مركز ابن أبي الربيع السبتي للدراسات اللغوية والأدبيةقراءة في كتاب

لغة القرآن الكريم وبلاغته من خلال كتاب «إعراب القرآن الكريم وبيانه» لمحيي الدين الدرويش الحلقة السابعة عشرة: روعة البيان القرآني في سورة البقرة من الآية: 216 إلى قوله تعالى (فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَة)

تمهيد:

نتناول في هذه الحلقة رصد بعض وجوه البلاغة في سورة البقرة من قوله تعالى (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ) إلى قوله تعالى (فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ)، ومن ثم بيان ما وراءها من معان ولطائف بلاغية وما تتضمنه من قيم جمالية وفنية.

وتتضمن هذه الآيات ثلاثة من الأحكام التي بينها الله تعالى في هاته السورة؛ أولها: ما يتعلق بالقتال، وثانيها: ما يتعلق بالخمر والميسر وهو مما يرجع إلى إصلاح الأحوال التي كان عليها الناس في الجاهلية، وثالثها ما يتعلق بحكم الإنفاق.

الآية 216: (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ).

– ومناسبة هذه الآية لما قبلها هو أنه: لما ذكر ما مس من تقدمنا من أتباع الرسل من البلايا، وأن دخول الجنة معروف بالصبر على ما يبتلى به المكلف، ثم ذكر الإنفاق على من ذكر، فهو جهاد النفس بالمال، انتقل إلى أعلى منه وهو الجهاد الذي يستقيم به الدين، وفيه الصبر على بذل المال والنفس(1).

– حذف الفاعل: في قوله تعالى: (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ)؛ فقد بُني الفعل للمفعول ولم يسم فاعله وهو الله سبحانه وتعالى صيانة لاسمه أن يذكر في مقام تكرهه النفوس وهو مقام القتال، وإن كان معلوما في النفوس.

– المبالغة: في قوله تعالى: (وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ) وُضع المصدر موضع اسم المفعول؛ «كُرْهٌ» مكان «مَكْرُوه» للمبالغة كقول الخنساء:

فَإِنَّمَا هِيَ إِقْبَالٌ وَإِدْبَارُ … (2)

كأنه في نفسه لفرط كراهتهم له(3). فهو من باب النقض بمنى المنقوض، أو ذو كره إذا أريد به المصدر، فهو على حذف مضاف، أو لمبالغة الناس في كراهة القتال، جعل نفس الكراهة(4).

وإن كان بمعنى الإكراه وحمل على الكره عليه فهو على التشبيه البليغ كأنهم أكرهوا عليه لشدته وعظم مشقته ثم كون القتل مكروهاً لا ينافي الإيمان لأن تلك الكراهية طبيعية لما فيه من القتل والأسر وإفناء البدن وتلف المال وهي لا تنافي الرضا بما كلف به كالمريض الشارب للدواء البشع يكرهه لما فيه من البشاعة ويرضى به من جهة أخرى(5).

– المقابلة: في قوله تعالى: (وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ) بين الجملتين من المحسنات البديعية ما يسمى ب «المقابلة» فقد قابل بين الكراهية والحب، وبين الخير والشر(6)، فقد تكره نفوسكم شيئا وفيه النفع والخير لكم، وقد تكره نفوسكم شيئا وفيه الضرر والخطر عليكم ومن ذلك القعود عن القتال. وسماها ابن أبي الإصبع «صحة المقابلات» وهو عبارة عن توخي المتكلم ترتيب الكلام على ما ينبغي، فإذا أتى في صدره بأشياء يقابلها في عجزه بأضدادها(7)، وقد وضعت هنا الكراهية في مقابل الحب والخير في مقابل الشر.

– الاحتباك: وهو أن يجتمع في الكلام متقابلان، ويحذف من كل واحد منهما مقابله؛ لدلالة الآخر عليه(8)، وقد سماه الزركشي أيضا «الحذف المقابلي»(9)، ويكون في الآية احتباك على اعتبار أن تكون الآية نزلت في شأن صلح الحديبية وقد كانوا كرهوا الصلح واستحبوا القتال، لأنهم يومئذ جيش كثير فيكون تذكيرا لهم بأن الله أعلم بمصالحهم، فقد أوجب عليهم القتال حين كانوا يكرهونه وأوجب عليهم الصلح في وقت أحبوا فيه القتال، فحذف ذلك لقرينة المقام، والمقصود الإفضاء إلى قوله: (وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ) لتطمئن أنفسهم بأن الصلح الذي كرهوه هو خير لهم، كما تقدم في حوار عمر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ومع أبي بكر، ويكون في الآية احتباك، إذ الكلام على القتال، فتقدير السياق كتب عليكم القتال وهو كره لكم ومنعتم منه وهو حب لكم، وعسى أن تكرهوا القتال وهو خير لكم وعسى أن تحبوه وهو شر لكم(10).

– الطباق: وهو الجمع بين الشيء وضده، ومثاله في الآية قوله تعالى: (والله يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ) وهو طباق بالسلب(11)، بحيث جمع بين فعلين (يعلم/ لا تعلمون) أحدهما مثبت والآخر منفي.

– حذف المفعول: في قوله تعالى: (والله يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ) قال ابن عاشور: «وجملة والله يعلم وأنتم لا تعلمون تذييل للجميع، ومفعولا «يعلم» و«تعلمون» محذوفان دل عليهما ما قبله أي والله يعلم الخير والشر وأنتم لا تعلمونهما، لأن الله يعلم الأشياء على ما هي عليه والناس يشتبه عليهم العلم فيظنون الملائم نافعا والمنافر ضارا»(12)، وحذف المفعول هنا للإيجاز(13).

الآية 217: (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ).

– ومناسبة هذه الآية لما قبلها أنه لما فرض القتال لم يخص بزمان دون زمان، وكان من العوائد السابقة أن الشهر الحرام لا يستباح فيه القتال، فبين حكم القتال في الشهر الحرام(14).

– الإظهار في مقام الإضمار: ف«قوله: (قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ) إظهار لفظ القتال في مقام الإضمار ليكون الجواب صريحا حتى لا يتوهم أن الشهر الحرام هو الكبير، وليكون الجواب على طبق السؤال في اللفظ»(15).

– الاستعارة: في قوله تعالى: (قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ)؛ والكبير في الأصل هو عظيم الجثة من نوعه، وهو مجاز في القوي والكثير والمسن والفاحش، وهو استعارة مبنية على تشبيه المعقول بالمحسوس، شبه القوي في نوعه بعظيم الجثة في الأفراد، لأنه مألوف في أنه قوي، وهو هنا بمعنى العظيم في المآثم بقرينة المقام، مثل تسمية الذنب كبيرة، وقول النبي صلى الله عليه وسلم: «وما يعذبان في كبير وإنه لكبير» الحديث(16).

– التقديم والتأخير: وعلم أن مقتضى ظاهر ترتيب نظم الكلام أن يقال: وصد عن سبيل الله وكفر به وصد عن المسجد الحرام وإخراج أهله منه أكبر عند الله، فخولف مقتضى هذا النظم إلى الصورة التي جاءت الآية عليها، بأن قدم قوله (وكفر به) فجعل معطوفا على (صد) قبل أن يستوفي صد ما تعلق به وهو (والمسجد الحرام) فإنه معطوف على (سبيل الله) المتعلق ب (صد) إذ المعطوف على المتعلق متعلق فهو أولى بالتقديم من المعطوف على الاسم المتعلق به، لأن المعطوف على المتعلق به أجنبي عن المعطوف عليه، وأما المعطوف على المتعلق فهو من صلة المعطوف عليه، والداعي إلى هذا الترتيب هو أن يكون نظم الكلام على أسلوب أدق من مقتضى الظاهر وهو الاهتمام بتقديم ما هو أفظع من جرائمهم، فإن الكفر بالله أفظع من الصد عن المسجد الحرام، فكان ترتيب النظم على تقديم الأهم فالأهم، فإن الصد عن سبيل الإسلام يجمع مظالم كثيرة لأنه اعتداء على الناس في ما يختارونه لأنفسهم، وجحد لرسالة رسول الله، والباعث عليه انتصارهم لأصنامهم (أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ) [ص: 5] فليس الكفر بالله إلا ركنا من أركان الصد عن الإسلام فلذلك قدم الصد عن سبيل الله ثم ثنى بالكفر بالله ليفاد بدلالة المطابقة بعد أن دل عليه الصد عن سبيل الله بدلالة التضمن، ثم عد عليهم الصد عن المسجد الحرام ثم إخراج أهله منه. ولا يصح أن يكون «والمسجد الحرام» عطفا على الضمير في قوله (به) لأنه لا معنى للكفر بالمسجد الحرام فإن الكفر يتعدى إلى ما يعبد وما هو دين وما يتضمن دينا، على أنهم يعظمون المسجد الحرام ولا يعتقدون فيه ما يسوغ أن يتكلف بإطلاق لفظ الكفر عليه على وجه المجاز(17).

قال الرازي: «إن موضع (وَكُفْرٌ بِهِ) عقيب قوله: (وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ) إلا أنه قدم لفرط العناية عليه كما في قوله: (وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ) [الإخلاص: 4]، كان من حق الكلام أن يقال: ولم يكن أحد كفواً له، إلا أنه قيل: (وَلَمْ يَكُنْ لَهُ) فقدم قوله: (لَهُ) لفرط العناية، قال أبو البقاء: والجيد أن يكون متعلقاً بفعل محذوف دل عليه الصد، أي: ويصدون عن المسجد الحرام، كقوله تعالى: (هُمْ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنْ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ) [الفتح: 25]. وقال السجاوندي: هو عطف على الشهر، فقد عظموا القتل في الشهر والمسجد، فسألوا عنهما»(18).

– الاحتراس: وهو أن يأتي المتكلم بمعنى يتوجه عليه فيه دخل، فيفطن لذلك حال العمل فيأتي في أصل الكلام بما يخلصه من ذلك(19)، ف«قوله: (إن استطاعوا) تعريض بأنهم لا يستطيعون رد المسلمين عن دينهم، فموقع هذا الشرط موقع الاحتراس مما قد توهمه الغاية في قوله: (حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ) ولهذا جاء الشرط بحرف (إن) المشعر بأن شرطه مرجو عدم وقوعه»(20)، وقال الزمخشري: إن استطاعوا، استبعاد لاستطاعتهم، كقول الرجل لعدوه: إن ظفرت بي فلا تبق علي، وهو واثق بأنه لا يظفر به(21).

ومن مواطن البلاغة في هذه الآية تنكير كلمة «قتال» لنكتة بلاغية تنبه لها الرازي في «مفاتيح الغيب»، ف«قتال فيه» مبتدأ و«كبير» خبره، وقوله: قتال وإن كان نكرة إلا أنه تخصص بقوله: فيه فحسن جعله مبتدأ والمراد من قوله: كبير أي عظيم مستنكر كما يسمى الذنب العظيم كبيرة قال تعالى: (كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَهِهِمْ) [الكهف: 5].

فإن قيل: لِمَ نَكَّرَ القتال في قوله تعالى: قتال فيه ومن حق النكرة إذا تكررت أن تجيء باللام حتى يكون المذكور الثاني هو الأول، لأنه لو لم يكن كذلك كان المذكور الثاني غير الأول كما في قوله تعالى: (إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا) [الشرح: 6].

قلنا: نعم ما ذكرتم أن اللفظ إذا تكرر وكانا نكرتين كان المراد بالثاني إذن غير الأول والقوم أرادوا بقولهم: يسئلونك عن الشهر الحرام قتال فيه ذلك القتال المعين الذي أقدم عليه عبد الله بن جحش، فقال تعالى: (قل قتال فيه كبير) وفيه تنبيه على أن القتال الذي يكون كبيرا ليس هو هذا القتال الذي سألتم عنه، بل هو قتال آخر لأن هذا القتال كان الغرض به نصرة الإسلام وإذلال الكفر فكيف يكون هذا من الكبائر، إنما القتال الكبير هو الذي يكون الغرض فيه هدم الإسلام وتقوية الكفر فكان اختيار التنكير في اللفظين لأجل هذه الدقيقة إلا أنه تعالى ما صرح بهذا الكلام لئلا تضيق قلوبهم بل أبهم الكلام بحيث يكون ظاهره كالموهم لما أرادوه، وباطنه يكون موافقا للحق، وهذا إنما حصل بأن ذكر هذين اللفظين على سبيل التنكير، ولو أنه وقع التعبير عنهما أو عن أحدهما بلفظ التعريف لبطلت هذه الفائدة الجليلة، فسبحان من له تحت كل كلمة من كلمات هذا الكتاب سر لطيف لا يهتدي إليه إلا أولو الألباب(22).

الآية 218: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ).

ومناسبة هذه الآية لما قبلها أنه لما أوجب الجهاد بقوله: (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ) وبين أن تركه سبب للوعيد، أتبع ذلك بذكر من يقوم به، ولا يكاد يوجد وعيد إلا ويتبعه وعد، وقد احتوت هذه الجملة على ثلاثة أوصاف، وجاءت مرتبة بحسب الوقائع والواقع، لأن الإيمان أولها، ثم المهاجرة، ثم الجهاد في سبيل الله. ولما كان الإيمان هو الأصل أفرد به موصول وحده، ولما كانت الهجرة والجهاد فرعين عنه أفردا بموصول واحد، لأنهما من حيث الفرعية كالشيء الواحد(23).

الآية 219- 220: (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ (219) فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ).

– المجاز: والمجاز خلاف الحقيقة، واللفظ لا يكون مجازا إلا بشرطين: أحدهما: أن يكون منقولا عن معنى وضع اللفظ بإزائه أولا، والشرط الثاني أن يكون النقل لمناسبة بين الأصل والفرع وعلاقة(24)، ومثاله في الآية قوله تعالى: (قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ) ف«إطلاق الكبير على الإثم مجاز، لأنه ليس من الأجسام، فالمراد من الكبير: الشديد في نوعه»(25).

– الإيجاز: في قوله تعالى: (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الخمر والميسر) فيه إِيجاز بالحذف؛ أي عن شرب الخمر وتعاطي الميسر(26).

– الإطناب: في قوله تعالى: (وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا) هذا من باب التفصيل بعد الإِجمال وهو ما يسمى في البلاغة ب «الإِطناب»(27)، وهو تفصيل لقوله تعالى (قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ) لزيادة تقرير حكمة التحريم، قال ابن عاشور: «فإن قلت: ما الوجه في ذكر منافع الخمر والميسر مع أن سياق التحريم والتمهيد إليه يقتضي تناسي المنافع، قلت إن كانت الآية نازلة لتحريم الخمر والميسر فالفائدة في ذكر المنافع هي بيان حكمة التشريع ليعتاد المسلمون مراعاة علل الأشياء، لأن الله جعل هذا الدين دينا دائما وأودعه أمة أراد أن يكون منها مشرعون لمختلف ومتجدد الحوادث، فلذلك أشار لعلل الأحكام في غير موضع كقوله تعالى: (أَيُحِبُّ أَحَدُكُمُ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيِّتًا) [الحجرات: 12] ونحو ذلك، وتخصيص التنصيص على العلل ببعض الأحكام في بعض الآيات إنما هو في مواضع خفاء العلل، فإن الخمر قد اشتهر بينهم نفعها، والميسر قد اتخذوه ذريعة لنفع الفقراء فوجب بيان ما فيهما من المفاسد إنباء بحكمة التحريم، وفائدة أخرى وهي تأنيس المكلفين فطامهم عن أكبر لذائذهم تذكيرا لهم بأن ربهم لا يريد إلا صلاحهم دون نكايتهم كقوله: (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ) [البقرة: 216] وقوله: (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ) [البقرة: 183]. وهنالك أيضا فائدة أخرى وهي عذرهم عما سلف منهم حتى لا يستكينوا لهذا التحريم والتنديد على المفاسد كقوله: (عَلِمَ اللّهُ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتانُونَ أَنفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنكُمْ) [البقرة: 187]» (28).

– قوله تعالى: (فِي الدنيا): فيه خسمة أوجهٍ:

أظهرها: أن يتعلَّق ب«يَتَفَكَّرُونَ» على معنى: يتفكَّرون في أمرهما، فيأخذون ما هو الأصلح، ويؤثرون ما هو أبقى نفعاً.

والثاني: أن يتعلَّق ب«يبيِّن»، ويروى معناه عن الحسن، وحينئذٍ يحتمل أن يقدَّر مضاف، أي: في أمر الدُّنيا والآخرة، ويحتمل ألاَّ يقدَّر، لأنَّ بيان الآيات، وهي العلامات يظهر فيها. وجعل بعضهم قول الحسن من التَّقديم، والتأخير، أي: ليس لذلك يبيِّن الله لكم الآيات في أمر الدنيا والآخرة لعلَّكم تتفكَّرون في الدنيا وزوالها وفنائها، فتزهدون فيها، وفي إقبال الآخرة، ووقوعها، فترغبون فيها. ثم قال: ولا حَاجَةَ لِذَلِكَ، لحَمْلِ الكَلاَمِ على ظاهره، يعني من تعلُّق في الدُّنيا ب «تَتَفَكَّرُونَ». وهذا ليس من التَّقديم والتَّأخير في شيء؛ لأنَّ جملة التَّرجِّي جاريةٌ مجرى العلَّة فهي متعلِّقةٌ بالفعل معنى، وتقديم أحد المعمولات على الآخر، لا يقال فيه تقديم وتأخير ويحتمل أن تكون اعتراضيةً، فلا تقديم، ولا تأخير.

والثالث: أن تتعلَّق بنفس «الآيَاتِ» لما فيها من معنى الفعل، وهو ظاهر قول مكي فيما فهمه عنه ابن عطيَّة. قال مكِّيٌّ: «معنى الآية أنه يبيِّن للمؤمنين آياتٍ في الدُّنيا، والآخرة يدلُّ عليها، وعلى منزلتها لعلَّهم يتفكَّرون في تلك الآياتِ» قال ابن عطيَّة: «فقوله: في الدنيا: يتعلَّق على هذا التَّأويل بالآيات» وما قاله عنه ليس بظاهر؛ لأنَّ شرحه الآية لا يقتضي تعلُّق الجار بالآيات. ثمَّ إنْ عَنَى ابن عطية بالتعلّق التعلُّق الاصطلاحي، فقد قال أبو حيان «فهو فَاسِدٌ، لأنَّ «الآيَاتِ» لا تَعْمَلُ شيئاً الْبَتَّةَ، ولا يَتَعَلَّقُ بها ظَرْفٌ، ولا مَجْرُورٌ» وقال شِهَابُ الدِّين: وهذا من الشَّيخ فيه نظرٌ، فإنَّ الظُّروف تتعلَّق بروائح الأفعال، ولا شكّ أنَّ معنى الآيات العلامات الظَّاهرة، فيتعلَّق بها الظَّرف على هذا. وإن عنى التَّعلُّق المعنويَّ، وهو كون الجارِّ من تمام معنى: «الآيَاتِ» ، فذلك لا يكون إلاّ إذا جعلنا الجارَّ حالاً من «الآيَات» ، ولذلك قدَّرها مكِّيٌّ نكرة فقال: «يبيِّن لهم آياتٍ في الدُّنْيَا» ليعلم أنَّها واقعةٌ موقع الصِّفة لآيات، ولا فرق في المعنى بين الصِّفة والحال، فيما نحن بصدده، فعلى هذا تتعلَّق بمحذوفٍ لوقوعها صفة.

الرابع: أن تكون حالاً من «الآيَاتِ» كما تقدَّم تقريره الآن.

الخامس: أن تكون صلةً للآيات، فتتعلَّق بمحذوفٍ أيضاً، وذلك مذهب الكوفيين، فإنَّهم يجعلون من الموصولات الاسم المعرَّف بأل؛ وأنشدوا: [الطويل]

لَعَمْرِي لأَنْتَ البَيْتُ أُكْرِمُ أَهْلَهُ    وَأَقْعُدُ في أَفْيَائِهِ بِالأصَائِلِ

ف «البيت» عندهم موصولٌ(29).

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الهوامش:

1- البحر المحيط 2/379.

2- صفوة التفاسير 1/124.

3- الكشاف 1/258.

4- البحر المحيط 2/379.

5- روح المعاني 1/501.

6- انظر: صفوة التفاسير 1/124، إعراب القرآن الكريم وبيانه 2/282.

7- البرهان في إعجاز القرآن ص: 108.

8- التعريفات ص: 12.

9- انظر: البرهان في علوم القرآن 3/129.

10- التحرير والتنوير 2/321.

11- صفوة التفاسير 1/124.

12- التحرير والتنوير 2/323.

13- روح المعاني 1/502.

14- البحر المحيط 2/382.

15- التحرير والتنوير 2/325.

16- نفسه 2/326.

17- نفسه 2/329- 330.

18- فتوح الغيب 3/349.

19- البرهان في إعجاز القرآن ص: 134.

20- التحرير والتنوير 2/331.

21- الكشاف 1/259.

22- مفاتيح الغيب 6/388.

23- البحر المحيط 2/394.

24- انظر: البرهان في إعجاز القرآن ص: 240.

25- التحرير والتنوير 2/343.

26- صفوة التفاسير 1/128.

27- نفسه 1/128.

 28- التحرير والتنوير 2/350.

29- اللباب في علوم الكتاب 4/44.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

المصادر والمراجع:

– إعراب القرآن الكريم وبيانه، لمحيي الدين الدرويش، الطبعة الحادية عشرة: 1432هـ/ 2011م، منشورات اليمامة ودار ابن كثير.

– البحر المحيط في التفسير، لأبي حيان الأندلسي، تحقيق: صدقي محمد جميل، منشورات: دار الفكر، بيروت، عام: 1420هـ.

– البرهان في إعجاز القرآن أو بديع القرآن، لابن أبي الإصبع المصري، تحقيق: د. أحمد مطلوب ود. خديجة الحديثي، الطبعة الأولى: 1430هـ/ 2010م، منشورات: الدار العربية للموسوعات، لبنان.

– البرهان في علوم القرآن، للزركشي، تحقيق: محمد أبو الفضل إبراهيم، الطبعة الأولى: 1376هـ/ 1957م، منشورات: دار إحياء الكتب العربية عيسى البابى الحلبي وشركائه.

– التحرير والتنوير، للطاهر بن عاشور، منشورات الدار التونسية للنشر، تونس، سنة النشر: 1984هـ.

– روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني، للألوسي، تحقيق: علي عبد الباري عطية، الطبعة الأولى: 1415هـ، منشورات: دار الكتب العلمية، بيروت.

– صفوة التفاسير، لمحمد علي الصابوني، الطبعة الأولى: 1417هـ/ 1997م، منشورات: دار الصابوني للطباعة والنشر والتوزيع، القاهرة.

– فتوح الغيب في الكشف عن قناع الريب، للطيبي، مقدمة التحقيق: إياد محمد الغوج، القسم الدراسي: د. جميل بني عطا، الطبعة الأولى: 1434هـ/ 2013م، منشورات: جائزة دبي الدولية للقرآن الكريم.

– الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل، للزمخشري، الطبعة الثالثة: 1407هـ، منشورات: دار الكتاب العربي، بيروت.

– اللباب في علوم الكتاب، لأبي حفص سراج الدين عمر بن علي بن عادل الحنبلي الدمشقي النعماني، تحقيق: الشيخ عادل أحمد عبد الموجود والشيخ علي محمد معوض، الطبعة الأولى: 1419هـ/1998م، منشورات: دار الكتب العلمية، بيروت.

– مفاتيح الغيب، لفخر الدين الرازي، الطبعة الثالثة: 1420هـ، منشورات: دار إحياء التراث العربي، بيروت.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق