَهْيعا سراطا مُمَلاًّ، يَعتمد على لزوم رِكاب الرواية ومِساك السند في أخذ مسائل الكتاب ورواية مذاهبه وإجازته مثل سائر العلوم الأخرى: (القراءات، التجويد، الحديث، الأدب، متن اللغة …)، فقد كانوا يسندون النحو إلى واضعه الأول الأقدم، فيثبتون رجالات السند ووعاته متصلة متواترة في غير انقطاع أو ما شابه، ومن ذلك إسنادهم الكتاب لسيبويه الذي اشتهرت فيه الرواية عن طريق الأخفش، سواء فيه السند المشرقي أو السند المغربي.

وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه ومن تَبع

د.مولاي مصطفى بوهلال

    • باحث بمركز الإمام أبي عمرو الداني للدراسات والبحوث القرائية المتخصصة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق