مركز دراس بن إسماعيل لتقريب المذهب والعقيدة والسلوكقراءة في كتاب

قراءة في كتاب: “الرعاية لحقوق الله” للحارث المحاسبي (ت243هـ)

تقديم:

سنحاول من خلال هذه القراءة في كتاب “الرعاية لحقوق الله” للحارث المحاسبي أن نتبين أهم ما يتضمنه هذا الكتاب من معالم سلوكية كاشفة للمعاملة مع الله تعالى والتي سيتأسس عليها علم بأكمله هو علم التصوف، فالمحاسبي يعدّ من أبرز العلماء الذين تطورت معهم معالم هذا الفن، كما أن الكتاب الذي بين أيدينا يعتبر من الكتابات الأولى المؤسسة له؛ فهو عمدة لدى السالكين في الوقوف عند آداب المعاملة مع الله تعالى، ومن هنا تبدو أهميته الكبيرة في السياق الصوفي بشكل عام، فقراءتنا للكتاب ستكون من خلال عرض أهم ما يتضمنه، وإبراز قيمته التاريخية والدينية والمنهجية، إلى جانب التعريف بالمؤلف تعريفا يبرز مكانته العلمية بشكل عام وإسهامه في مجال الكتابة الصوفية بوجه خاص.

أولا: التعريف بالمؤلف

هو أبو عبد الله الحارث بن أسد المحاسبي البصري، أحد أعلام التصوف في القرن الثالث الهجري، من أهل البصرة، ولد بها عام 170 هـ، قال عنه أبو عبد الرحمن السلمي: “أستاُذ أكثرِ البغداديين”[1]، سواء في علوم الشريعة أو الحقيقة، من أشهر تلامذته الإمام الجنيد. وبشكل عام فهو يعتبر أحد أبرز أعلام السلوك والتصوف الذين جمعوا بين علوم الظاهر والباطن، فهو إلى جانب ضبطه لعلوم الشريعة كان شديد الورع والخشية والتقوى، سمي بالمحاسبي لكثرة محاسبته لنفسه، وهو من الأعلام الذين تأسس معهم علم التصوف، روي أنه ورث عن أبيه سبعين ألف درهم، فلم يأخذ منها شيئا تورعا، ومات وهو لا يملك شيئا[2]. أثنى عليه كثير من أهل العلم، قال عنه الخطيب البغدادي: “أحد من اجتمع له الزهد وَالمعرفة بعلم الظاهر وَالباطن. وللحارث كتب كثيرة فِي الزهد، وَفي أصول الديانات، وَالرد على المخالفين من المعتزلة، وَالرافضة، وَغيرهما، وَكتبه كثيرة الفوائد، جمة المنافع”[3].

من كتبه: “البعث والنشور”، “معاتبة النفس”، “مائية العقل ومعناه واختلاف الناس فيه”، “فهم القرآن ومعانيه”، “شرح المعرفة”، “رسالة المسترشدين”، “الوصايا”، “المسائل في الزهد وغيره”، “المسائل في أعمال القلوب والجوارح”، “الخلوة والتنقل في العبادة”، وكتاب “التوهم في وصف أحوال الآخرة”، و”آداب النفوس”، و”الرعاية لحقوق الله” الذي نحن بصدد دراسته.

من درر كلامه: “أصل الطَّاعَة الْوَرع وأصل الْوَرع التَّقْوَى وأصل التَّقْوَى محاسبة النَّفس وأصل محاسبة النَّفس الْخَوْف والرجاء وأصل الْخَوْف والرجاء معرفَة الْوَعْد والوعيد وأصل معرفَة الْوَعْد والوعيد دَاء عَظِيم الْجَزَاء وأصل ذَلِك الفكرة وَالْعبْرَة”. وَقوله: “حسن الْخلق احْتِمَال الْأَذَى وَقلة الْغَضَب وَبسط الرَّحْمَة وَطيب الْكَلَام وَلكُل شيء جَوْهَر وجوهر الْإِنْسَان الْعقل وجوهر الْعقل الصَّبْر وَالْعَمَل بحركات الْقُلُوب في مطالعات الغيوب أشرف من الْعَمَل بحركات الْجَوَارِح”[4].

توفي رحمه الله ببغداد سنة 243هـ بعد حياة حافلة بالعطاء العلمي والديني والتعبدي.

ثانيا: دور الحارث المحاسبي في التأسيس للتصوف والكتابة فيه

الحارث المحاسبي وكما سبقت الإشارة هو أحد أهم الأعلام الذين بدأت معهم معالم التصوف بالتبلور والتشكل في القرون الأولى، وهو يعد ضمن أهم أعلام الطبقة الثانية التي جاءت بعد طبقة إبراهيم بن أدهم (ت161هـ) «الذي يقال إنه معه انقلب الزهد تصوفا»([5])، وسفيان الثوري (ت161هـ)، ورابعة العدوية (ت185هـ)، وأبي نصر بشر الحافي (ت227هـ)، فالمحاسبي يأتي مباشرة بعد هذه الطبقة، وهو أيضا يعد متوسطا بين هؤلاء وطبعة الإمام الجنيد، ولذلك فهو له أهمية كبرى في تشكل الفكر السلوكي الصوفي، وقد شكلت كتاباته أساسا هاما لتَشكّل الخطاب الصوفي والكتابة فيه، فمع مؤلفاته بدأ الخطاب الصوفي يدخل مرحلة الاكتمال والاستقرار، وأصبح مكونا أساسيا من مكونات الثقافة والحضارة الإسلاميتين، وأصبحت له أنساقه وسياقاته واصطلاحاته المميزة التي ستكتمل بشكل أكبر مع طبقة تلامذته وعلى رأسهم الإمام الجنيد ومن هو في طبقته.

إن أبرز ما يستوقفنا عند الحديث عن الإمام المحاسبي أنه يبقى محطة بارزة في تشكل علم السلوك إلى جانب علوم أخرى في مقدمتها الفقه بمذاهبه الأربعة، وقد كان له دور كبير في هذا التشكل؛ وذلك بسبب غيرته الكبيرة على الدين ونشر قيمه وتعاليمه، فكما دعت الضرورة إلى بروز علم الفقه بسبب كثرة النوازل الفقهية، كذلك دعت الضرورة إلى بروز “علم السلوك أو التصوف” الذي جاء بدوره نتيجة لمجموعة من الدواعي؛ منها الحاجة التربوية للمسلمين وتقويم السلوكيات، وهو ما تصدر له المحاسبي بشكل بارز، بسبب الأزمة الأخلاقية التي بدأت معالمها تتفشى شيئا فشيئا في المجتمع الذي عاش فيه، وهو ما جعله -من باب المسؤولية الدينية التي يستشعرها- يتصدر لإشاعة القيم الدينية الأصيلة التي يمكن أن تقف حاجزا ومقابلا موضوعيا للاأخلاقية التي أصبحت تتفشى شيئا فشيئا في المجتمع الإسلامي آنئذ.

وحيثما أردنا التعرف على الدور الإصلاحي الكبير الذي اضطلع به الحارث المحاسبي، فيتراءى لنا أولا من خلال وصفه الدقيق لحال العصر الذي عايشه حيث يخبرنا بما كان سائدا آنئذ ويتتبع بشكل دقيق لسلوكيات الناس؛ يقول واصفا أصناف الناس في وقته، وكيف قصرت الهمم في طلب الآخرة، والاشتغال بطلب الدنيا: «ثم رأيت الناس أصنافا: فمنهم العالِم بأمر الآخرة، لقاؤه عسير ووجوده عزيز. ومنهم الجاهل، فالبعد عنه غنيمة. ومنهم المتشبه بالعلماء مشغوف بدنياه مؤثر لها. ومنهم حامل علم منسوب إلى الدين ملتمس بعلمه التعظيم والعلو، ينال بالدين من عرض الدنيا. ومنهم حامل علم لا يعلم تأويل ما حمل. ومنهم متشبه بالنساك متحرٍّ للخير لا غناء عنده ولا نفاذ لعلمه ولا معتمد على رأيه. ومنهم منسوب إلى العقل والدهاء، مفقود الورع والتقوى. ومنهم متوادون، على الهواء واقفون، وللدنيا يذلون ورئاستها يطلبون. ومنهم شياطين الإنس، عن الآخرة يصدون، وعلى الدنيا يتكالبون، وإلى جمعها يهرعون، وفي الاستكثار منها يرغبون، فهم في الدنيا أحياء وفي العرف موتى، بل العرف عندهم منكر»([6])، فمثل هذا الكلام يشهد على تردي الحالة الدينية والخلقية في هذه الفترة التي عاصرها المحاسبي عما كانت عليه زمن السلف الصالح من الصحابة والتابعين، وأيضا تبرز الدور الإصلاحي الذي كان مضطلعا به هذا العلم الفذ، فهذا الرأي لم يخرج به المحاسبي إلا بعد تفحص دقيق لوضع المجتمع آنئذ، وهو ما أكده بالقول في مناسبة أخرى حيث قال: «إني تدبرت أحوالنا في دهرنا هذا فأطلت فيه التفكر، فرأيت زمانا مستصعبا قد تبدلت فيه شرائع الإيمان، وانتقضت فيه عرى الإسلام، وتغيرت فيه معالم الدين، واندرست فيه الحدود […] ورأيت فتنا متراكمة يحار فيها اللبيب، ورأيت هوى غالبا، وعدوا مستكلبا، وأنفسا والهة عن التفكير محجوبة، قد جللها الرياء فعميت عن الآخرة. فالضمائر والأحوال في دهرنا بخلاف أحوال السلف وضمائرهم»([7])؛ إذ تردّت الجوانب الأخلاقية والسلوكية على ما كانت عليه في العهود السابقة.

ويشهد لحالة التردي هذه أيضا، ظروف الفتن التي عرفها هذا العصر؛ وفي طليعتها الصراع الذي نشب بين ابني هارون الرشيد الأمين والمأمون وما شابه من اضطرابات وقلاقل، حيث ساد نوع من الفوضى والضيق والخوف وعدم الاطمئنان. ثم لما انتصر المأمون على أخيه عسكريا اشتعلت نار الفتن المذهبية، فتفرق الناس فرقا، وتوزعوا مذاهب، وفي هذه الفترة بلغ الخلاف المذهبي والكلامي ذروته، خاصة بين المعتزلة والقدرية وأهل السنة والشيعة، ومن نتائجه محنة خلق القرآن، وما رافق ذلك من صراعات، وأمام هذا التطور تشتت الناس وتفرقوا، كلٌّ قصد سبيلا غير سبيل صاحبه، وظهرت العصبية، فكان طبيعيا نتيجة لذلك أن تظهر أزمة حقيقية في القيم([8]).

ناهيك عن الجانب الدنيوي الذي عرف بدوره رخاء كبيرا؛ حيث ساد الترف وتفنن الناس في الاستمتاع بالدنيا وشهواتها وملاهيها، والنموذج في الأمين ابن الخليفة هارون الرشيد الذي «فتح مدينة المنصورة للملاهي والجري وراء الملذات»([9])؛ فما ذلك سوى انعكاس لما وصل إليه المجتمع في تلك الفترة من تقهقر في الجانب القيمي والأخلاقي؛ حيث تغافل الناس عن سلوك طريق الآخرة وتمكنت الدنيا من قلوبهم وصارت أكبر شغلهم، وصار الدين مجرد قشور ومظاهر. وعاد القطاع الأوسع من الناس من أهل الدنيا والغفلة عن الآخرة.

أمام كل هذا الوضع كان المحاسبي من العلماء الأفاضل الذين تصدروا لتوجيه الناس للتعلق بالله تعالى والعمل بمقتضى الدين الإسلامي والترويج لثقافة الآخرة على حساب ثقافة الدنيا. وهذا واضح جدا من خلال كل مؤلفاته القيمة التي تصطبغ بهذه الصبغة السلوكية بما فيها كتاب “الرعاية لحقوق الله”.

1 2الصفحة التالية

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق