وحدة الإحياءمفاهيم

التأويل في القرآن المجيد.. رؤية معرفية

لا شك أن القرآن عربي، ولكنه كذلك بلسان عربي مبين؛ أي أن القرآن لم ينزل في فراغ خاصة إذا فهمنا النزول كما يستعمله القرآن ذاته، أي يدخل مرحلة من مراحل تحرك الاجتماع البشري ككل نحو غايته حيث يمثل القرآن الكريم فرقان مرحلته هذه.

ومن ثم فهو كذلك ينزل لأناس يتكلمون لغة سوف تستعمل كأداة لإشراكهم في أمره. ولكن القرآن يمارس في نفس الوقت منهج التصديق والهيمنة على اللغة ذاتها. هو يمارس الهيمنة عندما يستعمل المشترك والمتعارف ولكن يعيد صياغته، أو بتعبير القرآن، يقوم بإنزاله داخل رؤيته هو للعالم ودور الإنسان فيه. فمثلا رب اسم لغة مستعمل قبل نزول القرآن الكريم. ولكن أن يكون الرب هو رب العالمين، والذي خلق وعلم بالقلم وعلم الإنسان ما لم يعلم، وإليه السجود والاقتراب وهو الذي يطعم من جوع ويؤمن من خوف، إلخ، فهذا أمر يدخل عندي في باب التصديق والهيمنة.

ولكن عندما نقول يدخل في باب التصديق والهيمنة فإنا كذلك نقول أنه يحدث تحولا في اللغة ذاتها التي تشكل الأسماء-المصطلحات روحها، وهو حال أي لغة حيث الإنسان يتعلم الأسماء لينبأ كما يقول القرآن نفسه. فهنا العربية التي يتكلم بها القرآن هي عربية مبينة كما يؤكد على ذلك القرآن المبين.

 أي أن القرآن الكريم يجعل حتى للمستعمل من اللغة، وما ها دارج الاستعمال فيها، له معانيه الجديدة المرتبط برؤية القرآن الجديدة للوجود كله، ولدور الإنسان فيه عند مرحلة الختم، والتي هي مرحلة القرآن كما يؤكد على ذلك القرآن نفسه (إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ) (القدر: 1). وبتعبير آخر، فإن اللغة هنا تخضع لرؤية القرآن، وذلك عبر إعادة صياغة مصطلحاتها وربطها بمفاهيم لم تكن لها، ومن ثم فنحن هنا أمام ما يمكن تسميته بعربية القرآن وليس عربية قريش. وأنى لقريش أن تعطي كل هذا الزخم من المفاهيم معناه الجديد أصلا؟

وبما أن اللغة في المستوى الاجتماعي تتطلب المعنى حيث هي أداة المجتمع في التخاطب والتواصل، فإن القرآن كذلك اعتبر من السفاهة أن ينزل في قرطاس وجملة واحدة كما كان يؤكد المشركون. هي سفاهة حقيقة كما يرى القرآن العالم وهو كذلك أحق في دعواه من طلب الشرك الذي يشكل طلبه جهلا بدور القرآن أي محيط يمكن أن يستوعبه.

ومن ثم لم يكن هناك بد من عمل النبي الخاتم بتحمل ذلك الحمل الثقيل؛ ألا وهو إخراج الأمة/المرآة حيث يتجلى القرآن الكريم فيها، وحيث تأخذ مصطلحاته المصححة والمستحدثة معانيها. فالرسول هو الأسوة الشاهد ولكن الأمة هي كذلك أمة شهداء على الناس؛ أي كما نزل القرآن على محمد، صلى الله عليه وسلم، كان لزاما على محمد، صلى الله عليه وسلم، أن يبين للناس ما نزل لهم. ليس أن يبين هنا بمعنى إنشاء مدراس للغة القريشية ومعرفة قواعد الصرف والنحو التي تقوم عليها فهذا كما هو معلوم، من عمل العباسيين حيث نشأت القواعد تحت رؤية دوران العربية والخلافة حول قريش. كما تم التوقف عند مفردة “اقرأ” وتم اعتبارها أول ما نزل من القرآن. خضوعا لفكرة المفردة واتخاذها منهجا للتفسير، وليس لفكرة الآية كما قدمها القرآن وعممها على الكون داخل منهج جديد تتم فيه المعرفة عبر وحدات للمعنى أو الفعل تسمى كل واحدة منها آية.

كما طلب القرآن الكريم من الرسول الذي نزل إليه القرآن أن يبين للناس ما نزل إليهم وذلك بتجسيد تلك المفاهيم القرآنية الجديدة والأخرى التي أعيد صياغتها، فيه عليه السلام. كما جاء القرآن الكريم بمفاهيم كبرى عميقة لم تكن المنظومة القائمة لتتصورها حتى. فمثلا لم يعد التكذيب بالدين أن لا تصلي أو أن لا تضفي القداسة على كل ما يحيط بك، أو لا تقرب القرابين للآلهة وتطعم السادة، إلخ. ولكن التكذيب هو من يدع اليتيم ولا يحض على طعام المسكين، والصلاة ليس بالضرورة منتجة للنجاة على رغم كثرتها ككثرة الآلهة  وتعددها العاكس لمجتمع الشرك الداعم لتشتت القبلة، وجعل أهلها شيعا، حتى تتم السيطرة عليهم وإخضاعهم دوما لعالم التكاثر ومنعهم من الكوثر.

واعتمادا على رؤيته الجديدة استطاع القرآن أن يقول: (فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ. الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ. الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ. وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ) (الماعون: 4-6). إذا لم تكن الصلاة الجدية زمن الختم، ناتجة عن غياب للصلاة قبلها. وإنما لأن تلك الصلاة الممارسة صارت مكاء وتصدية عندما هيمن عليها القرآن الكريم ونظر إليها داخل مفاهيمه الجديدة، وما يدعو له.

ثم إن هذا التصديق الذي استعمله القرآن، كما تقدم، وهو يتعامل مع المتعارف من اللغة استعمله كذلك عندما قص علينا الكثير من القصص حيث تحول على مصدرها الأساس وأضاف إليها عبارة “أحسن”. فهي أحسن القصص (بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآَنَ) (يوسف: 3)؛ أي أنها ليست كذلك عندما لا تستقى من الوحي وذلك لما اعتراها من تحريف في مستوى الزمان والمكان، وإخراج الكثير منها عن مواضعه؛ أي أن القرآن وهو يستحضر الوصول للأقوام الأخرى غير الناطقة بالعربية يتناول ما هو متعارف من قصص ليسوقه في ثوب جديد يخضع لرؤيته للعالم زمن الختم. فالقرآن، هنا، هو مصدر القصة المباشر وليس العكس، ولكن ليس ذلك فحسب، بل هو المصدر المتعالي على غيرها من المصادر بقدرته على التصديق ووعي تلك القدرة.

لا يهتم القرآن هنا بما يعتبر صحيحا حسب الجهات الرسمية، وكما يستنكر عليه اليوم الكثير من المستشرقين ومن اتّبع خطاهم. القرآن الحكيم يأخذ القصص الأكثر شيوعا حيث هي المسلك للناس، وهي مستوى آخر للغة والرؤية التي يرى من خلالها المجتمع العالم ومن حوله ويهدي بها طريقه. وإلى جانب القصة يستعمل القرآن الكثير من المصطلحات المتداولة عند الثقافات المحيطة حيث يصل من خلالها إلى ربط العلاقة مع محيطه الجديد الذي يعمل النبي على إخراجه من جديد وقد تجسد فيه: (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) (الفاتحة: 1).

لم يكتف القرآن المبين بالتصديق حيث يتواصل مع السابق ويصححه، بل دفع الأمر إلى مستوى أعلى بكثير من ذلك وأهم، وهو ما عبر عنه بـ”ومهيمنا عليه”. حيث تتجلى معالم المرحلة القرآنية مع وعي الهيمنة. ومن ثم شكل القرآن مصنعا للغة حيث تتنوع مصطلحاته الجديدة وتمكن العالم وما فيه من تنوع ليظهر في شكل آخر، تحكمه علاقات مغايرة لما سبقه ويأخذ كل ما فيه مواضع جديدة تختلف مع ما سبقها وقد تتباين معه أحيانا.

وطبعا، ما دامت اللغة تجسد رؤية مجتمع ما للعالم والعلاقات المتحكمة في كل ما يحوي، لم يكن من الممكن للقرآن أن يتجلى بدون إخراج أمة محمد للوجود؛ أقصد هنا تحديدا مجتمع المدينة. ذلك المجتمع الذي يبدو فيه الرسول شاهدا ومبشرا ونذيرا وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا. وأمته يعبر عنها بـ: (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ” (ءال عمران: 110).

يمكن أن نقول من خلال ما تقدم، أن القرآن نزل بلغة قريش قول لا معنى له وكذلك أن الشعر الجاهلي هو المفسر للقرآن وإليه المآل قول يذكر بسفاهة طلب الشرك أن ينزل القرآن في قرطاس وجملة واحدة. وأنى للشعر الجاهلي ولعربية قريش أن تستوعب رؤية تقدم نفسها بـ: (قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا) (الكهف: 104). وفي الحقيقة، فإن فكرة عربية قريش وتفوق هذه الأخيرة على غيرها من الأمم هي أساسا سياسية لاحقة لا تهتم بوعي القرآن بقدر اهتمامها من تمكن صانعيها من السلطان وسبغه بسبغة دينية تزيد في إمكانية دوامه.

ثم كيف يمكن للجاهلية هذه أن تكون تلك المرحلة التي سبقت الإسلام، والإسلام في رؤية القرآن له، لم ينتف يوما من الوجود وهو الدين عند الله، حيث أن آدم ونوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد وغيرهم من الرسل والأنبياء والصالحين كلهم مسلمون. وكيف يكونون مسلمين في لغة قريش وهي لا تعرف ماذا يعني الإسلام أصلا ولا تعترف بأول المسلمين؟ وماذا يعني أن يكون محمدا أول المسلمين وآدم مسلما؟ من اللازم لكل راغب في فهم كل ذلك وغيره من المفاهيم الخاضعة لرؤية القرآن الكريم أن يعمل جاهدا على استيعاب رؤية القرآن للعالم حيث تأخذ كل تلك المصطلحات، الأسماء، والمفاهيم مواقعها وعلاقاتها وتستمد معانيها.

ونحن هنا إذا ربطنا اللغة بحاجة الإنسان للفهم والمعنى وإيصال ذلك عبر قدرته من تعلم الأسماء كلها، وبناء الرؤية التي تعكس من خلال اللغة ذاتها رؤية مجتمع ما للعالم وطبيعة العمران الذي ولد فيه. يمكننا أن نرى من خلال ما تقدم، إن القرآن الحكيم كان كذلك يمارس بناء اللغة عبر الأسماء والمصطلحات التي يولد أو يعيد صياغة مفاهيمها أنه يعمل على بناء الرؤية للأمة الجديدة التي يعمل الله على إخراجها للعالم. كما يمكن أن نتخذ منهج تتبع المصطلحات وربطها ببعضها وأن نتمكن من رؤية العالم ودور الإنسان فيه من خلال القرآن؟ أي علينا دوما أن نعمل على إعادة اكتشاف القرآن، وبناء الرؤية والاقتراب منها باستمرار؛ حيث تتولد اللغة بشكل مستمر، وإنزال ذلك على لحظتنا التي نعيش، اعتمادا على قراءة متواصلة للقرآن تساعد من إمكانية فهم معانيه والعلاقات التي تحكم مصطلحاته بالاستعانة بما هو متوفر من وسائل متاحة لجيل ما بمرحلة تاريخية ما وإحاطة ذلك الجيل بالتحديات التي تواجهه، ومستوى استيعابه للكون وتحديد موقع الاجتماع البشري ككل من نقطة تحركه الجديدة إلى الله.

وإذا استوعبنا ذلك كله جعلنا أقدر على استخراج ما نحتاج من لغة تتجسد فيها مفاهيم الوحي الخاتم، وتتجلى وتنعكس في كيفية خروجنا للناس. تلك اللغة التي يكون القرآن ورؤيته للعالم هو ما يجعل منها كلمة من كلمات الله اللامتناهية، ذلك المطلق المصاحب دوما بضرورة العمل الدؤوب الحكيم القادر على رفع الإصر  والأغلال، والتي هي أمر مرتبط، حتما، بأي عمل بشري في مستواه الفردي أو مستواه الاجتماعي، حيث يعاني الاجتماع البشري لأي أمة أزمة كبرى تشل حركته وتعصف بوجهته وتفقده القدرة على مواصلة رحلة سيره المشترك نحو الأعلى، كلما نفذت كلمته التي استخرجها من الاستجابة لتحدياته، حيث يصير مملوكا أبكم أينما توليه لا يأتي بخير.

تسعى هذه الدراسة لإجراء لقاء مع القرآن الكريم حول بعض من بيانه لما يريد إيصاله زمن الختم. وارتباطا بموضوع الندوة فإن هذه الدراسة تحاول أن تربط ذلك الهدف بمعرفة مصطلح التأويل ذاته من خلال ما ورد في القرآن الكريم، ومن ثم تتبع قرآن التأويل للوقوف عن المعاني التي أريد إيصالها؛ أي أن الدراسة تعتمد القرآن كمرجع للوقوف على معنى التأويل ومن ثم تفسير بعض إشكالات الآيات التي وردت به المصطلح. كما تتعرض الدراسة مستعملة نفس المنهج للوقوف على مستويات أخرى من البيان في القرآن الكريم من أجل معرفة أدق لما حدث، ودور القرآن المبين فيه.

وعي القرآن الحكيم لذاته

القرآن العظيم يعي ذاته، ومن ثم يعرف بنفسه عبر صفاته التي اتبعها له، فهو عربي، مبين، بلسان عربي مبين، كما هو بين بسورة الشعراء، الآية 195، ومن ثم لم يكن شعرا، ولا يمكن للشعراء أن يمنحوا الشعر السابق للقرآن والقادر على تفسيره. حيث لا يهتم ولا يعي الشعر والشعراء في أغلب الأحيان بالوجهة. ولا يستطيع الشعراء حل ما اتصل بتحديات عالم الوجهة والمعنى عند الإنسان، ومن ثم ذكر القرآن في نفس السورة التي ذكر فيها أن القرآن بلسان عربي مبين، أن الشعراء في كل واد يهيمون، وأنهم يقولون ما لا يفعلون، والتي هي قمة العجز عن المعنى وإيصاله للناس والكون المحيط به من حوله.

يقدم القرآن نفسه على أنه هدى للناس وبيِّنات من الهدى والفرقان، يهدي للتي هي أقوم ويبشر المؤمنين الذي يعملون الصالحات أن لهم أجرا حسنا، شفاء ورحمة للمؤمنين، لو اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثله لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا، صرف فيه للناس من كل مثل، فرق ليقرأ على الناس على مكث ونزل تنزيلا، رتل ترتيلا، يقص على بني إسرائيل أكثر الذي كانوا فيه يختلفون، فرض على محمد، ضرب فيه من كل مثل، قرآن حكيم، مبين، ذي الذكر، عربي غير ذي عوج، قرآن مجيد، يذكر به من يخاف وعيد، يسر للذكر، كريم، أو أنزل على جبل لرأيته خاشعا متصدعا من خشية الله، قرآنا عجبا، قابلا للترتيل، تعهد الله بجمعه وقرآنه، وجعل عليه بيانه عند اتباع قرآنه.

وإذا كان القرآن كذلك، فليس من العلم في شيء أن يقع اللقاء معه دون احترام خاصياته التي يعيها. فمثلا، أنت عندما تصلك السيرة الذاتية لمن تريد أن تبحث معه أمكانية تشغيله فإنك تجري اللقاء معه على ضوء ما وصلك منه بسيرته الذاتية التي أرسل لك، ومن ثم لا تظلمه حقه وتقيم معه حوارا على ضوء ذلك لمعرفته محسنا الضن فيه حتى يأتي ما يخالف ذلك. فكيف يمكن ملاقاة القرآن دون وعي صفاته، ودون احترام ذلك. وإذا كان القرآن هو مرجع المعنى والهداية زمن الختم، الذي يقابل الكون كمرجع للفعل لا يخيفه إرجاع البصر فيه، بل هو يدعو القرآن إلى إرجاع البصر وتكرار إرجاعه متأكدا أن البصر سوف ينقلب خاسئا وهو حسير.

فإن القرآن يقدم كذلك على أنه من عند الله، مع وعي أن كل ما هو من عند غير الله مهدد خلقة بأن يأتيه الباطل من بين يديه ومن خلفه. وذلك جلي في كل ما اتصل من معارف الإنسان، مثلا، وقراءته التي يصل إليها سواء أكان ذلك فيما يرتبط بعالم المعنى أو ما يرتبط بعالم الفعل. حيث لا يستطيع الإنسان أن يتحرك إلا عبر دفعات معرفية يأتيها الباطل كلما أوغلت في الزمن، وسبحت بعيدا داخل عالم الغيب. وذلك يتم في الاتجاهين سواء وقع التحرك فيما يخص الماضي أو وقع التحرك فيما يخص المستقبل المتداخلان دوما مع الحاضر. يشبه ذلك ما يراه السائق وهو ينظر في المرآة الخلفية التي يستعملها لتعديل مساره، حيث يرى حاضرا فيها ما تجاوزه أي فيما صار ماضيا، وهو يرى أمامه حاضرا المستقبل الذي يسعى للوصول إليه.

واعتمادا على ما تقدم، فإننا نتواصل مع القرآن عبر سيرته الذاتية التي قدم، ونبحث هنا في الوصول إلى معاني البعض من مصطلحاته عبر استجلاء صفة الإبانة التي عنده. ورأينا خير تطبيق لذلك أن نبدأ بمحور الندوة حول التأويل فنقف على معنى المصطلح كما ورد في القرآن، ومتابعة تركيب تلك المعاني الواردة بآي الذكر الحكيم، للوقوف على معاني متقدمة في التجريد استعصت على المفسرين.

التأويل

لفهم مصطلح التأويل وتتبع حركته المانحة لمعناه وكيف تم إنزاله في مجال القرآن المبين لإيصال معان جد عميقة مرتبطة برؤية القرآن الكونية المنزلة لمرحلة الختم، قمنا بتتبع ظهور المصطلح في القرآن الكريم زمنيا عبر اعتماد ما عندنا من ترتيب زمني للنزول. وكما يبين الجدول التالي والخط البياني المترتب عنه، فإن كلمة تأويل وردت في أعلى نسبة لها بسورة يوسفS، يليها سورة الكهف، لتتساوى فيما بعد في بقية السور التي وردت بها:

يمكن أن يحصل عندنا مفهوم أولي لمعنى التأويل هنا بمجرد النظر في الخط البياني لورود المصطلح بالقرآن الكريم. فسورة يوسف تدور حول رؤيا ليوسف، عليه السلام، وتفسيراتها التي تتكشف زمنيا فيما بعد. ومن ناحية أخرى فإن يوسف هو حفيد إبراهيم، عليه السلام. ويروي القرآن كذلك رؤيا لإبراهيم من قبل بسورة الصافات: (فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ) (الصافات: 102). والتي فهمها كل من إبراهيم وابنه على أنها حقيقة يجب تنفيذها كما هي.

والمؤكد أن طبائع العمران السائد لا تستنكر مثل ذلك العمل. حيث يقدم الإنسان كقربان للآلهة وهي عادة كانت منتشرة عالميا، ونجدها حتى عند حضارات أخرى لم تتواصل مع منطقة الشرق الأوسط كحضارة الأنكا حيث تم العثور أخيرا بالبيرو على ما يقرب من ثلاثة وعشرين  شخصا قدموا قرابين منذ 600 سنة.

ومن خلال القصة القرآنية التي تحكي كيف رفض إبراهيم عبادة الشمس، والقمر، والكواكب، يعطينا القرآن كذلك فكرة حول المعتقدات المنتشرة زمن إبراهيم S. غير أن إبراهيم تمكن عقليا من رفض تلك الآلهة، وعبر عن وعي ضرورة أن يكون للإنسان مرجع للهدى يمكنه من التحرك نحو الله باستمرار، ونظرا لاحتياج الإنسان للهدى بكل لحظات حياته، توجب أن يكون الإله الحق غير آفل أصلا.

 غير أن الحدث الثاني لم يحدث في عالم اليقظة، ولم يخضع بعد إلى فكرة إن الإله الغير آفل أصلا، لا يحتاج إلى قرابين إنسانية ليتقرب منه، بل هو إله يفدي الإنسان ويلتزم بإرسال مرجع الهداية إليه. أي أننا أمام حالة تعكس أكثر حالة الانتماء لطبائع عمران تلك المرحلة، والتي تبدو متجذرة إلى درجة يصعب التخلص منها؛ أي أنها هي المهيمنة على الإنسان وليس العكس، كحالة النوم التي تتم فيها الرؤيا.

كما يذكرنا حلها بما تم مع نوح، عليه السلام، من أجل  النجاة، حيث السفينة هي سفينة فعلية ملموسة يصنعها نوح: (وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا) (هود: 37)، تعكس المرحلة التي تمر بها البشرية وابتعادها على مرحلة (ربنا ما خلقت هذا باطلا، سبحانك اللهم) والتي تتحول فيها السفينة إلى فكرة مجردة تشمل اللحظات البشرية كلها كما تعكسه سورة الشورى: (وَمِنْ آَيَاتِهِ الْجَوَارِ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ. إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَوَاكِدَ عَلَى ظَهْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ. أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِمَا كَسَبُوا وَيَعْفُ عَنْ كَثِيرٍ) (الشورى: 30-31). وكذلك: (سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى. الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى. وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى) (الأعلى: 1-3). مع موسى أنت لا تحتاج إلى سفينة للنجاة (اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ) (الشعراء: 63). مع محمد لا حاجة للعصي ذاتها ولا للسفينة. أنت السفينة (سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى).

وجه التشابه بين قصة نوح وقصة إبراهيم هنا هو التجسيد العيني للنجاة، في حالة نوح السفينة، وفي حالة إبراهيم وابنه ونجاته عبر فديه بالذبح العظيم. ومن ثم لم يلتفت القرآن الحكيم أصلا إلى من هو الذبيح هنا، ولم يكذب أن يكون إسحاق كان ذبيحا كذلك ووقع معه نفس ما وقع لإسماعيل. ذلك أن الأمر يرتبط بمرحلة كان يقدم فيها الإنسان قربانا للآلهة.

وكما رفض إبراهيم هيمنة الكواكب والشمس والقمر والكواكب على الإنسان في يقظته، فإن يوسف، عليه السلام، قد أول ذلك فعليا في منامه، أي قد أخذها إلى مستوى أعلى وهو جعلها ساجدة للإنسان حتى في حالة منامه. أي أن هناك تحولان رئيسيان وقعا؛ الأول مع إبراهيم، عليه السلام، وهو التعرف عن الإله الحق الذي يفدي الإنسان كتحول كبير جدا في فهم علاقة الإنسان بالإله المتعالي. والتحول الثاني هو تمكن إخضاع الجيل الثاني والثالث: يعقوب، يوسف، عليهما السلام، من التحكم في الرؤيا ذاتها وإخضاعها إلى التأويل، ومن ثم يمكن أن نرى أن التأويل هنا يعني التحرك من مستوى من الفهم إلى مستوى من الفهم أعمق وأعلى يجعل الأمور أكثر تناسقا والصورة أكثر وضوحا وتكاملا مع الرؤيا في عالم اليقظة.

ويمكن أن نقول أن التأويل وقع زمن يعقوب ويوسف في مستوين: المستوى الأول؛ تحريك عدم الخضوع للشمس والقمر والكواكب ورفض عبادتها، ليعم عالم النوم كما عم عالم اليقظة وأن يكون العالمين لله الحق رب العالمين. والمستوى الثاني؛ هو تأويل الرؤيا نفسها لتتحرر من عالم الكواكب ذاتها والتمكن من خلالها من مستقبل أحسن تأويلا..

وعودة إلى الخط البياني لتكرار مصطلح “تأويل” يمكن أن نرى العلاقة القائمة بين التأويل وبين تجلي الصورة الحقيقة لما استحال رؤيته من ظاهر السطح. ومن ناحية أخرى مصاحبة العلم والحكمة لكل ذلك وربطه بالله دوما: (وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلَى آَلِ يَعْقُوبَ كَمَا أَتَمَّهَا عَلَى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) (يوسف: 6). وكذلك ما ورد على لسان يوسف عندما كبر الآية 37 من السورة نفسها: (قَالَ لَا يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلَّا نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُمَا ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَهُمْ بِالْآَخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ).

هام جدا ملاحظة أن يرتبط التأويل بالله هنا، وأن يرتبط غيابه بمن لا يؤمن بالله ويكفر بالآخرة؛ أي أن الذي يحدث هنا لم يكن ليحدث لولا التأويل والذي يعني أخذ الشيء من مستوى إلى مستوى أعلى يسمح بتجلي أعلى للحقيقة وموقع أكثر اقترابا منه، وتحرر الإنسان من سطحية التعامل مع ما يصل إليه، وإخضاع كل ذلك إلى وضع قبلة الحركة: الله. النقطة الهامة الأخرى وهي ضرورة فهم فكرة الحركة بالقرآن الحكيم، وخضوع المصطلحات نفسها له، والتي ترتبط برؤية القرآن الكونية زمن الختم، والذي يشكل القرآن نفسه مرجع الهداية فيه..

أي أن النبوة في التصور القرآني هي في مقدمة حركة الاجتماع البشري إلى الله، وهي في أعلى مستوى التحرر، ومن ثم شكل الأنبياء الأسوة والإمام الذي يدعى للاقتداء بهم؛ أي أن النبي يتجسد فيه تأويل، حقيقة ما يمكن أن يؤول له، الإنسان المتحرك نحو الأعلى.

يمكن أن نرى نفس الفكرة في الحوار الدائر بين عبد الله المؤتى من لدن الله علما وبين موسى عليه السلام. وهو حوار على خط التماس بين بحري عالم الغيب وعالم الشهادة. حيث أن كلا من موسى وعبد الله هذا، يتحرك داخل عالم خاص به ويشكل تفاوت البحرين فراق بينهما. لم يستطع موسى، عليه السلام، أن يفهم الذي يحدث في ثلاث حالات متتالية بدت له مستعصية وفاقدة للمعنى جعلت صبره ينفذ. غير أن تأويلها، عبر وضعها في عالم موسى أين اتخذ القرار بشأنها جعلها قابلة للفهم عند موسى، عليه السلام. ومن ثم يمكن كذلك أن نرى الحركة من عالم إلى آخر في معنى التأويل أين يبدو ما كان مستحيل الفهم واضحا جليا. وهو معنى قريب من هل ينظرون إلا تأويله، يوم يأتي تأويله… ذلك أن عالم الآخرة نفسه تأويل لما صعب فهمه والوقوف على حقيقة أمره في عالم الدنيا([1]).

(سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا…) (وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ).

يرتبط التأويل بالعلم، علم الله، ويمكن من أخذ حديث مستعصي الفهم نحو نهايته الحقيقية؛ (أي منتهاه)، كما أن نبأ مشتق كذلك من نفس جذر كلمة نبي، والنبوة في القرآن الكريم موقع جد متعال يكون الإنسان فيه قد عرف نفسه عبر تزكي مستمر يجعل منه أسوة يهتدى بها لمواجهة تحديات الوجهة. أي أن التأويل لا يقدر عليه كذلك غير من قام بتأويل نفسه نحو موقع أكثر اقترابا من الله عبر تجلي القيم العليا الحسنى في حياته؛ كالعلم والحكمة والرحمة والمغفرة والعدل وغيرها من القيم العليا الحسنى التي تعود في مجملها إلى الله منبعها جميعا. يوسف، عليه السلا، يجسد ذلك الإنسان النوعي-النبي.

القصة تروي كيف تعرض يوسف إلى اعتداءات متكررة منذ صغره، حيث وضع في الجب، وابتيع بثمن بخس بمصر، واتهم في شرفه، وسجن ظلما. ولما عرف أن هناك مصيبة كبرى قد تلم بالبلد الذي هو فيه، لم ير أنها الفرصة التي يجب عليه أن لا يتركها تمر حتى ينتقم، وإنما كان علمه للتأويل مرتبطا بمسؤولية أن يرتبط ذلك العلم دوما بالقيم الحسنى العليا، ومن ثم رأى نفسه أكثر الناس مسؤولية على إخراج مصر مما يمكن أن يلحق بها من كوارث. وهو موقف يعكس موقع التسامي الذي يتصرف منه، حيث ارتباط الفعل بالوجهة التي تزكي الحياة وتجعلها أكثر ابتهاجا وتدفعها نحو اقتراب أكبر من الله، سبحانه وتعالى، حيث تتجلى قيم العدل، والرحمة، والمغفرة، والعلم، والحكمة في موقف يوسف هذا عليه السلام([2]).

يمكن فهم تأويل هنا بمعنى منتهى الشيء ونهايته، وهو هنا متحقق مستقبلا، يحتاج عدم انتظار وقوعه لمنع عواقبه كما هو بين بسورة الأعراف: (هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ فَهَلْ لَنَا مِنْ شُفَعَاءَ فَيَشْفَعُوا لَنَا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ قَدْ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ) (الأعراف: 52)، وهو معنى يتردد كذلك في سورة يونس، آية 39: (بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ).

كما أن استعمال المصطلح بسورة الإسراء يوحي هو الآخر بمعنى قريب مما تقدم،  ويذكر بعلاقة التأويل بالحركة: (وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذَا كِلْتُمْ وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا)؛حيث يمكن أن يفهم من هذا الاستعمال لمصطلح تأويل أن مثل ذلك العمل المتمثل في إيفاء الكيل والوزن بالقسطاس المستقيم من شأنه أن يجعل صاحبه أفضل نوعيا حيث يحسن مآله، كما يفهم منه كذلك أن العمل نفسه، هنا الكيل، يرتفع نوعيا هو الآخر ويرتبط بالقيم الحسنى العليا التي يمثل الله منبعها جميعا، ويكون بذلك مساعدا على تزكية النفس ورفعتها؛ أي أن التأويل هنا يعكس تحركا نحو الأعلى أساسه ارتباط العمل بالقيم الحسنى العليا.

يعود هذا الشكل من الاستعمال للمصطلح في سورة النساء؛ أي آخر سورة محتوية على مصطلح التأويل. ولكن هذه المرة بشكل أكثر تجريدا، حيث يمس التأويل هنا كل نواحي الحياة ويؤكد ضرورة التزام المرجع حتى في أصعب الحالات التزاما بذلك التنازع. الله، هنا، كقبلة هادية لأي فعل، والرسول كأسوة اكتملت لمثل ذلك، وهو ما يجعل مثل ذلك العمل الملتزم المؤمن بالله متحركا بشكل مستمر نحو الآخرة والتي هي الحيوان ، الحياة المكتملة.

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا) (النساء: 58)، (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآَخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا) (الأحزاب: 21).

تأويل الكتاب 

(هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آَيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آَمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ) (ءال عمران: 7).

شكلت الآية السابعة من سورة آل عمران إشكالا كبيرا على المفسرين حيث صعب عليهم فهم ما هو المحكم وما هو المتشابه هنا، وماذا يعني اتباع تأويله، ولا يعلم تأويله إلا الله، وما هو موقع الراسخون في العلم هنا. ذلك أن المنهج المتبع كان يبحث عن الوصول إلى فهم الآية معتمدا على قواعد لغوية لا ترتقي إلى فهم مصطلحات القرآن ولا تعي رؤيته.

والآية هنا نزلت بمرحلة المدينة حيث يتم استعمال الرؤيا نفسها لإخراج الأمة أين تتجلى الرسالة. فهي آية يصعب فهمها واكتشاف أبعادها خارج الرؤيا القرآنية للوجود، ودور الإنسان والوحي فيه. وللبحث عن معنى الآية الكريمة وفهمها وحل الإشكال العالق بها يمكن العودة إلى المعنى الذي وصلنا إليه لمصطلح تأويل والذي يحتوي، كما تقدم، على فكرة التحرك من مستوى إلى مستوى أعلى منه، والذي يعني كذلك منتهى الشيء والوقوف على حقيقته.

فكرة الحركة فكرة قرآنية يخضع لها كل شيء، حتى الجبال الرواسي، يتعامل معها القرآن الكريم على أنها تَمُرُّ مَرَّ السَّحاب، وأن عدم رؤيتها متحركة هو خطأ في الحساب ليس إلا كما تؤكد سورة النمل، الآية 90: (وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ).

كما أن تلك الحركة ترتبط بغائية الخلق، وليست عابثة. وفكرة الخلق هي فكرة جد عميقة، حيث تربط بشكل دائم بين الحركة والوجهة والقبلة؛ لأن لكل خلق قبلة يتحرك نحوها ويتحقق معها ويؤتي ثماره عندها، و القبلة هي التي تهدي الحركة بشكل دائم وتمنحها الاتجاه الذي تحتاج مع المعنى. (أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ) (المؤمنون: 116)، يلاحظ بسهولة هنا فكرة الحركة نحو الله كقبلة للوجود كله، وارتباط ذلك بالخلق. هذه فكرة محكمة داخل القرآن يصعب فهم رؤيته دونها.

 النبوة هي كذلك متحركة نحو غاية تحقق خلق الإنسان نفسه، حيث يمكن أن ينظر لآدم ونوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد مثلا كتحرك زمني للإنسان في مستوى الرسول-النبي؛ أي كوحدة متحققة زمنيا في محمد. وهو ما تعكسه سورة الإسراء تماما. وعودة إلى الآية الكريمة السابعة بسورة آل عمران، يمكن أن نرى نفس الفكرة في الآيات التي سبقتها:

(اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ. نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ. مِنْ قَبْلُ هُدًى لِلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقَانَ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآَيَاتِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ. إِنَّ اللَّهَ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ. هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ).

يمكن رؤية كيف أن الآية الأولى هنا “ألم” تجعل من امتلاك الحقيقة أمرا مستحيلا داخل عالم الشهادة-التكليف الذي نحن بداخله، وهي كذلك تحمل ضمنيا فكرة الحركة المستمرة للاقتراب من الحق، والحق هو الله.

الآية الثانية تذكر بأن الله، هنا، هو المهيمن المالك لمقاليد آمرة، (اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ)، وهو استعمال يقع للمرة الثانية بعد أن ورد بآية الكرسي بسورة البقرة؛ التي تعكس المستوى الذي صار إليه الإنسان وقدرته على استيعاب المطلق في أعلى تجلياته، حيث يعرف هنا الحي القيوم بشكل جلي قد يساعدنا لفهم ما نريد الوصول إليه عند تناولنا للآية السابعة من سورة آل عمران: (اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ) (البقرة: 253-254).

يمكن العودة للتحرير والتنوير لابن عاشور، والكشاف للزمخشري، ومفاتيح الغيب للرازي للوقوف على معاني هامة لمعنى الحي القيوم. حيث الحي ‏ هو‏ الباقي الذي لا سبيل لفنائه، الذي قامت به الحياة، وهي صفة بها الإدراك والتصرف. والقيوم هو كما ورد بالكشاف للزمخشري الدائم القيام بتدبير الخلق وحفظه. وذكر الرازي في “مفاتيح الغيب” كلاما جميلا حول الحياة في تفسيره للحي القيوم حيث لاحظ أن الحياة تعني كمال الشيء في جنسه “وكمال حال الأشجار أن لا تكون مورقة خضرة فلا جرم سميت هذه الحالة حياة وكمال الأرض أن تكون معمورة فلا جرم سميت هذه الحالة حياة فثبت أن المفهوم الأصلي من لفظ الحي كونه واقعا على أكمل أحواله وصفاته، وإذا كان كذلك فقد زال الإشكال لأن المفهوم من الحي هو الكامل، ولما لم يكن ذلك مقيدا بأنه كامل في هذا دون ذاك دل على أنه كامل على الإطلاق، فقوله الحي يفيد كونه كاملا على الإطلاق، والكامل هو أن لا يكون قابلا للعدم، لا في ذاته ولا في صفاته الحقيقة ولا في صفاته النسبية والإضافية، ثم عند هذا إن خصصنا القيوم بكونه سببا لتقويم غيره فقد زال الإشكال؛ لأن كونه سببا لتقويم غيره يدل على كونه متقوما بذاته، وكونه قيوما يدل على كونه مقوما لغيره، وإن جعلنا القيوم اسما يدل على كونه يتناول المتقوم بذاته والمقوم لغيره كان لفظ القيوم مفيدا فائدة لفظ الحي مع زيادة”.

ما يهمنا، هنا، أن الحي  هو المانح للحياة والتي هي كذلك متحركة إليه وتكون أعلى كلما اقتربت منه سبحانه، فالحي هو قبلة الحياة وبوجوده تكون هي متحركة ومن ثم كانت الحياة الدنيا متحركة هي الأخرى نحو الحياة الآخرة والتي هي الحيوان. والقيوم تعكس تولي أخذ أمر ما إلى المستوى الذي يليه، فهم قائم مطلقا بغيره مقوما له، فهو أخذ الإنسان من مرحلة التراب خلقا من بعد خلق حتى يتم إنشاءه خلقا آخر. وهو من يأخذ الحياة الدنيا كلها في اتجاه الآخرة.

يمكن أن نفهم الآية التي تلي ذلك بسهولة، حيث أن الله هو الذي نزل الكتاب الذي تحرك من التوراة إلى الإنجيل إلى القرآن؛ أي أن الوحي هنا هو الآخر متحرك ويكون أكثر قدرة على استيعاب حركة الاجتماع البشري وتلبية ما يحتاجه لجعل حياته ممكنة وأخذها إلى الأعلى. يضمن كل ذلك: (اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ).

 ومرة أخرى كما سبق أن ذكرنا النبي زمنيا، فهنا نرى الكتاب زمنيا، وكيف يتحرك الوحي نفسه نحو الاكتمال كما تحركت النبوة نحو تحقق الإنسان الكامل في محمد الأسوة لمرحلة الختم كلها. ولغة الهدى نفسها متحركة، معانقة للمستوى الذي تصل إليه البشرية في رحلة الكدح إلى الله سبحانه، ولا يمكن للكفر المختص في تغطية الحقيقة ومنع خروجها، أن يمنع حدوث ذلك؛ لأن الله لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء. وأمر الحركة هذا هو أمر كوني عام، ويمكن رؤيته كما تذكر الآية الكريمة التي تسبق الآية التي نحاول الوصول إلى فهمها. فالله يصورنا في الأرحام كذلك، خلقا من بعد خلق، حتى يصل بنا إلى مرحلة اكتمالنا كإنسان: (…فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ) (المؤمنون: 14).

يمكن أن نرى أن الآية السابعة من سورة آل عمران تسفه مقولة ما أنزل الله من شيء من ناحية، ومن ناحية أخرى تبطل حجية أن الوحي غير متحرك نحو اكتماله المعلن عنه في القرآن ذاته حيث لا يعيه سواه. تأويل الكتاب هنا يمس الكتاب المجرد الممثل في الوحي كمرجع للهداية يمد به الله البشرية منذ هبوط آدم S وزوجه إلى الأرض: (قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ) (البقرة: 37). وهو ما تفطن إليه إبراهيم، عليه السلام، وهو يرفض الأفول: (فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ) (الأنعام: 78). ومن ثم لا يعلم إلا الله تأويل الوحي حتى يستجيب لتحديات المرحلة التي تمر بها البشرية وهي تكدح إلى الله.

فالتأويل، هنا، هو تأويل للكتاب الذي تحرك مع محمد نحو القرآن ليكون مرجعا للهدى يستجيب لتحديات مرحلة الختم. وتحرك الوحي هو كتحرك النبوة ذاتها، حيث يكون الرسول مؤمنا بمن سبقه من الرسل والأنبياء، وفي نفس الوقت يكون بشرى تضع الإصر والأغلال عن إنسان مرحلته. وهو ما ورد في سورة آل عمران، الآية 49، على لسان عيسى، عليه السلام، عندما قال: (وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَجِئْتُكُمْ بِآَيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ). وهو كذلك ما أخبر عنه القرآن عندما قدم محمدا في سورة الأعراف: (الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آَمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) (الأعراف: 157)؛ أي أن إيمان الرسول بمن سبق من الرسل لا يعني إعادة التجربة، أو اعتماد نفس مستوى القراءة لمواجهة تحديات مرحلة جديدة لم تعد الرسالة السابقة الغير مكتملة قادرة أن تستجيب لتحدياتها. والإيمان هنا يشبه حالة التصديق التي يمارسها الكتاب المؤول للمرحلة الجديدة على الكتاب الذي سبقه بالمرحلة التي سبقته. وأحل لكم بعض الذي حرم عليكم، ووضع الإصر عن الناس والأغلال التي كانت عليهم، يشبه في مستوى الكتاب المؤول الهيمنة على من سبقه.

ومن ثم وصف القرآن العظيم كذلك بذلك الوصف داخل مرحلته مقارنة مع الكتب التي سبقته: (وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آَتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ) (المائدة: 50).

وهنا كذلك يخضع مفهوم الأمة هو الآخر للحركة، فالأمة متحركة هي الأخرى، حيث يحافظ على المصطلح في نفس الوقت الذي يتم فيه التأكد أن الأمة المخرجة الجديدة ليس كغيرها من الأمم. وهو أمر جلي في القرآن حيث يتم التذكير بحركة الأمة زمنيا مرتين بالمدينة، عاصمة الأمة المخرجة، بسورة البقرة عاصمة الإنزال والمتقين، بالآية 133 والآية 140: (تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ).

القرآن الكريم، إذن، هو مآل الوحي زمن الختم، وتحركه إلى مستوى المرحلة مع تصديق لما بين يديه وهيمنة عليه في نفس الوقت. والله هو المتكفل بذلك، وهو الأعلم بمرحلة القرآن، كما أنه الأعلم بالمراحل التي سبقته والوحي التي احتاجته لهداية إنسانها. ومن ثم أكد الله بلسان العظمة في القرآن الكريم أن القرآن نزل إلى مرحلته مع تقدير لها منه سبحانه: (إنا أنزلناه في ليلة القدر). وهو إنزال يرتبط بعلم الله وحده، وليس للرسول دخل فيه: (نحن نقص عليك أحسن القصص بما أوحينا إليك هذا القرآن وإن كنت من قبله لمن الغافلين) (يوسف: 3). وكما تؤكد سورة الشورى، بالآية 49 على نفس الفكرة: (وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا، ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان ولكن جعلناه نورا نهدي به من نشاء من عبادنا، وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم). وكذلك سورة القصص، الآية 85: (إن الذي فرض عليك القرآن لرادك إلى معاد، قل ربي أعلم من جاء بالهدى ومن هو في ضلال مبين).

فالله سبحانه هو الذي يعلم أين يضع رسالته، ومتى ينزلها بحياة الاجتماع البشري المتحرك نحو غاية خلق هو الآخر. ولا أحد يختار ذلك غير الله، ولا أحد يعلمه سواه.

وهذا النوع من التأويل هو الذي صعب على الشرك والمادية والكفر قبوله جهلا وجحودا وسجنا لما هو موجود في نفس الوقت. ومن ثم عمد المكذبون دائما إلى نسيان المحكم المهيمن من الكتاب الجديد للمرحلة الجديدة، وركزوا على المتشابه من الكتاب الذي يظهر التواصل والتصديق لمن أراد أن يرى ذلك، حيث أن المتشابه نفسه لا يعاد بشكله القديم، بل يخضع هو الآخر لرؤية كتاب المرحلة الجديدة المتقدمة على التي سبقتها.

فمثلا عندما يروي الكتاب المقدس أن هارون هو الذي صنع العجل، يرفض القرآن الكريم ذلك؛ لأن النبي في رؤية القرآن الكونية هو موقع متجاوز لمثل تلك الأفعال المشينة. وعندما يذكر القرآن أن الله خلق سبع سموات ومن الأرض مثلهن، يؤكد على  ما مسه من لغوب، حيث ينزه الله من الصفة البشرية التي يقدمها من خلاله الكتاب المقدس. وعندما يأتي الله والملائكة لإبراهيم لمجادلته حول قوم لوط، يعيد القرآن الكريم القصة ولا يحافظ على غير زيارة الملائكة لإبراهيم عليه السلام. وعندما يروي الكتاب المقدس ضيافة الملائكة وأكلهم، يرفض القرآن ذلك: (فلما رأى أيديهم لا تصل إليه نكرهم وأوجس منهم خيفة، قالوا لا تخف إنا أرسلنا إلى قوم لوط) (هود: 69) وهكذا. وهو موضوع جدير بالدراسة ولكن لا يتسع له هذا المقال.

وابتغاء التأويل هنا من طرف الذين في قلوبهم زيغ يعكس عملهم الدّؤوب على منع الناس رؤية المحكم من الكتاب حيث تمت الهيمنة على ما سبقه من الكتب. فهم باعتمادهم المتشابه يرجون أن يصلوا من خلاله إلى مبتغاهم من أن الذي جاء به الرسول لا يعدو أن يكون غير افتراء على الله من عنده. ومن ثم يرد القرآن على أنه تفصيل الكتاب لا ريب فيه، فهو مزيل أي ريب متصل بعالم الوجهة-المعنى المتصل بمرحلته: (وما كان هذا القرآن أن يفتري من دون الله ولكن تصديق الذي بين يديه وتفصيل الكتاب لا ريب فيه من رب العالمين). (يونس: 37). وهو حالة من التكذيب تعكس سجن صاحبها وعدم مقدرته على رؤية الله الهادي المانح الوحيد لمرجع الهداية فرقان المرحلة. وهو ما يبدو جليا في الآية 15 من سورة يونس، عليه السلام،حيث يعجز الجاحدون للرسالة رؤية استقلال الوحي عن محمد، صلى الله عليه وسلم، وهي حالة متكررة إلى يوم الناس هذا عندما يتحدث المحدثون عن محمد العبقري المولد للقرآن: (وإذا تتلى عليهم آياتنا بيّنات قال الذين لا يرجون لقاءنا إيت بقرآن غير هذا أو بدّله، قل ما يكون لي أن أبدّله من تلقاء نفسي، إن أتّبع إلا ما يوحى إلىّ، إني أخاف إن عصيت ربّي عذاب يوم عظيم).

والمحدثون الجدد من المستشرقين ومن تبعهم من الداخل غارقون إلى حد النخاع في المتشابه عاملين دوما على الوصول من خلاله إلى أن الله لم ينزل على بشر من شيء مكررين لنفس السفاهة التي رددها الشرك من قبل. بمكة بإيحاء كما يبدو من الآية من قوى تستمد وجودها من فكرة الكتاب الذي عندها: (وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ عَلَىٰ بَشَرٍ مِّن شَيْءٍ ۗ قُلْ مَنْ أَنزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَىٰ نُورًا وَهُدًى لِّلنَّاسِ ۖ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا ۖ وَعُلِّمْتُم مَّا لَمْ تَعْلَمُوا أَنتُمْ وَلَا آبَاؤُكُمْ ۖ قُلِ اللَّهُ ۖ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ) (الأنعام: 92).

كما يتضح جليا أن الراسخون في العلم لا يعلمون تأويل الكتاب، والذي لا يعلم تأويله إلا الله. والرسول نفسه يخاطب كذلك: (نحن نقص عليك أحسن القصص بما أوحينا إليك هذا القرآن وإن كنت من قبله لمن الغافلين).

وهو رسوخ في العلم حقيقي يعي حاجة الإنسان إلى مرجع الهداية وحاجته الماسة أن يكون ذلك المرجع مستقل عن الإنسان كذلك. وهو يعكس نفس الأمر عندما يتعلق الأمر بالكون كمرجع للفعل، حيث هو كذلك مرجع مستقل عن الإنسان شاهد على إمكانية فعله من عدمه، كما يشهد الفرقان على إمكانية وجهة الفعل الهادية إلى الحق من عدمها؛ أي أن الإنسان الذي يعيش دوما تحديا إمكانية الفعل وإمكانية الهداية ـ الوجهة ـ المعنى، وتحدي أن تكون الهداية معانقة للفعل من أجل التحرك نحو الأعلى، يحتاج إلى مرجع مستقل يكون فرقان الفعل، ومرجع مستقل يكون فرقان المعنى. ومن ثم شكل الوحي والكون دوما شاهدان مستقلان عن الإنسان مفتوحان دوما لجعل إمكانية تحقق الإنسان ممكنا.

قرأ ـ قرآن

الآية مصطلح قرآني متقدم جدا، ولده القرآن الكريم وقام بتعميمه كمنهج جديد للمعرفة المتصلة بشاهدي الوجود ومرجعي الختم: الكون فيما يخص الفعل، والقرآن فيما يخص المعنى. والإنسان يتعامل مع كلا المرجعين كشاهدين لتمكينه من فرقان فعله أو وجهته، وتكاملهما استنادا للحظة التاريخية التي يعيش كما يحدده موقعه زمانا ومكانا فوق خارطة الوجود الكبرى؛ أي يسبح اسم ربه الأعلى وهو كادح إلى ربه كدحا فملاقيه. وبما أننا نتحدث عن القرآن هنا، فإن وحدة المعنى في هذه الحالة هي الآية؛ أي أن (اقرأ باسم ربك الذي خلق) أول وحدة للمعنى نزلت داخل مرحلة الختم. ومن ثم فان كلمة “اقرأ” لوحدها بمعناها المتعارف اليوم لن تساعدنا على معرفة الذي الحصل، ولا ما هو مطلوب داخل حالة الطوارئ الكبرى التي شهدها الكون، وملأت من أجله السماء حرسا شديدا وشهبا.

ولو كان الأمر مرتبطا بتعلم القراءة بمعناها الذي أوله ابن إسحاق، لكان أول ما فعل الرسول هو مدارس لمحو الأمية، بمعناها المتعارف اليوم، بمكة وتمكين المجتمع الجديد من قراءة الكتب. طبعا هنا لا يعني التقليل من قيمة أن يكون الإنسان قادرا على قراءة الكتب، وإنما لا يستقيم ذلك التفسير مع ما تبحث الآية الموحاة من الإيحاء به لإنسان الختم عبر الزمن المتحرك نحو الآخرة..

القرآن يعي تماما الإشكال القائم بمرحلة الختم. الإنسان يحتاج الهداية لمواصلة سيره نحو الله. والرسول هو المكلف بإدخال مرجع المعنى ـ الرسالة ـ لمرحلته. وتعدد الرسل متكامل مع فكرة القرآن الكريم في أن لكل أمة أجل وأن لكل أجل كتاب. وما تسبق من أمة أجلها وما يستأخرون. فالقرآن الحكيم يعي ذلك تماما، ويعي أن عيسى رسول الله، وموسى رسول الله، وأن الرسل أُرسلت تَتْراً. كما أن القرآن الكريم يعي أن المرحلة الجديدة هي مرحلة الختم؛ أي أن محمدا هو آخر رسول يرسل برسالة.

 كما يعي القرآن الكريم أن التجارب السابقة للأمم التي خلت هي تجارب ترتبط بها ويجب أن تفهم داخل موقعا الزمان والمكان فوق خارطة الوجود الكبرى؛ أي أن الرسالة نفسها بتشكلها الخاضع لما أنزل من قبل الختم، هي منتهية زمنيا، لها أجل يحدد ذهاب نورها، ويجعلها غير قادرة على تلبية التحديات الجديدة التي تمر بها البشرية المتحركة نحو غاية خلقها. والرسل هم هنا غير الأنبياء حيث الرسالة المرتبطة بمرحلة ما ترتبط بأول ظهور الرسول، وتمتد داخل مرحلة تتجاوز حضوره، وتوفر لإنسان تلك المرحلة الممتدة بين رسالة ورسالة أخرى ما يحتاج من هداية ومعنى لرحلته، ويقوم الأنبياء داخل نفس المرحلة بتوسعة لمنظومة المعنى ـ الدين ـ لمواجهة التحديات التي يواجهونها، وذلك اعتمادا على نفس الرسالة الأولى والتي قد تخضع لبعض التوسعة كذلك كما كان لداوود زبورا..

الإشكال القائم، هنا، والذي يجب على وحي الختم أن يستجيب له، هو الارتباط العضوي الدائم بين الإنسان وبين الحاجة للهداية ـ المعنى، وبين الختم الذي يعني عدم مجيء رسول آخر بعد محمد مع بقاء الزمن مفتوحا إلى يوم القيامة..

ومن ثم حرص القرآن الكريم أن يفصل بين محمد والقرآن بكل مناسبة كانت تبحث أن تربط بينهما، حيث يتوقف الوحي عن النزول في مناسبات يكون فيها الرسول في أشد الحاجة إلى الجواب عن سؤال جاء سائلوه يتحدون نبوته. وأحيانا أخرى يكون الرسول كأشد ما يكون حاجة للوحي وهو يواجه مسا لشرف أهله.

 غير أن الوحي يرى في تلك مناسبة جيدة لتأكيد فكرة أن محمد غير القرآن، فيتأخر حتى يتم له أن يحقق ذلك الهدف ثم ينزل من بعد يجيب عن أسئلة السائلين، ويبرأ شرف أهل نبيه. وهو يعلن أن عيسى كلمة من الله، والقرآن هو بحر الكلمات التي لا نهاية لها. كل ذلك لإيصال فكرة أن تأويل الكتاب زمن الختم، هو غير تأويله بالمراحل التي سبقت؛ أي أننا أمام مرحلة يكون فيها الكتاب قادرا دوما أن يمد الإنسان بما يحتاجه من كلمة تشكل هداية للحظته التي يعيش.

بعد سورة العلق، جاءت سورة الأعلى لتتحدث من جديد عن آية قراءة. (سنقرئك فلا تنسى. إلاّ ما شاء الله، إنه يعلم الجهر وما يخفى..) (الأعلى: 6-7) نحن هنا أمام مرحلة الختم، حيث المنهج المطالب الالتزام به هو: (سبّح اسم ربك الأعلى. الذي خلق فسوّى. والذي قدّر فهدى. والذي أخرج المرعى. فجعله غثاء أحوة..) تركز الآيات الكريمة على خاصيات المرحلة: سبح، اسم، رب، الأعلى، خلق، سوى، قدر، هدى.. تلك هي أسس المرحلة الجديدة، إنسان يمارس السباحة داخل عالم الغيب ساعيا دوما على التربية واللم والجمع لذاته  ولاجتماعه الذي يمارس معه السير المشترك نحو الأعلى. يساعده وعي الغيب والخلق على إدخال ما يحتاج من حلول لا تتوفر داخل عالم الشهادة التي يعيش، يعتمد دوما الالتزام بالميزان والتسوية والتقدير العالي لهداية فعله نحو الله قبلة الوجود كله غاية الحركة. إنسان تطلب منه سورة الأعلى أن يعي دوما أن المرعى، أي مرعى يتحول مع الزمن إلى غُثَاء أحوى. ومن ثم عليه أن يفكر في المرعى الذي يحتاج وهو يعيش داخل مرعى لا يزال حيا ولكنه يخفي عثائيته. تلك هي إذا معدات الرحلة داخل مرحلة الختم.

وتلك هي حقيقة الوجود كذلك فيما يخص مرجع المعنى ـ الوجهة المتحرك هو كذلك نحو غايته. هو يمارس نفس المنهج حيث يتجاوز تماما ما صار غثاء لا علاقة له بالمرحلة الجديدة تماما لتباعدها الزمني عنها، كما أنه يتواصل مع المراحل القريبة عبر منهج التصديق والهيمنة. فالآيات هي كذلك متحركة مرتبطة بمراحلها التي أرسلت لها لتهدي إنسان مرحلة ما كما يقتضيه موقعه زمانا ومكانا على خارطة الوجود الكبرى، وكذلك قدمها القرآن الكريم تلك الحركة للآيات، والتي استعصى فهمها على المفسرين وجعلهم يسقطون في أخطاء فادحة تهدد وعي الختم. حيث احتج القرآن الكريم بأول ما نزل من المدينة أن الله هو القدير على أن ينسي، أو ينسخ ما لم يعد صالحا من الآيات المرتبطة بوحي المراحل التي سبقت. فهو يعلم ما ينزل، ومتى ينزل ويعلم أين يضع رسالته: (ما ننسخ من آية أو ننسها نات بخير منها أو مثلها، ألم تعلم أنّ الله على كلّ شيء قدير) (البقرة: 105). وهي فكرة تذكرنا بما تعرضنا له فيما يخص الآية السابعة من سورة آل عمران فيما يخص علم تأويل الكتاب.

سورة الأعلى توحي إذا بمرحلة جديدة، تتشكل فيها قراءة الوحي بشكل آخر، ويتخذ الله وعدا على نفسه بتمكين الرسول من القراءة التي يحتاج ليكون منارا يهتدي به السالكون طريق الله المتحركون دوما نحو الأعلى في رحلة: (سنقرئك فلا تنسى. إلاّ ما شاء الله، إنه يعلم الجهر وما يخفى. ونيسرك لليسرى) (الأعلى: 1-8). هي بشرى، إذن، أن هذا الوحي الجديد متكامل مع مرحلته، وحي ميسر للذكرى، ييسر لليسرى. كما تؤكد السورة كذلك أن هذا هو منهج الوعي المتبع زمنيا، إن هذا لفي الصحف الأولى، صحف إبراهيم وموسى. إذن، نحن أمام مرحلة جديدة وعلينا أن نعتمد كتابها الخاص بها إن أردنا لأنفسنا الفلاح في مواجهة تحديات الوجهة، وتوجيه أعمالنا نحو الأعلى وتجاوز خطر الغثائية، بالعمل دوما على استخراج ما نحتاج من كلمة للمرحلة التي نعيش معتمدين بحر الكلمات اللامتناهي..

كيف عبر القرآن الكريم عن ذلك؟ بعد سورة العلق أين ربط القرآن الكريم بين الوجهة والله والخلق، والقلم، جاءت سورة القيامة لتولد مصطلحا جديدا لم تستطع العربية الناشئة زمن العباسيين تحت تأثير فكرة عربية قريش والمعولة عما أسمته بالشعر الجاهلي، أن تفهم ذلك المصطلح؛ أي القرآن، ومن ثم لا زال العرب بقواعد العربية تلك وغياب وعي رؤية القرآن الكونية زمن الختم لا يستطيعون فهم معنى القرآن ومن ثم لا يستطيعون نقله للآخرين. تأتي سورة القيامة لتخلق ذلك المصطلح الجديد الذي سوف نقوم بحول الله وعونه بشرحه معتدين على ما تقدم من شرح لرؤية القرآن للكتاب زمن الختم.

إنا علينا جمعه وقرآنه، فإذا قرأناه فاتبع قرآنه، ثم إن علينا بيانه. هنا ولد القرآن مصطلحا جديدا لا توفره اللغة المتاحة كما ذكرنا أن تفهمه. واعتمادا على ما ذكرنا، فإن التحدي القادم هو أن يكون هناك وحي ضامن مد الإنسان بما يحتاج من وجهة لأفعاله المتحركة دوما نحو مستوى أكثر تعقيدا من الذي سبقه. وذلك دون أن يكون هناك رسول يجدد الرسالة. يمكن عند فهم الذي سبق أن نفهم أن مصطلح القرآن المولد لأول مرة مع سور القيامة، لا يعني القراءة، حيث لا يمكن لمرحلة ممتدة إلى يوم القيامة أن تعتمد قراءة واحدة لمواجهة تحديات الوجهة المعقدة جدا؛ أي لا يمكن اعتماد كلمة واحدة إلى ما لا نهاية، ومن ثم بشر القرآن أن: (قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا) (الكهف: 104). وفي موضع آخر بسورة لقمان، الآية 26 أكد القرآن على نفس المعنى: (وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ).

إذن، نحن أمام تدشين مرحلة جديدة من مراحل الوحي، يكون فيها الوحي المكتمل قادرا دوما على أن يمد الإنسان بما يحتاج من أجوبة على أسئلة الوجهة التي تعترضه؛ أي أن مصطلح القرآن المولد هنا يعني بالضبط ذلك المعنى؛ أي هو مصطلح جديد يعنى مطلق القراءة. ويمكن رؤية ذلك بسهولة في ما شابهه من المصطلحات القرآنية،  كسبحان التي تعني مطلق الحساب إلى يوم القيامة بسورة الأنعام، الآية 97: (فَالِقُ الْإِصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَانًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ). وكذلك الأمر بالنسبة لمصطلح غفران كطلب لمطلق المغفرة، كما ورد في سورة البقرة، الآية 284: (آَمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آَمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ).

وكذلك فيما ورد بمعنى مطلق اللاجحود في الآية 93 من سورة الأنبياء: (فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ وَإِنَّا لَهُ كَاتِبُونَ). ونفس الأمر يتجلى كذلك مع توليد مصطلح مطلق التنزيه، والتسبيح المستمر المقترب دوما من الله، الرافض للتوقف: (الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ) (ءال عمران: 191)؛ أي أننا أمام توليد لمطلقات ترتبط بمرحلة مطلق القراءة. ويمكن كذلك أن نفهم كيف ولد القرآن الكريم مصطلح الرحمان، أو على الأقل أشبعه بمعاني مطلق الرحمة؛ تلك الرحمة التي وسعت كل شيء، والذي يعوض زمن الختم علاقة الرحم المرتبطة بالقرابة ويوسعها لتشمل العالمين وتوحدهم تحت رايتها وتمكن العالمين من و”اسجد واقترب”؛ أي مطلق المقدرة على الاقتراب الدائم من الله.. ومن ثم صعب على المشركين الفاقدين لرؤية القرآن الكونية زمن الختم ومصطلحاته التي يولد أن يفهموا ذلك عند قولهم وما الرحمان كما ورد بسورة الفرقان، والذي يعني كذلك مرجع الوجهة القادر على مطلق التفريق بين الحق والباطل، الآية 60: (وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا وَزَادَهُمْ نُفُورًا).

القرآن، إذن، كمصطلح جديد يعكس من خلاله المرحلة التي دخلها الوحي، وهي مرحلة الختم، حيث يكون هناك مرجع مكتمل للهداية يمكن باستمرار من استخراج الدين الذي تحتاجه أي مرحلة من مراحل البشرية وهي تتحرك نحو عالم الآخرة-القيامة. ومن ثم فإن المرحلة الجديدة هي مراحل متعددة تتميز بقرآن يمد كل مراحلها بما تحتاجه من كلمات. فان كان عيسى، عليه السلام، كلمة يغطي مرحلة من مراحل حركة النبوة نحو الاكتمال في المستوى الفردي المتجسد في محمد المتحول إلى أسوة حسنة تشكل المعلم الدائم لحركة الإنسان نحو الكمال، سدرة المنتهى، قاب قوسين أو أدني.

خط بياني لورود كلمة قرأ بالقرآن العظيم

خط بياني لنسبة ورود كلمة قرآن بنفس السور

سورة الإسراء هي سورة تشكل احتفالا بتسلم مشعل الختم، وتحقق الإنسان الفرد عبر خط النبوة الممتد من آدم إلى محمد صلى الله عليه وسلم.

المتقون ـ الطبقات النوعية داخل المجتمع الرسالة

نعتمد نفس الطريقة هنا لتتبع مصطلح المتقون وكيف ظهر، حتى نتمكن، بعون الله، من فهم الذي حدث قرآنيا، وكيف تم إيصال المصطلح الجديد للمحيط الناشئ فيه:

الخط البياني لورود كلمة متقون ـ متقين حسب الترتيب الزمني للسور. كما يظهر اختلال الرواية بالنسبة لسورة القلم في ما يخص ترتبها الزمني


رسم بياني لكثافة ورود كلمة متقون ـ متقين بالسور حسب الترتيب الزمني لها. حيث تبدو البقرة عاصمة للمتقين.

تعكس سورة البقرة بكل جلاء وعي التحديات التي تواجه المجتمع الجديد، حيث وصف القرآن تحديان رئيسيان: تكتل الكفر الذي يعمل لكفر بذرة الأمة الجديدة من الخروج، وتكتل النفاق الذي يعمل من الداخل تحت الأرض لمنع الأمة الجديدة من رؤية النور. ومن ثم نرى كيف ولد القرآن الكريم مصطلح المنافقون بالمدينة وليس بمكة؛ لأن ذلك التكتل لم يكن موجودا بمعناه القرآني بمكة.

 القرآن قدم في أول آية بأول سورة بالمدينة على أنه هدى للمتقين: (الم، ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ، هُدًى لِلْمُتَّقِينَ) (البقرة: 1). “ألم” (والتي تقرأ: أليف، لام، ميم) تعكس فكرة القرآن في استحالة امتلاك الحقيقة، حيث لا أحد يستطيع تفسير ذلك تفسيرا نهائيا. ومن ناحية أخرى يعكس مصطلح المتقين أن هذه الطبقة النوعية المخرجة هي التي سوف يعول عليها لمواجهة جبهتي الكفر والنفاق المهتمة بمنع خروج الأمة الجديدة إلى الحياة.

يمكن أن نرى من الخط البياني لظهور مصطلح المتقون، أن المصطلح لم يظهر إلا في السنوات الأخيرة من القرآن المكي ليتواصل استعماله بالمدينة. كما يمكن رؤية أن هناك خروجا واحدا على هاته القاعدة، حيث يظهر مصطلح المتقين بالسورة المرتبة الثانية نزولا. وحسب الفكرة التي أقدمها هنا، والتي لا تعتمد اللغة لفهم القرآن، بل تنظر إلى أن القرآن هو منشئ للغة عبر توليده لمصطلحات لم تكن موجودة وربطها برؤيته الكونية، وإخضاع ما تبنى مما هو موجود إلى رؤيته المهيمنة على اللغة. وكما تقدم فالقرآن ليس عربيا وحسب، بل مبين، بلسان عربي مبين، كما يصف نفسه بكل وضوح. وهو حكيم كذلك ويعي ذاتيا ذلك.

يمكن، إذن، عبر تتبع مصطلحات القرآن المبين، أن نتعرف بشكل دقيق على نوعية الإنسان الجديد الذي تم إخراجه، والذي لا تستطيع الروايات المتاحة رؤيته؛ لأن الراوي هو بالأساس سجين زمانه حيث لا معرفة عنده بتغير الأحوال والتنوع الشاسع الذي يخضع له الإنسان. والحقيقة أن المدينة المخرجة تعج بطبقات نوعية لإنسان جديد كما تشير إلى ذلك الآية 35 من سورة الأحزاب: (إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا). وبتعبير آخر إذا كان أفلاطون أو الفارابي يحلم بالمدينة الفاضلة، فإن محمدا هنا يصنعها.

ومن ثم يصعب جدا الحديث عن المدينة المخرجة ونوعية إنسانها الجديد، دون العودة للقرآن ولما هو متاح من علوم اليوم للوقوف على فهم أقرب للصحة لمعرفة الذي حدث، وكيف تناول أولائك التحديات التي اعترضت سبيلهم وكيف نجحوا في الاستجابة لها

الخلاصة 

بينا خلال هذه الدراسة كيف يمكن اعتماد القرآن للوقوف على حقائق جديدة لا يستطيع منهج الرواية، ومناهج التفسير السابقة الوصول إليه. كما استطعنا بعون الله أن نتمكن من حل إشكاليات عالقة لقرون عبر الوصول إلى فهم أعمق وثيق العرى متين البنيان في ما يخص تأويل الكتاب، أو المجتمع المدني الراكب طبقا عن طبق في بناء نوعي لم تعرف البشرية له مثيلا، كما استطعنا أن نقف عن كيف استطاع القرآن استعمال اللغة المتحركة من أجل نقل التحديات التي يمر بها المجتمع المخرج للناس، ومن ثم تمكينه من مواجهتها، والله أعلم.

الهوامش


([1]) (قَالَ هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا) (الكهف: 77).

ـ (وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنْزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا) (الكهف: 81).

([2]) (وَقَالَ الَّذِي اشْتَرَاهُ مِنْ مِصْرَ لِامْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ) (يوسف: 21).

ـ (وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانِ قَالَ أَحَدُهُمَا إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا وَقَالَ الْآَخَرُ إِنِّي أَرَانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزًا تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ) (يوسف: 36).

ـ (قَالَ لَا يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلَّا نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُمَا ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَهُمْ بِالْآَخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ) (يوسف: 37).

ـ  (قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلَامِ بِعَالِمِينَ( (يوسف: 44).

ـ (وَقَالَ الَّذِي نَجَا مِنْهُمَا وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ) (يوسف: 45).

ـ  (وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا وَقَالَ يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ) (يوسف: 100).

ـ  (رَبِّ قَدْ آَتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ) (يوسف: 101).

Science
الوسوم

د. ناجي بن الحاج الطاهر

مُحتَرَف الدراسات القرآنية

شيكاغو/الولايات المتحدة الأمريكية

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق