مركز دراس بن إسماعيل لتقريب المذهب والعقيدة والسلوكقراءة في كتاب

قراءة في كتاب: “الرعاية لحقوق الله” للحارث المحاسبي (ت243هـ)

ثالثا: العرض التفصيلي لمضامين كتاب “الرعاية لحقوق الله”

يعد كتاب “الرعاية لحقوق الله” من المؤلفات الصوفية الأولى التي تناولت المقوم السلوكي خاصة في الجانب النفسي والعقدي بما يتضمنه من ملامح تربوية واتصالية فيما بين العبد وخالقه، فهو من الكتب الأولى التي ركزت على المكون السلوكي، وفي محاولة لعرض المضامين الكبرى للكتاب، سنحاول أن نعرض هذه المضامين عرضا نزاوج فيه بين القراءة الوصفية للكتاب والتي سنتناولها من خلال عرض التصميم العام للكتاب، وأهم المعالم المضمونية فيه.

كتاب “الرعاية لحقوق الله” وكما يدل على ذلك العنوان يتضمن العلاقة العمودية فيما بين العبد وخالقه من خلال التفصيل في الواجبات التي تجب في حقه تجاه خالقه. وهو أكبر مؤلفات المحاسبي من حيث الكم بعدها يأتي كتاب “أعمال القلوب والجوارح”، وكتاب “المسترشدين”، و”الوصايا”، و”المكاسب”، و”العقل”، و”آداب النفوس”، و”بدأ من أناب إلى الله”، و”المعرفة”، و”القصد والرجوع”.

يعدّ كتاب “الرعاية” من الكتب التي أسست للكتابة الصوفية في بعدها السلوكي، التي تعنى بجانب الأخلاق والأحوال والمقامات على غرار ما هو في كتب مثل “قوت القلوب” لأبي طالب المكي و”كشف المحجوب” لعلي الهجويري، و”الرسالة القشيرية” لعبد الكريم القشيري والتي صبت كلها في “إحياء علوم الدين” للغزالي. ومن ثم يعتبر هذا الكتاب من اللبنات الأولى التي تأسست عليها الكتابة الصوفية.

وأما من جهة محتوياته؛ فهو يشتمل مقدمة مطولة يتصدرها تمهيد بسيط في بيان أهمية حسن الاستماع، بالإضافة إلى مجموعة من الأبواب في مواضيع شتى كلها في بيان متعلقات التقوى والعبودية وأداء واجبات العبودية لله تعالى، وتحديد معنى رعاية حقوق الله وهي أقرب إلى واجبات الإنسان، وتتضمن واحدا وأربعين بابا، تبدأ بالأبواب الآتية: باب الرعاية لحقوق الله والقيام بها، باب معرفة التقوى وما هي، باب معرفة الحذر، باب معرفة ما يبدأ به العبد من العدة للمقام بين يدي الله تعالى، باب شرح التقوى، باب معرفة الورع، باب في تعريف المغترّ نفسه وطول غرته، باب أول ما يجب للعبد معرفته والفكر فيه، باب محاسبة العبد نفسه في أعماله، باب اختلاف الناس في طلب التقوى وفي رعاية الأعمال لله تعالى، باب ما يبعث العبد على التوبة وترك الإصرار، باب ما ينال به الخوف من وعيد الله تعالى… الخ.

بعد هذه المقدمة بما تتضمنه من أبواب مؤطرة للكتاب وموضوعه، هناك سبعة كتب بمثابة مواضيع كبرى هي: كتاب الرياء، كتاب الإخوان ومعرفة النفس، كتاب التنبيه، كتاب العجب، كتاب الكبر، كتاب الغرّة، كتاب الحسد، كتاب تأديب المريد. وكل واحد من هذه الكتب يتضمن العديد من الأبواب الصغيرة. وهذه الكتب نجدها متفاوتة في أحجامها ويبقى كتاب الرياء أكبرها، ثم تليه المقدمة التي تتضمن بدورها عددا كبيرا من الأبواب، ثم يأتي بعد ذلك تواليا من حيث الحجم وعدد الأبواب: كتب الغرّة، والكبر، والعجب، والحسد، والإخوان ومعرفة النفس، والتنبيه؛ فهذا الأخير ليس فيه سوى بابين وهو أصغر الكتب السبعة.

عموما، فالكتاب يتناول موضوعات الفضائل مثل التقوى والورع والحذر، وبعض الأحوال مثل الخوف، وبعض خوالج النفس كالهم والتذكر والمعرفة، وبعض المقامات مثل التوكل، وبعض مسائل الفقه مثل أداء الفرائض والنوافل، وبعض أمور المعاد مثل كراهة الموت. وأيضا الآفات ومعظمها عن الرذائل. ويعتبر الرياء أسوأ تلك الآفات؛ وهو عبارة عن ازدواجية القول والسلوك، وعدم صفاء النية، والفصل بين النية والعمل. والدافع عليه الحرص على ما في أيدي الناس، والخوف من فقده. رمزه إبليس أي الإدعاء والفصل بين الظاهر والباطن. وقد يكون العجب بالدين أو بإضافة العمل إلى النفس أو بالرأي الخاطئ أو بأعمال الطاعة أو بالدنيا والنفس وكثرة المال والبنين. ويرتبط به الكبر والكبرياء. وقد يكون الكبر أيضا بالدنيا والعلم والعمل والبدعة ونقيضه الصدق والتواضع. والغرة أصل الغرور. وقد تكون بالله. وبالفقه وبالعلم وبالعلم وبحفظ الكلام وبالجدل وبالعبادة وبالورع وبالغزو وبالحج وبالإخلاص وبطول الستر. وقد تكون من عوام المسلمين وعصاهم ومن أهل النسك والتقوى والفقه. أما الحسد فقد يكون على الرياسة وحب المنزلة وظاهر الدنيا والعجب. ويشمل الحقد والعداوة. لذلك يجب التنبيه على سوء أفعال النفس واتباعها هواها. وهو ما يستلزم صحبة الإخوان والابتعاد عن الشبهة ومعرفة النفس والتوبة. لذلك لزم تأديب المريد ورعاية سيرته وتحذيره من الفتنة وهدايته. فهذا هو جماع ما يدور حوله هذا الكتاب.

وأما عن منهجه فقد صاغه المحاسبي بطريقة السؤال والجواب، كما نجده أقرب في لغته وبنائه إلى رواية الحديث التي تبدأ بعبارة و”حدثني”. ومن جهة أخرى يعتمد فيه المؤلف على الحجج النقلية بنفس قدر اعتماده على التنظير العقلي والتحليل النفسي، إلى جانب اعتماده الكبير على التفسير. وأما النقول فهي قليلة في الكتاب باستثناء بعض أقوال الحكماء. ولربما يكون هذا الكتاب أضخم كتاب في التصوف قبل الإحياء من جهة الاعتماد على القرآن والحديث في الاستشهاد. كما أنه يخلو من الشعر. ولا يظهر أعلام التصوف إلا نادرا مثل وهب بن منبه وغيره. ولا فرق عند المؤلف بين الصوفية والحكماء. كما أنه على قدر اعتماده على النقل فهو أيضا يعتمد على الحجج العقلية والمنطقية، ولعل ذلك كونه من المشتغلين بعلم الكلام، فهو يكشف مسائل السلوك بالنقل والعقل معا، فهو لا يرى تعارضا بين الذوق والعقل، حتى إنه قد ألف رسالة في هذا الغرض سماها “رسالة العقل” يدحض فيها «الحكم الشائع بأن منهج الذوق مضاد لمنهج العقل. فالعقل قادر على الوصول للكشف. يتفق عليه الفلاسفة والمتكلمون والأصوليون والصوفية… وهو العقل الأخلاقي، والعقل العملي الذي اشتهر به كانط، وهو صادر من الله. فأول ما خلق الله خلق العقل، وهو أعز من خلق، هو دليل وحجة… والعقل [بهذا المعنى] يشمل الحس والقلب، العيان والوجدان»([10])، ومن ثم لا يخلو التصوف كما يراه المحاسبي من برهان مع جنوحه إلى الوجدان.

فهذا جماع ما يتسم به هذا الكتاب من الناحية الموضوعية والمنهجية، وإن كنا نرى أنه من حيث الترتيب أتى على وفق من الازدحام بين مواضيعه وعدم تبويبها تبويبا دقيقا كما هو عليه الأمر بالنسبة للكتب التي أتت بعده مثل كتاب الرسالة القشيرية وغيرها، وهذا أمر نراه طبيعيا بالنظر للسبق في الكتابة من هذا النوع؛ حيث إن الكتابات الأولى في جميع العلوم تكون على هذه الشاكلة، إذ تُعرف بكثرة المادة وازدحامها وتداخلها.

رابعا: القيمة العلمية للكتاب في مجال التصوف

أما من جهة القيمة العلمية للكتاب؛ فلا تخفى القيمة الكبيرة التي يحظى بها بالنظر للفوائد السلوكية التي يتضمنها، وهو ما جعله معتمدا وحاضرا في جميع مصادر علم التصوف، فلا يكاد كتاب من كتب الصوفية الكبار يخلوا من الاستشهاد بأحد مضامينه. أيضا فإن قيمته تظهر من حيث كونه من الكتب الأولى في هذا الفن، ومن ثمة فإن له قيمة علمية وتاريخية كبيرة. فهو يعتبر من أهم المؤلفات المختارة في علم التصوف والسلوك والتزكية التي لا يمكن تجاوزها بحال، لأنه من اللبنات الأولى التي شكلت أساسا لتبلور الكتابة الصوفية عامة.

الهوامش:


[1]  – طبقات الصوفية، للسلمي، دار الكتب العلمية، ط2003، ص58.

[2]  – ينظر: طبقات الأولياء، لابن الملقن، 1/176.

[3]  – طبقات الفقهاء الشافعية، لابن الصلاح، 1/439.

[4]  – طبقات الشافعية الكبرى، للسبكي، 2/275.

[5]  ـ العقل الأخلاقي العربي، د. محمد عابد الجابري، مركز دراسات الوحدة العربية، ط الثالثة 2009، ص: 541.

[6] ـ الوصايا (النصائح الدينية والنفحات القدسية)، الحارث المحاسبي، تحقيق عبد القادر عطا، طبعة محمد علي صبيح، القاهرة 1964، ص: 27ـ28.

[7] ـ نفسه، ص: 28.

[8] ـ ينظر بهذا الخصوص:

ـ الخلافة العباسية، عبد المنعم الهاشمي، دار ابن حزم ـ القاهرة، ط1؛ 2003.

ـ الزندقة والشعوبية في العصر العباسي الأول، حسين عطوان، دار الجيل للطبع والنشر والتوزيع ـ بيروت، ط1؛ 1984.

[9] ـ الوصايا، ص: 28.

[10] ـ من الفناء إلى البقاء، حسن حنفي، 1/79.

الصفحة السابقة 1 2

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق