مركز ابن أبي الربيع السبتي للدراسات اللغوية والأدبيةمفاهيم

قواعدُ في صناعة الشعر- القاعدة الأولى: حفظ الشعر (الحلقة الثانية)

إن الحفظَ رأسُ هذا الأمر ونظامُه، وذروةُ سنامهِ وقوامُهُ؛ بأن يجتهد المرءُ  في رواية الأشعار وحفظها، ويُنعم النظر في دواوين الفحول، لتحصل له الملكة الشعرية، وليعرف قوانين النظم وطرق تأليفه ومذاهب الشعراء في الكلام وسننهم في التشبيهِ، يقول الأصمعي –رحمه الله تعالى -: «لا يصير الشاعر في قريض الشعر فحلًا حتى يرويَ أشعار العرب، ويسمع الأخبار، ويعرف المعاني، وتدور في مسامعه الألفاظ»(1)، ويقولُ ابن خلدون –رحمه الله تعالى -: «اعلم أنَّ لعملِ الشِّعر وإحكام صناعته شروطاً، أولها: الحفظ من جنسه أي من جنس شعر العرب، حتى تنشأ في النّفس ملكة ينسجُ على منوالها»(2)، ويقول: «ويتخيّر المحفوظ من الحرِّ النّقيّ الكثير الأساليب. وهذا المحفوظ المختار أقلُّ ما يكفي فيه شعرُ شاعرٍ من الفحول الإسلاميين، مثل ابن أبي ربيعة وكثيّر، وذي الرّمة، وجرير، وأبي نواس، وحبيب [أي أبي تمّام]، والبحتريّ، والرّضيِّ، وأبي فراس»(3).

ومن فوائد حفظ الشّعر وروايته أنه تشحذ القريحة وتصقل الطبع، وتجعل الراغب في صناعته مطلعا على المعاني يأخذ منها ما يشاء ويذر، ومن أجل ذلك كان للشعراء قديمًا شيوخ وأساتذة يلازمونهم ويأخذون عنهم؛ فكان زهير بن أبي سلمى رَاويةَ أوس بن حجر، وكعبٌ والحطيئة راويَتَيْ زُهيرٍ، وكُثير عزّة رَاويةَ جميل بُثيْنةَ وهلمَّ جرا(4). يقول حازم القرطاجني: «وأنت لا تجد شاعرًا مُجيدًا منهم إلّا وقد لزم شاعرا آخر المدةَ الطويلةَ، وتعلم منه قوانين النظم، واستفاد عنه الدربة في أنحاء التصاريف البلاغية؛ فقد كان كثيّر أخذ الشعر عن جميل، وأخذه جميل عن هُدْبَةَ بن خَشْرَم، وأخذه هدبة عن بشر بن أبي خازم، وكان الحطيئة قد أخذ علم الشعر عن زهير، وأخذه زهير عن أوس بن حجر، وكذلك جميع شعراء العرب المجيدين المشهورين. فإذا كان أهل ذلك الزمان قد احتاجوا إلى التعلم الطويل فما ظنك بأهل هذا الزمان، بل أية نسبة بين الفريقين في ذلك؟!»(5).

وكان أبو تمّام «يحفظ أربعة عشر ألف أرجوزة للعرب، غير المقاطيع والقصائد…»(6)، وكان المتنبي يحفظ ديوان أبي تمام والبحتري ويستصحبهما في أسفاره(7)، وكذلك فقد «استأذن أبو نواس خلفًا الأحمر في نظم الشعر، فقال له:‏‏ لا آذن لك في عمل الشعر إلا أن تحفظ ألف مقطوع للعرب ما بين أرجوزة وقصيدة ومقطوعة.‏‏ فغاب عنه مدة وحضر إليه، فقال له:‏‏ قد حفظتُها. فقال له خلف الأحمر: أَنشِدْها،‏ فأنشدَهُ أكثرَها في عدة أيام، ثم سأله أن يأذنَ له في نظم الشِّعر، فقال له:‏ لا آذَنُ لك إلا أنْ تَنسى هذه الألف أرجوزة كأنك لم تحفظها.، فقال له:‏ هذا أمرٌ يصعب عليَّ، فإني قد أتقنت حفظها.‏ فقال له:‏ لا آذن لك إلا أن تنساها.‏ فذهب أبو نواس إلى بعض الأديرة، وخلا بنفسه، وأقام مدّة حتى نسيها، ثم حضر فقال:‏ قد نسيتها حتى كأن لم أكن حفظتها قط.‏ فقال له خلف:‏ الآن انظم الشِّعر!» (8). ‏

وأما المستخفُّ بالحفظ فليس إلا معرّضًا نفسَه للتهكم والاستهزاء، ولا يأتي بشيءٍ ولو بعد إرهاق ذهن وإعنات خاطرٍ، وفي هذا يقول ابن خلدون: «ومن كان خالياً من المحفوظ فنظمه قاصرٌ رديء»(9)، ويقول: «فمن قلَّ حفظُه أو عدِم لم يكن له شعرٌ، وإنما هو نظمٌ ساقطٌ»(10)، ثم يقول: «واجتنابُ الشعر أولى بمن لم يكن له محفوظٌ»(11).

ومن الكتب النافعة التي ينبغي لمن يتكلّف نظمَ الشعر النظر فيها وحفظ أكبر قدر منها ما يلي:

– جمهرة أشعار العرب، لأبي زيد القرشيّ (ت:170هـ)،

– ديوان الحماسة، لأبي تمام (ت:231هـ)،

– والأغاني، لأبي الفرج الأصفهاني (ت:356هـ)،

– والمفضّليّات، للمفضّل الضّبي (نحو:168هـ)،

– والأصمعيّات، للأصمعيّ (ت:216هـ)،

– وأشعار الشعراء الستة الجاهليين، للأعلم الشنتمري (ت:476هـ)،

– ومنها أيضا: دواوين الشعراء الفحول، ومنهم ديوان أبي تمام، وديوان البحتري، وديوان المتنبي، فهؤلاء الثلاثة –كما قال ابن الأثير -: «لات الشعر وعزّاه ومناته، الذين ظهرت على أيديهم حسناته ومستحسناته، وقد حوت أشعارهم غرابة المحدثين إلى فصاحة القدماء، وجمعت بين الأمثال السائرة وحكمة الحكماء»(12).

فمن اجتهد في حفظ جيِّدِ الشّعر، ولم يستعجل – لأن الملكة تأتي بالتدريج – شَعُر واستفحل، وبرَّز من جاراهُ!

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الهوامش

(1 ) العمدة (1/197)

(2 ) مقدمة ابن خلدون (ص:481)

(3 ) مقدمة ابن خلدون (ص:481)

(4 ) الأغاني (21/257)

(5 ) منهاج البلغاء (ص:27)

(6 ) البلغة في تراجم أئمة النحو واللغة (ص: 107)

(7 ) الواضح في مشكلات شعر المتنبي (ص:10)

(8 ) أخبار أبي نواس (ص:55)

(9 ) مقدمة ابن خلدون (ص:481)

(10 ) مقدمة ابن خلدون (ص:481)

(11 ) مقدمة ابن خلدون (ص:481)

(12 ) المثل السائر (2/348)

Science

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق