وحدة الإحياءدراسات عامة

مرتكزات منهجية.. في المراجعة العلمية لعلوم القرآن وتفسيره وبلاغته

محددات الورقة

تسعى هذه الورقة إلى تقديم مجموعة من الاستدراكات على بعض موضوعات علوم القرآن وتفسيره وبلاغته، وذلك من أجل إنجاز مراجعة منهجية قد تكون مفيدة في صياغة مشروع شامل ومتكامل لإصلاح تلك العلوم، أو تقديم مقررات دراسية  لطلبة الجامعات.

وأشير، ابتداءً، إلى أن هذه الورقة المعدة تنطلق من المحددات الآتية:

ـ النظر في العلوم الإسلامية لا يؤتي أكله إلا من خلال نظرية عامة في المراجعة، تقوم على أسس منهجية وعلمية كلية، وتقوم بها مؤسسات علمية ومجموعات بحث وورش عمل متخصصة.

ـ الدعوة إلى مراجعة علمية للعلوم الإسلامية لا تلغي الإيجابيات الكثيرة التي حققتها تلك العلوم على مستوى الفهم والتلقي، وإيجاد البيئة المعرفية الملائمة لحسن الفهم والتنـزيل، بل إن المراجعة تستصحب معها تلك الإيجابيات في أسسها المعرفية والمنهجية وتعممها. وأكثر من ذلك فإن الدعوة إلى المراجعة، إنما من أجل أن تظل شجرة تلك العلوم مورقة طيبة تؤتي أكلها كل جيل بإذن ربها.

ـ لا علاقة للدعوة إلى مراجعة العلوم الإسلامية بما يتداول في الفكر العربي المعاصر من مواقف ومذاهب تلبست لبوس “القراءات المعاصرة” و”العلمية”، بل إن المراجعة مسلك منهجي ومعرفي إسلامي البيئة والغايات.

أولا: إشكالات منهجية ومعرفية في علوم القرآن والتفسير

1. معظم تعريفات علوم القرآن ومنهجها وموضوعاتها هو مما يتوجه إليه الإشكال والاستدراك، فما هي أسباب ذلك؟ وما هي نتائجه على عقول الطلبة والباحثين؟ وماهي آليات مراجعته؟

لنأخذ مثلا علم التفسير، فقد عرفه الزركشي بقوله: “هو علم يبحث عن كيفية النطق بألفاظ القرآن ومدلولاتها وأحكامها الإفرادية والتركيبة، ومعانيها التي تحمل عليها حالة التركيب وتتمات ذلك[1].”

ويعرفه السيوطي بقوله: “هو علم نـزول الآيات وشؤونها وأقاصيصها والأسباب النازلة فيها، ثم ترتيب مكيها ومدنيها، ومحكمها ومتشابهها، وناسخها ومنسوخها، وخاصها وعامها، ومطلقها ومقيدها، ومجملها ومفسرها، وحلالها وحرامها ووعدها ووعيدها، وأمرها ونهيها، وعبرها وأمثالها[2].”

ونجد تعريفات شبيهة بهذا في مختلف المؤلفات المهتمة بالموضوع قديما وحديثا.

إن هذه التعريفات:

ـ ترفع من شأن قضايا أقصى ما يمكن أن يقال عنها إنها من تتمات العدة الإجرائية للعملية التفسيرية، أو هي من الموضوعات المعرفية التي شكلت بناء علوم القرآن، ولا صلة لها بالتفسير باعتباره عملية تدبرية لإبراز مقاصد الحق إلى هداية الخلق إلا بمقدار المشترك الموضوعي بينهما وهو خطاب القرآن في بنيته اللغوية والصوتية والأدائية وتشريع الأحكام.

ـ تجعل موضوع علم التفسير هو موضوع علوم القرآن نفسه، وهذا لا يجوز.

ـ تعطي الأهمية لعناصره التي استحوذت تاريخيا على التفسير، وحولته من مجال لإبراز هدايات القرآن وتجلية مقاصده إلى مجال لاستعراض المهارات المعرفية للمفسرين.

ـ تغيب الهدف الأعلى من التفسير، والذي يتمثل في إبراز مقاصد القرآن الكريم وهدايته للخلق في مختلف مناشط الحياة.

والحقيقة أننا لا نستطيع أن نظفر بتعريف معرف لعلم التفسير حقيقة في ثنايا تلك التعريفات، فأين هو بعد إبراز هداية القرآن للخلق، وجعلهم على دراية بمراده الحكيم في عقائده وتشريعاته وأخلاقه؟

وإن أي طموح اليوم لصياغة تعريف دقيق لعلم التفسير يتعين أن يجعل أهم مقوماته إبراز مقاصد القرآن، حتى ليغدو من المقبول إلى أبعد الحدود القول: “إن علم التفسير هو بيان مقاصد القرآن للإنسان والاهتداء بها”.

ولعله من الشروط المنهجية والمعرفية اللازمة ليكون تعريف علم التفسير خادما لمراده أن يجتهد في إضافة بيان مقاصد القرآن ضمن المقومات الأساسية للمفهوم.

وهنا نصل إلى الإشكال الثاني في مفهوم علم التفسير:

2. تحويل الخطاب القرآني من منهج في التفسير إلى مادة للتفسير، وهذا أدى إلى آثار نفسية ومعرفية وحضارية يلحظها القارئون لقضايا علوم القرآن والتفسير قراءة فحص واستشكال.

فقد ظهر للمفسرين أن القرآن يمثل مادة للتفسير في ألفاظه وتراكيبه ومعانيه وعقائده وتشريعاته، فانتهجوا سبيل تفسيرها، واستثمروا معارفهم المتنوعة في الكشف عن كنوز وذخائر من المعلومات والآراء والمذاهب ما بين مقتصد ومغال.

وأهملوا، في سياق تلك الحماسة، الانتباه إلى أن السياق الوحيد الذي وردت فيه كلمة “تفسير” في الخطاب القرآني، إنما تعارض مفهوم التفسير عندهم، فهم يجعلون القرآن مادة للتفسير، بينما سياق الآية يجعل القرآن منهجا في التفسير، وهذا واضح في قوله تعالى: ﴿ولا يأتونك بمثل إلا جئناك بالحق وأحسن تفسيرا﴾ (الفرقان: 33).

ولم يقع التنبيه على هذا الأمر في علوم القرآن والتفسير، بحسب اطلاعي المتواضع ونظري الكليل. والخلاف بين، والفرق واضح، فأن يكون القرآن مادة للتفسير، فالباب ينفتح على شرح مفرداته وتراكيبه، وتوظيف مختلف العلوم للإبانة عن دلالته وناسخه ومنسوخه ومحكمه ومتشابهه، ومطلقه ومقيده وأحكامه وقصصه، لكن أن يكون القرآن هو التفسير، فهذا يعني أن يتحول إلى منهج وأداة به نقرأ الواقع والحياة والماضي والحاضر والمستقبل، ونحلل به طبيعة أزماتنا الفكرية والنفسية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية. وبه نهتدي قي العلاقة بين الفرد ونفسه والفرد وأسرته والزوج وزوجته والحاكم والمحكوم والإنسانية جمعاء، والإنسان في علاقته بالبيئة والموارد الطبيعية  وحقوق الأجيال في التنعم بها وافرة غير منقوصة، سليمة غير مضرة.

وقد غاب هذا إلا ما ندر، ولذلك، فلك أن تحصي الكثير من المصنفات والعلماء الذين اعتبروا القرآن مادة للتفسير، ولك، في المقابل، ألا تجد، إلا في حكم النادر، من اعتبر القرآن منهجا وأداة في التفسير.

ونحن حين نروم اليوم بسط الإشكالات والعمل على إيجاد حلول لواقع أزمة العلوم الإسلامية، فيتعين البدء بهذه المحددات المنهجية، وتحويلها إلى مقررات دراسية للطلبة، انطلاقا من المبدأ المنهجي الآتي: “القرآن منهج في التفسير وليس مادة للتفسير”.

والمجال رحب لتحديد مجموعة من القضايا والأوضاع والمشكلات والظواهر، ثم تحليل منهج القرآن في النظر إليها، من مثل:

دور الإنسان في صناعة التاريخ؛ الأمن وشروطه وشموليته في القرآن الكريم؛ اعتبار الإنسان أساس التنمية في القرآن الكريم؛ الآخر ومنهج التعامل معه في القرآن الكريم؛ الرحمة للعالمين في القرآن الكريم؛ مركزية دور الأسرة في رعاية القيم الإسلامية في القرآن الكريم؛ مسؤولية الراعي والرعية في إحقاق العدل والمساواة والأمن في القرآن الكريم. وغيرها…

3. اتخاذ حقل التفسير وعلوم القرآن وبلاغته مجالا لاستعراض المهارات العلمية للمفسر والبلاغي، وقد ترتب على ذلك نتائج منهجية ودراسية في غاية الخطورة، منها أن تحول هذا الوضع الاحتفائي (الاحتفالي) بالمعرفة الذاتية للمفسر إلى عنصر فعال في تقسيم مناهج المفسرين؛ إذ صارت المهارات العلمية والبضاعة المعرفية للمفسر مدخلا إلى القول بتنوع مناهج المفسرين (منهج نحوي، فقهي، بلاغي، صوفي، كلامي..)، بينما لا تنوع بينها من حيث الجوهر المنهجي والنظر المقاصدي في الخطاب القرآني. فهي متعددة في أدواتها الإجرائية، ما بين علوم آلة وفقه وبلاغة وتصوف، أما مآلاتها فهي واحدة، حيث تضخمت المادة المعرفية والأدوات التحليلية التي يتقنها المفسر، وخفتت بيانات القرآن ومقاصده في التزكية الذاتية والمجتمعية..

ولا نتائج مقاصدية حميدة ترتجى من وراء هذا الوضع إلا بتوجيه النقد إلى هذا السياج المعرفي العام الذي أحيط بالقرآن الكريم من خلال كتب التفسير وعلوم القرآن، والذي صار شرطا في فهمه، ومعيارا لصوابية أي رأي في آياته ومعانيه. وذلك من خلال: “اعتبار السياج المعرفي والثقافي المحيط بالقرآن الكريم إنتاجا بشريا وكسبا معرفيا يقبل الصواب والخطأ”.

ـ اتخاذ التفسير وعلوم القرآن مرتعا لتخصيب مجموعة من الثنائيات النظرية التي لا تحقق لها في الإمكان العقلي والتطبيق العملي، من مثل ثنائية النقل والعقل والأثر والرأي، والتفسير والتأويل، والناسخ والمنسوخ، والمحكم والمتشابه، والمكي والمدني، وعربية القرآن وأعجميته، وقصصه وأحكامه، وهي ثنائيات ومقولات آتية من فضاءات معرفية أخرى فتن بها العقل المسلم ووقع في أسر تبديهها، بل أنشأ حولها صراعا، وكان ميالا، لعوامل نفسية وكوابح معرفية، إلى الانتصار لمعسكر دون آخر، ومن تجليات هذا الوضع:

ـ الانتصار لمعسكر الأثر والأثريين، واستهجان الرأي وأصحابه، موظفا، في الاستدلال على ذلك الميل النفسي والمعرفي، مجموعة من الأحاديث المفصولة عن سياقاتها، لتصير رغما عنها داعمة للقول بمشروعية منهاج الأثر والأثريين، وتقبيح منهج الرأي وأهله. مما استدعى من علماء  المقاصد أن ينفقوا جهدا كبيرا في رفع الإشكال في الموضوع، وفي مقدمتهم الإمام الشاطبي، فقد اقتضى منه الوضع أن يبرز كيف أن موضوع الرأي والاجتهاد لم يوضع في سياقه الموضوعي، وإنما استدرج إلى سياق تاريخي يغلب عليه طابع الأحلاف والمذاهب والتصنيفات وتبادل الاتهامات، فخرج عن أن يكون نقاشا علميا من شأنه أن يستثمر الرأي والاجتهاد في خدمة مشروع الاهتداء بمقاصد القرآن، إلى كوابح معرفية ومسكنات عقلية تميل بالعقل المسلم إلى الركون إلى مطلقية كمال ما صدر عن السلف.

والوضع يقتضي الهروع  إلى اعتماد المبدأ الآتي: “تقسيم التفسير إلى تفسير بالأثر وتفسير بالرأي هو إشكال تاريخي وليس معرفي أو منهجي”.

ـ اقتصار استنباط التشريعات والهدايات من آيات الأحكام، واعتقاد أن القصص القرآني يرد للعبرة والموعظة فحسب، وقد أفقر هذا المنظور مصادر التشريع في القرآن الكريم، وجعل المفسرين، إلا في ما ندر، يغفلون عن استنباط التشريعات من قصص القرآن، وخاصة التشريعات التي تمثل كليات في سنن التاريخ ونهوض الأمم وسقوطها من مثل الاستبداد والظلم وحرية الرأي والاقتناع بالحجة وعدم أخذ الفرد بجريرة غيره، والتشريعات التربوية الموجهة لنفسية الإنسان نحو الابتعاد عن الحسد، والتعزيرات القاضية بإقبار كل مظاهر عقوق الوالدين، وجواز إعلان المرأة رغبتها في الزواج كما الرجل، والتشريعات المؤسسة لخلق التعاون والتحفيز وتقديم الخدمات الاجتماعية مجانا، وغيرها من التشريعات التي يستنبطها العقل المتدبر للقصص القرآني.

وهذا يقتضي صياغة قاعدة تفسيرية على الشكل الآتي: “تشريعات القرآن تؤخذ من آيات الأحكام  وقصصه سواء بسواء”.

ـ توليد تلك الثنائيات لمعارف طابعها الغالب الخلاف والتعارض وتخطئة المذهب المخالف، سواء في تحديد المفهوم أم في التمثيل والاستشهاد، أم في صياغة الاستدلالات. فعلى سبيل المثال:

الناسخ والمنسوخ

وسنقصر الحديث هنا على مثال واحد، وهو المتصل بالإشكال الفقهي والحضاري المعاصر حول الموقف من الآخر، فقد أريد لمذهب القول بشرعية قتال الآخر بسبب كفره أن ينتشر في وسائل الإعلام  انتشارا يشوش على الموقف السليم، وفصل العديد من الأقوال والأحكام والتحليلات عن سياقها التاريخي لتؤكد تلك المقولة، مع أن تحرير الإشكال، في بعده الفقهي، يضع الدارس إزاء موقفين:

أ. الموقف الأول: لا شرعية لمقولة قتال الكفار بسبب كفرهم، وإنما جاز قتالهم بسبب حرابتهم للمسلمين واعتدائهم عليهم، وهو الموقف الغالب في التراث الفقهي، ومفاده أن الكفار، حين يحاربون المسلمين، يصار إلى قتالهم  استجابة للأمر الواجب في القرآن الكريم، وأن الأصل هو الحرية الدينية، انطلاقا من أن الآية الكريمة: ﴿لا إكراه في الدين﴾ (البفرة: 255) ناسخة. وغيرها من الآيات التي يستفاد منها الأمر بالقتال منسوخة.

ب. الموقف الثاني: شرعية قتال الكفار بسبب كفرهم، ظنا من هذا الموقف أن علة القتال والجهاد هي كفر الآخر، وغاب عنه أن العلة هي الحرابة، ومن ثم فالآية: ﴿قاتلوا…﴾ ناسخة، وآية ﴿لا إكراه في الدين﴾ منسوخة.

ويجد المسلم المعاصر نفسه حائرا بين هذين الموقفين والتفسيرين، وخاصة عندما يريد أن يفسر قوله تعالى: ﴿وقاتلو المشركين..﴾.

وفي هذه الحال، ورغبة في درك الفهم السليم، يتعين قراءة مختلف الآيات الآمرة بالقتال على ضوء مقاصد القرآن في العمران الإنساني، وسيتضح، حينئذ، أن من مقاصد القرآن الكبرى رعاية الحرية الفكرية والاعتقادية للإنسان، وانتفاء  الشرعية عن أي جهة في إجبار الأفراد والجماعات على الخضوع إلى فكر معين أو عقيدة محددة، وهذا المقصد متأصل بقوة في النصوص الشرعية من مثل قوله تعالى: ﴿لا إكراه في الدين﴾، التي أريد لها، خضوعا لمنطق شرعية قتال الكفار بسبب كفرهم، أن تصير منسوخة بآية السيف: ﴿وقاتلوا..﴾ مع أنها، كما يقول البحث التحقيقي في الناسخ والمنسوخ، آية محكمة ناسخة.

وعندما يخرق هذا المنطق مقصد الحرية الاعتقادية للأفراد والجماعات والأمم، فإن خرقه لمقاصد القرآن الأخرى يصير أمرا مستساغا، مثل من يحشر الآخر في خانة واحدة، ويوجه سلاح قتاله إلى مختلف الفئات والجماعات في مجتمعات “الكفار”، مع أن مقاصد القرآن الكبرى تقر بأن لا يؤخذ أحد بجريرة غيره، وألا يعاقب الأبرياء بصنيع المجرمين، وإلا صارت الحياة فوضى، واستحال قيام قواعد أخلاقية وقانونية. وحرصا من القرآن على تثبيت أركان هذا المقصد، تواردت الآيات على تقرير هذه القاعدة الحضارية، من مثل قوله تعالى: ﴿ولا تزر وازرة وزر أخرى﴾ (الأنعام: 166)، وقوله: ﴿كل امرئ بما كسب رهين﴾ (الطور: 19).

ومن المؤكد أن الخطاب القرآني يهدي إلى مقاصد، من مثل مقصد العدل والحرية الاعتقادية والمساواة الإنسانية، ونفي الإكراه في الدين، وإعمار الأرض… وعلى المفسر أن ينطلق من هذه المقاصد، وإذا بدا له أن قولا ما يتعارض مع هذه المقاصد، فليعلم بأن المقصد هو الحاكم، وليس أقوال فلان أو فلان؛ إذ لا يجوز أن يطالب القرآن الناس بقيمة من القيم المذكورة، ثم يأمرهم، في أي سياق، بتجاوزها أو خرقها، فإذا كان القرآن يقصد إلى نفي الإكراه في الدين، مثلا، فلن تجد في آياته الأخرى أمرا بقصر الناس على الدين وإرغامهم على القبول به بالقوة أو التهديد.

إن السياق المقاصدي للخطاب القرآني روح وقواعد ومبادئ، وهي محتاجة إلى أن تتحول إلى مقررات دراسية تدمج ضمن مواد العلوم الإسلامية بالثانويات والمعاهد والجامعات كي تصير ملكة لدى طلبة العلم والدعاة والوعاظ والباحثين. وإن في عدم إدراكها وتمثلها خطرا على فهم النص وتنـزيله، وقد يكون إهمال الباحث والعالم والداعي والواعظ لنص من النصوص أو غفلته عنه مستساغا، وقد لا يؤثر على منهجه في العلم والبحث والاستدلال والدعوة، وإن كان الاستقصاء مطلبا لازما، ولكن إذا تم إهمال مقاصد القرآن، ولم توضع في الاعتبار الأول، فإن النتائج تكون سلبية منهجا وفهما وتطبيقا.

ومن أحسن ما ورد في إشكالية توظيف آلية الناسخ والمنسوخ توظيفا مخالفا لمقاصد القرآن الكريم وشريعته، ما كتبه د. أحمد الريسوني في سياق تأسيسه الأصولي للكليات الأساسية للشريعة الإسلامية، فقد وقف عند قوله تعالى: ﴿فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ، اِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾ (المائدة: 14)، وأكد بأن هذا الأمر  يتضمن دعوة صريحة إلى العفو والصفح عن الأعداء والخصوم والمسيئين، فيما يصدر منهم من إساءات وإذايات. وهذا المعنى جاء في كثير من الآيات الأخرى، كما في قوله جل جلاله: ﴿وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الاُمُورِ﴾ (الشورى: 40).

واعتبره من الفضائل الخلقية الكلية، التي تصلح للأفراد والجماعات وفي جميع الأحوال والمجالات، واستغرب ذهاب بعض العلماء إلى أنها منسوخة بآية السيف.

وصاغ مجموعة من المبادئ في قوله: “والخلاصة أن الآيات الواردة في الصبر على الأذى والإساءة، وفي العفو والصفح والتجاوز، وفي قول الأحسن والدفع بالتي هي أحسن مع الأعداء ومع المسيئين، هي آيات محكمة كلية، باقية على إحكامها وعمومها، بل هي غير قابلــة للنسخ أصلا، وخاصة مع تكاثرها وتواتر معانيهـا. فهي تشكل قواعد وسننا ربانية في السلوك الاجتماعي والدعوي[3].”

ـ نسخ التلاوة وبقاء الحكم

وهذه القضية تبرز أثر المنطق وتقسيماته وتفريعاته العقلية والممكنة على مباحث علوم القرآن، فمادام هناك قسم من القرآن يتوفر على: بقاء الحكم والتلاوة، فيتعين وجود قسم ثان هو: نسخ الحكم والتلاوة؛ ومادام هناك قسم ثالث، وهو: بقاء التلاوة ونسخ الحكم، فالمنطق يقتضي وجود قسم رابع، هو: نسخ التلاوة وبقاء الحكم.

ثم لنتأمل هذا التعليل لحكمة وجود قسم نسخت تلاوته وبقي حكمه، هذا التعليل الذي يوضع بين يدي الطلبة، ويمتحنون فيه، ويعتقدون صوابه.

يقول الشيخ الزرقاني في “مناهل العرفان”: “إن نسخ الآية مع بقاء الحكم  ليس مجردا من الحكمة، ولا خاليا من الفائدة حتى يكون عبثا، بل فيه فائدة أي فائدة، وهي حصر القرآن في دائرة محددة، تيسر على الأمة حفظه واستظهاره، وتسهل على سواد الأمة  التحقق فيه وعرفانه[4].”

 ألا يحمل هذا التعليل في طياته بذور نقده ونقضه على حد سواء؟ فإذا اعتبرنا الهدف وراء نسخ التلاوة وبقاء الحكم هو حصر القرآن في دائرة محددة، وجعله مختصرا، فلماذا لم يتحقق ذلك مع العديد من الأحكام؟ حيث بقيت تلاوتها وحكمها ولم يؤثر ذلك في اختصار القرآن الكريم؟ ثم إذا كان الهدف، حقيقة، هو إيراد القرآن مختصرا؟ أليس العقل يقضي بأن يتم اختصار العديد من القصص التي جاءت مكررة، والحديث عن خلق السموات والأرض الذي لا تخلو سورة من إيراد طرف منه؟ فأن يشمل الحذف تلك الموضوعات التي لا تعلق لها بالأحكام العملية خيرمن أن يمس الحذف أحكاما تنفيذية؟

إن هذه الإشكالات تعن لمن يقوم بتدريس علوم القرآن للطلبة، ويتيح لهم فرص التأمل والتدبر والاستشكال.

وإن الخلل يعود، أساسا، إلى تفريخ تلك الثنائيات، وما نجم عنها من أقسام وفروع، ولا مخرج من هذه الأزمة إلا بإحكام القول في موضوع النسخ وأقسامه، من خلال المطلب الآتي: “إنجاز دراسة تاريخية لمراحل التنـزيل والتشريع مناط فصل القول في إشكالية الناسخ والمنسوخ”.

المحكم والمتشابه

إذا كان من معاني المتشابه  الآيات التي يشبه بعضها بعضا في التركيب والأسلوب، فهذا يعني أن وضعها في الطرف المقابل للمحكم مجرد تكلف، ذلك أن التأمل في محكمات القرآن يهدي إلى أنها، هي الأخرى، ترد في نظم وتركيب وأسلوب متشابه، فهل لأنها متشابهة نخرجها من دائرة المحكم؟ وهل بقي المحكم سليما معافى من منهجية التأويل التي خصوها بالمتشابه؟ ألم يشمل التأويل  المحكمات؟ وما لنا نقول التأويل وكأنه مخالف للتفسير؟ أليس التأويل هو التفسير عند بعضهم؟

إن الأمر قاض بالاحتكام، في موضوع المحكم والمتشابه، إلى القاعدة الآتية: “المحكم والمتشابه يفسران في ضوء الدلالة القرآنية قبل الدلالة الكلامية”.

ـ ألفاظ القرآن بين العربية والأعجمية

امتلأت صفحات كتب علوم القرآن والتفسير بنقاش طويل حول عربية القرآن الكريم، وموقع بعض الألفاظ من سلم تلك العربية، وكانت البداية من خلال صياغة السؤال الآتي: هل في القرآن ألفاظ غير عربية؟

ومع أن الموضوع لا تعلق له بفهم العقائد والأحكام والتحلي بتزكية النفس، فإنه ظل يتردد، ويستغرق جهدا عبر تاريخ طويل من الكتابة في موضوعات علوم القرآن والتفسير إلى عصرنا الحديث، بل أنجزت فيه أطروحات جامعية.

ومع أن عدد تلك الألفاظ المختلف فيها لا يكاد يتجاوز عدد رؤوس الأصابع، إلا أن العلماء والمفسرين وجدوا في الموضوع فرصة لاستثمار معارفهم اللغوية والتاريخية، ولم يكونوا في حاجة إلى ذلك باعتبار أن القاعدة تنص على أن الشيء يأخذ حكم الغالب، وأن عربية القرآن التي يستشهد بها من يتعصب لمقولة عموم عربية ألفاظ القرآن، إنما هي عربية اللفظ والتركيب والأساليب والصور،  ولا ضير، في ظل هذه المنظومة المتآزرة، أن تكون هذه اللفظة أو تلك ذات أصول غير عربية، وينحل الإشكال، ويكون العقل المسلم في غنى عن إثارة الاستفسارات؛ لأن الأمر لا يخلو، حينه، من أن يكون إشكالات أحيل بها على إبهامات ترتد بالعقل إلى أعماق موغلة في التاريخ.

وهذا يقتضي الانتهاء إلى تسطير المبدأ الآتي: “ثنائية عربية القرآن وأعجميته  تجسد الترف المعرفي والتاريخي، ولا تقدم معرفة في فهم مقاصد القرآن”.

ـ رفع ما عن الصحابة والتابعين من أقوال في التفسير إلى مقام المرفوع إلى النبي عليه الصلاة والسلام، نفسيا وواقعيا، مما أحدث “قداسة” للأقوال رغم مرجوحيتها في ميزان النظر التفسيري والمقاصدي للخطاب القرآني.

 وقد نتج عن هذه الرؤية:

أ. وجود أبواب في علوم القرآن تسمى تفسير الصحابة وتفسير التابعين، في حين أنها تؤول إلى منظومة منهجية واحدة باعتبار المحصلة النهائية، فالمولود واحد، وإن تعددت نسبته.

ب. ثبوت في النظرة إلى تلك الأقوال حتى ولو كانت تخالف مقاصد القرآن، مع العلم أن الرؤية المنهجية تقتضي تعيير تلك الأقوال بمعيار نظرة الشريعة إلى أقوال الناس، وهي نظرة صيغت  في قالب أصولي مفاده أن الأحكام تتغير بتغير الزمان والمكان والأحوال والأشخاص، وما أقوال الصحابة والتابعين إلا أحكام تفسيرية غير خارجة عن مقتضى الصياغة الأصولية السالفة. ومن تم، فالوضع شاهد بأن: “كل قول غير مسنود إنما هو اجتهاد بشري يخضع لحاكمية مقاصد القرآن.”

ج. الخلط بين التفسير النبوي والتفسير بالحديث النبوي، فقد جرى العرف عند المفسرين  أنهم، حين حديثهم عن تفسير الرسول عليه السلام للقرآن، أو إيرادهم للمرويات بين يدي تفسيرهم لآيات القرآن، يوردون نصوصا  يعتبرونها، جميعها، داخلة ضمن التفسير النبوي، والحقيقة أن هناك فرقا دقيقا بين التفسير النبوي والتفسير بالحديث النبوي.

فالتفسير النبوي هو التفسير الذي يقدمه النبي، عليه الصلاة والسلام، في معنى لفظ أو آية، ويكون ذلك انطلاقا من سؤال الصحابة، أو من خلال توجيه السؤال إليهم  تحفيزا لطاقتهم التدبرية. ومن ثم، فالتفسير النبوي يضم طرفين اثنين، طرف الآيات القرآنية من جهة، وطرف الرسول الكريم من جهة ثانية. أما التفسير بالحديث النبوي  فهو عملية تدبرية يقوم بها المفسر (صحابيا كان أم تابعيا أم غيرهما) من خلال استحضار الحديث النبوي بين يدي تفسيره للآيات القرآنية، وهذا يعني أن التفسير بالحديث النبوي يشمل ثلاثة أقطاب: قطب الآيات، وقطب المفسر، وقطب الحديث النبوي.

وإذا كان التفسير النبوي، القطعي في وروده عن النبي عليه السلام، يمثل حجة، فإن التفسير بالحديث النبوي يحتمل الصواب والخطأ، وذلك من خلال مدى قدرة المفسر على إدراك المقومات الدلالية المشتركة بين نص الآية ونص الحديث، وتبين الشروط اللغوية والدلالية التي تشجع أو تعارض، تفسير هذا بذاك. ومعلوم أن هذه العملية دقيقة للغاية، فليس اشتراك النصين في إيراد لفظ أو معنى معين  دليلا على صوابية الربط بينهما داخل سياق تفسيري واحد. لهذا فإن إصلاح المنهج في هذه الظاهرة التي أحدثت محاور دراسية تلقن للطلبة يقتضي الانتهاء إلى: مراعاة الفرق بين التفسير النبوي والتفسير بالحديث النبوي ضابط منهجي للتمييز بين درجات صوابية التفسير بالمأثور.”

ثانيا: مشكلات منهجية في علم بلاغة القرآن الكريم

مشكلات دراسة بلاغة القرآن الكريم لا تعد ولا تحصى، فهذا العلم يعاني: أولا: من تضخم مصطلحاته، ويعرف، ثانيا: أزمة في علاقة المصطلح بمفهومه؛ إذ نجد مصطلحات كثيرة لمفهوم واحد، وقد نجد مفهومات عديدة ومتباينة لها مصطلح واحد يسميها ويعينها، مما يوقع هذا الفن في كثير من الاضطراب. أما ثالث الأزمات: فتتمثل في ضعف اصطلاحية بعض “مفردات” هذا العلم و”أساميه”، وعدم توفرها على الشروط المعتبرة عند علماء الاصطلاح.

وفضلا عن ضعف اصطلاحيتها، فإنها تجسد “تعسفا” في حق الخطاب القرآني؛ لأنها تسند إليه صفات لا تحق ببيانه المعجز، ولا تليق بجلال اللّه وعظمته، وتخل بشرط “المناسبة المقامية” الذي نعتبره شرطا محوريا في مصطلحات بلاغة القرآن، وتلك رابع الأزمات.

ثم إن بعض البلاغيين، ممن اهتموا بهذا الفن قديما، كان يخلط بين المصطلح والغاية البلاغية من الأسلوب، فيسمي الأول باسم الثاني دون أن تتوفر فيه شروط الاصطلاح المعتبرة عند القوم، مما جسد أزمة خامسة في حقل بلاغة القرآن الكريم.

وهناك أزمة خطيرة تفتك بهذا العلم، وتهدده بالزوال، ولعلها الأزمة السادسة، وتتعلق بفصل فنون البديع عن أهدافها البيانية والمعنوية بالنسبة للخطاب والمتلقي، حتى أضحت فنونا شكلية معيارية تتميز بالنظرة الجزئية، ولا تقوى على أن تبرز سر استعمال هذا الفن البديعي دون ذلك، وفي سياق دون آخر.

وليست هذه آخر الأزمات التي يحياها علم بلاغة القرآن، بل إنه عايش أزمة سابعة ارتبطت حتى بمحاولات إصلاحه، تلك المحاولات التي قادها السجلماسي وابن البناء المراكشي، وهي النـزعة المنطقية في معالجة فنونه، ودراسة شواهده، وطغيان النسقية المنطقية على حساب النسقية البيانية القائمة على التذوق، والملحوظة، واقتضاء المعنى للفن البديعي.

هذا إضافة إلى أزمة تجزييء الخطاب القرآني في منهجية تدريس بلاغة القرآن الكريم، وجعله شواهد مفصولة دالة على وجود الفن البلاغي بدل أن يكون الفن البلاغي مدمجا في العملية التفسيرية لبيان بلاغة القرآن وإعجازه.

إن هذه الأزمات كثيرة ومتنوعة، وهي مهددة للبناء الداخلي لعلم بلاغة القرآن، بل إنها ذات آثار خطيرة على منهجية تحليل أسلوب القرآن وبيانه، ولعل من فروض الوقت أن يهرع إلى بسط القول فيها، ورصد تجلياتها ومظاهرها، والبحث في أسبابها، واقتراح العلاج المنهجي لها، حتى تظل البلاغة أداة فعالة تهدي المتلقين إلى تمثل أسرار بيان القرآن، واكتناه وجه معتبر من أوجه إعجازه الخالدة بخلوده في الزمان والمكان.

وسأقصر الحديث في هذه الورقة على مشكلات ثلاث:

المشكلة الأولى: تعسفية التقسيم الثلاثي لبلاغة القرآن الكريم

فقد انتقل التقسيم المنطقي الثلاثي للبلاغة إلى حقل بلاغة القرآن، فأنتج أوضاعا معرفية ومنهجية لا تليق بخطاب القرآن، فخضعت بلاغة القرآن لذلك التقسيم، وجعل القسم الثالث مختصا بالبديع بدلالته الشكلية الزخرفية، وبإيحاءات إمكانية قيام معنى الكلام بدون البديع، باعتبار أنه مما يرد على الخطاب ويزين جانبه الشكلي فحسب.

إن النص القرآني نص معنوي، وكان بإمكانه أن يرد في صيغة خطابية أخرى، لكن الله -عز وجل- اختار، لحكمة يعلمها ويُعَلِّمها العارفين به، أن ينـزله بلسان عربي مبين، ومن مظاهر بيانه وإبانته ورود معانيه في أشكال فنية وأساليب بديعية كان لها الوقع الأكبر في نفوس العرب والمسلمين، وآدابهم وفنونهم.

والخلاصة التي ينتهي إليها الباحث هي أن ما من فن بديعي ذكر في القرآن إلا وقد تطلبه المعنى، واقتضاه السياق، وحتمته الدلالة، مما ينفي عن ذلك الفن أي مظهر من مظاهر الشكلانية، ويجنبه تهمة الصبغة والزخرفية.

فالقرآن “يستعير حين يستعير، ويتجوز حين يتجوز، ويطنب ويوجز ويؤكد ويتعرض ويكرر إلى آخر ما أحصى في البلاغة ومذاهبها؛ لأنه لو خرج عن ذلك لخرج من أن يكون معجزا في جهة من جهاته، ولا استبان فيه ثمة نقص يمكن أن يكون في موضعه ما هو أكمل منه وأبلغ في القصد والاستيفاء[5].”

وإن وجود تلك الفنون، بهذه الخصائص المذكورة، في الخطاب القرآني ليقدم أكبر خدمة لها، وينفي عنها مظاهر العرضية والحسن الشكلي الذي يقوم في وهم الواهم بإمكانية استغناء الأسلوب عنه، فقد اشتمل القرآن الكريم على قدر كبير من فنون البديع، “وقد جاءت فيه على نهجه المعجز، لا تختلف في سمو بلاغتها عن بقية الأساليب والصور القرآنية، والحكم على فنون البديع بالعرضية يعني اشتمال النظم القرآني على حلي عرضية، وهذا اتهام تدحضه البلاغة القرآنية العالية التي أعجبت الإنس والجن[6].”

فظهر، جليا، أن إيراد الفنون البديعية في القرآن، إنما هو من اقتضاءات المعنى، ومتطلبات الدلالة، بل إنه من مرتكزاتها ووسائلها التي لا غنى لها عنها.

ولا يمكن لهذه النظرة أن تضحى بديهية في الممارسة البلاغية وفي مناهج تدريس البلاغة، إلا بعد أن ينقد تعريف البلاغة  أولا، وتقسيمها الثالوثي ثانيا، وتعريفهم للبديع ثالثا.

وأول ما يعني لنا في هذا السياق أن التعريف المدرسي لعلم البديع، وهو “علم يعرف به وجوه تحسين الكلام بعد رعاية تطبيقه على مقتضى الحال ووضوح الدلالة”، تعريف إشكالي، في اعتبار ابن السبكي، احتمالي في إحالته على الدلالة المقصودة.

إن قولهم “بعد رعاية التطبيق”، أو “بعد رعاية المطابقة” محتمل لما يلي:

ـ فهو علم يعرف به وجوه التحسين ووجوه المطابقة والوضوح، وبما أن وجوه التطبيق (وهو علم المعاني عندهم)، ووجوه الوضوح (وهو علم البيان) سابقان على معرفة التحسين، فهذا يدل على أن البديع شامل للجزأين معا، وهما علما المعاني والبيان؛ لأن الرعاية لا تتم إلا بعد إحكامها ثلاثة.

ـ وإما أنه يحتمل كونه علما تعرف به، بعد معرفة التطبيق والوضوح، وجوه تحسين الكلام، فلا يكونان بهذا الاعتبار جزئين للبديع، وإنما مقدمتين له.

واعترف ابن السبكي بأن استخراج هذه الاعتبارات من تعريفهم غير يسير، وحكم عليه بأنه “من الرسوم غير الحقيقية، لما فيه من التعدية التي هي أمر إضافي[7].”

وكان الرأي عنده أن البديع “منـزل من العلمين السابقين، المعاني والبيان، منـزلة الجزء من الكل أو النتيجة من المقدمتين[8]“، وهذا يدل على أنه ليس أمرا عرضيا، بل هو أصل في صياغة المعاني، وبناء صرح الدلالات، لا يضعف شأنه عن الاستعارة والتشبيه والتقديم والتأخير وغيرها من المباحث التي تصنف، عادة، ضمن علم المعاني أو البيان.

ويعتبر الطيبي من الأعلام الذين جعلوا البديع أصلا في سلمية البلاغة، يتعالق مع صنويه تعالق الند للند، فقال: “ومرجعها؛ (أي البلاغة) إلى الاحتزاز عن الخطأ في قوانين التركيب وفي طرق دلالتها وفي التحسين، وما يحترز فيه عن الأول علم المعاني، وعن الثاني علم البيان، وعن الثالث علم البديع[9].”

ويتعين الوقوف على اعتباره مرجع الاحتراز من الخطأ في التحسين داخلا في البلاغة وآيلا إليها، وليس خارجا عنها تستغني عنه بعلمي المعاني والبيان.

وقد كان ظرف “البعدية” الوارد في تعريف الخطيب القزويني لعلم البديع هاديا للتهانوي في اعتبار أن “الوجوه المحسنة البديعية لا تحسن بدون البلاغة، وإلا لكان كتعليق الدرر على أعناق الخنازير[10].”

وقد أنفق العلوي اليمني جهدا في تبديه إدماج فنون البديع في خدمة دلالة الخطاب ومراميه النفسية والتأثيرية، بل جعلها خلاصة البلاغة وزبدتها. يقول: “فاعلم أن علم البديع حاصله معرفة مقصود بلاغة الكلام وفصاحته، وهذا لا يحصل بتمامه وكماله إلا بإجراز ما سلف من العلوم الأدبية (علم اللغة، والتصريف، والإعراب، والمعاني، والبيان)، فهو خلاصتها وصفوها ونقاوتها، وهي وصلة إليه[11].”

إن هذا النص يؤكد منطلقات حاسمة، لو أخذت بها البلاغة التقعيدية، لجنبت هذا العلم مختلف الهنات، وذلك أنه يجعل البديع من البلاغة والفصاحة، بل يرتقي به إلى الذروة العليا؛ إذ يجعل علمي المعاني والبيان مجرد وصلة ووسيلة إليه.

ومما يدل على أن البديع مندمج في خدمة الدلالة أن البلاغيين دأبوا على تناول فنون البلاغة تناولا عاما لا يخضع لتقسيم ثلاثي، ولا يلحق فنون البديع بالهوامش التي لا يلتفت إليها إلا بعد إبراز الدلالة التي تقوم بها وتؤديها فنون المعاني والبيان، وإذا كانت أمثلة ذلك كثيرة، فإننا نجتزئ ببعضها؛ لأن فيها غنية وكفاية.

لقد وردت أنواع البديع عندهم إلى جانب أنواع المعاني والبيان، وكانت كلها، عندهم طرقا لتأدية المعنى وتنويع أفانين القول فيه، ولم يكن لهم تصور بأن هذا ذاتي والآخر عرضي، لنستمع إلى الجرجاني وهو بصدد الكشف عن دقة الصناعة الأسلوبية في الخطاب، فقد سلك ضمن الوسائل المنجزة لذلك فنونا تدخل، عادة ضمن البديع، لكنه اعتبرها أساس العملية الإبداعية. يقول: “واعلم أن مما هو أصل في أن يدق النظر ويغمض المسلك في توخي المعاني التي عرفت أن تتحد أجزاء الكلام ويدخل بعضها في بعض،  ويشتد ارتباط ثان منها بأول… وليس مما شأنه أن يجيئ على هذا الوصف حد يحصره، وقانون يحيط به، فإنه يجيئ على وجوه شتى، وأنحاء مختلفة، فمن ذلك أن تزاوج بين معنيين في الشرط والجزاء… ومنه التقسيم، وخصوصا إذا سميت ثم جملت، وتشبيه شيئين بشيئين…[12]“.

فقد جمع في هذا النص إشارة إلى المزاوجة والتقسيم والجمع والتشبيه، ومن المعلوم أن بعضها داخل، عند المدرسيين، في خانة البديع، وبعضها الآخر آيل إلى البيان، ولم يكن لهذه التفرقة ذكر عند الجرجاني.

ووقف الزمخشري عند قوله تعالى: ﴿ذلك الكتاب لا ريب، فيه هدى للمتقين﴾ (البقرة: 1)، ووقع على نكت جليلة لها تعلق بالفصل والوصل، والحذف والرمز والإشارة، والتقديم والتأخير والإيجار، وساقها في مسلك تحليلي مندمج لا يفرق بينها سلطان الذاتية والعرضية، أو هيمنة الثالوث البلاغي؛ لأن منهجه هو “البحث عن وجوه البلاغة عن طريق تنوع الأساليب، سواء كانت بيانا أو معاني أو بديعا، أو قضايا نحوية، تضفي على الأسلوب رونقا وجمالا[13].”

ولو حاولنا تتبع هذه الالتفاتات، لكان الأمر داعيا إلى إعادة النظر في التصنيف الثلاثي للبلاغة؛ إذ نصل، في آخر القسمة، إلى أن مجموعة كثيرة من الفنون البديعية يتنازع ملكيتها علما المعاني والبيان، ولن يبقى في حوزة علم البديع، بالتصنيف التقعيدي عند المتأخرين، إلا النـزر اليسير الذي لا يتجاوز بضعة فنون.

لكن تيار البلاغة كان يجري في اتجاه الاستقلالية والتصنيف الثلاثي، ولم يصغ السمع إلى ما كان يقصده بعض الأعلام من وراء بعض نقودهم وملحوظاتهم وتنبيهاتهم، ولعل بعضها كان أعمق من بعض، ولربما كانت أنوار تلك اللمعات تتضاءل وتختفي في زحمة تقليد اللاحقين للسابقين، والتسابق نحو التكثير والتفريع، ولو أنهم رعوا شرطية الاقتضاء المعنوي للفنون البديعية حق رعايتها، لكان للبلاغة شأن وشأو تسير بذكرهما الركبان.

وسأقتصر على نموذج بديعي واحد لإبراز كيف أن الدراسة المنهجية والإصلاحية تقتضي إدارجه ضمن المقومات الأساسية في البلاغة، وليس مظهرا زخرفيا شكليا، وهو “الجناس”.

فعندما يذكر هذا المفهوم، يميل الرأي إلى أنه مظهر فني شكلي يرتبط بتأليف معين للحروف داخل بعض الألفاظ من أجل إحداث تشاكل صوتي تطرب له الأذن، لكن المنهجية البيانية تنظر إليه على ضوء إسهامه في إضاءة معنى الآية، أو إثارة انتباه المتلقي وجعله على استعداد تام لتلقي الكلام. يقول الجرجاني: “وعلى الجملة، فإنك لا تجد تجنيسا مقبولا، ولا سجعا حسنا، حتى يكون المعنى هو الذي طلبه واستدعاه، وساق المتكلم نحوه، وحتى تجده لا تبغي به بدلا، ولا تجد عنه حولا[14].”

ولو لم يكن الوضع على هذه الحال، لكان الجناس كله حسنا، ومادام البلاغيون قسموه إلى مطبوع ومصنوع، وعفوي ومتكلف، دل ذلك، بمالا يقبل مجالا للاعتراض، على اقتضاء المعنى للجناس.

ومن فوائد التجنيس، مما له علاقة بالمتلقي وتقبله للمعنى في يسر، أنه يحصل به “حسن الكلام في السمع، وسهولته في اللفظ، وتقبل المعنى له في النفس لما يرد عليها من حسن الصورة وطريق الدلالة[15].”

وقد نقل السيوطي عن “كنـز البراعة” وعي القوم بأن اللفظ “المشترك إذا حمل على معنى، ثم جاء والمراد به آخر، كان للنفس تشوف إليه[16]“، مما يدل على أن إدراج الجناس في بنية الأسلوب القرآني يراد منه أن يظل وعي المتلقي متيقظا، ومتفاعلا مع آيات الخطاب، يصرف بها وجدانه وذهنه إلى الجهة المقصودة، والهدف المنشود.

ومن شواهد الجناس عند البلاغيين، قوله تعالى: ﴿فقال أحطت بما لم تحط به، وجئتك من سبإ بنبإ يقين﴾ (النمل: 22)، فقد عدته البلاغة التقعيدية من نوع الجناس المزدوج، يتضح ذلك من كلام للخطيب ورد فيه: “وإذا ولي أحد المتجانسين الآخر سمي مزدوجا ومكررا ومرددا، كقوله تعالى: ﴿وجئتك من سبإ بنبإ يقين﴾[17]، لكنها لم تقف عند سر ذكره “نبأ” بجوار “سبأ” باستثناء الإشارة إلى هذا المستوى الإيقاعي النظمي الذي  يستحضر معه “جناس الخط[18]“، لما فيهما من التشابه الخطي الواضح. وذهب بعضهم إلى أنه لم ير من فائدة التجنيس، وقد خطر بباله “أنها الميل إلى الإصغاء إليه[19].”

ولعل التأمل يهدي إلى أن لفظة “نبأ” تحضر في هذا السياق لتؤدي معنى مخصوصا، ولذلك لا يمكن أن  تبدل لفظ “خبر” بها، مثلا، وذلك للفروق المقوماتية لكل من الخبر والنبأ، فإذا كان الخبر هو “العلم بالأشياء المعلومة من جهة الخبر[20]“، فإن النبأ هو “خير ذو فائدة عظيمة يحصل بها علم أو غلبة ظن”، و”حق الخبر الذي يقال فيه نبأ أن يتعرى عنه الكذب[21].”

فإدخال كلمة “نبأ” في سياق الآية موح بهذا التميز، وقد انضاف إليها وصف “اليقين”، بالمصدر للمبالغة في أن ما جاء به حق وصدق لا يقبل الشك[22]، وهي معان لا يقوم بها لفظ “خبر”.

ويضاف إلى ذلك أن الجو العام لقصة سليمان مع الهدهد والجن وبلقيس هو جو ترقب ومتابعة سياسية لأوضاع الدولة المجاورة لملك سليمان، فكان الأنسب أن المبتعث لاستطلاع الأحوال لا يمكنه أن يأتي محملا بأثقال من الأخبار القابلة للصدق والكذب، أو بتقارير لم تستوف شروط دقتها وفعاليتها الإعلامية، سيما وأن البعثة الاستطلاعية حاسمة، وقد “جمع هذا القول الذي إيتي إلى سليمان أصول الجغرافية السياسية من صفة المكان والأديان وصيغة الدولة وثروتها، ووقع الاهتمام بأخبار مملكة سبأ؛ لأن ذلك أهم لملك سليمان؛ إذ كانت مجاورة لمملكة يفصل بينهما البحر الأحمر، فأمور هذه المملكة أجدى بعمله[23]“، مما يفرض على كل خبر آت من هناك أن يتصف بالنبأ اليقين “ولذلك فقد أحصى الراغب الأصبهاني  مجموع الآيات التي ورد فيها ذكر “النبأ”، ولاحظ كيف أنها جاءت مستندة إلى الخبر الحق مثل القيامة والقرآن[24]“، فناسب ذكر النبأ بجوار سبأ، ولقد جاء هاهنا زائدا على الصحة، “فحسن وبدع لفظا ومعنى، ألا ترى أنه لو وضع مكان نبأ “بخبر”، لكان المعنى صحيحا، وهو كما جاء أصح لما في النبأ من الزيادة التي يطابقها وصف الحال[25].”

لكن قوما من البلاغيين فاتتهم الظواهر الصوتية والخطية التي هي قشور بإزاء اللب المذكور، كما يقول الزمخشري في رده عليهم في عصره.

إن الفنون البديعية فاقدة لأصل وجودها ومصوغ تداولها إن هي انفصلت عما يقتضيه معنى النص، وتدعو إليه دلالة الخطاب، فما من فن إلا ويرد من أجل الإسهام في التأثير على المتلقي إسهاما يجعل المعنى يلج إلى فؤاده وعقله ولوجا عفويا وقويا.

والمرجو، بعد الوقوف على نموذج واحد من نماذج الفنون التي اعتبر بديعية شكلية وزخرفية، أن يأخذ الدرس البلاغي بمنهجية وحدة البلاغة، فمتى أطلق مصطلح “البديع”، فالمراد به “البلاغة”، والعكس صحيح، وليتم إلغاء الإحالة الضيقة إلى القسم الثالث من أقسام البلاغة، فلم يقم التقسيم على أصل علمي، ولم يتفق على أنواع كل صنف، والخلاف منتج للخلاف، وموقع فيما ليس تحته عمل، وفيما لا غناء فيه لتحليل الخطاب القرآني، وتذوق بيانه المعجز.

وقد تبين، بعد نظر، أن النظرة الصبغية لبديع القرآن كان وراءها أسباب لعل أهمها:

أ. دور تعريف علم البديع نفسه في إذكاء نـزعة الشكلية والزخرف.

ب. تقسيمهم الكلام إلى لفظ ومعنى، وإلى محسنات لفظية وأخرى معنوية.

ج. تسرب فكرة “الجوهر” و”العرض” من الفلسفة إلى البلاغة.

ـ فالمتأمل في علم البديع يدرك أن ما عرفه هذا العلم من ولع بالتقعيد والشكلية والنـزعة الزخرفية، إنما مرده بالأساس إلى تعريف علم البديع نفسه، ذلك التعريف الذي كاد أن ينعقد حوله الإجماع عند المتأخرين، واستعمالنا لكاد فيه تحرز شديد؛ لأن ذلك التعريف يتوجه إليه النقد من داخل منطق الشراح والملخصين لكتاب المفتاح للسكاكي.

فمنذ إطلاق ابن المعتز لفظ “المحاسن” على البديع[26]، وتبعا لمقصدية البديع عند السكاكي، وهي “تحسين الكلام[27]“، واسترسالا مع ما بين هذين البلاغيين، وما خلفهما من آراء وتعريفات، غلب إطلاق مصطلح “البديع” على جانب الحلية اللفظية والزينة الكلامية، إلى درجة أن المتأخرين سلموا بهذه الصفة، وأخذوا يفسرون بموجبها مختلف الظواهر العارضة لهم أثناء تحليل الظواهر والأساليب.

ويكفي أن نتذكر، هنا، تلعيل ابن خلدون لأسباب اهتمام المغاربة بفن البديع، فبعدما عرف البديع، وهو تعريف مساوق للتحديد المدرسي، لاحظ أن أهل المشرق أوفر حظا من الاشتغال بعلم البيان، نظرا لتوفر العمران، أما أهل المغرب، فقد مالوا إلى علم البديع، وجعلوه من جملة علوم الأدب الشعرية، وقاموا بتقسيم أجناسه وتفريع أنواعه، ثم علل سر اهتمام المغاربة بهذا العلم بولعهم بتزيين الألفاظ، وأن علم البديع سهل المآخذ، و”صعبت عليهم مآخذ البلاغة والبيان لدقة أنظارهما وغموض معانيها فتجافوا عنها[28].

بل وجدنا، في العصر الحديث، من يسلم بالنـزعة الشكلية للبديع، وكأن الأمر أضحى عقيدة لا تحتاج إلي إعادة نظر في الأصول والخلفيات الفكرية والنفسية التي أدت إلى ذلك الاعتبار، ومكنت لجريان تلك النظرة. فها هو د. تمام حسان، وهو بصدد بحثه المعرفي في أصول اللغة العربية وبلاغتها، واقتراحه للعديد من الوسائل الكفيلة بجعل التراث البلاغي ذا كفاءة عالية في الدراسة والتحليل، نجده يعمق من حدة النظرة الصبغية في قراءة علم البديع، وذلك في قوله: “ويبقى علم البديع، بمجاله المختلف تماما عن المجالين السابقين، فإذا عني علم المعاني ببناء الصرح، وعني البيان بتقديم اللبنات ومواد البناء، فإن علم البديع يعنى بطلاء المعنى وزخرفه..[29].”

إن مثل هذه التصورات تجعل أمر البديع هامشيا، حتى ليظن أن البيان الرفيع قد يقوم بدونه، وبذلك اعتبرنا تعريف القوم لعلم البديع أحد أسباب نشوء النظرة الصبغية له، بل لعله يكون السبب الأعظم.

ـ أما ابالنسبة للسبب الثاني، فالواقع أنه من الصعوبة بمكان وضع اليد على المهاد الأول لمقولة اللفظ والمعنى، كما أن البحث في تلك الإشكالية يعد، بمفرده، مجالا مترامي الأطراف، ولكن المؤكد أن بديع القرآن احتضن ثنائية اللفظ والمعنى منذ أن صيغ السؤال حول مكمن الإعجاز: أفي لفظه أم في معناه؟ أم فيهما معا؟

وليس من أهداف هذه الدراسة أن تنحرف جهة تفصيل القول في هذه القضايا التي هي ألصق بكتب تاريخ الإعجاز وأعلامه، وإنما نختصر القول اختصارا، فنؤكد أنه قد ورد لبعض أعلام المعتزلة والأشاعرة نصوص في الموضوع، يميل بعضها جهة الاحتفال باللفظ، ويعلي الآخر من شأن المعنى..

والذي يظهر أن المعتزلة اهتموا، إجمالا، بأمر الألفاظ، في حين مال الأشاعرة إلى الرفع من قيمة المعاني، يقول القاضي عبد الجبار المعتزلي: إن المعاني لا يقع فيها التزايد، فإذن يجب أن يكون الذي يعتبر التزايد عنده هو الألفاظ التي يعبر بها عنها[30].”

وخلص أحد الباحثين في المنحى الاعتزالي في إعجاز القرآن إلى أن هذا النص يقرر نظرية النظم الاعتزالية، فهو يجعل التفاضل حاصلا في نظم الألفاظ، بينما تكون المعاني متساوية بين مختلف الناس، وهو روح الكلام المأثور عن الجاحظ من “أن المعاني مطروحة في الطريق، وأن الشأن إنما هو في إقامة الوزن وتخير اللفظ وفي الصياغة والنظم[31].” وهذا ما يفسر، في بعض جوانبه، سر اهتمام الجاحظ المتنامي “بجزالة الألفاظ وفخامتها ورقتها وعذوبتها وخفقتها وسهولتها… بل إنه قد عرض للحروف التي هي جوهر الألفاظ[32].”

بهذا يتضح أن المعتزلة أسهموا في الجدل القائم حول ثنائية اللفظ والمعنى، وذلك بتبديههم للقسمة بينهما أولا، وبالميل جهة إعطاء الميزة والأسبقية للفظ على المعنى.

وردا على هذا المذهب، أعلى الأشاعرة من قيمة المعاني، مسترشدين في ذلك، بمقولة الكلام النفسي مقابل الكلام المركب من الحروف، ووضعوا لهما مقابلا في لغتهم الواصفة للخطاب على الشكل الآتي:

الكلام النفسي                        ــــــــــ المعاني النفسية

الكلام المركب من الحروف        ــــــــــ النظم

وشرطوا نجاح النظم، نظم الألفاظ، بانتظام المعاني في النفس، ومن ثم، جعلوا المزية في الأصل دون الفرع.

وقد أتفق الإمام عبدالقاهر الجرجاني جهدا كبيرا في التدليل على أفضلية المعاني على الألفاظ، وأن الثانية تبع للأولى وخدم لها[33].

وبين أن العلم بمواقع المعاني في النفس أولا، ثم يليه العلم بمواقع الألفاظ الدالة عليها في النطق ثانيا، بل إن العلم بالأول يسوق، عفويا، إلى العلم بالثاني[34].

هكذا يتبين أثر الكلام والفلسفة والجدل بين المعتزلة والأشاعرة في تقسيم  البلاغة القرآنية إلى لفظ ومعنى، والتحيز إلى هذا المعسكر أو ذاك، مع أن المنهج يقتضي استحالة ذلك، باعتبار أن الخطاب القرآني هو لفظ ومعنى في آن واحد.

وهذا يسوق إلى استغراب متواصل، وهو أنه، بالرغم من الأصول الفكرية والكلامية لثنائية اللفظ والمعنى، فقد أخذ بها مختلف المفسرين والبلاغيين لاحقا، وتتوسى الأصل الكلامي العقائدي، وأصبح حديثهم عن الألفاظ والمعاني بديهيا، ورتبوا على ذلك تقسيم المحسنات إلى لفظية ومعنوية، وحكموا ذلك أصلا في مصنفاتهم بالرغم من نتائجه السلبية، مع أن أصل التقسيم كلامي فلسفي مشحون بالرؤى الاعتزالية أو الأشعرية.

إن الهدف من سوق هذا الكلام الاستدلال على أن ثنائية اللفظ والمعنى إنما هو إشكال تاريخي كلامي، ولا تعلق له بالمنهج التحليلي الراشد في دراسة الخطاب القرآني، وإن أي تمسك به اليوم، إنما هو تمسك بذيول كلامية تاريخية لن تقدم البلاغة عامة، ولن تفيد البلاغة القرآنية خاصة.

ـ ولا يبعد أن تكون لفكرة الأصل والفرع، أو الجوهر والعرض التي انتشرت عند المتكلمين والفلاسفة أثر في تقسيم البلاغة إلى أصول وفروع، أو ضروريات وكماليات، ذلك أن تلك الفكرة تفصل بين نوعين من الأمور، وتمنح النوع الأول صفات الأصالة والقوة والبقاء، وبينما تكون صفات العرض والزوال من نصيب النوع الثاني.

ومن آثار هذا الصدى الفلسفي الكلامي أن جعل “البلاغيون للكلام حسنيين حسنا ذاتيا وحسنا عرضيا، وأن الأول ما لا توجد البلاغة بدونه، وأن الثاني ما جاء بعد تحقق الأول، وكان زائدا في الكلام بحيث لا يضيره ألا يكون فيه[35].”

وقد أخذ الشراح بمنطق ثنائية الجوهر والعرض، وقسموا الحسن البلاغي، استنادا إليه، إلى أصل وفرع، وذاتي وعرضي، فتحدث ابن يعقوب المغربي والدسوقي، مثلا عن الحسن الذاتي والعرضي، وعن الحسن بالأصل أو بالتبعية[36]“، وغير ذلك من التقسيمات التي ما زلنا نجد صداها القوي وأثرها السلبي فيما يؤلف ويدرس للطلبة في الثانويات والجامعات.

ولامخرج من هذا الوضع إلا من خلال إحكام الآتي: “البلاغة كيان واحد، والتقسيم الثلاثي للبلاغة القرآنية وتداعياته المختلفة تقسيم حادث لا أساس له”.

المشكلة الثانية: تفريخ فنون وظواهر بلاغية لاحقيقة لها ولا تليق بخطاب القرآن الكريم

 إلى درجة أن صار حقل بلاغة القرآن مرتعا للعديد من المفاهيم والمصطلحات والفنون، منها ما هو مستجلب من المنطق وعلم الكلام وعلم النقد والشعر وعلم التفسير، ولا علاقة لها ببيان القرآن في جانبه الفني الأسلوبي.

وقد أحصيت حوالي 24 فنّا بلاغيا وبديعيا، استجلبت من علوم أخرى، وأقحمت في حقل بلاغة القرآن الكريم، منها ما أخذ من علم الجدل والكلام، مثل القول بالموجب، والهدم، والمذهب الكلامي، والتعليل والإلجاء. ومنها ما استجلب من علم التفسير، مثل الاقتناص والمدرج والمواربة والتوجيه والاستخدام والاعتذار وعتاب المرء نفسه والمحتمل الضدين والنوادر والعنوان والإسجال. ومنها ما أقحم من علم الشعر والنقد من مثل الموازنة وحسن الاتباع والسلخ والمسخ وسلامة الاختراع من الاتباع  والتهذيب والمخالفة.

ونذكر بأنه ليس عيبا أن تتم استعارة مصطلحات ومفاهيم من حقول معرفية متباعدة، ولكن العيب في أن تستعار دون أن تحقق كفايتها المنهجية، ودون أن تسهم في تطوير قضايا العلم الذي نقلت إليه.

أما إذا كانت تلك المصطلحات والمفاهيم عناصر مشوشة على صفاء العلم، وسلامة النظر، فإن العيب، حينها، يكون مضاعفا ولا منجى منه ولا ملجأ إلا إلى النقد المنهجي والإصلاحي.

كما وقفنا على مجموعة من المفاهيم والفنون والمصطلحات المقحمة في حقل بلاغة القرآن ضعيفة في اصطلاحيتها ودلالتهها.

والمقصود بضعف الاصطلاحية أن “المصطلح” المقترح من قبل المفسر أو البلاغي لتأطير ظاهرة بلاغية في القرآن لم يبلغ درجة القوة والإحكام، إما لعدم دقته ووضوحه، وإما لعدم تسمية مفهومه تسمية دالة، وإما لأنه لا يجنح بالمفهوم نحو التخصيص المخلص له من التعمييم والإجمال.

ومن المفردات التي يختل فيها أحد المعاير السالفة أو معظمها، مما يجعلها موسومة بالضعف، كثيرة، أذكر منها: العنوان، والمذهب الكلامي، أو إلجام الخصم بالحجة، وتجاهل العارف، والتمزيج، والاقتدار، والغزل والتشبيت، والإفراط في الصفة. وسنقتصر على واحد منها لبيان  ضعف اصطلاحية تلك الفنون، وبالتالي، إخراجها من حقل بلاغة القرآن الكريم، وعدم إشغال ذهن الطلبة بها، وهذا المثال هو: تجاهل العارف.

فقد اعتبره ابن المعتز من محاسن الكلام، ولم يذكر له شاهدا من القرآن[37]، وذكر السكاكي مفهومه، ورفض إطلاق مصطلح “تجاهل العارف” عليه، واستبدل به مصطلح “سوق المعلوم مساق غيره”، وقال: “ولا أحب تسميته بالتجاهل[38]، ومثل له بقوله تعالى: ﴿وإنا أو إياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين﴾ (سبإ: 24).

كما أن الزركشي أهمل صياغته الاصطلاحية. وأقام مقامها صياغة طويلة وهي: “إخراج الكلام مخرج الشك في اللفظ دون الحقيقية لضرب من المسامحة وحسم العناد” وذكر له الشاهد القرآني السابق، ووجه المفارقة فيه أن الرسول، صلى الله عليه وسلم، يعلم أنه على الهدى وأنهم على الضلال، لكنه أخرج الكلام مخرج الشك تغاضيا ومسامحة، ولا شك عنده ولا ارتياب[39].”

إن ما يحيل إليه مصطلح تجاهل العارف من مفهوم موجود في الخطاب القرآني، وليس بمستطاع أحد أن يرده، لكن الكلام، هنا، يتعلق بالصيغة الاصطلاحية؛ لأن عرضها على الشروط المقررة يكشف عن ضعفها وعدم صلاحيتها.

وكان بإمكان من عاصر السكاكي، أو جاء بعده أن ينقب عن سر رفضه له، واقتراح بديل مصطلحي له، لكن ذلك لم يحصل باستثناء إشارة عابرة أوردها د. عبد المنعم خفاجي للدكتور أحمد موسى في ختام كتاب “الايضاح للقزويني” جاء فيها: “وليس للسكاكي فيها من جديد سوى إطلاق اسم “سوق المعلوم مساق غيره” على ما كان يعرف عند المتقدمين باسم “تجاهل العارف” وكأنه لم يحب أن يطلق عليه اسم تجاهل العارف لوروده في القرآن الكريم[40]“، ويتضح من صيغة “كأن” تردد الباحث في اعتبار ما ذكر علة لاقتراح السكاكي مصطلحا بديلا.

وقد آن الأوان لإثارة السؤال الآتي: لماذا رفض صاحب “المفتاح” مصطلح “تجاهل العارف”؟

إن للمشتغلين بتحليل أساليب القرآن وبيان إعجازه أن يقولوا كلمتهم هنا، وإذا كان جل الباحثين متفقين على أن الموضوع يحدد منهجه، فإن الاصطلاح جزء من المنهج، وإن الاشتغال بخطاب القرآن يفرض علينا اختيار منهج يستجيب لمقتضيات تنـزيه الكلام والمتكلم به.

ولعل من مقتضيات هذا التنـزيه ألا تطلق مصطلحات لها حمولات بشرية واعتبارات عرفية لدى المتخاطبين، ومن تم يترجح الميل إلى ترك مصطلح “تجاهل العارف”، ففي التجاهل بعد بشري؛ إذ يعود أصله إلى تجاهل بمعنى أظهر الجهل، وأرى من نفسه الجهل وليس به[41]، وليس ذلك من صفات الله في شيء؛ فالله منـزه عن أن يكون له ما يكون للناس من تحايل وتظاهر وادعاء “تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا”.

وأما “العارف”، القطب الثاني في الصيغة الاصطلاحية، فإنه صفة إنسانية؛ لأنها “مسبوقة بجهل، بخلاف العلم، ولذلك يسمى الحق تعالى بالعالم دون العارف[42]“؛ أي إن صفة العارف محرمة في حق الله تعالى، ما دامت ترد قرينة الجهل السابق عليها، ولا يتصور جهل سابق في حق الله، لذلك وجب أن يوصف بالعالم كما تشهد بذلك العديد من الآيات.

ولهذه الاعتبارات كلها، يصبح إزاحة مصطلح “تجاهل العارف” من حقل بديع القرآن ضربة لازب.

ولله در الشيخ علي الجرجاني، فقد استوعب كلام السكاكي استيعاب البلاغي المسلم، وأدرك سر نفوره وتنفيره من مصطلح “تجاهل العارف” وعلل ذلك بقوله: “وذلك لكثرة مجيئه في الكلام المجيد الموجبُ إطلاق التجاهل عليه للعذاب الشديد[43].”

ومن الظواهر السلبية في علم بلاغة القرآن، وجود مفاهيم وفنون متعسفة لا تقيم وزنا لمقام القرآن الكريم، وتتنافى مع خلق تنـزيه كتاب الله تعالى عن الأوصاف القادحة.

وأما المصطلحات التي يظهر فيها داء التعسف في المفهوم، فهي: الطاعة والعصيان، والهزل الذي يراد به الجد، والمزلزل، والاطراد ولزوم ما لا يلزم، وما يقرأ من الجهتين، والنـزاهة، والتفقير، والمخالفة.

وسنقتصر على مفهوم واحد منها، وهو “الطاعة والعصيان”، لإبراز أبعاد التعسف وخطورته على مناهج تدريس البلاغة عامة وبلاغة القرآن خاصة، مما ينهض دليلا قويا على وجوب إصلاح  هذا العلم.

فقد نسب ابن الإصبع صياغة هذا المصطلح إلى أبي العلا المعري في كتاب “معجزة أحمد”، وذكر سبب تسميته له، وذلك أنه وقف عند بيت المتنبي:

يردُّ يداً عن ثوبها وهو قادر             ويعصي الهوى في طيفها وهو راقدُ

ولاحظ كيف أن الشاعر أراد استعمال الطباق في بيته، لكن الوزن لم يطعه، فأتى بقادر بدل مستيقظ لتضمنه معناه، وفي الوقت الذي عصاه الطباق أطاعه الجناس؛ لأن بين “قادر” و”راقد” جناس العكس[44].

وبدل أن ينقد ابن أبي الإصبع صنيع النقاد مع الشعر القائم على محاكمة النوايا ومعرفة بواطن النفس التي تقع خارج الشعر باعتباره خطابا متحققا في لغة لاتحتمل أن تحدثنا عما كان ينويه الشاعر قبل صياغة كلامه، وبدل أن ينتقد، بناء على ذلك، صياغة أبى العلاء لمصطلح “الطاعة والعصيان”، فإنه اكتفى بأن عارض رأي المعري في جعل بيت المتنبي شاهدا على ذلك الفن، ونفى أن يكون فيه شيء منه، لكنه أبقى على المصطلح معللا موقفه بأنه مصطلح رشيق[45].

ولأنه مصطلح رشيق، فلا بأس أن يبحث له ابن أبي الإصبع عن شواهد من القرآن، مثل قوله تعالى: ﴿أيود أحدكم أن تكون له جنة من نخيل وأعناب تجري من تحتها الاأنهار له فيها من كل الثمرات﴾ (البقرة: 265).

والشاهد فيها قوله تعالى: ﴿من نخيل وأعناب﴾؛ لأن “المتكلم البليغ يقصد المساواة في كل ما يتكلم به، فإذا عصته المساواة، إما لضرورة أو لاعتراض ما هو أهم منها لبلاغة أو سلامة النظم من الدخل، أتى بذلك في لفظ يعطي المعنى كَمَالاً بعد تمامه، فإن قوله تعالى: ﴿من نخيل وأعناب تجري من تحتها الأنهار﴾ تكميل؛ أي بعد تمام المعنى المراد.”

ومفهوم هذا الكلام أن الخطاب القرآني ينحو نحو المساواة التي هي تماثل اللفظ والمعنى في أداء الدلالة بحيث لا يفوق أحدهما الآخر، لكن يحصل لهذا القرآن أن تضظره أحوال، كأن تلجئه ضرورات التركيب، أو كأن يعرض له أثناء الصياغة ما هو أهم من المساواة، أو أن ينتبه، في خضم عملية صوغ الكلام، إلى أن سلامة النظم قد لا تحقق حين الركون إلى أسلوب المساواة والاقتصاد اللفظي، إلى العدول جهة تتميم الكلام وتكميله بما هو من صلب البلاغة وكمالها.

ولو أن ابن الإصبع خرج من لغة الإبهام إلى التصريح، ونسب هذه الأقوال والأوضاع إلى الشعراء لما كان لنا عليه أي اعتراض، أما أن يسوق كلامه في معرض الاستشهاد بقوله تعالى، فإن ذلك يدعونا إلى إنكار مذهبه في التحليل؛ لأنه لا يتصور من الكلام عصيان في حق الله الذي يقول للشيء كن فيكون، الله العالم “بمراده من كل كلمة، وما يليق بها، وما ينبغي أن يلائمها من الكلام، وما يناسبها في المعنى، لا يختفي عنه ما دق من ذلك وما جل، ولا مصرف كل كلمة ولا مآلها… لأنه أحاط بكل شيء علما، وأحصى كل شيء عددا[46].” ولا يعقل، عقديا، أن يتوهم في حقه، سبحانه مفاهيم التوقف والاستدراك، والتهذيب، والتصحيح والتنقيح، مما أفاض في ذكره وشرحه علماء الشعر ونقاده.

إن هذه المفاهيم متعسفة حين يقوم البلاغي بنسبتها إلى خطاب القرآن؛ لأنها غير متعلقة الوجود في حقه، ومن تم، فإن مصطلحها الذي هو “الطاعة والعصيان” يحيل إلى مفهوم غير موجود في حقل بديع القرآن، وعدم وجود المفهوم، فضلا عن عدم صحته، دليل على انتقاء المصطلح وانعدامه.

والواقع أن مفهوم “الطاعة والعصيان” لا ينتفي من ساحة بديع القرآن فقط، بل إن التصور العلمي للعملية الإبداعية يقوم دليلا على انتفائه من ساحة الشعر أيضا، آية ذلك أن النقد لا يثير السؤال حول ماذا كان ينوي الشاعر قوله، وإنما يسأل عما قاله فعلا؛ لأنه لا يملك إلا المقول، ولا يبحث إلا فيه، وليس له اختصاص، بل ليست له القدرة، على البحث في النوايا ومكنونات النفس والذهن، ومن ثم لا يتصور، عنده، أن شيئاً ما أطاعه، أو أن شيئاً آخر عصاه..

وبهذا يتبين كيف أن مجموعة كبيرة من المفاهيم والمصطلحات أقحمت في حفل البلاغة القرآنية، دون اعتبارات منهجية، أو مسوغات علمية، فضلا عن كونها مرجوحة الفائدة؛ إذ يغني غيرها عنها.

والقاعدة المحتكم إليها في هذه الرؤية الإصلاحية لعلم بلاغة القرآن الكريم هي:

“درء منازع التكثير والتفريع والتضخم في فنون البلاغة القرآنية بإحكام مبدأ الاقتصار على أصول الفنون الكبرى وكلياتها”.

المشكلة الثالثة: اضطراب العلاقة الدلالية بين المفهوم والمصطلح

وهذه المشكلة تمثل ضعفا منهجيا في التراث البلاغي العام، والتراث البلاغي الخاص بالخطاب القرآني، فمن البديهي، في علم الاصطلاح، أن يكون لكل مفهوم مصطلح منضبط يدل عليه ويعينه في معترك المخاطبات والإشارات؛ إذ “المعنى الاصطلاحي يتصف بصفة الخصوصية، ويجب، من تم، أن يكون واضحا دقيقا، ودالا على معنى واحد غير متعدد[47]“، بخلاف الكلمات التي يستوعبها المعجم اللغوي، فهي تمتاز بالتعدد الدلالي حسب تنوع المساقات التي ترد فيها.

إن المصطلحيين مجمعون على أن المصطلح “لابد أن يكون بدلالة واضحة وواحدة في داخل التخصص الواحد[48]“، ومن واجبه أن يكون محدد الدلالة، بحيث يقتضي معناه بمجرد ذكره مفردا، ومفصولا عن سياقه، بخلاف كلمات المعجم[49].

لكن علم بلاغة القرآن الكريم لم يحترم هذه الشروط، ولم يقو على أن يحافظ لكل مفهوم بمصطلحه بغية تجنب الخلل والتداخل والالتباس، ووجدنا، على عكس ذلك، مظاهر من الاضطراب أضعفت من عطائه، وانتقلت به إلى صورة غير محمودة، ويكفي أن نعلم أن بعض المفاهيم أصبحت لها مصطلحات كثيرة، كما أن بعض المصطلحات أضحت تشير إلى مفهومات مختلفة.

ومن المعلوم، بداهة، أن اختلاط الأسماء والمسميات داء يسوق، حتما، إلى فساد في الدراسة والتحليل والاستنتاج، بل إنه يفسد العملية التواصلية برمتها، يقول ابن حزم، وهو بصدد نقد مظاهر الاختلاف في مصطلحات العلوم، وعلوم العقيدة خاصة: “والأصل في كل بلاد وعماء، وتخليط وفساد، اختلاط الأسماء، ووقوع اسم واحد على معاني كثيرة، فيخبر المخبر بذلك الاسم، وهو يريد أحد المعاني تحته، فيحمله السامع على غير ذلك المعنى الذي أراد المخبر، فيقع البلاء، والإشكال[50].”

ويجوز تعدية هذا الحكم إلى حقل بلاغة القرآن، دون تأول أو تمحل، بيان ذلك أنه في القرن السابع للهجرة الذي عرف نشاطا كبيرا في مجال التأليف في بديع القرآن، تم التنبيه إلى هذه الظواهر السلبية، وكان بعض العلماء مدركا لأزمة الخلل والاختلاط، ساعيا إلى تجنبها، ويمكن الاستشهاد، هنا، بنص لابن أبي الإصبع له دلالة كبرى في هذا المقام، يقول، وهو بصدد سرد مصادره ومراجعه المعتمدة في دراسته، مما يدل على وعي منهجي عند القوم بين يدي تدريسهم للعلوم “… وبديع شرف الدين التفاشي، وقد جمع فيه ما لم يجمع غيره لولا مواضع نقلها كما وجدها، ولم ينعم النظر فيها، فانتقد عليه فيها ما انتقد على غيره، وبعض الأبواب التي تداخلت عليه، وبديع ابن منقذ على ما فيه من التوارد والتداخل وتسمية أقسام الباب الواحد أبوابا، وضم أنواع المآخذ وأصناف العيوب إلى المحاسن، ومخالفة الشواهد والتراجم إلى فنون من الزلل وضروب من الخلل، ويعرف صحتها من وقف على كتابه، وأنعم النظر فيه، وتدبر جملة معانيه، وإن كان قلما رأيت في هذا الفن كتابا خلا من موضع نقد بحسب منـزلة واضعه من العلم والدراية، فمن قليل ومن كثير، وكل أحد مأخوذ من قوله ومتروك إلا من عصم الله سبحانه من أنبيائه، صلوات الله عليهم وسلامه، وما أبرئ نفسي، ولا أدعي سلامة وضعي، دون أبناء جنسي، غير أني توخيت تحرير ما جمعته جهدي، ودققت النظر حسب طاقتي ووسعي، فتجنبت التداخل وتحرست من التوارد، ونقحت ما يجب تنقيحه…[51]“.

ومع هذه الاحتياطات المنهجية اللازمة لأي اشتغال علمي، فقد أقر الباحثون، بأن ابن أبي الإصبع وقع فيما نبه عليه عند من سبقه، وأشكلت عليه، بدوره، بعض الفنون والشواهد.

والإشكال أن علم بلاغة القرآن وقع في اضطرابين: تمثل الأول في تعدد المصطلحات للمفهوم البلاغي الواحد، وظهر الثاني في تعدد المقاهيم للمصلح الواحد.

ولعله من الصعب تفصيل القول في هذين الاضطرابين، في هذا السياق المحصور في الزمان والمكان، لكن سأقتصر على التمثيل بنموذجين اثنين من كل اضطراب، محكمين في ذلك القاعدة المصطلحية التي تتعامل مع المصطلح باعتباره “تسمية حصرية يجب أن يكون منظما، ويطابق دون غموض، فكرة أو مفهوما[52]“، ومستشعرين ضخامة المسؤولية الملقاة على عاتق الباحثين الذين يقلقهم الاضطراب الجاثم على صدر علم بلاغة القرآن الكريم، والمانع من الاستفادة من أنوار التدبر التذوقي لأسرار الكتاب المبين، وقد لخص الأستاذ أحمد أبوزيد خطورة هذا الاضطراب في قوله: “إن الاضطراب في استخدام المصطلحات، في أي فن أو صناعة، ليس بالأمر الهين الذي يمكن أن يقال عنه إنه لا يضر، فإن لم يكن من ضرر سوى إهدار الجهد في معرفة العديد من المصطلحات المترادفة على قسم أو نوع واحد من أنواع البديع لكفى، فكيف والاشتغال بذلك يحول دون التعمق في أسرار بديع القرآن[53]“، بل كيف الشأن معه عندما يتحول إلى متاريس تعيق فهم الخطاب أصلا؟

نموذج تعدد المفاهيم للمصطلح الواحد

وليكن مصطلح التضمين، فقد جعلوا له أربعة مفاهيم مختلفة، هي:

ـ المفهوم الأول: أشار إليه الرماني في معرض حديثه عن التضمين وأنواعه، فقال: “تضمين الكلام هو حصول معنى فيه من غير ذكر له باسم أوصفة هي عبارة عنه[54]“، فكلمة “معلوم” تتضمن معنى “عالم”.

والتضمين، بهذه الدلالة، يرتبط ارتباطا وثيقا بالإيجاز، وهو ما يفسر قول الباقلاني “والتضمين كله إيجاز[55]“؛ إذ كل إيجاز هو تضمين لمعاني ودلالات غير مذكورة بلفظها، ولكنها مستدعاة بموجب علاقات اللزوم والاقتضاء التي تتيحها الألفاظ المشكلة لبنية الإيجاز.

ومن نماذجه عند الرماني قوله تعالى: ﴿بسم الله الرحمن الرحيم﴾، فقد تضمن معنى استفتاح الأمور بالتبرك بالله والتعظيم له بذكره، فضلا عن معاني الإقرار بالعبودية له، والاعتراف بنعمه[56].

ـ المفهوم الثاني: وهو موجود عند ابن أبي الإصبع، ويختص بأن “يضمن المتكلم كلامه لفظة من بيت أو جملة مفيدة منه، أو جزءاً عروضيا، أو مازاد على ذلك، بشرط ألا يبلغ المقدار المضمن نصف بيت يشير إلى ذلك البيت أو إلى القصيدة التي البيت منها”.

وأخذ الطيبي هذا المعنى، وفرع منه أنواعا وأضربا، محكما فيها نـزعة مقياسية تتصل بتضمين البيت تماما أو مصراعا منه أو بعضا من مصراعه[57].

وقد أقر ابن أبي الإصبع بأنه لم يعثر على شاهد التضمين في القرآن إلا في مناسبتين اثنتين:

  1. قوله تعالى: ﴿وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس…﴾ (المائدة: 47)، فهذا الحكم تضمنه القرآن من التوراة.
  2. قوله تعالى: ﴿محمد رسول الله، والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم﴾ (الفتح: 29)؛ إذ أن القرآن أخذ معناها من التوراة والإنجيل[58].”

ـ المفهوم الثالث: ذكره ابن الأثير، وفرعه إلى نوعين، نكتفي بنوعه الأول هنا؛ إذ أن قسمه الثاني له تعلق بالمفهوم الرابع. ومعناه، عنده، أن “يضمن الآيات والأخبار النبوية[59]” في الكلام الأدبي، شعرا أو نثرا، جزئيا أو كليا، ومن المقرر عند البلاغيين أن هذا النوع من التضمين يطلق عليه مصطلح “الاقتباس”.

ـ المفهوم الرابع: وهو تضمين الإسناد، شرحه ابن الأثير بأنه الذي يقع في بيتين من الشعر، على أن يكون الأول منهما مسندا إلى الثاني فلا يقوم الأول بنفسه، ولا يتم معناه إلا بالثاني.

ويتصل هذا المفهوم بعلم العروض، وقد فسره أهله بأن “تتعلق قافية البيت الأول بالبيت الثاني[60]“، ومثلوا له بقوله النابغة:

وهم وردوا الجفار على تميم        وهم أصحاب يوم عكاظ إني

شهدت لهم موارد صادقات        شهدن لهم بصدق الود مني

وعده بعضهم عيبا، وأجازه آخرون.

ومن نتائج هذا التداخل المفهومي لمصطلح “التضمين” أن اكتفى المتأخرون بسرد مختلف التعريفات له، دون محاولة نقدها أو التنبيه إلى مكامن الاضطراب فيها، فقد تخلص السيوطي من سلوك النقد بقوله: “التضمين يطلق على أشياء[61]“، وسرد له مفهوماته الأربعه دون إبداء ملاحظة أو اعتراض.

ولا خلاص من هذه الأزمة إلا بنقد كل مفهوم على حدة وفق المعايير المعتبرة، وفي مقدمتها مراعاة خصوصية الخطاب القرآني وتفرده، وإعمال المفهوم اللائق به، وفق منطق المناسبة المقامية، والحائز على شروط الاصطلاح العلمية.

واستنادا إلى جملة هذه المعايير، فإن الإطلاق العروضي للتضمين غير وارد، أصلا، مع خطاب القرآن؛ لأن القرآن، أولا، مباين لنمط الشعر وعناصره الفنية، ولأن مصطلح التضمين، بمعناه العروضي، ثانيا، ليس محل إجماع بين العلماء، وهو مرجوح الفائدة؛ لأنه مكن لمنهج تجزيئ القصيدة إلى أبيات مستقلة، ولم ينظر في بنيتها العضوية العامة.

وأما الإطلاق النقدي لمصطلح “التضمين” ممثلا في فكرة أخذ اللاحق عن السابق، فهو مردود؛ لأن القرآن لم يأخذ من غيره، وليست الأقوال المحكية فيه داخلة في مسمى التضمين وأنواعه.

وأما الإطلاق الاقتباسي، فهو ألحق بعلم النقد والشعر، مادام يبحث في كيفية اجتلاب الأدباء للأساليب والعبارات والمعاني من القرآن الكريم أو حديث الرسول عليه الصلاة والسلام.

نموذج من تعدد المصلحات للمفهوم الواحد، وهو “الالتفات”

فقد اهتم حقل التفسير، منذ مراحله الأولى، بمفهوم الالتفات، ويذكر البلاغيون والدارسون أن استعمال مصطلح “الالتفات” يرتد إلى الأصمعي، واعتبر ابن رشيق تعريف ابن المعتزل له من أحسن العبارات، وهو “انصراف المتكلم عن الإخبار إلى المخاطبة، وعن المخاطبة إلى الإخبار[62].” ومن الشواهد التي ذكرها ابن المعتز، وأعادها غيره، قوله تعالى: ﴿حتى إذا كنتم في الفلك وجريْن بهم بريح﴾ (يونس: 22).

لقد اتضح، إذن، مفهوم الالتفات وشواهده وأسراره، لكن الساحة البلاغية شهدت، إلى جانبه، مصطلحات أخرى تحيل على المفهوم نفسه، وهي كثيرة، مثل “الانصراف”، و”العدول” و”الصرف”، و”خطاب التلون”، ومخالفة مقتضى الظاهرة، و”شجاعة العربية”.

ولا شك أن خلف هذه الوضعية، وضعية تعدد المفاهيم للمصطلح الواحد، وتعدد المصطلحات للمفهوم الواحد، أسبابا، منها ما هو تاريخي، ومنها ما هو لاصق بطبيعة البلاغة وفنونها، وقد هدى البحث إلى أن أسباب اضطراب العلاقة بين المفهوم والمصطلح ترتد أساسا إلى ما يلي:

أ. عدم اطلاع البلاغي الواحد على جهود غيره، بسبب اتساع الرقعة الجغرافية بين العلماء، شرقا وغربا، وندرة التواصل العلمي السريع، مما هو سمة العصر الحديث، وغياب وسائل الاتصال التي تضمن أن تنقل المعارف عبر الأقطار في أوقات سريعة، فيقوم كل واحد بصياغة المصطلحات والألقاب والمفاهيم التي يراها مناسبة.

ب. إن نظرة في التراث الذي خلفه القدماء في مجال بديع القرآن تبرز كيف أن هذا العلم قد توارد عليه كثيرون، ومن شأن الكثرة أن توقع في الاختلاف والإكثار، مما يحدث، لا محالة، اضطرابا في المحصلة النهائية.

ج. قيام فنون البلاغة على الملحوظة الشخصية، وليست لها معايير خارجية ثابتة يحتكم إليها كما في علوم القرآن والحديث مثلا؛ إذ نحن، هنا، إزاء ذات، ذات البلاغي والمفسر، تحاول أن تتلقى الجمال الكامن في خطاب القرآن وأساليبه، والعلاقة الممكنه بين هذين القطبين تجد مجالها الرحب في التذوق والإدراك الوجداني، وهذا قد يؤدي إلى التكرار والتنوع والتعدد والاختلاف.

د. إن المجترح لأسئلة البديع، والناظر في شبكيتها وعلاقاتها، يحس بأن علل هذا الفن دقيقة، وجهاته متداخلة، إلى درجة أن لا بلاغي استطاع أن يخلص من “التباس” تلك العلل والجهات، تجلت من أولى أضرارها في أن الكاتب الواحد لم يسلم من التداخل في تحديد المفهومات وصياغة المصطلحات، وبلغ ببعضهم أنه كان يسمي الفن الوحد باسمين، أو يعطي لمصطلح واحد مفهومين أو أكثر، وانتهى الأمر بآخرين إلى أنهم صاروا يدخلون في أنواع الفن الواحد ما يخرجه آخرون[63].”

ولقد كان ابن أبي الإصبع صادقا في وصفه لهذه الوضعية صدق من يضطر إلى الشروع في مضايق هذا العلم، يقول: “قلما رأيت في هذا الفن كتابا خلا من موضع نقد بحسب منـزلة واضعه من العلم والدراية، فمن قليل ومن ثكير، وكل أحد مأخوذ من قوله ومتروك إلا من عصم الله سبحانه من أنبيائه -صلوات الله عليهم وسلامه- والسعيد من عدت سقطاته، وما أبرئ نفسي، ولا أدعى سلامة وضعي دون أبناء جنسي”.

ﻫ. دون أن ننسى الرغبة النفسية للبلاغيين والمفسرين، ممثلة في تنافسهم وافتتانهم بالسبق إلى ابتكار الفنون وصناعة الألقاب والمصطلحات، يقول د. أحمد أبو زيد: “ثم أخذ التنافس في تكثير فنون البديع يزداد، فألف ابن أبي الإصبع كتابين هما: “تحرير التحبير” و”بديع القرآن”، جمع في الأول مائة وخمسة وعشرين فنا من البديع، ذكر أنه نقل منها عمن سبقه خمسة وسبعين فنا وأضاف إليها ثلاثين فنا جديدا قيل لم يسلم له منها إلا القليل[64].”

ويتفرع عن هذا السبب النفسي سبب آخر، وهو الولع بالغريب، والميل نحو الجديد؛ إذ لما كانت الفنون معروفة ومتداولة، قد توارد عليها الأقدمون، وأشبعوها بحثا وتدقيقا، فالنفس ميالة إلى الطريف غير المطروق، والبديع غير المعهود، والجديد غير الموقوف عليه، وقد كان سهل بن هارون سباقا إلى تحليل هذه النفسية في قوله: “والناس موكولون بتعظيم الغريب، واستطراف البديع، وليس لهم في الوجود الراهن المقيم، وفيم تحت قدرتهم من الرأي والهوى مثل الذي معهم في الغريب القليل والنادر الشاذ[65]“، وسبحان الذي له في خلقه شؤون.

و. ويعود أحد أسباب تلك الظواهر الموقعة لبديع القرآن في هناته الملحوظة إلى قاعدة: “لا مشاحة في الاصطلاح”؛ لأنها، بطبيعتها، تعطي لكل بلاغي مشروعية الإدلاء بما يراه مناسبا من المفاهيم والمصطلحات، وتفتح المجال لحرية الصياغات الاصلاحية.

ولكن هذه الحرية أفضت إلى أن تسربت أوضاع غير منهجية إلى حقل البحث البديعي، مستغلة، في ذلك، السلامة المفهومية لقاعدة “لا مشاحة في الاصطلاح”.

إن هذه القاعدة خلاصة موجزة، أو إعلان بياني عن واقع ثقافي اتخذ صبغة البداهة والصواب، وهي صياغة حققت أبعادا بيداغوجية تتمثل في ألا يقف الاختلاف الاصطلاحي عائقا في وجه مواصلة التواصل العلمي والمعرفي، وألا يتخذ وصلة وذريعة إلى إلغاء الحوار المعرفي أصلا، إلا أن ذلك الإعلان أحدث، دون وعي منه، هنات مست الإشكالية المصطلحية في صميم اشتغالاتها؛ لأن من شأن التسامح في الاصطلاح، بعد معرفة المعنى، وإن جوز العقل قبوله، أن يفتح الباب لنفاذ أوضاع تقلب مقتضيات البنود المعتبرة في شرعة الاصطلاح، وتفقدها مسوغاتها العلمية والمنهجية، وغاياتها التواصلية، لذا، وجب حمل ذلك الإعلان على وجهه المراعي لسياق مختلف بنود الاصطلاح، بمعنى أنه لابد من قراءته على ضوء تلك المعايير، كي تتخذ سياقا له في الفهم والتنـزيل.

لقد كان لتلك القاعدة مسوغاتها التربوية المقبولة؛ لأن من شأن اللامشاحة في الاصطلاح أن تجنب المشتغلين حواجز الفهم وعوائق الإفهام، بحثا عن تواصل متنام، وهذا واضح من خلال المعنى الوارد في كلام ابن سنان، وهو في معرض المساجلة حول المصطلحات المستعملة إزاء مفاهيم التطابق والمقابلة: “فأما التسمية، فلا حاجة بنا إلى المنازعة فيها[66].”

وذلك أن الغرض هو الفهم والإفهام، والوصول والإيصال، وهي أغراض علمية نبيلة لا يجوز للمنازعة أن تحول دون بلوغ إنجازها.

وقد توارد على هذا المعنى العلامة الكبير السجماسي؛ إذ أوضح المسألة بشكل ينمّ عن وعيه بالتداخل العلمي والبيداغوجي في الفكر الإسلامي تداخلا اقتضائيا، ونصح الناظر بأن يصرف اهتمامه جهة معنى الألقاب، ويستفرغ الوسع في تمثل دلالاتها؛ لأنها الأصل، وما الألفاظ والألقاب إلا تبع لها.

إن صياغة تلك القاعدة تختلف من بلاغي لآخر، وهذا يدل، في مستوى معين، على أن جوهر القاعدة سابق على صياغتها، وأن جل البلاغيين متفق على صحتها، وكل واحد منهم يصوغها وفق ألفاظه وتراكيبه.

فقد عبر عنها بـ”ليس ينازع في ذلك[67].” وأطلق عليها عبارة: “الألفاظ غير محظورة[68]“، واتخذت، تارة، صيغة: “أما التسمية فلا حاجة إلى المنازعة فيها[69]“، أو “لا يشاح في التعبير والأسامي[70]“، أو “لا عبرة بالأسامي بعد الاعتراف بالمعاني[71]“، أو “لا مشاحة في التسمية بعد فهم المعنى[72]“، أو “الاصطلاح لا مشاحة فيه[73].”

وبهذا كله، يظهر أن القاعدة عرفت صيغا عديدة، وطبقت على مجال أوسع، لكن من الراجح أننا نحتاج إلى تطبيق قاعدة “سد الذرائع”، عند الأصوليين والفقهاء، فبعد أن تزجحت كفة السلبيات التي غمرت ساحة علم بلاغة القرآن الكريم، بموجب بند “لا مشاحة في الاصطلاح”، فالهروع إلى المشاحة أولى، سدا للارتجال والاضطراب، وتجنبا للخلل والتشويش في التواصل العلمي.

وهذا يستدعي من أهل الاختصاص تأصيل القاعدة الآتية:

“الاحتكام إلى الضوابط الاصطلاحية شرط في إنهاء ظواهر التداخل والاضطراب في العلاقة الدلالية بين مفاهيم فنون بلاغة القرآن ومصطلحاتها”.

المشكلة الرابعة: ظاهرة التكلف الاستنباطي في علم بلاغة القرآن

عرفت مسيرة البحث البلاغي في فنون بلاغة القرآن بعض الهنات في خطة الاستنباط، فكانت تتمحل في استخراج الشاهد القرآني المناسب للفن البديعي، وتفصل فنيته عن سياق الآية، سابقه ولاحقه، وتغفل دوره في إثراء المعنى العام. وتبالغ في استخراج أكبر عدد من الفنون من الشاهد القرآني الواحد، إلى أن تحولت الآية الواحدة إلى فسيفساء من الفنون تتكاثر بتكاثر أحجامها وأشكالها وألوانها.

وفي وصف جامع لهذه الظواهر نقول: إن البحث البلاغي كان يقع في خطأ التكلف الاستنباطي، وهو خطأ لم ينتبه إليه بعض الدارسين المعاصرين، فاعتبروه، على عكس ذلك، مدعاة للمفاخرة بإنجاز البلاغيين القدماء.

ومن نماذج التكلف الاستنباطي عكوف ابن أبي الإصبع على استنباط عدد كبير من الفنون البديعية من خلال تحليله لقوله تعالى: ﴿وقيل يا أرض ابلعي ماءك ويا سماء اقلعي، وغيض الماء وقضي الاَمر استوت على الجودي، وقيل بعدا للقوم الظالمين﴾ (هود: 44).

فقد استنبط منها أزيد من عشرين ضربا من البديع، وأراد من قارئه أن يتعجب لذلك، مع أن ألفاظ الآية لا تتجاوز سبع عشرة لفظة.

ومن المؤسف أن هذا المنهج مهيمن على كتابات المعاصرين في الموضوع، ويكفي الاطلاع على ما أنتجه الأستاذ عبد العظيم المطعني في كتابه “خصائص التعبير القرآني”، لندرك كيف أن المراجع العلمية المعتمدة لدى الطلبة بالجامعات والكليات طافحة بالعديد من الهنات التي تمس جوهر علم بلاغة القرآن.

وللقضاء على هذه الظاهرة القاتلة لبنية الآيات القرآنية ووحدتها، فإن الأمر يستدعي نشر المبدأ الآتي:

“تجزيئ بلاغة الآية إلى أضرب متعددة إنما هو تكلف مرجوح الفائدة”.

خلاصة

إن العديد من المعارف والمناهج التي استوعبتها علوم القرآن والتفسير والبلاغة تمثل أبرز الأحوال الدالة على ارتباطها بأزمنتها وتاريخها وإشكالاتها الفكرية، وهي، بذلك، أدوات اجتهادية للكشف عن معاني القرآن، تخلقت في رحم السياق الفكري والثقافي العام، وهذا يستدعي أهمية، إن لم نقل حتمية، معاودة النظر فيها عند تغير ذلك السياق. يقول الأستاذ قطب مصطفى سانو:  “إنَّ علاقة مناهج العلوم الإسلاميَّة بقاعدة تغير الأحكام بتغير الأزمنة والأوضاع علاقة وثيقة، وتعدُّ من أبرز مظاهر النظر الاجتهاديِّ في مجال المسألة التعليميَّة بصورة عامَّة، ذلك لأنَّ المناهج تعدُّ وسائل اجتهاديَّة تربويَّة تنشأ في رحم الظروف والأوضاع الفكريَّة والاجتماعيَّة والسياسيَّة والاقتصاديَّة، مما يستدعي ضرورة تجديد النظر والتأمل والتمعن فيها عند تغير تلك الظروف والأوضاع الفكريَّة والاجتماعيَّة والسياسيَّة والاقتصاديَّة، وليس من خلاف أنّ سنَّة التطور والتغير تغشى سائر الأحكام الاجتهاديَّة سواء أكانت تلك الأحكام متعلقة بالشأن الاجتماعيِّ، أو الشأن السياسيِّ، أو الشأن التربويِّ والتعليميِّ والاقتصاديِّ[74].”

ـ مقترحات في سبيل الإصلاح

وفي نهاية هذه الورقة المركبة، فإننا نقترح أن تصدر من هذه الندوة الكريمة دعوة صادقة إلى أن تحتضن مؤسسة من مؤسسات الشأن الإسلامي، وطنيا أو عربيا، فكرة تشكيل لجنة علمية يكون من اختصاصها:

  1. أرشفة الإنتاج العلمي الحديث في موضوع علوم القرآن وتفسيره وبلاغته.
  2. رسم خطة عمل لإصلاح وضع علوم القرآن والتفسير والبلاغة.
  3. التأصيل الشرعي لعلم نقد التفسير.
  4. وضع برنامج دراسي لعلوم القرآن والتفسير والبلاغة بمراحله الجامعية المختلفة. يضم:

أ. أهداف دراسة علوم القرآن والتفسير (الرؤية المعرفية والمنهجية للموضوع).

ب. محاور علوم القرآن والتفسير. ويمكن أن تضم تلك المحاور:

ـ شرطية التدبر في فهم الخطاب القرآني.

ـ مقاصد القرآن الكريم في العقائد والشرائع والآداب.

ـ قواعد التفسير والترجيح.

ـ مقولات تفسيرية ودلالتها المنهجية؛ (مثل مقولة: تفسير القرآن بالقرآن، التفسير النبوي، التفسير بالحديث النبوي، حاكمية السنة على القرآن، احتراق مواد علوم القرآن، التفسير لا أصل له…).

ـ حاكمية التفسير الموضوعي في إدراك الدلالة القرآنية، وتوجيه الأقاويل التاريخية في موضوع النسخ والمحكم والمتشابه.

ـ منهج القرآن الكريم في التفسير (تفسير الظواهر والأزمات والعلاقات…).

ـ منهج القرآن الكريم في عرض الكليات الأساسية للشريعة.

ـ علم نقد التفسير.

ـ موقعية المرويات النبوية والصحابية والتابعية في سلمية مصادر التفسير.

ـ نماذج تطبيقية من التفسير المقاصدي للقرآن الكريم.

ـ إدارج مباحث بلاغية في صلب العملية التفسيرية بعيدا عن منهج التجزيئ والتقعيد، (وذلك باعتبار علم البلاغة وصلة وذريعة إلى بيان مقاصد القرآن وليس غاية في حد ذاته).

والله الموفق للفلاح فيما يفوه به اللسان، ويخطه البنان…

الهوامش

  1. أبوحيان، البحر المحيط، ج/1، ص13.
  2. السيوطي، الإتقان في علوم القرآن”، ج1، ص169.
  3.  الكليات الأساسية للشريعة الإسلامية”، إصدارات “روافد”، وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بدولة الكويت، رقم:  24، دجنبر 2009،  ص126.
  4. الزرقاني، مناهل العرفان، ج2، ص218.
  5.  مصطفى صادق الرافعي، إعجاز القرآن والبلاغة النبوية، ص258.
  6.  الشحات أبو ستيت، دراسات منهجية  في علم البديع، ص263.
  7.  ابن السبكي، عروس الأفراح، ضمن شروح التلخيص، ج/4، ص248.
  8.  المرجع نفسه، ج/4، ص283.
  9.  الطيبي، التبيان في علم المعاني والبيان، ص47.
  10.  التهانوي، كشاف اصطلاحات الفنون، ج/1، ص29.
  11.  العلوي الينمي، الطراز، ج/3، ص349.
  12. الجرجاني، دلائل الإعجاز، ص73-75.
  13.  محمد الحجوي، البديع في التراث النقدي والبلاغي، ص159.
  14. الجرجاني، أسرار البلاغة، ص11.
  15.  الرماني، النكت في إعجاز القرآن، ص96.
  16.  معترك الأقران، ج/1، ص303.
  17. الإيضاح، ج/6، ص98.
  18.  الطاهر بن عاشور، التحرير والتنوير، ج/9، ص252.
  19.  ابن السبكي، عروس الأفراح، ج/4، ص412.
  20. الراغب الأصبهاني، مفردات ألفاظ القرآن، ص273.
  21.  المرجع نفسه.
  22.  التحرير والتنوير، ج/9، ص252.
  23.  التحرير والتنوير،ج/9، ص254.
  24.  انظر المفردات، ص789
  25.  الزمخشري، الكشاف، ج/3، ص144.
  26.  ابن المعتز، البديع، ص58.
  27. السكاكي، مفتاح العلوم، ص423.
  28. ابن خلدون، المقدمة، ج/3، ص1276.
  29.  تمام حسان، الأصول، ص390.
  30.  أحمد أبو زيد، المنحى الاعتزالي في البيان..”، ص292.
  31. المرجع نفسه، ص293.
  32.  منير سلطان، إعجاز القرآن بين المعتزلة والشاعرة، ص217.
  33. دلائل الإعجاز، ص43.
  34. المرجع نفسه، ص44.
  35.  أحمد محمد نايل، البلاغة بين عهدين، ص257.
  36.  ابن يعقوب المغربي، مواهب المفتاح في شريح تلخيص المفتاح، ضمن  شروح التلخيص، ج/3، ص285.
  37.  ابن المعتز، البديع، ص62.
  38.  السكاكي، مفتاح العلوم، ص62.
  39.  الزركشي، البرهان في علوم القرآن، ج/3،ص409.
  40. الإيضاح، ج/6، ص193.
  41.  ابن منظور، لسان العرب، مادة: جهل، ج/11، ص129.
  42. الجرجاني، التعريفات، ص283.
  43.  علي الجرجاني، مختار الأخيار في فوائد معيارالنظار، تحقيق: عمو عسو، كلية الآداب، الرباط.
  44.  ابن أبي الإصبع، تحرير التحبير، ص290.
  45. ابن أبي الإصبع، بديع القرآن، ص110.
  46.  المرجع نفسه، ص143.
  47.  إدريس نقوري، المصطلح النقدي في نقد الشعر، ص8.
  48.  فهمي حجازي، الأسس اللغوية لعلم المصطلح، ص12.
  49.  المرجع نفسه، ص12.
  50.  ابن حزم، الإحكام في أصول الأحكام، ج/1، ص101.
  51.  ابن أبي الإصبع، بديع القرآن، ص13.
  52.  فهمي حجازي، الأسس اللغوية لعلم المصطلح، ص12.
  53.  أحمد أبو زيد، بديع القرآن ومصطلحاته، مجلة المناظرة، الرباط، ع6، دجنبر1993.
  54.  الرماني، النكت في إعجاز القرآن، ص104.
  55.  الباقلاني، إعجاز القرآن، ص272.
  56.  الرماني، “النكت…” ص105.
  57.  الطيبي، “التبيان…” ص413.
  58.  ابن أبي الإصبع، بديع القرآن، ص52.
  59.  ابن الأثير، المثل السائر، ج/3، ص200.
  60.  التبريزي، الوافي في العروض والقوافي، ص248.
  61.  السيوطي، معترك الأقران، ج/1، ص270.
  62.  ابن رشيق، العمدة، ج/1، ص640.
  63.  عبد العظيم المطعني، خصائص التعبير القرآني، ج/2، ص411.
  64.  مرجع مذكور.
  65.  الجاحظ، البيان والتبيين، ج/1/ ص90.
  66.  ابن سنان، سر الفصاحة، ص81.
  67. قدامة بن جعفر، نقد الشعر، ص162.
  68.  الآمدي، الموازنة بين الطائيين، ص258.
  69.  ابن سنان، سر الفصاحة، ص81.
  70.  السجلماسي، المنـزع البديع، ص372.
  71.  طاهر حمودة، دراسة المعنى عند الأصوليين، ص237.
  72.  أبو حامد الغزالي، معيار العلم في فن المنطق، ص115.
  73. ابن السبكي، م، س.
  74. مناهج العلوم الإسلامية والتغيرات المعاصرة، ص81 فما بعدها.
Science
الوسوم

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق