مركز ابن أبي الربيع السبتي للدراسات اللغوية والأدبيةقراءة في كتاب

لغة القرآن الكريم وبلاغته من خلال كتاب «إعراب القرآن الكريم وبيانه» لمحيي الدين الدرويش الحلقة الثامنة: فن التدبيج في قوله تعالى: (يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ)

ننظر في هذه الحلقة في قوله تعالى من سورة آل عمران: (يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (106) وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَتِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (107))، ونقف من خلالها على فن لطيف هو فن التدبيج.

وننطلق مما ذكره المؤلف محيي الدين الدرويش  –رحمه الله- قال: «في هذه الآية فن التدبيج وهو فن دقيق المسلك، حلو المأخذ، رشيق الدلالة، وحده أن يذكر الشاعر أو الناثر لونين أو أكثر، يقصد بذلك الكناية أو التورية عما يريد من أغراض، وقد لا يقصد غير الوصف. فالبياض والسواد لونان متضادان، والتضاد يعني التطابق، ولكنه كنى بهما عن فريقين من الناس، فمن كان من أهل الحق وُسِمَ ببياض اللون ونصاعته، ومن كان من أهل الباطل وُسِمَ بسواد الليل وحلكته، ولا يخفى ما في ذلك من التهويل، وتباين المصير المحتوم لكل من الفريقين»(1).

وقد ذكر بعضهم أن هذا النوع من الفنون من مستخرجات ابن أبي الإصبع(2)، فيما يرى آخرون أنه مسبوق إليه، ولم يكن له من النوع إلا الاسم فقط.

وقد عرفه ابن أبي الإصبع بقوله: «وهو أن يذكر المتكلم ألوانا يقصد الكناية بها، والتورية بذكرها عن أشياء، من وصف، أو مدح، أو هجاء، أو نسيب، أو غير ذلك من الفنون، أو لبيان فائدة الوصف بها»(3).

وبالعودة إلى الآية فقد وُسِمَ من كان من أهل الحق ببياض اللون ونصاعته لأنه شعار أهل النعيم، وقد قُدِّمَ عند وصف اليوم ذِكْرُ البياض تشريفا لذلك اليوم بأنه يوم ظهور رحمة الله ونعمته(4)، وإنما اختير البياض سمة لأهل الإيمان لأن المؤمن عادة يضيء وجهه بنور الإيمان ويشعُّ ويشرقُ، فيشبه هذا الضياء والنور ببياض اللون ونصاعته.

وقد وقفت في بحث لي عن «دلالات الهيآت والإشارات والرموز في القرآن الكريم» على أن من دلالات اللون الأبيض: النقاء والنعيم، فقد ورد اللون الأبيض في القرآن الكريم في سياق ذكر جزاء أهل النعيم، قال الله تعالى: (وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) [آل عمران: 107].

وإنما وُسِمَ من كان من أهل الباطل بسواد الليل وحلكته وظلمته، لأنه سِمَة أهل الكفر والعذاب.

أما ما يتعلق باللون الأسود فقد وقفت في بحثي السابق على أن من دلالات هذا اللون: الحزن والهم، فقد ورد اللون الأسود في القرآن الكريم في سياقين اثنين أولهما في سياق الغضب، قال الله تعالى: (وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ) [النحل: 58].

والثاني في سياق ذكر جزاء أهل الشقاء، يقول الله تعالى: (وَيَوْمَ الْقِيامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْمُتَكَبِّرِينَ) [الزمر: 60]، ولورود اللون الأسود في هذا السياق ارتبط الأسود عند العرب بالمآتم والأتراح وخاصة في المشرق، فتجد المرأة المعتدة تلبس اللباس الأسود تعبيرا منها على الحزن، فهي تتنزه في عدتها عن الألوان الأخر ذات الدلالات المغايرة.

وارتباطا بالآية فإن حصول سواد وجوه هذا الفريق الغاية منه الترعيب والتهويل.

ويرى الطاهر ابن عاشور أن البياض والسواد حقيقيان يوسم بهما المؤمن والكافر يوم القيامة، وهما بياض وسواد خاصان لأن هذا من أحوال الآخرة فلا داعي لصرفه عن حقيقته(5).

وإنما أتى حسن التدبيج في هذه الآية من مقابلة لوني الأبيض والأسود معا، فلكل لون دلالة معينة، وقد جعله الله تعالى في الآية سمة لفئة مخصوصة، فالتدبيج في هذه الآية قصد به الكناية عن هذين الفريقين، فجاء البياض كناية عن أهل الحق وذلك من أجل الترغيب في الإيمان، وجاء السواد كناية عن أهل الباطل والكفر، وذلك بغية الترعيب والتهويل من الكفر والعذاب اللاحق بأهله.

وفيما يلي رسم تمثيلي لفن التدبيج في هذه الآية:

الهوامش:

1- إعراب القرآن الكريم وبيانه 1/500.

2- انظر: خزانة الأدب للحموي 2/453.

3- بديع القرآن ص: 242، تحرير التحبير ص: 532.

4- التحرير والتنوير 4/44.

5- التحرير والتنوير 4/44.

المصادر والمراجع:

– إعراب القرآن الكريم وبيانه، لمحيي الدين الدرويش، الطبعة الحادية عشرة: 1432هـ/ 2011م، منشورات اليمامة ودار ابن كثير.

– بديع القرآن، لابن أبي الإصبع المصري، تقديم وتحقيق حفني محمد شرف، منشورات نهضة مصر.

– تحرير التحبير في صناعة الشعر والنثر وبيان إعجاز القرآن، لابن أبي الإصبع، تقديم وتحقيق: الدكتور حفني محمد شرف، منشورات: الجمهورية العربية المتحدة- المجلس الأعلى للشئون الإسلامية- لجنة إحياء التراث الإسلامي.

– التحرير والتنوير، للإمام محمد الطاهر ابن عاشور، منشورات دار سحنون للنشر والتوزيع، تونس.

– خزانة الأدب وغاية الأرب، لابن حجة الحموي، تحقيق: عصام شقيو، الطبعة الأخيرة: 2004م، منشورات دار ومكتبة الهلال، بيروت- دار البحار، بيروت.

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق