مركز ابن القطان للدراسات والأبحاث في الحديث الشريف والسيرة العطرةدراسات عامة

مستفادات من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر رمضان فقال: “لا تصوموا حتى تروا الهلال، ولا تفطروا حتى تروه، فإن غم عليكم فاقدروا له”

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف المرسلين وعلى آله وصحابته أجمعين.

وبعد؛

فإن حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر رمضان فقال: “لا تصوموا حتى تروا الهلال، ولا تفطروا حتى تروه، فإن غم عليكم فاقدروا له”، فيه مسائل فقهية متعددة، ومقاصد شرعية عظيمة، ودرر وفوائد، ولهذا اخترت الكلام  على هذا الحديث من خلال: تخريجه، واستخراج بعض المستفادات منه من شروح الحديث.

ـ أولا: تخريج الحديث:

أخرجه مالك في موطئه كتاب الصيام، باب ما جاء في رؤية الهلال، للصيام، والفطر في رمضان، رقم الحديث: (297) [1]، والإمام البخاري في صحيحه: كتاب الصوم، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم”إذا رأيتم الهلال فصوموا، وإذا رأيتموه فأفطروا”، رقم الحديث: (1906) [2]، واللفظ له، والإمام مسلم في صحيحه: كتاب الصيام، باب وجوب صوم رمضان لرؤية الهلال رقم: (1080) [3] .

ـ  ثانيا: الوقوف على بعض المستفادات من الحديث.

هذا الحديث يستفاد منه  ما يلي:

* أن الشهر قد يكون تسعا وعشرين[4].

 *أن الله تعبد عباده في الصوم برؤية الهلال لرمضان، أو باستكمال شعبان ثلاثين يوما[5].

* أن فيه تأويل لقول الله عز وجل (فمن شهد منكم الشهر فليصمه) إن شهوده رؤيته أو العلم برؤيته[6].

 * أن اليقين لا يزول بالشك قال ابن عبد البر: “وفيه أن اليقين لا يزيله الشك، ولا يزيله إلا يقين مثله؛ لأنه صلى الله عليه وسلم أمر الناس ألا يدعوا ما هم عليه من يقين شعبان إلا بيقين رؤية واستكمال العدة، وإن الشك لا يعمل في ذلك شيئا، ولهذا نهى عن صوم يوم الشك اطراحا لأعمال الشك، وإعلاما أن الأحكام لا تجب إلا بيقين لا شك فيه، وهذا أصل عظيم من الفقه أن لا يدع الإنسان ما هو عليه من الحال المتيقنة إلا بيقين من انتقالها وقوله صلى الله عليه وسلم: “فإن غم عليكم فأكملوا العدد ثلاثين يوما” يقتضي استكمال شعبان قبل الصيام واستكمال رمضان أيضا[7].

* أن فيه دليل على عدم جواز صيام يوم الشك قال ابن عبد البر: “وفيه دليل على أنه لا يجوز صيام يوم الشك خوفا أن يكون من رمضان، وقد ذكرنا في باب نافع عن ابن عمر من كتابنا هذا اختلاف الفقهاء في صيام يوم الشك على أنه من رمضان بأتم من ذلك ها هنا؛ لأن ذلك الموضع أولى به لقول النبي صلى الله عليه وسلم في حديث ابن عمر: “فاقدروا له”، واختلف العلماء في صوم آخر يوم من شعبان تطوعا، فأجازه مالك وأصحابه، والشافعي وأصحابه، وأبو حنيفة وأصحابه، وأكثر الفقهاء إذا كان تطوعا ولم يكن خوفا ولا احتياطا أن يكون من رمضان، ولا يجوز عندهم صومه على الشك قال مالك: إن تيقن أنه من شعبان جاز صومه تطوعا وهو قول الشافعي، وقال أبو حنيفة: لا يصام يوم الشك إلا تطوعا، وقال الثوري: لا يتلوم يوم الشك ولا يصوم أحد يوم الشك [8].

*أن المراد بالرؤية في الحديث رؤية بعض المسلمين للهلال، قال عثمان بن سعيد الكماخي: “وليس المراد بالرؤية رؤية جميع الناس يحتاج كل فرد إلى رؤيته، بل المعتبر رؤية بعضهم وهو العدد الذي يثبت به الحقوق وهو عدلان، فلا يثبت رمضان بعدل واحد عند مالك وأحمد خلافًا لأبي حنيفة والشافعي، فإنه يثبت بعدل واحد”[9].

*أن رؤية الهلال على وجهين قال ابن رشد: “ورؤية الهلال تكون على وجهين: رؤية عامة، ورؤية خاصة. فالرؤية العامة: أن يراه العدد الكثير والجم الغفير الذين لا يجوز عليهم التواطؤ ولا التشاعر من غير أن يشترط في صفتهم ما يشترط في صفة الشاهد من الحرية والبلوغ والعدالة. والرؤية الخاصة: هو أن يراه النفر اليسير”[10].

* أن الرؤية محققة ومقطوع بها، وما عداها  مظنون،  قال القاضي عبد الوهاب: “وقوله: “لا تصوموا حتى تروا الهلال ولا تفطروا حتى تروه”، ولأن الرؤية محققة مقطوع عليها وما عداها  مظنون، فإذا وجب الصوم بالمظنون كان بالمتحقق أولى”[11].

*أن معنى (فاقدروا له) في الحديث،  أي: قدروا تمام الشهر بالعدد ثلاثين يوما. يقال: قدرت الشيء أقدره وأقدره ـ بالتخفيف ـ بمعنى: قدرته “بالتشديد”، وهذا مذهب الجمهور في معنى هذا الحديث، وقد دل على صحة ما رواه أبو هريرة مكان: فاقدروا له: (فأكملوا العدة ثلاثين)” [12].

*أن من نذر  أن يصوم شهرا غير معين؛ فله أن يصوم تسعا وعشرين، قال القرطبي: “وعلى هذا الحديث: من نذر أن يصوم شهرا غير معين؛ فله أن يصوم تسعا وعشرين؛ لأن ذلك يقال عليه: شهر، كما أن من نذر صلاة أجزأه من ذلك ركعتان؛ لأنه أقل ما يصدق عليه الاسم. وكذلك من نذر صوما فصام يوما أجزأه، وهو خلاف ما ذهب إليه مالك. فإنه قال: لا يجزئه إذا صامه بالأيام إلا ثلاثون يوما؛ فإن صامه بالهلال فعلى ما يكون ذلك الشهر من رؤية هلاله”[13].

هذا ما تيسر الوقوف عليه من الفوائد من هذا الحديث الذي جمع مسائل فقهية ومقاصد ومعاني كثيرة في ألفاظه القليلة.

************************

هوامش المقال:

[1]  موطأ الإمام مالك(3 /407).

[2]  صحيح البخاري(3/ 27).

[3]  صحيح مسلم(2/ 759).

[4]  التمهيد (2/ 39).

[5]  نفسه(2 /39).

[6]  نفسه (2 /39).

[7]  نفسه (2 /39ـ40).

[8]  نفسه (2 /40).

[9]  المهيأ في كشف أسرار الموطأ(2/ 173).

[10]  المقدمات الممهدات(1/ 251).

[11]   المعونة(ص: 454).

[12]   المفهم(3 /138).

[13]   المفهم(3/ 137).

***************

لائحة المصادر والمراجع

التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد، لأبي عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر بن عاصم النمري القرطبي، تحقيق: مصطفى بن أحمد العلوى و محمد عبد الكبير البكرى، مؤسسة القرطبة.

الجامع المسند الصحيح المختصر من أمور رسول الله صلى الله عليه وسلم وسننه وأيامه، لمحمد بن إسماعيل أبي عبد الله البخاري الجعفي،تحقيق: محمد زهير بن ناصر الناصر، دار طوق النجاة، بيروت-لبنان، دار المنهاج، جدة-السعودية، ط1، 1422هـ، مصورة عن الطبعة الكبرى الأميرية، بولاق ـ مصر،1311هـ.

المسند الصحيح المختصر بنقل العدل عن العدل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، لمسلم بن الحجاج أبي الحسن القشيري النيسابوري،تحقيق: محمد فؤاد عبد الباقي، دار إحياء التراث العربي ـ بيروت.

المعونة على مذهب عالم المدينة “الإمام مالك بن أنس”، لأبي محمد عبد الوهاب بن علي بن نصر الثعلبي البغدادي المالكي، تحقيق: حميش عبد الحقّ، المكتبة التجارية ـ مكة المكرمة.

المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم،  لأبي العباس أحمد بن عمر بن إبراهيم القرطبي تحقيق: محيي الدين ديب ميستو ـ أحمد محمد السيد ـ يوسف علي بديوي ـ محمود إبراهيم بزال، دار ابن كثير، دمشق ـ بيروت، ودار الكلم الطيب، دمشق ـ بيروت،ط1، 1417 هـ ـ 1996م.

المقدمات الممهدات لبيان ما اقتضته رسوم المدونة من الأحكام الشرعيات والتحصيلات المحكمات لأمهات مسائلها المشكلات، لأبي الوليد محمد بن أحمد بن رشد القرطبي، تحقيق: محمد حجي، دار الغرب الإسلامي، بيروت،ط1، 1408 هـ ـ 1988 م.

المهيأ في كشف أسرار الموطأ، لعثمان بن سعيد الكماخي، تحقيق: أحمد علي، دار الحديث، القاهرة، 1425 هـ ـ 2005 م.

موطأ مالك بن أنس بن مالك بن عامر الأصبحي المدني، تحقيق:  محمد مصطفى الأعظمي، مؤسسة زايد بن سلطان آل نهيان للأعمال الخيرية والإنسانية – أبو ظبي – الإمارات، ط1، 1425 هـ ـ 2004 م.

راجع المقال الباحث: يوسف أزهار

Science

عبد الفتاح مغفور

  • أستاذ باحث مؤهل بمركز ابن القطان للدراسات والأبحاث في الحديث الشريف والسيرة النبوية العطرة بالعرائش، التابع للرابطة المحمدية للعلماء بالرباط.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق