مركز علم وعمران للدراسات والأبحاث وإحياء التراث الصحراويدراسات عامة

“مصبُّ الوحي واحد”، ومتعلَّق فقه البادية عند العلامة الماميّ

قارن الشيخ محمد المامي الباركي رحمه الله (1206-1282ه)[1] في التّلمية الأولى من كتابه البادية، بين موقف الإمام ابن العربي (ت543ه) والإمام العز ابن عبد السلام (ت660ه) حول مسألة الاجتهاد وذم التقليد، قائلا:

“ومن هذا مجرى كلام ابن العربي في منع الاجتهاد، وهو قوله: زماننا عارٍ عن الاجتهاد، مع قول ابن عبد السلام: مواردُ الاجتهاد في زماننا هذا أيسر منها في زمن المتقدمين لو أراد الله بنا الهداية”[2].

ثم شرح كلامهما بقوله: “قلت معناه والله أعلم أن حفظ متعلقات الأحكام من القرآن والحديث عُرِف اليوم، وفُرغ من ناسخها وترجيحها وتصحيحها وتفسيرها بعكس الزمن الأوّل؛ وهي من القرآن نحوُ السُّدس، ولا يبعدُ مثلُ ذلك في الحديث فإن مصبَّ الوحي واحدٌ”[3].

وسياق هذه التلميحة جاء بنقل كلام العلامة أحمد بابا في الذيل حول درجة الاجتهاد، ومضمّنه أن الاجتهاد من حيث هو، درجة واسعة تتفاوت بقوة التمكن وضعفه، وبالاتصاف بأدنى درجاته يدّعيه مدعيه. والمتصف بالاتساع في الحفظ والوقوف على الأدلة والأحاديث -حسب أحمد بابا- ربما يخيّل له أنه بلغ رتبة الاجتهاد المطلق، مع أن مَن فَوْقه في دقة النظر وقوة التفقه ومعرفة قواعد المذهب ومداركه، لا يدعيها لعدم اتساعه في الحفظ في معرفة الأحاديث.

غير أن الذي يستوقفنا من كلام الشيخ المامي هو أنه ينطلق من رؤية كلية نحو أدلة الشريعة المطهرة من كتاب وسنة، ومن نظرة تستصحب أن أصل الوحي واحد لا محالة. وحيث إن آيات الأحكام كما ذكر هي نحو السدس، وعليه سار بعض أهل العلم[4]، فإن الأحاديث الشريفة بالضرورة لن تبعد عن هذا القدر بموجب هذه المصدرية الواحدة[5]. ولكن الشيخ لم يعبّر بعبارة تفيد الجزم في متعلقات الأحكام من الحديث، بل قال “لا يبعد مثل ذلك في الحديث”، فهل كان ذلك بسبب استحضار خصوصية السنة المطهرة، تاريخيا من جهة التدوين والتصنيف، ومنهجيا من جهة اجتهاد المحدثين في الإحاطة بها أو الحكم عليها بالصحة والحسن والضعف؟ أم أن الشيخ  نأى عن الجزم لعدم توفره على إحاطة كافية في المسألة إذ ذاك؟

لعل الراجح هو هذا؛ لأن الشيخ رحمه الله كان في بيئة تشكو قلَّة التآليف مقارنة مع الحواضر العلمية الكبرى، ولكونه حريصا في ممارسته البحثية على تحصيل أكبر قدر ممكن من التصانيف المتداولة في تلك الحواضر للرجوع إليها في الفتوى والحكم[6].

ومهما كان سبب ذلك، فإن عبارة “مصبّ الوحي واحد” مفيدة في لمحِ المنطلق المعرفي للشيخ المامي وعمق نظرته في التعامل مع نصوص الوحي، وكأنه يرشد إلى منهجٍ في تناول متعلقات الأحكام –حسب تعبيره- يستصحب مسلّمة كون السنة تناسب القرآن من حيث مقدار هذه المتعلَّقات وهو السدس من مجموع الأحاديث  التي بلغتنا.

وإن جاز لنا التوغل في فهم أبعاد عبارة “مصب الوحي واحد” فيمكن القول بوجود يقين علمي ناشئ عن نموذج معرفي -إن صح التعبير-، ومتوجّه نحو فهم النسق الناظم لنصوص التشريع، وهذا اليقين اكتسى أهمية قصوى في تبصر الأحكام الشرعية ومآخذها القرآنية والحديثية عند العلامة المامي، خاصة في قضيته الأولى وهي التماسُ نوازل البادية.

إن همّ الشيخ المامي البارز في إيلاء فقه البادية الصحراوية ما يستحق من الاهتمام قد جعل غالب قضايا كتابه “البادية” تتجه شطر الاجتهاد والتكييف، وتحصيلِ ما يُـحقّقهُما من مقتضيات علمية وعمَلية لدفع المشكلات من نوازل هذا القطر المستعصية والملحة في غياب القدر الكافي من المصادر الشافية ويبرر المامي ذلك بقوله: “وهذه أهل الأمصار العظام مع كثرة مطالعتهم وقلة شغل بالِهم، وغزارة كتبهم، والإنفاق عليها من بيت المال، لا ينفكون عن الرسائل في المشكلات، ونحن ضدَّهم[7] مع زيادة تباعد المنازل والمناهل لا يسأل بعضنا بعضا، فنقضي في نوازلنا بلا نص، إما بتخمين أو قياس لا ندري تصوره، ولا حكمه، وإن كان الحكم بالشيء على الشيء فرعا عن تصور الثلاثة على المشهور. أردت أن أبين للمقلدين مثلي أن لهم شبهة في التخريج والحكم بالعادة للمصلحة، والشبهة خير من صريح الحرام”[8].

ثم إنه، تداركا للنقص ودفعا لهذا الإكراه الواقع في مجاله آنذاك، قد دعا بإلحاح إلى رحلتين معرفيتين؛ إحداهما في بطون التآليف قصد التنقيب عن نصوص وأحكام البادية وجمعها في كتاب مستقل؛ والثانية في أقطار الأرض بحثا عن نماذج من التصنيف في بلاد المسلمين اختصت بأحكام البادية. وعن هذه المشروع الفكري يقول: “ولهفي على رجلين من هذا القطر يُطاعان؛ أما أحدهما فيهتم بجمع الأشتات من هذا كلّه سنة إذا كان شهما تكفيه اللحظة وتغنيه اللمحة، وأما الآخر فرجل من أهل الهمم العالية يطاع –ولا رأي لمن لا يطاع- يخرج حاجا ويتعلق بأستار الكعبة كما ينبغي، ويسأل الحوائج المهمة كحسنى الخاتمة وعدم السلب بعد العطاء، ثم يتوسل إلى الله في تيسير إحياء هذه الوظيفة التي يجب القيام بها ليطلعه على الكتب المفردة لها بالتصنيف، فالغالب على الظن أنها لا تخلو منها المدن العظام، ثم يزور الروضة الشريفة كما ينبغي، ويسأل حاجته التي أشخصتهُ من المغرب –الذي لا يجب على أهله الشخوص إلى الحج وصحح تحريمه عليهم وعلى أهل الآفاق- فيسبر مدائن المسلمين مدينة مدينة، بنية صادقة وعزيمة نافذة، فإنه إن أدرك غايته وإلا أدركها في الآخرة بالنية الخالصة، ويتعيَّنُ الأول، وهو ممكنٌ”[9].

لقد شكل هذا المنطلق بكل أبعاده المعرفية والمنهجية والنفسية والاجتماعية خروجا علميا جديدا أزعج به المامي الممارسة الفقهية في الصحراء، والتي اتسمت حسب وصفه بوجود طرفَيْ نزاع منهجي بين أصوليِّين وخليليِّين[10] لا يسعف في الخروج منه إلا نظر جديد يرفع هذا النزاع ويستنجد بالعرف ويحيي النظر في قواعد المذهب ومقاصد الشرع في مزاولة الافتاء والحكم، لإيقاع الأحكام على سكان البادية، وقد انبرى لذلك الشيخ المامي نفسه بتأليف هذا الكتاب الذي قال عنه: “ومما حملني على هذا المجموع كلمة محنض بابه لي: أدرك الفقه فإنه خرج من الأيدي، قالها بعد تدبره لنظم خليل”[11].

وما نرجحه إذن، من خلال هذه المعطيات أن الشيخ المامي قد انطلق من وحدة فكرية تنظر إلى الوحي -كتابا وسنة- بمنظار شمولي، ومن رؤية معرفية ترى ضرورة تقويم الممارسة الفقهية بإيجاد أجوبة عن أسئلة البادية، وهو ما أنتج نصا فريدا يعد بمثابة دعوة إلى إعمال الآليات المنهجية وتفعيل المضامين المعرفية الشرعية خدمة للمجال الصحراوي ذي الطبيعة الخاصة.

ومن هذا المنطلق أيضا؛ نفهم إحياءه لقضايا كفيلة بإحداث تغيير في تلك الممارسة كقضية “الاجتهاد والتخريج”[12]، وقضية “الاستشكال”[13]، وقضية “العرف والعادة”[14]، كل ذلك في أفق تطوير الاجتهاد في الفقه المالكي باعتباره علما خادما للوحي المنزل لا ينفك عن الاستمداد منه.

وديع أكونين

الهوامش:

[1] أبو عبد الله محمد المامي بن البخاري بن حبيب الله بن بارك الله فيه، والمامي معناها الإمام، ، ولد سنة 1202ه، وقيل 1206ه، وقيل 1204ه، أبرز أعلام العلم والفقه والصلاح في الصحراء من قبيلة آل بارك الله التي نبغ فيها علماء وصلحاء آخرون، بورك في علمه رغم قلة شيوخه حتى ذكر المترجمون أن علمه كان لدنيا، وأما مذهبه فلخصه في في أول نظم القواعد المالكية بقوله:

قال عُبيد ربه المقتدِرِ      محمدٌ اِبن البخاري الأشعري

القادري المالكي المذهب   المـــــــــــــــــــــــــــغربي الباركي النسب

فألف رحمه الله تصانيف كثيرة منها كتاب البادية، الجمان، الدلفين وشرحها، سفينة النجاة، نظم خليل ونظم القواعد المالكية، الاجماعيات، وسيلة السعادة (نظم أهل بدر)، ونظم ورقات إمام الحرمين، وديوان فصيح وآخر حساني، وغيرها، دعا في حياته إلى تجديد وتيسير الفقه على عامة أهل الصحراء، توفي ودفن بجبل أيق بتيرس سنة (1282ه)، وقبره مشهور يزار. انظر ترجمته في مقدمة كتاب البادية (طبعة مركز الدراسات الصحراوية ص 23).

[2] نسب المواق في التاج والإكليل القول الأول للمازري وليس لابن العربي، والثاني للعز بن عبد السلام ونصه: “المازري: وزماننا عار من الاجتهاد في إقليم المغرب فضلا عن قضاته. ابن عبد السلام: موادُّ الاجتهاد في زماننا أيسر منها في زمن المتقدمين لو أراد الله بنا الهداية ” انظر التاج والإكليل لمختصر خليل للعبدري (8/67).

[3] كتاب البادية، لمحمد المامي، منشورات مركز الدراسات الصحراوية، الطبعة الثانية 2014، دار أبي رقراق للطباعة والنشر، الرباط، (ص: 137).

وقد لخص الحجوي رحمه الله بعض أقوال أهل العلم في مسألة الاجتهاد هذه، وساق كلام العز المذكور، انظر الفكر السامي في تاريخ الفقه الاسلامي (2/498) وما بعدها.

[4] أشار فضيلة الدكتور أحمد عبادي إلى النموذج المفاهيمي المعرفي لدى بعض علمائنا، والذي “بمقتضاه ينظرون إلى القرآن باعتبار أن آياته التي تحتها عمل لا تتجاوز الخمسمائة آية على أكثر تقدير، ويسمونها آيات الأحكام، من مجموع عدد آياته الست وثلاثين ومائتين وستة آلاف (6236 )”. الوحي والإنسان، نحو استئناف التعامل المنهاجي مع الوحي، أ. د. أحمد عبداي (ص: 61). وقال محمد مصطفوي: “إن الأحكام الشرعية تشكل سدس مساحة القرآن في أحسن تقدير”. أساسيات المنهج والخطاب في درس القرآن وتفسيره محمد مصطفوي: منشورات مركز الحضارة لتنمية الفكر الاسلامي ط2/2017. (ص 293).

[5] اختلف أهل العلم في عدد أحاديث الحلال والحرام، فذكر القاضي أبو بكر ابن العربي أن الذي في الصحيحين من أحاديث الأحكام نحو ألفي حديث. وقال أبو داود السجستاني عن ابن المبارك: تسعمائة. وقال الحافظ: مرادهم بهذه العدة ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم من أقواله الصريحة في الحلال والحرام وقال كل منهم بحسب ما وصل إليه ولهذا اختلفوا والله أعلم” انظر توضيح الأفكار لمعاني تنقيح الأنظار للصنعاني (1/64). وقال ابن القيم: وأصول الأحكام التي تدور عليها نحو خمسمائة حديث، وفرشها وتفاصيلها نحو أربعة آلاف حديث. أعلام الموقعين عن رب العالمين (2/ 182).

[6] انظر قوله مثلا: وأما كتب القواعد في المذاهب فلم أعثر في قطرنا على شيء مدون منها إلا قواعد المالكية…” الجمان، للمامي (ص: 294).

[7] يريد: من قلة الكتب والامتياز الحاصل لأهل تلك الأمصار.

[8] البادية، للمامي (ص: 147).

[9] الجمان، للمامي (ص: 294، 295) .

[10] انظر حول هذا مقدمة التلمية الأولى من البادية (ص: 131).

[11] البادية، للمامي (ص: 128).

[12] راجع التلمية الثالثة، (ص: 163).

[13] تأمل قوله مثلا عن تأليف ابن الحاج ابراهيم العلوي: “وها أنا أشرح ترجمته لأبين ما علمت من مقصده، وأستشكل ما لم أعلم، فقد قال العلماء: الاستشكال علم، لا لأنقد عليه، وهيهات وشتان، وحيث قلت: “قلت” فإنما أريد أن أنقل وأستشكل”. البادية، (ص: 133).

[14] انظر عبارته مثلا: “ادعينا وجود نصوص بالحكم بالعادة” (ص: 147).

ذ. وديع أكونين

  • باحث بمركز علم وعمران للدراسات والأبحاث وإحياء التراث الصحراوي بالرابطة المحمدية للعلماء

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق