مركز ابن أبي الربيع السبتي للدراسات اللغوية والأدبيةقراءة في كتاب

لغة القرآن الكريم وبلاغته من خلال كتاب «إعراب القرآن الكريم وبيانه» لمحيي الدين الدرويش الحلقة العاشرة: بين المس والإصابة في قوله تعالى: (إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا)

من بديع كلام الله تعالى الذي تنفطر له القلوب قوله تعالى من سورة آل عمران: (إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا) [الآية: 120]، حيث عبر سبحانه وتعالى في جانب الحسنة بالمس، وفي جانب السيئة بالإصابة، وذلك لفرق لطيف بين المعنيين يدركه من يتذوق لغة القرآن الكريم وبلاغته.

وننطلق مما قاله المؤلف محيي الدين الدرويش -رحمه الله-: «في الآية استعارة مكنية جميلة، فقد استعير المس للحسنة، وهي لا تمس الإنسان للدلالة على أنها أقل تمكنا من الإصابة، إشارة إلى أن الكافرين يستاءون مما يصيب المؤمنين من خير، وإن سنح لهم سنوحا أو مر بهم مرورا عارضا. أما إذا تمكنت السيئة منكم واجتاحتكم فلا تسل عن مدى فرحهم وسرورهم وهذا من بديع الكلام الذي تتقطع دونه الأعناق»(1).

والكلام في هذه الآية مستأنف سيق لبيان تناهي عداوة المنافقين وافتنانهم في أصناف العداوات.

والحَسَنَةُ والسيِّئة في هذه الآية ليس المراد بهما الاصطلاح الشرعي وإنما لفظ عامٌّ في كل ما يَحْسُنُ ويَسُوء(2).

لذلك فسرت الحسنة ببعض المنافع مثل: الرخاء والخصب والنصرة والغنيمة ونحوها، وفسِّرت السيئة بضدّ ذلك من المضار مثل: الشدة والجدب والهزيمة.

وأَصْلُ المَسِّ باليَدِ(3)، ثم يسمى كل ما يصل إلى الشيء (ماسا) على سبيل التشبيه فيقال: فلان مسه التعب والنصب(4).

وقد فسِّر المس أيضا بالإصابة، قال ابن عاشور: «والمس: الإصابة، ولا يختص أحدهما بالخير والآخر بالشر، فالتعبير بأحدهما في جانب الحسنة، وبالآخر في جانب السيئة، تفنن»(5)، وقد سبقه غيره إلى ذلك مثل الزمخشري [تـ: 538هـ] الذي رأى أن المس مستعار لمعنى الإصابة والمعنى واحد، قال: «الحسنة: الرخاء والخصب والنصرة والغنيمة ونحوها من المنافع. والسيئة: ما كان ضدّ ذلك. وهذا بيان لفرط معاداتهم حيث يحسدونهم على ما نالهم من الخير ويشمتون بهم فيما أصابهم من الشدّة. فإن قلت: كيف وصفت الحسنة بالمس والسيئة بالإصابة؟ قلت: المس مستعار لمعنى الإصابة فكان المعنى واحداً. ألا ترى إلى قوله: (إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ)، (ما أَصابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَما أَصابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ)، (إِذا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً)»(6).

فيما تنبه صاحب (الانتصاف) [تـ: 683هـ] لسر لطيف بين التعبيرين ولم يعد الأمر مجرد تفنن، قال معلقا على الزمخشري: «يمكن أن يقال: المس أقل تمكنا من الإصابة، وكأنه أقل درجاتها، فكأن الكلام واللَّه أعلم: إن تصبكم الحسنة أدنى إصابة تسؤهم ويحسدوكم عليها، وإن تمكنت الإصابة منكم وانتهى الأمر فيها إلى الحد الذي يرثي الشامت عنده منها فهم لا يرثون لكم ولا ينفكون عن حسدهم ولا في هذه الحال، بل يفرحون ويسرون، واللَّه أعلم»(7)، وهذا من أسرار بلاغة التنزيل، وهو بعينه ما ذكره المؤلف محيي الدين الدرويش، فالمعنى ليس واحدا كما قيل وإنما بين التعبيرين فرق لطيف لا يعلمه إلا دقيق النظر ومن تذوق سر البلاغة في هذه الآية.

وقد سبقه إلى ذلك ابن عطية [تـ: 542هـ] في محرره حيث يقول: «وذكر تعالى «المس في الحسنة» ليبين أن بأدنى طروء الحسنة تقع المساءة بنفوس هؤلاء المبغضين، ثم عادل ذلك بالسيئة بلفظ الإصابة وهي عبارة عن التمكن، لأن الشيء المصيب لشيء فهو متمكن منه أو فيه، فدل هذا المنزع البليغ على شدة العداوة، إذ هو حقد لا يذهب عند الشدائد، بل يفرحون بنزول الشدائد بالمؤمنين، وهكذا هي عداوة الحسد في الأغلب، ولا سيما في مثل هذا الأمر الجسيم الذي هو ملاك الدنيا والآخرة»(8).

وقد بني قوله تعالى (إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا) على المقابلة بين الألفاظ والمعاني، فقد قابل المس بالإصابة، والحسنة بالسيئة، والمساءة بالفرح، وهي مقابلات بديعة بين حالين من حالات المنافقين وتفننهم في عداوة المؤمنين وحسدهم، ودليل على بغضهم وشدة عداوتهم لهم.

وفيما يلي رسم توضيحي لهذه المقابلات في هذه الآية:

الهوامش:

1- إعراب القرآن الكريم وبيانه 1/521.

2- انظر: الجواهر الحسان 2/99، التحرير والتنوير 4/68.

3- تاج العروس 16/509.

4- مفاتيح الغيب 8/343.

5- التحرير والتنوير 4/68.

6- الكشاف 1/407- 408.

7- حاشية (الانتصاف فيما تضمنه الكشاف) لابن المنير الإسكندري 1/407.

8- المحرر الوجيز 1/498.

المصادر والمراجع:

– إعراب القرآن الكريم وبيانه، لمحيي الدين الدرويش، الطبعة الحادية عشرة: 1432هـ/ 2011م، منشورات اليمامة ودار ابن كثير.

– التحرير والتنوير، للإمام محمد الطاهر ابن عاشور، منشورات دار سحنون للنشر والتوزيع، تونس.

– الجواهر الحسان في تفسير القرآن، لأبي زيد عبد الرحمن بن محمد بن مخلوف الثعالبي، تحقيق: الشيخ محمد علي معوض والشيخ عادل أحمد عبد الموجود، الطبعة الأولى: 1418هـ، منشورات: دار إحياء التراث العربي، بيروت.

– الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل، للزمخشري، الطبعة الثالثة: 1407هـ، منشورات: دار الكتاب العربي، بيروت.

– المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز، لابن عطية الأندلسي، تحقيق عبد السلام عبد الشافي محمد، الطبعة الثانية: 1428هـ/ 2007م، منشورات دار الكتب العلمية، بيروت.

– مفاتيح الغيب، لفخر الدين الرازي، الطبعة الثالثة: 1420هـ، منشورات دار إحياء التراث العربي، بيروت.

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق