مركز دراس بن إسماعيل لتقريب المذهب والعقيدة والسلوكدراسات محكمة

الاجتهاد المعيني في تقريب العلوم الإسلامية

يعتبر الشيخ ماء العينين من أعلام المغرب الحديث، فهو مدرسة تخرج منها العديد من العلماء والصلحاء وشيوخ التربية الصوفية.

وقد عرف عنه مشاركته العلمية في مختلف العلوم حتى قال المختار السوسي في ترجمته: «فقد أدرك المشاركة في العلوم إدراكا عظيما تدل عليه تآليفه التي ما غادرت علما من العلوم إلا اقتبست منه، حديثا وتفسيرا وأصولا وبيانا، بله التصوف الذي هو عش ذلك البيت، فعليه تأسس من أول يوم، وبه اشمخر بناؤه».[1]

والناظر في الممارسة التقريبية للعلوم الإسلامية عند الشيخ ماء العينين يدرك طبيعة هذا التقريب الذي يتغيى تجديد النظر الاجتهادي، وتجاوز آفات التقليد؛ إذ «العلوم المتجددة ليست إلا آثارا ورسوما للعلوم المتقدمة».[2]

ولعل أوضح مثال على ذلك، تيسيره لمضامين الفقه الإسلامي و جمعه في نظم سماه “شمس الاتفاق”، وشرحه شرحا وافيا في كتاب سماه “دليل الرفاق”، وقد جمع في هذا النظم ثلاثة كتب، وهي: “بداية المجتهد ونهاية المقتصد” ، و”رحمة الأمة” للإمام الصفدي، و“الميزان الكبرى” للإمام الشعراني.

 ومعلوم أن ابن رشد قصد في كتابه “بداية المجتهد” إلى إعادة بناء الخطاب الفقهي وترتيبه، وذلك بالنظر في الأصول التي بنيت عليها الأحكام الفقهية، فالكتاب في مقاصده يتوخى النظر في المناهج الفقهية، وذلك من أجل تشكيل العقل الفقهي والارتقاء به إلى مستوى النظر الصناعي. وأما كتاب “الميزان” فقد بناه صاحبه على مرتبتي تخفيف وتشديد، وحاول به الجمع بين الأدلة المتغايرة في الظاهر، وبين جميع المجتهدين ومقلديهم.[3]

  فالشيخ ماء العينين – رحمه الله – أراد بهذا النظم إعادة منهج التلقي للفقه و تجاوز مرحلة التقليد التي استحكمت في الناس، وإعادة تنظيم المعرفة الفقهية، وتجديد منهج الكتابة والتصنيف، وذلك حتى يسهل على طالب المعرفة الفقهية، التمرّن والتدريب على ترتيب الأفكار، وربط الفروع بالأصول، وتركيز الاهتمام على المسائل الضابطة للشريعة، لا إحصاء الفروع.

  وكأني بالشيخ ماء العينين – رحمه الله ورضي عنه – باستناده إلى كتاب “الميزان” للشعراني، يشعرنا بعدم جواز الطعن فيما استنبطه الأئمة المجتهدون بطريق الاجتهاد والاستحسان؛ إذ الشريعة كالشجرة العظيمة المنتشرة وأقوال علمائها كالفروع والأغصان، وهو بهذا يجسد مقولته الشهيرة: «إني مخاو بجميع  الطرق، وكذلك في الفقه يصوب آراء  جميع المجتهدين».

 ولم يكتف الشيخ ماء العينين – رحمه الله ورضي عنه – بتيسير مضامين الفقه، بل امتد اجتهاده أيضا إلى علم المقاصد، فنظم كتاب “الموافقات” للإمام الشاطبي ـرحمه الله ـ وشرحه شرحا أبان فيه عن ملكة في اختصار المعاني الكثيرة في مباني قليلة.

وما قيل في هذين الكتابين يقال في كل مصنفات الشيخ ماء العينين – رحمه الله- ولعل قراءة متأنية لعناوين الكتب التي خلفها الشيخ ماء العينين ـ رحمه الله ـ تبرز لنا هذا المنحى التقريبي في مصنفاته .

 فدلالات هذه الكتب لا تخرج عن إفادة التقريب والتيسير والتسهيل، منها:

– الإفــــــــــــــــادة:

– مفيد الحاضرة والبادية.

– مفيد النساء والرجال.

– مفيد السامع والمتكلم في أحكام التيمم والمتيمم.

– الهــــــــــــــــداية:

– هداية المبتدئين في النحو.

– إظهار الـــدلالات:

– مظهر الدلالة.

– المرافق على الموافق.

– فاتق الرتق على راتق الفتق.

– تبيين الغموض على نعت العروض.

– دليل الرفاق على شمس الاتفاق.

– نعت البدايات وتوصيف النهايات.

وأما دواعي التقريب عند الشيخ ماء العينين، فتتلخص في الأسباب التالية:

سبب منهجي: وغايته أن يمد طالب العلم بمنهج يستطيع أن يفهم الخطاب الشرعي ويتعقل مضامينه، وأن يستثمر أحكامه. يقول الشيخ ماء العينين – رحمه الله- في كتابه “المرافق على الموافق”: «إن هذا النظم مع ما تقدم من الفائدة قرب عليك المسير إلى العلم وفهمه، وهو أيضا معلم؛ أي مخبر لك إلى أين تسير من طرق العلم؛ وهي الطريق الوسطى التي لا إفراط فيها ولا تفريط».[4]

سبب تربوي: ويتلخص في طبيعة الاختصار التي تقتضي الاقتصار على ما يفيد المخاطب. يقول في مقدمة كتابه “المرافق على الموافق”: «فشرعت في استخراجي منه نظما لعله يفيد من طلب منه علما، فتفضل الله علي بنظمه، لكن تعذر على الغير بعض فهمه، فطلب مني أن أشرحه شرحا يبين معناه، لتكثر الفائدة، ويسهل فهمه لمن تعناه، فشرحته شرحا، ما جهدت فيه إلا في الاختصار والتجافي عن منهج الإكثار. والمؤلفات تتفاضل بزهو الزهر والثمر لا الهدر (…)، وبمجموع اللطائف لا بتكثير الصحائف، وبفخامة الأسرار لا بضخامة الأسفار. ولذلك جعلت هذا الشرح مجلدا واحدا، ولو مددت فيه القلم لكان أربع مجلدات أو زائد، لكن أتيت من الأصل بما فيه كفاية، وما تحصل البغية لأهل الدراية».[5]

سبب إجرائي: ومقتضاه أن تقريب العلوم للمبتدئين غير تقريبه للمنتهين، ولذلك قسم كتابه “نعت البدايات وتوصيف النهايات” إلى قسمين أو كتابين، تحدث في الأول: عن نعت البدايات وما يصلح لأهلها إلى النهايات، وقسمه إلى أربعة أبواب، الأول: في آداب المريد مع شيخه، والثاني: في آدابه مع عبادة ربه، والثالث: في آدابه مع إخوانه، والرابع: فيما من الأقوال والأفعال ينتفع به.

أما الكتاب الثاني فتحدث فيه عن توصيف النهايات وما يصلح لأهلها إلى الممات، وقسمه إلى أربعة أبواب، الأول في آداب المربي مع ربه، والثاني في آدابه مع تلامذته، والثالث في آدابه مع غيرهم من الخلق أجمعه، والرابع فيما من الأقوال والأفعال ينتفع به.

وهذا التقابل بين البداية والنهاية، والمريد والشيخ، يدل على وعي الشيخ ماء العينين –رحمه الله- بهذا السبب الإجرائي، وضرورة مراعاة حال المتلقي، واختلاف مستويات المخاطبين، ويؤكد ذلك قوله في بداية هذا المؤلف، في معرض حديثه عن التصوف: «وقد وضع القوم فيه كتبا جليلة، وافية بشروطه، حسنة جزيلة لكن قصر عنها وعن شروطا أهل هذا الزمن، وتعذر عليهم اتباع معرفتها…».[6]

والممارسة التقريبية في مجال العلوم الإسلامية عند الشيخ ماء العينين –رحمه الله- تحكمها جملة قواعد وهي:

الأولى: إثمار المضامين العلمية حتى يسهل إدراكها للمخاطب، يقول الشيخ ماء العينين في “دليل الرفاق”: «وليعلم أني ما جعلت فيه إلا ما حققته عن من يقتدى به في الأفعال والأقوال، وقد أودعت فيه من الأصول والفروع والطب وفوائد الأسرار، والأطعمة والآداب والتصوف ما يسُر أهل كل مجال».[7]

الثانية: قاعدة الإنجاز التأصيلي التي تقضي بالتزام التركيب الصحيح والسليم في العبارة، يقول الشيخ ماء العينين –رحمه الله- في كتابه “المرافق على الموافق”: «إن هذا النظم له فوائد … في غاية الحسن، ترى قريبة؛ أي قريبة التناول لحسن ألفاظها وعدم تعقيدها وسلامتها من شيء يصعب به فهمها».[8]

الثالثة: قاعدة الإيجاز التكميلية التي تقضي بالتزام مسلك الاختصار في العبارة بقدر حاجة المخاطب، يقول الشيخ ماء العينين في كتاب “مُبْصِرُ المتشوّف على منتخب التصوف”: «تبيين البين مما لا يستحسنه العقلاء، وتفسير الواضح يزيده إشكالا».[9]

فالخطاب التقريبي عند الشيخ ماء العينين –رحمه الله- لا حشو فيه، إذ ألفاظه واصطلاحاته مختارة بعناية تناسب المخاطب وتراعي السياق، وتبلغ حد الكفاية الإفهامية.

 

الهوامش:


[1] – المعسول: للمختار السوسي،  المغرب، ج 4 ص 83.

[2] – المرافق على الموافق للشيخ أبي المودّة الشريف ماء العينين ابن الشيخ محمد فاضل بن مامين رحمه الله، ص: 16. خرج أحاديثه وعلق عليه وضبط نصه أبي عبيدة مشهور بن حسن آل سلمان دار طبع ابن القيم دار ابن عثمان، الطبعة الثانية 1430هـ/2009م.

[3] – انظر دراستنا حول جهود ابن رشد في تقريب المنهج الفقهي مجلة الغنية العدد الأول ربيع الثاني 1432هـ/أبريل 2011م .

[4] – المرافق على الموافق، ص: 17.

[5] – المرافق على الموافق، ص: 3.

[6] – نعت البدايات وتوصيف النهايات، ص: 3. دار الفكر للطباعة والنشر.

[7] – دليل الرفاق على شمس الاتفاق للشيخ ماء العينين، ج1 ص2. تحقيق البلغيثي أحمد يكن، طبع بمطبعة فضالة –المحمدية المغرب سنة 1982 تحت إشراف اللجنة المشتركة لنشر التراث الإسلامي بين حكومتي المملكة المغربية والإمارات العربية المتحدة .

[8] – المرافق على الموافق، ص: 17.

[9] – كتاب مبصر المتشوف على منتخب التصوف للشيخ الإمام الشهير الولي الصالح العارف الكبير الشريف أبي عبدالله سيدي محمد مصطفى ماء العينين ابن الشيخ محمد فاضل رضي الله عنهما، ص: 5. مراجعة وتصحيح الشيخ محمد فاضل بن الشيخ حسن بن الشيخ امربِّيه ربُّه بن الشيخ ماء العينين، طبع دار يوسف بن تاشفين مكتبة الإمام مالك الطبعة الأولى 1429هـ/2008م، الجمهورية الإسلامية الموريتانية –الإمارات العربية المتحدة.

الدكتور عبد الله معصر

• رئيس مركز دراس بن إسماعيل لتقريب المذهب والعقيدة والسلوك بالرابطة المحمدية للعلماء.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق