يندرج موضوع (قراءة الوحي بين الثابت والمعهود، ورهان التأويل وبصائر الوجود) للإبانة عن جوانب من التكامل المعرفي بين بنائية الوحي وبنائية الكون، وبين علوم التيسير وعلوم التسخير، وقد جمعت أربعة من المصطلحات، هي: الثابت والمعهود، والتأويل وبصائر الوجود.
أما الثابت والمعهود؛ فهي مصطلحات تحيل على اتباع دلالات الوحي وبنائيته في الثوابت والمعهودات، ونروم من خلالها الكشف عن العلاقة الجدلية بين حدود اتباع دلالات تلك الثوابت والمعهودات، من خلال استبصار الواقع والسياق الذي تم فيه تنزيل الكتاب المسطور، وبين اتساع دلالات الوحي في المتغير والمتحول والمتجدد، من خلال استبصار الواقع والسياق الكوني المتغيِّر وطريقة التجسير بين قضاياه وأسئلته ونصوص الوحي.
وسنشرع أولا بالحديث عن معنى الثابت في دلالات الوحي وما يقابله، ثم سنتدرج في الحديث عن باقي المطصلحات على قرْي واحد، وذلك في إطار وسياق الديباجة السالفة الذكر، فنقول:
الثابت والمتغير: ماهيتهما ومحلهما في دلالات الوحي تنصيصا واجتهادا
أما الثابت في اللغة؛ فهو اسم فاعل من ثبت الشيء ثباتا وثبوتا، أي: استمر ودام، ومن الطريف أن الوحي قد استعمله في الثوابت التي أمر بالالتزام بها، ومنه قوله تعالى: ﴿أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ﴾ (إبراهيم: 26)، وقوله: ﴿يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ ءَامَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ﴾ (إبراهيم: 29)، وقوله: ﴿يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ﴾ (الرعد: 40)، وهو لا يثبت إلا الأعمال الصالحة، وقد بيّن ذلك في قوله: ﴿وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ﴾ (البقرة: 264)، وقوله: ﴿وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا﴾ (النساء: 65).
وأما الثابت في الاصطلاح؛ فهو من المصطلحات الثنائية التي جرى ذكرها عند المعاصرين في الدراسات الفقهية والأدبية وغيرها، فيذكرون الثابت في مقابل المتغير، والحديث في مقابل القديم، والأصيل في مقابل المعاصر، وهكذا. ويُعبرون عن أصول الشريعة وأركانها بالثوابت.
وقد جرت عادة العلماء في القديم على التعبير عن ذلك بالمعلوم من الدين بالضرورة، وهو الذي يلازم حالة واحدة، وصورة واحدة لدى جميع الأفراد، في كل زمان ومكان، وفي جميع الأحوال. وإذا كان الثابت معلوما من الدين بالضرورة، فهو واضح لا إشكال في بيانه، ولا اختلاف في دلالته، ولا يعذر أحد بجهله، وليس محل نظر وخلاف، وجله في أصول الدين.
وعلى الجملة؛ فالثابت محصورٌ ومحدودٌ في ساحة المنصوص عليه أمراً أو نهياً، أو ما يسمى بالعادات الشرعية كما قال الشافعي، وهذا المحصور والمحدود لا يقبل التغيّر، ولا يجوز المساس به باسم المصلحة أو العادة المتجددة؛ لأن ذلك يعتبر نسخا للشريعة، ولا نسخ بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم.
ولا أريد في الواقع أن أقف كثيرا عند مصطلح الثابت، فاسمه يدل على مسماه، وإنما الذي يعنيني في هذا المقام ما يُقابله، وهو المتغيِّر الذي هو محل نظر وخلاف، ويندرج فيه المسكوت عنه أو المخيّر فيه، ومن قبيل ذلك ما يندرج في أبواب الفقه المحمولة على العوائد المختلفة وما يجري مجراها باختلاف الأحوال والأزمنة والأمكنة، فتتغيّر أحكامها الشرعية على ما تقتضيه العادة المتجددة في تلك الجهات الأربع؛ ولذلك كان علم الفقه بحسب الحاجة؛ لأن واقع الإنسان يتغيّر باعتبار تلك الجهات، ويتفاوت في الأفراد، ويتراوح في الفرد الواحد بين الضرورة والحاجة والتوسع والرفاهية.
ألا ترى أن الوحي قد رتب أوامره ونواهيه ورخصه ترتيبا يسع جميع الناس على تفاوت استعدادهم ومواهبهم، فالأوامر الدينية درجات، والنواهي كذلك درجات، والرخص الدينية أنواع ومراتب تعويضية وغير تعويضية، وقد فسح فيها الشرع إلى مرتبة الإحسان، وما وراء هذه الرخص وتلك الأوامر والنواهي فمباحات، لكل واحد أن يأخذ منها ما يشاء، ويدع منها ما يشاء.
والسلم الدلالي الذي وضعه الأصوليون هو الذي يكشف لنا عن درجات الأوامر والنواهي وما وراءها، وهو الذي جعل الفقه في باب المتغيِّر بحراً لا يدرك، ومعينا لا ينضب، وهو الذي جعله يحافظ على الثوابت، ويستوعب المتغيِّرات. ويندرج في هذا الباب مفهوم التجديد في الفكر الديني بحسب السياق الكوني المناسب لكل عصر وواقعه، وهو تجديد في طريقة التجسير والمواءمة بين قضايا وأسئلة هذا السياق الكوني المتغيّر ونصوص الوحي.
ومن المعلوم أن من خصوصيات مذهبنا المالكي في الفقه قابليته للتطور والتجديد ومواكبة العصر في ظل الشريعة الإسلامية السمحة، وتحت مراقبتها وداخل إطارها الفقهي ومحيطها الفلسفي والأخلاقي، بفضل أخذه بمبادئ العادات الحسنة والمصلحة المرسلة وسد الذرائع، فإن هذه الأمور تختلف من عصر إلى عصر، ومن بلد إلى بلد، مما يفتح الباب على مصراعيه أمام كل باحث مقتدر وكل فقيه مجتهد يتمتع بالأهلية الضرورية لاستنباط ما يحتاج إلى استنباطه من أحكام، أو اختيار ما هو الأفضل والأنسب مما هو موجود ومنصوص عليه في التراث الفقهي الإسلامي.
وقد أثبتت التجربة المغربية نجاعة هذا الأسلوب وفائدته في فقه العمليات، أو ما يُعرف بما جرى به العمل، ومنه: العمل الفاسي والعمل المطلق، وروادُ هذا الفقه استندوا في أحكامهم وفتاويهم التي جرى بها العمل، إلى المصالح المرسلة، وسد الذرائع، والعادات الحميدة، لاعتماد أقوال مرجوحة أو خارجة عن المذهب، وهو فقهٌ تجديدي يتناسب مع الظروف الدينية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية والأمنية التي كانوا يعيشونها مما أغناهم عن الاستيراد والتقليد والاقتباس من الغير، وقد ساعدهم ذلك على المحافظة على الهوية الإسلامية والطابع المالكي في تشريعهم وقضائهم.
والجديد في عالمنا المتغيِّر اليوم، بسبب فعل التأثير والتأثر الذي جعله منقبضا ومجتمعا مع انبساطه وتفرقه، هو أنه قد جعل القضايا والأسئلة الصغرى التي تتفاوت في الأفراد، بمثابة القضايا والأسئلة الكبرى التي تؤثر في الجماعة وفي قبلتها ووجهتها وحركيتها، ومنها القضايا والأسئلة والتحديات التي يناقشها هذا العالم المتغيِّر اليوم بوتيرة سريعة لم تَسبق من قبل، بل تتابعت بإيقاع أسرع؛ كمشكل العولمة الذي يتحكم في الإنسان، والاختراق الرقمي للرأي العام، وأسئلة التغيير والآخر والغرب، وقضايا التطرف والإرهاب، وأسئلة التراث والهوية والذات، وقضايا التعايش وحوار الحضارات، وقضايا حقوق الإنسان، وقضايا تكييف مفهوم العلمانية، والحريات الفردية، والإجهاض، وحقوق المرأة، وحقوق الأقليات الدينية، سواء أكانت تلك الأقليات مسلمة أو غير مسلمة.
فهذه القضايا والأسئلة ومثيلاتها تجعل الأمة في حيرة، وهذه الحيرة أو الحيرات هي التي تدفع العلماء إلى البحث عن أجوبتها في الكتاب المسطور وفق سياقاتها ومناطاتها في إطار مؤسساتي، وفي وعي تام ومتناغم مع تلكم السياقات؛ أي في وعي تام وقراءة تامة لمقتضيات تلكم السياقات الكونية المتغيِّرة، وحيثما كانت الأجوبة وفية ووافية، كانت الأمة محفوظة في حركيتها وقبلتها ووجهتها، وآمنة من تسلط الحيرة عليها أو العيش معها وفيها.
والخطير في المتغيّر هو أنه يشكل مساحة واسعة قابلة للتأويل، فتجد التأويل مع وجود المتغيِّر في إطار العلم بالنص، وهذا معروف في التأويليات القرآنية والتأويليات المعاصرة، وتجد التأويل مع وجود المتغيِّر في إطار العلم بالسياق، وتجد التأويل مع وجود المتغيِّر في إطار العلم بتنزيل النص على السياق، والتأويل من حيث هو يسع الجميع بغض النظر عن قُربه أو بُعده من المراد.
ومن التأويل المقبول مع وجود المتغيِّر في إطار الأنساق الثلاثة في تاريخ الفكر الإسلامي التليد: رؤية الشافعي بمصر، ورؤية الغزالي في القرن الخامس الهجري، ورؤية الشاطبي المقاصدية في القرن الثامن الهجري، وهي محطات شكلت انعطافا في تاريخ الفكر الديني، انطلقت من حيرة فكرية، ولم تقف عند الجزئيات، ولكنها تجاوزت الموجود، وولجت مجالات الإضافة المعرفية والعلمية، واشتغلت في تجديد الفكر الديني بمنطق رياضي: (فهناك النظرية، وهناك البرهان على النظرية، وهناك نتيجة النظرية).
وقد نُقل[1] عن الشاطبي رأيه في توظيف الخراج على المسلمين وكونه من المصالح المرسلة، مع أن الخراج أو الجزية، كما هو معلوم، لا تضرب إلا على أهل الذمة، لكن الفتوى تحكي عصرها وزمنها، وهي أن العدو قد أصبحت له في القرن الثامن الهجري اليد الطولى في الأندلس، وأن المسلمين وقتئذ في محل الحيِّز في غرناطة، وأنهم كانوا في مأساة اجتماعية واقتصادية وسياسية، لكن عبارة المفتي تحمل في دلالاتها الأمل، فاستخدم الخراج في مفهوم العارية التي سترجع إلى أهلها في يوم من الأيام، وهي الآن عارية يدفع بها المسلمون بعض مآسيهم.
ومن قبيل التأويل المرفوض مع وجود المتغيِّر، الرؤى التي لا تواكب السياقات الحاضرة والمستقبلية، والتي تبقى سجينة وحبيسة في نتائج أفكار كانت رهينة سياقات ماضية تاريخية، وتجعل من تلك الأفكار أو المرجعيات الفكرية، من حيث تشعر أو لا تشعر، إيديولوجيات نضالية قومية تكرس الجمود وعدم الاجتهاد واللاعقل، وتكرس عدم استئناف القول في علوم الفكر والمقاصد والغايات، فصار هذا التضخم الإيديولوجي عائقا لتجديد الفكر الديني، بل صار مساعدا على التدين السطحي.
المعهود: ماهيته وأهميته في ضبط دلالات الوحي في الألفاظ والتراكيب والأساليب
وأما المعهود؛ فالمراد به المعهود في ذهن المخاطَب بالوحي، وهو معروف كلام العرب.
ومعروف كلام العرب هو المستعمل في كلامهم، سواء كان ذلك الاستعمال مطردا، وهو الذي لا يتخلف البتة ولا تعرف العرب غيره، أو كان غالبا، وهو أن يكون أكثر الاستعمال عليه، لكنه يتخلف أحيانا قليلة.
وتلقانا عبارة معروف كلام العرب، أو معهود كلام العرب عند العلماء والدارسين في سياقات عدة، وفي مجالات معرفية متعددة، منها مجال التفسير، في سياق حديثهم عن تفسير القرآن باللغة، فيقال: تفسير القرآن باتباع معهود الأميين، أو حمل كلام الله على معروف كلام العرب، أو حمله على المعنى الأغلب والأشهر من لغة العرب، أو على الأغلب الظاهر من معروف كلام العرب المستعمل فيهم، أو المعلوم في لغة العرب كما عند ابن عطية في تفسير معنى الرعد من سورة البقرة، والشائع في كلام العرب كما عند ابن عاشور في تفسير الفؤاد، وغير ذلك من العبارات التي يدخل بعضها في بعض.
فالتعبير بمعروف كلام العرب أو الأشهر من لغة العرب ونظائرها من العبارات نجده في مجال التفسير مطردا عند شيخ المفسرين الإمام الطبري في (جامع البيان) في كثير من ترجيحاته، وعنه نُقل التعبير بمعروف كلام العرب حسبما تتبعته في المصادر والمراجع، وقد ذكره في أكثر من ثلاثين موضعا من تفسيره، منها ما ذكره في تفسير قوله تعالى: ﴿وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ﴾ (آل عمران: 27)، فإنه بعد أن أورد جملة من الأقوال في تأويلها وضعّفها، قال: "فإن ذلك وإن كان له وجه مفهوم، فليس ذلك الأغلب الظاهر في استعمال الناس في الكلام، وتوجيه معاني كتاب الله عز وجل إلى الظاهر المستعمل في الناس أولى من توجيهها إلى الخفي القليل في الاستعمال[2]".
وقال في موضع آخر: "ولا يجوز أن يُحمل تأويل القرآن إلا على الأظهر الأكثر من الكلام المستعمل في ألسن العرب، دون الأقل ما وُجد إلى ذلك سبيل، ولم تضطرنا حاجة إلى صرف ذلك إلى أنه بمعنى واحد، فيحتاج له طلب المخرج بالخفيِّ من الكلام والمعاني[3]".
كما أن التعبير باتباع معهود الأميين مشهور النسبة إلى الإمام الشاطبي في (الموافقات)[4]، في سياق حديثه عن القواعد التي تنبني على ما تقرّر من أمية الشريعة وأنها جارية على مذاهب أهلها، وهم العرب، قال: "ومنها: أنه لابد في فهم الشريعة من اتباع معهود الأميين، وهم العرب الذين نزل القرآن بلسانهم، فإن كان للعرب في لسانهم عرف مستمر فلا يصح العدول عنه في فهم الشريعة، وإن لم يكن ثم عرف فلا يصح أن يجرى في فهمها على ما لا تعرفه، وهذا جار في المعاني والألفاظ والأساليب". وهذه النسبة للإمام الشاطبي عند الدارسين اليوم، كنسبة المقاصد إليه.
وهنا أنوه بالتحليل الذي قدمه الدكتور يحيى رمضان في موضوع: "القراءة السياقية عند الأصوليين: قراءة في مفهوم معهود العرب عند الشاطبي"[5]، وهو يؤصل لهذا المفهوم وفق تحليل سوسيولسني، نظر فيه إلى البعد الثقافي والاجتماعي المرتبط بعصر التنزيل، وأنه يقترب اقترابا شديدا من مفهوم الموسوعة الذي أسسه الناقد السيميائي أومبرطو إيكو/(Umberto Eco) في كتابه حدود التأويل: "les limites de l’ interprétation/trad.myriem bouzaher" لضبط عملية التأويل وتقييدها حتى لا تخرج عن كونها تأويلا، يخدم النص ويحترم رصيد النص اللسني المحض والثقافي، إلى كونها استخداما، يستخدم النص ولا يحترم الرصيد المذكور، وينصاع لإرادة القارئ وغاياته حسب اصطلاح إيكو.
وبيّن ثمة بأن المعهود الذي ينبغي أن يوظف لتفسير القرآن الكريم وتأويله ليس هو المشترك بين الجماعة اللسنية المتصفة بكونها عربية في كل زمان ومكان، وإنما معهود الأميين فحسب؛ أي ذلك المشترك الذي تقتسمه الجماعة التي حضرت نزول الوحي.
وهو بهذه الديباجة يريد أن يثير أمرين اثنين لم يجب عنهما:
أولاهما؛ قوله بأن ارتباط مفهوم المعهود بكل ما هو ثقافي واجتماعي يصعب ضبطه في إطار قواعد وقوانين مثل علوم الآلة المرتبطة باللسان العربي؛ لأن علاقة اللسان بالمعهود علاقة شمول وخصوص.
وأخراهما؛ قوله بأن مفهوم معهود العرب الذي قد غدا أداة تسييق منتهية ومحصورة من حيث الزمان والمكان، ومن حيث الحمولة المعرفية الخاصة بإنسان هذا الزمان، هو مفهوم قابلٌ لأن يثير الكثير من التساؤلات والإشكالات، لاسيما والأمر يتعلق بنص الوحي المطلق في الزمان والمكان؛ إذ يُخشى أن يتحول من كونه أداة لمراقبة التأويل إلى وسيلة لغلق الإمكانات المتجددة لعطاء الوحي.
وجوابا على الأمر الأول نشير إلى أن عبارة المعهود من كلام العرب تلقانا نظائرها في جميع مجالات العلوم العربية والإسلامية؛ لأنها مجالاتٌ تستمد من النص الشرعي، قرآنا وسنة، وتبحث فيه، ولا بد لها من مراعاة المعهود المذكور، وأنه كان معيارا وقيدا معمولا به في التأويل، وأن هذا المعهود الذي قال عنه: "قد اختص به أهل الأخبار المنقولة عن العرب لمقتضيات أحوال الألفاظ"، معروف ومميز ومدون كغيره، وقد ذكر نفسه بأن الشعر الجاهلي جزء من ذلك المشترك المعهود الذي ورثته الجماعة اللسنية في عصر التنزيل.
وفهم القرآن وفق المعهود من كلام العرب شرط لم تكن هناك حاجة إلى تقريره في العصر الأول؛ لأن القرآن في بيئته العربية الفصحى، واستغناء الناس بسلائقهم وما يسمعونه من كلام العرب؛ إذ كان الكلام مدركا مفهوما، وسَنن العرب في كلامها ظاهرة معلومة، لكن مع حركة الفتوح الكبرى، وظهور جيل المولدين واختلاط الألسن، اتجهت جهود العلماء في مرحلة الجمع إلى تتبع تراث الفصحى وتدوينه، فاستخلصوا معجم ألفاظها، واستنبطوا بالاستقراء والقياس قواعد نحوها وصرفها واشتقاقها وخصائص أساليبها في التعبير والبيان.
ثم جاءت مرحلة المدافعة، فمرحلة تأسيس العلوم، ثم مرحلة التأصيل، ثم مرحلة الاختصار والتنويع...إلخ
وفي مراحل التأسيس والتأصيل والتنويع نجد التقرير والتقعيد والتأكيد لقضايا العلوم ومسائلها وكلياتها وجزئياتها، ومنها المعروف المشهور من كلام العرب.
ولهذا؛ فلا نستغرب كلام ابن جني في (الخصائص)[6] حين قال: "وإن شذّ الشيء في الاستعمال، وقوي في القياس، كان استعمال ما كثر استعماله أولى، وإن لم ينته قياسه إلى ما انتهى إليه استعماله.
من ذلك اللغة التميمية في (ما) هي أقوى قياسا وإن كانت الحجازية أسير استعمالا، وإنما كانت التميمية أقوى قياسا من حيث كانت عندهم كـ(هل) في دخولها على الكلام مباشِرة كل واحد من صدري الجملة: الفعل والمبتدأ؛ كما أن (هل) كذلك، إلا أنك إذا استعملت أنت شيئا من ذلك فالوجه أن تحمله على ما كثر استعماله، وهو اللغة الحجازية؛ ألا ترى أن القرآن بها نزل...".
ومعنى كلامه: إذا تعارض قوة القياس وكثرة الاستعمال، قُدِّم ما كثُر استعماله؛ ولذلك قُدمت اللغة الحجازية على التميمية؛ لأن الأولى أكثر استعمالا.
وكلام ابن جني ظاهر في كون مدار الفصاحة على كثرة الاستعمال.
ولا نستغرب أيضا ما ذهب إليه جمهور الأصوليين[7] من عدم جواز حمل اللفظ المشهور على معنى خفي لا يعلمه إلا الخواص؛ لأن تكلم الناس باللفظ الذي له معنى يدل على اشتراكهم في فهم ذلك المعنى خطابا وسماعا، فإذا كان ذلك المعنى لا يفهمه إلا بعض الناس بدقيق الفكرة امتنع أن يكون ذلك هو المراد بذلك اللفظ.
ووجه الامتناع: أن دلالة الخطاب إنما تكون بلغة المتكلم، لا بلغة أحد غيره، ولما كان أهل اللغة لا يعلمون هذا المعنى الخفي دلّ ذلك على أنه ليس مدلول اللفظ.
وقد ذكر الأصوليون في شرط المجتهد أن يكون عارفا بلسان العرب وموضوع خطابهم لغة ونحوا وتصريفا، بالقدر الذي يفهم به خطابهم وعادتهم في الاستعمال.
قال بعضهم، وهو الأستاذ أبو إسحاق: "ويكفيه من اللغة أن يعرف غالب المستعمل[8]".
ورجّح الأصوليون أيضا الغالب على الأصل إذا تعارضا[9]، والغالب والغلبة: هي أن يكون اللفظ في أصل الوضع عاما في أشياء، ثم يصير بكثرة الاستعمال في أحدها أشهر، بحيث لا يحتاج ذلك الشيء إلى قرينة.
والغالب في خطاب الشرع هو معهود كلام العرب.
وقدّموا النقل على النسخ إذا تعارضا[10]، والنقل هو استعمال اللفظ في معنى عرفي كاستعمال نسائكم بمعنى زوجاتكم.
ورجّحوا في باب الترجيح في الأخبار بمرجحات تعود إلى المتن، منها الفصاحة، فالخبر الفصيح يُقدم على غير الفصيح للقطع بأن غير الفصيح مروي بالمعنى لفصاحته صلى الله عليه وسلم[11].
ومدار الفصاحة في الكلمة عند اللغويين وغيرهم على كثرة استعمال العرب لها[12]؛ أي أن تكون جارية على العرف العربي الصحيح، وهو شرط ثعلب في (فصيحه)[13]، وهو إمام العربية في زمان استعجمت فيه ألسنة كثير من المولدين وألسنة كثير من سكان القرى أهل المدر لمخالطتهم الأعاجم في الحواضر.
وبإزاء اعتناء اللغويين بمعرفة الفصيح من كلام العرب، عنوا في المقابل بمعرفة خلافه من الضعيف والمنكر، والمتروك والرديء المذموم، والحوشي والغريب والنادر، وتمييز المطرد من الشاذ، والمستعمل من المهمل، وغير ذلك من الأنواع.
ومن جنس شرط ثعلب في فصيحه تعليل الطبري في اختياراته، قال: "لأن كتاب الله، عز وجل، لا تُوجّه معانيه وما فيه من البيان إلى الشواذ من الكلام والمعاني، وله في الفصيح من المنطق والظاهر من المعاني المفهومة وجهٌ صحيح موجود[14]".
ولا يخفى علينا نشاط النحاة في الملاحظة والاستقراء والتدوين، واختلاف مسلك النحاة البصريين عن النحاة الكوفيين في عدم توسيع دائرة الاعتداد بالمسموع من كلام العرب ولغاتهم، واقتصارهم في الرواية عن العرب الفصحاء، في حين وسع الكوفيون من دائرة الاعتداد والاستشهاد بالمسموع عن العرب مهما كان قليلا وشاذا، ولم يقتصروا على القبائل العربية التي ارتضى البصريون الأخذ عنهم، بل استشهدوا، كذلك، بلهجات من يثقون به من الأعراب؛ كأعراب سواد الكوفة من قبائل تميم وأسد، وأعراب سواد بغداد الذين رد البصريون لغتهم وخطؤوهم ووصفوهم باللحن، فأصبح مسلك الكوفيين سببا لغمزهم من بعض المنتصرين للمنهج البصري، ومن ذلك ما قاله ابن درستويه، ونصه: "كان الكسائي يسمع الشاذ الذي لا يجوز إلا في الضرورة، فيجعله أصلا ويقيس عليه، فأفسد بذلك النحو"[15].
وأثر التنازع بين المدرستين، كما هو معلوم، يظهر في القياس الذي اقتصر فيه البصريون على الشواهد الكثيرة وعد النصوص المخالفة لها شاذة، تُحفظ ولا يقاس عليها، في حين انفرد الكوفيون بتوسعهم في القياس وإن كان المسموع قليلا أو شاذا، بل أجازوا في بعض المسائل مجرد القياس النظري دون اعتماد على أدلة مسموعة.
وثمرة جهود النحاة، كما هو معلوم، بالإضافة إلى صيانة اللسان عن الخطأ، هو فهم الخطاب الشرعي فهما صحيحا.
وقد ألّف أبو عبيدة والفراء والأخفش في معاني القرآن دفعا للشبه وردا على الملاحدة، وجعلوا عدتهم وسلاحهم لغة العرب وأساليبهم البيانية وطرائقهم الكلامية، وتقرير أن القرآن لم يخرج عن طرائق العرب ورسومهم، ولا عن معهودهم وسَننهم في الحديث والخطاب.
ولهذا المعنى صارت كتب معاني القرآن فيما بعد من مصادر التفسير، واستوفى المفسرون خلاصة ما في هذه الكتب وغيرها؛ ولأن العربية حجة شرعية فيما يرجع فيه إلى اللغة عند الخلاف، أي: إذا كان التنازع في اسم أو صفة، أو شيءٍ مما تستعمله العرب من سَننها في حقيقة ومجاز، وما أشبه ذلك.
والقرآن كما قال ابن قتيبة في (تأويل مشكل القرآن)[16]: "نزل بألفاظ العرب ومعانيها ومذاهبها في الإيجاز والاختصار، والإطالة والتوكيد، والإشارة إلى الشيء، وإغماض بعض المعاني حتى لا يظهر عليه إلا اللَّقِن، وإظهار بعضها، وضرب الأمثال لما خفي، ولو كان القرآن ظاهرا مكشوفا حتى ليستوي في معرفته العالم والجاهل، لبطل التفاضل بين الناس، وسقطت المحنة، وماتت الخواطر".
ولو رجعنا إلى تفسير الطبري الذي اشتهر عنه التنصيص على اعتبار معروف كلام العرب، لاستطعنا رد ما في تفسيره مما يرجع إلى المعاني وتفسير الألفاظ والكلام عن سَنن العرب في كلامها إلى كتب ثلاثة أو أكثر، وإن لم يصرح بها، وهي (المجاز) و(معاني القرآن) للفراء، و(غريب القرآن) و(تأويل مشكل القرآن) لابن قتيبة.
وهنا أثير قضية أخرى، وهي أن الجهد اللغوي الذي أطل على القرن الثالث، وظهر إنتاجه في كتب حملت عناوين من نحو معاني القرآن ومجازه وغريبه، إنما كان يعنى بمسار اللفظ القرآني ودلالته اللغوية في حنايا الذهن العربي الخالص دون إرادة الاستعمال البلاغي؛ أي دون إرادة المعنى البياني، ودون التأكيد على المجاز أو المعاني في الصيغة الاصطلاحية أو الحدود المرسومة لدى علماء المعاني والبيان.
فكتب معاني القرآن ومجازه وغريبه لا علاقة لها بالاصطلاح البلاغي والبياني وإن اشتملت على جملة من أنواعها؛ لأن الدلالات الاصطلاحية إنما ترسخت وتبلورت في عباب الاستعمال اللغوي.
ولرعاية معروف كلام العرب نص كثير من العلماء على اعتباره في باب إعراب القرآن وحمله على أفصح الوجوه، منهم أبو عبيد في (الناسخ والمنسوخ)[17]، والطبري في (تفسيره)[18]، والزمخشري في (كشافه)، وأبو حيان في مقدمة (البحر المحيط)[19]، وابن هشام الأنصاري في (مغني اللبيب)[20] في سياق كلامه عن الجهات التي يدخل الاعتراض على المعرب من جهتها، والزركشي في (البرهان)[21]، ونصه: "يجب على المعرب تجنُّب الأعاريب المحمولة على اللغات الشاذة، فإن القرآن نزل بالأفصح من لغة قريش". قال الزمخشري في كشافه: "القرآن لا يُعمل فيه إلا على ما هو فاش دائر على ألسنة فصحاء العرب، دون الشاذ النادر الذي لا يُعثر عليه إلا في موضع أو موضعين[22]".
هكذا نجد في كلام العلماء: مفسرين ولغويين وبلاغيين وبيانيين ونحويين وعلماء إعجاز، وفي أعصار مختلفة، عبارات مرادفة للتعبير بمعهود كلام العرب، من نحو: التفسير وفق مقتضى الظاهر، أو الظاهر والمعروف من المعاني، أو أصح المعاني، أو المعروف المشهور، أو المشهور في لغة العرب، أو كثرة الاستعمال.....إلخ.
أو عبارات تدل بالمفهوم على ذلك المعنى، وهي كثيرة، أشهرها ما نقل عن أحمد في إحدى الروايتين عنه من كراهة تفسير القرآن بالشعر، وأن هذه الكراهة تحمل على من يصرف الآية عن ظاهرها إلى معان خارجة محتملة، يدل عليها القليل من كلام العرب، ولا يوجد غالبا إلا في الشعر ونحوه، ويكون المتبادر خلافها[23].
ومن القواعد الطريفة المعينة للدارس على فهم القرآن وتدبره، وملاحظتها في قراءة التراث التفسيري إعمالا أو إهمالا: (قواعد التدبر الأمثل) لعبد الرحمن الميداني، وفيها جملة من القواعد المتصلة بالبحث في معهود كلام العرب، ومن ذلك:
قاعدة حول ضرورة البحث في معاني الكلمات القرآنية بحثا علميا لغويا[24]، وهي قاعدة تبحث في دلالة الألفاظ القرآنية، وفيها التنصيص على تحري معنى الكلمة كما هي في كلام العرب، دون إضافة معان أخرى لا تدل عليها الكلمة في استعمالهم لها، ما لم تكن الدلالة مستفادة من دالٍّ آخر في النص.
وفيها أيضا التنصيص على اعتماد دلالات الألفاظ القرآنية في عصر النزول، لا وفق التطور الدلالي للألفاظ، أو معاني الألفاظ الاصطلاحية في العلوم كاصطلاح الفقهاء وغيرهم.
وهذا كله طبعا مع مقيدات أخرى، من مثل ضرورة رعاية الدلالات الخاصة بالقرآن[25]، والمستفادة من الاستعمال القرآني، واستقراء مختلف مواطن استعمال الألفاظ في القرآن...إلخ.
ويتعدى اعتبار معهود كلام العرب في معرفة دلالة الألفاظ إلى اعتباره في معرفة دلالة التراكيب؛ لأنه كما يتعدد المعنى في دلالة الألفاظ يتعدد في دلالة التراكيب، وهذا معروف شائع في تراكيب العربية، وللدكتور فاضل السامرائي دراسة مفصلة ومبسطة وغنية بالأمثلة في هذا الشأن بعنوان: (الجملة العربية والمعنى)، وهي دراسة مناسبة لطلبة الدراسات العربية في المراحل العليا.
وتحدّث النحاة عن تعدد دلالة التراكيب في مواضع، منها، مثلا، ما ذكروه تحت عنوان: إشراب التركيب معنى غير معناه الأصلي، وهو كثير في القرآن، فتجد التركيب في سورة النهي وقد أشرب معنى الأمر، وتجده في صورة الخبر وقد أشرب معنى الإنشاء أو الشرط، وتجده في صورة الاستفهام وقد أشرب معنى التعجب أو التحضيض أو الخبر...[26].
ومثل هذا يعتمد في تحديد معناه على القرائن، وكبرى هذه القرائن هي قرينة السياق، والنص القرآني أعظم النصوص وفاء بتقديم القرائن عندما يعرض اللبس بسبب تعدد احتمالات المعنى في دلالة اللفظ أو التركيب. ورعاية عرف كلام العرب في التركيب يندرج ضمن رعاية الدلالات العرفية.
والقرائن هي التي تشير إلى المعنى المقصود في بيئة النص ومحيطه وظلاله وجوه العام، ولها صلة وثقى بخصوصيات الدلالات القرآنية، ولذلك نبّه العلماء على هذه الخصوصيات، وعلى رعاية العرف المستمر في لسان العرب في فهم تلك الدلالات، وقد تقدم بيان هذا في كلام الشاطبي.
وفي مقدمة (مجاز القرآن)[27] لأبي عبيدة التنصيص على اتفاق كلام العرب والقرآن في الألفاظ والتراكيب والمدلولات والاستعمالات، ومن هذه الجهة استقرى العلماء عادات العرب وأساليبهم في الكلام ومعهودهم في البيان.
فتحدثوا عن التضمين والتقديم والتأخير والمشاكلة والمقابلة والمجاراة...إلخ
والبحث في معروف كلام العرب في الدلالات القرآنية إفرادا وتركيبا هو بحث في أصل اللغات؛ لأن الأصل يبحث في رسوم المخاطبات ومالها من الافتنان تحقيقا ومجازا وغير ذلك، وهذه هي الرتبة العليا التي بها يُعلم الخطاب الشرعي قرآنا وسنة، وعليها يعوِّل أهل النظر، ولا يضر ما خفي وراء ذلك.
وإذا تقرّر في أحسن مناهج التفسير ضرورة رعاية معهود كلام العرب في الألفاظ والتراكيب والأساليب، في فهم معاني القرآن وكشف أسراره، فهل مراد العلماء من ذلك هو تحجير طلب التفسير في ذلك المعهود وذم غيره كما يتبادر إلى ذهن بعض السطحيين؟ أم مرادهم هو ترك المعاني الفاسدة والبعيدة؟
وهنا يأتي الجواب عن السؤال الذي ختم به الدكتور يحيى رمضان بحثه القيم، وقد اشتققت له مجموعة من الأجوبة:
الجواب الأول: أن هذا أشبه بكلامهم في باب ذم التأويل، فليس مرادهم هو ترك كل ما يسمى تأويلا، وإنما مرادهم هو ترك التأويلات الفاسدة والبعيدة[28].
ويمكن أن نجيب أيضا بأن العربية، كما يرى ابن فارس[29]، لم تبلغ غاية كمالها إلا بعد مجيء الإسلام، وتنزُّل القرآن، حيث جدّت فيها ألفاظ ومعان، وزالت ألفاظ أخرى لزوال معانيها، ونُقلت ألفاظ عن معانيها إلى معان أخرى، كراهة لأصل معناها، أو تأدبا، أو اقتفاء لأمر الشرع، فهل يستقيم هذا مع مطلق رعاية معهود كلام العرب؟
أي: الألفاظ الإسلامية، أريد بها معان لم يكن الاسم موضوعا لها في اللغة، فمتى ورد شيء من هذه الألفاظ مطلقا، ولم يكن المراد بها الإشارة إلى معهود، فهو مجمل محتاج إلى البيان.
وفي كلام ابن فارس إشارة إلى التطور الدلالي في ألفاظ القرآن الذي حدث وقتئذ، وهو يندرج ضمن اتساع دلالة الألفاظ الذي سيأتي الحديث عنه.
ومن المعلوم أن أسباب التغيّر الدلالي للألفاظ كثيرة، منها كثرة الاستعمال، والأسباب الثقافية والاجتماعية، والعوامل النفسية، والأسباب الصوتية، وتطوّر المسمى، والحاجة واستعمال الشاهد في الغائب...
والواقع أن النقلة التي عرفتها اللغة العربية بمجيء الإسلام، هي نقلة لغوية تنويرية حقيقية مفيدة في القراءتين: قراءة الوحي والكون؛ لأن الحقائق الشرعية في الواقع هي عرفية؛ أي أنها استعمال عرفي للشارع؛ إذ إنه بالرجوع إلى التاريخ اللغوي، نجد أن كثيرا من الألفاظ تطورت معانيها تطورا ملحوظا دون أن تفقد أصل معناها.
ويمكن تقسيم تطوير الألفاظ العربية في الإسلام إلى صنفين[30]:
الصنف الأول؛ تطويرٌ يكاد يشمل أكثر اللغة، حيث انتقلت من المحسوسات إلى المعنويات، ومن المرئيات إلى الماورائيات.
وهذا هو المعنى الطريف الذي أود التنبيه عليه، وهو بابٌ واسعٌ ومفيد جدا في الجمع بين القراءتين، موضوع الندوة، وأكثره في القرآن.
أما الحديث؛ فقد كان النبي، صلى الله عليه وسلم، يخاطب كل قبيلة بلسانها لمعنى البيان.
فما كانت العرب تعرف النِّفاق، وإنما كانت تعرف النافِقاءُ والنُّفَقَة، كهُمَزة: إحدى جِحَرَة اليربوع، يَكْتُمُها ويُظهِرُ غيرَها،وهو موضعٌ يُرَقِّقُهُ، فإذا اُتي من قِبل القاصِعاء، وهو الموضع الذي يخرج منه عادة، ضرب النافقاء برأسه، فانتفق؛ أي خرج. (وهو في الواقع يدخل في النافقاء ويخرج من القاصعاء، أو يدخل في القاصعاء ويخرج من النافقاء).
وما كانت العرب تعرف الفسق، وإنما كانت تقول: فسقت الرطبة، وما كانت تعرف الأدب، وإنما كانت تعرف الأدب لصاحب المأدبة، وما كانت تعرف من الكفر إلا الغطاء والستر، وكانت تقول: جمل فقيه، إذا كان بصيرا بالضراب، وهذا كثير.
والصنف الثاني؛ ألفاظ تطلق على شعائر دينية أصبحت أعلاما لها، وهذه تصرَّف الشارع فيها، ولكن بنفس الطريقة التي يتصرَّفُ فيها العرف الاستعمالي العربي في نقل الشيء عن معناه الأصلي لمعنى مجاور لكونه يشتمل عليه، كتسمية الصلاة دعاء، وهذا من المجاز المرسل، وهو تسمية الشيء بجزء منه.
والتغيُّر الدلالي الذي أحدثه الإسلام في ألفاظ العربية كلُّه يهدف إلى الانتحاء نحو الوجهة والقبلة الصحيحة، وإلى التدليل على صدق مرجعهما، وهذا التغيّر الدلالي سببه ديني، وليس مجرد سبب ثقافي كما عند أصحاب النظرية التفكيكية.
ولذلك فمنهج الأصوليين في فهم النص الشرعي مخالف تماما لمنهج أصحاب هذه النظرية التي ترى أن اللغة هي التي تفعل وتدلّ بعيدا عن صاحب النص ومقاصده، بدعوى أن طرق الفهم القديمة تعطي سلطة للنص وتلغي حرية القارئ، وبالتالي فالمنهج التفكيكي يحوِّل هذه السلطة للقارئ، ويعطيه الحرية الكاملة في إنتاج النص عند القراءة، ويطلق العِنان للقراءات المتعددة التي يراها نسبية، ولا يهمه ماذا يقصد صاحب النص، بل المهم ما فهِمه القارئ.
ولا شك أن القراءات التي تتناول النص المقدس، وَفق هذا المنهج التفكيكي، تبقى قراءات تابعة لأهواء القارئ، وخاضعةً لرهانات تأويلية بعيدة عن مقاصد الشارع وحكمة التشريع، وتعتبر التغيّر الدلالي في الألفاظ في النص المقدس لمجرد أسباب ثقافية، بخلاف منهج الأصوليين الذي يهدف إلى فهم مقاصد الشارع.
فإن قيل: إن اختلاف الأصوليين في حمل النص على محامل، وتعدد تفاسيرهم للفظ الواحد هو من جنس القراءة التفكيكية؟
قلنا: إن اختلافهم ليس مبنيا على منهج سلطة القارئ ونظرية النسبية اللامشروطة للفهم، وإنما اختلافهم مؤسس على وجوه من القواعد التي تؤطر اجتهادهم وتحرص على قربه من الصواب دون الادعاء بأن تلك المحامل قطعية؛ ولذلك فهم يفرقون بين القطعيات التي لا تختلف فيها الأفهام.
ويمكن أن نجيب، أيضا، بأن رعاية معروف كلام العرب ورد عند العلماء في سياق الترجيح؛ لكونه ضابطا لغويا أغلبيا، يُعول عليه فيما يعود إلى اللغة عند التنازع، ولذلك ذُكر فيما بعد قاعدة من قواعد الترجيح، ولأنه ليس كل ما ثبت في اللغة يصح حمل القرآن عليه.
وهذه القواعد الترجيحية التي ترجع إلى اللغة وغيرها إنما هي ضوابط أغلبية، والترجيح لا يلغي جميع المعاني والآراء والأقوال، وإنما يُبين الرجحان والمرجوحية.
ولا ننسى أن من أسباب اختلاف الفقهاء؛ الدلالات اللغوية، ونضرب مثالا على ذلك بدليل الخطاب(وهو مفهوم المخالفة)، حيث يرفضه الأحناف ويقول به الأئمة الثلاثة، على تفاوت في مدى العمل به.
وهذا الخلاف إنما هو خلاف في الدلالة اللغوية بين أبي عبيد والمبرد وثعلب الذين يرون أن اللغة تدل على مفهوم المخالفة، فإذا وصف العربي شيئا بصفة، وحكم عليه بحكم، فإن ذلك يدل على أن حكم غيره بخلاف حكمه، وهذا مذهب الأئمة الثلاثة، بينما يرى الأخفش وابن فارس وابن جني أن المسكوت عنه في دليل الخطاب لا يستفاد حكمه عند العرب بدلالة المنطوق، وهذا مذهب أبي حنيفة وأصحابه.
ويمكن أن نجيب، أيضا، بأن المفسر والمتدبر الحصيف مدعوٌ للبحث في مختلف الدلالات القرآنية لاتساع معانيها، وتبدو أهمية ذلك حينما نصطدم بحقيقة علمية تخالف فهما لنص قرآني ذهب إليه بعض المفسرين، مع أن النص القرآني يحتمل فهما آخر ورد في لغة العرب، وأشهر مثال على ذلك معنى الدحو في قوله تعالى: ﴿وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا﴾ (النازعات: 30).
فالدحو: البسط والتوسيع، وبه أخذ أهل التفسير، ومن معانيه، أيضا، ما ورد عن ابن الأعرابي، قال: يقال هو يدحو بالحجر بيده؛ أي يرمي به ويدفعه، والداحي الذي يدحو الحجر بيده، وفي حديث أبي رافع: كنت ألاعب الحسن والحسين رضي الله عنهم بالمداحي، وهي أحجارٌ أمثال القِرَصَة، كانوا يحفرون حفرة ويدحون فيها بتلك الأحجار[31].
فالدحو بهذا الاستعمال العربي موافق لحال الأرض؛ إذ وجدناها في العصر الحديث كحجرٍ كبيرٍ مدحوٍّ في الفضاء، فكان من حقنا أن نرجح حمل معنى الدحو في الآية المذكورة على هذا المعنى الذي يدل على واقع حال الأرض.
وواقع حال الأرض الذي كشفه العلم الحديث هو الذي ساعدنا على إدراك هذا الاستعمال العربي الذي غاب عن تصور الماضين في تنزيله على حال الأرض؛ لأنهم لم يشاهدوه، ولم تكن معرفته بالنسبة إليهم متيسرة، ويُحمل على عدم العلم بالمعرفة إنكار بعض العلماء أو ترددهم في القول بكروية الأرض اعتقادا منهم بمخالفة ذلك لمعنى الآية، ولعدم علمهم بذلك ومشاهدتهم له، أو تصورهم لواقع الأمر بخلافه، فأقوالهم في ذلك محمولة على هذه الأوجه، والمؤسف أن تتخذ مواقفهم أبعادا أخرى فيها قسوة.
وفهم هذا المعنى بالنسبة للمفسر والمتدبر أشبه بعمل المجتهد في استنباط الحكم الشرعي لنازلة جديدة، فالمجتهد في الواقع لم يأت بحكم جديد ليس في الشريعة، وإنما أبان عن حكم فيها كان خفيا، ولذلك فأحسن تعريف ذكره الأصوليون للقياس هو: إبانة المجتهد المساواة بين معلومين في الحكم لجامع بينهما[32].
وقد تتبعت بقية تحليل الدكتور يحيى رمضان في أصل بحثه المذكور آنفا، وهو كتابه: "القراءة في الخطاب الأصولي: الاستراتيجية والإجراء"، وقرأته حرفا حرفا، وتتبعت فيه جوابه على الشاطبي المضمن في عدم تقرير مفهوم أمية الشريعة؛ لأن فهمها لم يقع بحسب العام والمشترك فقط، ولأنه قد ثبت بأنهم قد خوطبوا بما لم يعهدوه من مثل ما ثبت من مكتشفات العلم الحديث، وأن تقرير أمية الشريعة تترتب عليه مخاطر على التأويل وعلى النص ذاته؟ وأن هذه المخاطر هي الحجر على القارئ، وسجن النص داخل فهم طائفة محددة زمانيا.
هذه هي خلاصة الجواب وزبدته في سياق تحليل ممتد وطويل.
والحق أن مفهوم الأمية الذي ذكره الإمام الشاطبي، رحمه الله، هو وصف أغلبيٌ، لا يلزمه ما ذُكر في التعميم، وإنما هو وصفٌ يتصل بما يُرجع في فهمه للسانهم، وقصدُه أن يُفهم النص الشرعي من غير تكلّف كما فُهم من كلامه في ضرورة بلوغ الاجتهاد في كلام العرب لفهم الشريعة حق الفهم، وأن طلب فهمه يكون من طريق معهود كلام العرب، كما أن الشاطبي أراد التأكيد على أمر ذي بال، لا يُفهم إلا من خلال كلي كلامه، ويتمثل في ضرورة أخذ الحيطة والحذر من القول في القرآن بالرأي دون العلم والدراية، وهو ما حقّقه بقوله: "فإن كثيرا من الناس يأخذون أدلة القرآن بحسب ما يعطيه العقل فيها، لا بحسب ما يفهم من طريق الوضع، وفي ذلك فساد كبير، وخروج عن مقصود الشارع"[33].
وأما أنهم قد خوطبوا بما لم يعهدوه، فهذا لم ينقص عندهم في فهم الشريعة شيئا؛ لأن فهمها منوط في عصرهم بالنبي، صلى الله عليه وسلم، ثم بورثته من بعده الذين هم العلماء، وللعلماء الحق في الاستعانة بذوي الخبرات في معرفة الأحكام وتنزيلها، وأما ذلك الذي لم يعهده العرب وخوطبوا به، بحسب الدعوى، فهو مما يتصل بـ(القراءة الكونية/أو قراءة المنظور) مما يزيد في مراتب الإسلام والإيمان والإحسان، والمعرفة بما يصلح أحوالهم في دنياهم وينفعهم لأخراهم من العلم النافع والعمل الصالح، وهو الذي يتصل فيه حديث بناء الإنسان والعمران في أحد شقيه، لا ما يتصل بـ(القراءة الشرعية/أو قراءة المسطور) التي تحفظ الشرع، أو القراءة العالمة التي تستنبط من الشرع.
وأما دعوى الحجر وتسييج النص بالمعهود، فقد أجبنا عليها بأن ذلك المعهود هو استعمال أغلبي، وأن مناطه الترجيح.
الاتساع في دلالات الألفاظ والتراكيب
وهنا ألج إلى الحديث عن موضوع الاتساع في دلالات الألفاظ والتراكيب؛ لعلاقته بالتأويل؛ إذ هو الباب الواسع الذي ولج منه، فأقول: أما مفهوم الاتساع؛ فقد تدرج زمانيا بين ثلاثة علوم، هي علم النحو قبل انفصال علم البلاغة عنه، ثم علم البلاغة، فعلم الدلالة وفقه اللغة في العصر الحديث.
وقد استعمل اللغويون مفهوم الاتساع اصطلاحا قارا عندهم، ولم يتجاوز مفهومه عندهم دلالته اللغوية، لكنهم لم يتناولوه مع ذلك بالشرح لظهوره، ثم أخذ هذا الاصطلاح أبعاده عند البلاغيين، وبلغ عندهم مرحلة النضج حتى استوى مصطلحا فنيا على يد ابن رشيق القيرواني في (العمدة)[34]، لكن بقي مفهوم الاتساع ألصق بالدراسات اللغوية كما نجده عند سيبويه وابن جني.
وفي المعجم العربي نجد ذكر طرائق الاتساع في المفردات، وإهمال ذكر ذلك في التركيب، لبنية المعجم المؤسسة على المفردات لا على التراكيب، ونجد فيه، أيضا، ذكر طرائق الاتساع في المستوى الدلالي والصوتي والصرفي والنحوي.
كما نجد ذكر طرائق الاتساع في التراكيب في الدراسات البلاغية والنحوية والدلالية وغيرها من المجالات التي تعنى بدراسة الظواهر الخاصة بالتراكيب.
وقد تناولت كتب فقه اللغة وعلم الدلالة مفهوم الاتساع ضمن مباحث التطور الدلالي. ومفهوم الاتساع كما ورد في مجال اللغة أو البلاغة أو الدلالة يشتمل على ذكر بعض طرقه أو سببه أو ميزته التي هي الخروج عن الأصل المعياري. وقد يُعبّر عن الاتساع بمصطلحات مرادفة له، كما ورد عند ابن جني حيث أحصى له الباحث حسن سليمان حسين ستة عشر مصطحا[35]؛ كالتفسّح والتسمّح، والاغتفار والتصرف والنقل والخروج والتجاوز وشجاعة العربية والتجرّؤ والتوسع، لكن المعيار التداولي يأبى كثيرا من هذه المصطلحات، ويبقى مصطلح التوسع أقربها إلى مصطلح الاتساع؛ لكونهما ينتميان إلى جذر لغوي واحد، ومع ذلك فإن مصطلح الاتساع هو الأكثر إيرادا ودقة من جهة شمول المستويات اللغوية وتعدد الإسقاطات المفهومية داخل المستوى اللغوي الواحد[36].
ومرادي بالاتساع في الدلالات، عموم معانيها، سواء أكانت كلها مرادة في النص أم بعضها. والاتساع في دلالات الألفاظ ظاهرة مستفيضة في ألفاظ القرآن الكريم، ومثله الاتساع في دلالات التراكيب والأساليب. وقد تحدث العلماء قديما عن هذه الظاهرة في مؤلفاتهم في اللغة، وفي دراسة البيان القرآني، منهم ابن جني في أبواب كثيرة من كتابه (الخصائص)، ومنهم الجرجاني في (دلائل الإعجاز).
ولو رجعنا إلى تعريف أبي حيان الأندلسي للتفسير سنلاحظ فيه رعاية الدلالات الإفرادية والتركيبية، قال في (البحر المحيط)[37]: "علم يبحث فيه عن كيفية النطق بألفاظ القرآن ومدلولاتها وأحكامها الإفرادية والتركيبية، ومعانيها التي تحمل عليها حالة التركيب، وتتمات ذلك".
فهذا تعريف غلبت عليه الصناعة اللغوية؛ لأن قوله: "ومدلولاتها" إلى آخر كلامه يشمل علم اللغة والتصريف والإعراب والبيان والبديع والدلالة، فكان هذا التعريف أنسب للباحثين في البيان القرآني في الدراسات العربية، وفي تفسيره مجال أفسح للتطبيقات.
وحينما أصبح مفهوم التأويل يستقل عن مفهوم التفسير؛ كان مدخل الدلالات وما تدل عليه مدلولاتها من المعاني المحتملة والترجيح الدلالي بينها هو الباب الواسع الذي ولج منه، وتعامل مع المنظومة اللغوية بوصفها منظومة دلالية قابلة للتجدد، كما استفاد من الإجراء التفسيري كمرحلة في الفهم.
ولما كان قوام الفعل التأويلي يشتغل على استنباط المعاني المحتملة من مدلولات الألفاظ والتراكيب والترجيح بينها عد هذا الفعل اجتهادا؛ لأن الترجيح يحتاج إلى جمع الأدلة، وفهم مدلولات الألفاظ واستعمالاتها بحسب السياق؛ ولذلك ارتبط مفهوم التأويل بالاجتهاد، وهذا واضح فيما ألمح إليه الزركشي في (البرهان).
وعلى الجملة؛ فإن الفروق التي تذكر في الكتب في أوجه المقارنة بين ماهية التفسير والتأويل إنما هي من باب الرياضة الفكرية، والمهم من ذلك كله هو معرفة الآليات والأدوات التي توجههما.
رجوع وانعطاف
وملاحظة الاتساع في الدلالات هو الذي حدا بكثير من الدارسين المحدثين إلى التفريق بين الإجراء التفسيري والإجراء التأويلي، واعتبار الإجراء التفسيري مرحلة من الفهم، وأن الإجراء التأويلي هو فن الفهم؛ لأن وظائفه تبحث عن ما وراء الدال، وعن مجموع المدلولات، وتحدد مستويات المعنى، وأنه هو الذي يمثل حركية التفسير، وأن على التفسير أن يبقى متحركا في إطار الاجتهاد المنضبط بضوابط علمية ومنهجية، وأن آراء المفسرين يجب ألا تعيقنا عن التدبر والتفكر في البيان القرآني.
ومن أفضل التفاسير التي عنيت بإبراز صور الاتساع في دلالة الألفاظ والتراكيب في القرآن الكريم، وتوسعت في ذلك وبسطت حتى تميزت على غيرها من التفاسير في المنحى اللغوي والبلاغي، تفسير (الكشاف) لجار الله الزمخشري، وقد جمع الدكتور محمد فاضل السامرائي أمثلة من ذلك في بحث له بعنوان: "صور من اتساع دلالة الألفاظ والتراكيب في تفسير الكشاف".
والمفسرون، على كل حال، يتفاوتون في هذا المنحى بحسب اهتماماتهم وثقافتهم وشرطهم، والمقصود أن الزمخشري من أوائل المهتمين بهذا النوع من الدرس.
واتساعه في نظرية المجاز في القرآن سواء على مستوى دلالة المفردات في (أساس البلاغة)، أو على مستوى التراكيب في (الكشاف) ما هو إلا استقراء في جمال البيان القرآني مجازا.
والمراد من دلالات الألفاظ والتراكيب مدلولاتها التي هي المعاني، والمعاني إنما تُستخرج بالقوة الفكرية والتدبر والروية، والاعتناء بالألفاظ والتراكيب من توابع الاعتناء بالمعاني؛ ولذلك حينما تحدّث الإمام الطوفي في (الإكسير)[38] عن علم القرآن وكذا غيره، وقسمه قسمين: قسم متعلق باللفظ، وقسم متعلق بالمعنى، نبّه على أن هذا التقسيم إنما هو باعتبار الواسطة التي هي اللفظ، وإلا فجميع العلوم معنوية.
وبغض النظر عن مقاصد الإعجاز البياني التي ترجع إلى اللفظ والتركيب من حيث هو لفظ معهود وتركيب غير معهود، فإن الألفاظ والتراكيب غير مقصودة لذاتها، ذلك أن العرب متى فهمت المعنى بدون اللفظ، حذفته وجوبا، وأن من نطق بألفاظ لا معنى تحتها، عُدّ هاذيا لا متكلما، ولو أفاد معنى بدون اللفظ، كالإشارة والرمز، لعُدّ متكلما عرفا، وأن تصرف العرب في كلامها بالحذف والتقدير إنما هو لتصحيح المعنى.
وقد نزل القرآن على وفق قانون علم البيان، وهو في أعلا مراتبه وأكمل أحواله وأتمها، ومنه كمّل أرباب هذا العلم أبوابه ومسائله.
وقول العلماء: علم المعاني والبيان؛ أي العلم المراد بالألفاظ والتراكيب وإظهار المراد بها، وإظهار هذا المراد يتفاوت بحسب تفاوت القوى النفسية والقرائح الذهنية، فيظهر بذلك التفاوت في مقادير البلغاء، ومراتب الخطباء والنصحاء، وأعلى مراتب البيان: إظهار المراد بالكلام غاية الإظهار.
والظهور في البيان القرآني على ضربين: بديهي، ومنه الذي لا يُعذر أحد بجهله، والذي تعرفه العرب من كلامها بالنسبة إليهم، ونظري، وهو الذي يعرفه العلماء بالنظر الفاحص، ومنه كثير مما تعرفه العرب بسليقتها اللغوية بالنسبة إلينا.
ولذلك ذكر علماء القرآن أن البيان القرآني على قسمين: قسمٌ متضح بنفسه ولا يحتاج إلى بيان، وهو ما يرجع إلى الظهور البديهي الذي ذكرناه آنفا، وقسمٌ ليس بمتضح بنفسه، ويحتاج إلى بيان، وهو ما يرجع إلى الظهور النظري[39].
ومما يتوقف عليه الظهور النظري الإلمام بالدلالات اللغوية إفرادا وتركيبا عامة، والدلالات القرآنية إفرادا وتركيبا خاصة، ولذلك تناول الأصوليون من جهتهم الدلالات اللغوية في الخطاب الشرعي في مجموعة من الأبحاث، فتحدثوا عن أقسام الدلالة، وعن درجات وضوحها وخفائها في المنطوق والمفهوم، وفي الحقيقة والمجاز، وفي العموم والخصوص، وفي الإطلاق والتقييد...وغير ذلك من الأبواب اللغوية التي يرجع فيها إلى كتب علم اللغة والمعاني والبيان.
وفي دراستهم للدلالات بين اللغة والمتكلم والسامع وضعوا مجموعة من المقاييس التي تتناول أنواع الدلالات وعلاقة الألفاظ والتراكيب بالمعاني، لتحديد الصلة بين قصد المتكلم وفهم المعني بالخطاب، واستفادوا في وضع تلك المقاييس من نتائج الدراسات المنطقية فيما يخص دلالة الكلام على المعنى، واعتادوا أن يفرقوا بين الدلالات اللفظية والدلالات السياقية، وقسموا دلالة الألفاظ إلى المطابقة والتضمين والالتزام، وأمعنوا النظر في دلالة السياق بحسب تأثرها بتأليف نظم الكلام والتصرف في التعبير، وضمنوها أقسام الدلالة الأخرى، وهي الاقتضاء والإشارة والإيماء.
هكذا ربط الأصوليون بين القواعد اللغوية واستنباط الأحكام من النصوص، من خلال وضعهم الموازين والمقاييس التي تعين على فهم المعاني الصحيحة من ألفاظ اللغة وتراكيبها، واستغلوا في ذلك الربط وهذا الوضع معطيات علوم المنطق والمعاني والبيان، ووضعوا سلما يمثل تدرج وضوح الدلالات من خفائها، والروابط بين الألفاظ والتراكيب والمعاني[40]، وقواعد في تفسير العبارات المنطوقة والمفهومة، وهذا له ارتباط وثيق بموضوع بناء النص بين قيود العبارة وحدود الإشارة، وهو ما عبّر عنه الدكتور تمام حسان في اجتهاداته اللغوية[41] بالعلاقات الملفوظة والعلاقات الملحوظة في النص القرآني.
والدلالات القرآنية منها: الدلالة الأصلية اللغوية، ولها معنى، ومنها: الدلالة الشائعة في معروف الكلام العربي، ولها معنى، ومنها: الدلالة الشائعة في عرف الاستعمال القرآني، ولها معنى... إلخ
وتشخيص الدلالات اللغوية في التركيب العربي يتسع ويضيق بحسب القرائن اللفظية والمعنوية والحالية، أو المقالية والمقامية، وكبرى هذه القرائن هي قرينة السياق.
ولا أريد أن أثير هنا دور السياق في تحديد الدلالات، ولكن أريد أن أشير بأن دور السياق المقالي والمقامي قد أعمله المفسرون وإن لم يصرحوا في أغلب الأحيان بذكره، ومن أشهر من اعتنى بإعماله: الفخر الرازي وأبو حيان الأندلسي، ثم إن الحديث عن السياق قد اتصل عندهم بدرس التناسب والمشاكلة في القرآن بشكل أجلى وأوضح.
ولا أجد في اللسانيات المعاصرة وعلم الدلالة الحديث نظرات جديدة في هذا الباب على ما في تراثنا الإسلامي حسبما اطلعت عليه في بحث للدكتور عادل رشاد غنيم[42]، وحاصل ما هنالك تنظيم لأدوات معرفية، وتوليد وتقسيم لمصطلحات إجرائية.
ومن الظواهر اللغوية التي تتيح الاتساع في الدلالات؛ ظاهرة الترادف والاشتراك والتضاد والاشتقاق والتذكير والتأنيث والتضمين والتقديم والتأخير والحذف والعدول...إلخ، وكل هذه الظواهر موجودة في القرآن، والإشارة إلى مواطن هذا الاتساع في القرآن كثيرة في كتب التفاسير، وهذه الظواهر اللغوية تسمى في المستوى الدلالي بالعلاقات الدلالية.
وهذا الاتساع في دلالات الألفاظ والتراكيب في الدلالات القرآنية هو الذي سماه الميداني في (قواعد التدبر الأمثل)[43] بالعمق القرآني، وهذا العمق القرآني هو مجال الظهور النظري الذي ذكرنا آنفا، ولذلك نبّه الميداني رحمه الله على أن رؤية النص القرآني من متدبٍّرٍ إلى متدبِّرٍ آخر أكثر منه بصيرة وإدراكا لجزئياته وظِلاله ومقتضياته ولوازمه وروابطه الفكرية تختلف اختلافا عظيما، ينتج عنه اختلاف كبيرٌ في مقدار الإدراك للدلالات، ومقدار الفهم للمعاني[44].
ومثل هذا ذكره الدكتور تمام حسان بتفصيل وأمثلة مناسبة في جل كتبه حيثما أثار قضايا المعنى وتعدد احتمالاته باعتبار المعنى المعجمي، أو المعنى الوظيفي، أو المعنى العلائقي المرتبط بحروف الجر والعطف ووسائل الربط، أو العلاقة السياقية، أو الوصل والفصل، أو دلالة التركيب...إلخ
والخطاب الشرعي، سواء أكان قرآنا أو سنة، هو نص بلاغي وتشريعي في آن واحد، يخاطب العقل والعاطفة، ويراعي الذوق والتشريع؛ ولذلك وجب مراعاة الدلالات اللغوية بالنسبة إلى الاعتبارين معا، ألا ترى أن علماء المالكية لم يتقيدوا بمبدأ ثابت في باب الحقيقة والمجاز، في حمل كل لفظ على حقيقته، فمنهم من حمل المتبايعين في حديث الخيار على المتساومين، ومنهم من فسّره بالافتراق في الحديث، ومنهم من يقول في حديث: "لا تنكح اليتيمة حتى تستأمر"، إنما هي التي قد توفي أبوها، مع أن اللفظ قد وضع للانفراد.
بل إن الإمام مالكا، رحمه الله، قد اعتمد سنة العمل لتفسير النصوص التي قد تدل على معان متعددة بغض النظر عن التعمق في البحث عن اشتقاق الكلمات وعما وضعت له أصلا[45].
وحيث إن الألفاظ والتراكيب هي جسر المعاني، فإن المفسرين قد اهتموا بالمعنى في فهم مراد الله، وبنوا مراتب البلاغة على المعاني، وتفرّع اهتمامهم بالمعنى حتى ربطوه بقضايا الصوت والصرف والبنى الكلامية، وتفننوا في توجيه المعنى بحسب اللفظ؛ ولذلك قالوا دلالة اللفظ على معناه غير ذاتية، وطرائقهم في تقريب مراد الله لم تخرج في شمولها عن خصائص المعنى المحمول على اللفظ والتركيب، ألا ترى أن الإمام الشوكاني، رحمه الله، قد أخذ على نفسه في تفسيره ببيان المعنى العربي والإعرابي والبياني.
وقد وجدنا مقدمات التفسير تلح على مفهوم المعاني من طريق البيان الواضح، وهذا ما حدا بمحمود الألوسي (ت1270ﻫ) أن يجعل عنوان تفسيره: (روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني).
والتفسير والتأويل الذي نتحدث عنه إنما هو من وجوه المعاني وتقلباتها في الدلالة؛ ولذلك ورد في (أساس البلاغة) بأن المعنى والتفسير والتأويل واحد.
التأويل: ماهيته وأثره في توليد وتوجيه المعاني والدلالات المتجددة والمتغيرة
وأما التأويل في اللغة، فهو ما تؤول إليه حقيقة الشيء، وعرفه الشريف الجرجاني في الاصطلاح بقوله: "صرف اللفظ عن معناه الظاهر إلى معنى يحتمله.... "إلخ كلامه[46].
ولا أريد في هذا المقام أن أستطرد في الحديث عن معنى التأويل والعناصر التي يقوم عليها كما ذكرها ودققها الأصوليون في أمهات كتب أصول الفقه، كما أنني قد أفردت له بحثا مطولا بمناسبة إحدى الندوات الدولية السابقة[47]، وحسبي أن أشير، هاهنا، إلى أن التأويل واسطة بين الثوابت والمعهودات والمتغيِّرات وإدراك بصائر الوجود، وهو مصطلح يحيل على اتساع دلالات (الوحي/الكتاب المسطور) في الألفاظ والتراكيب، فهو أشبه بشجرة من المعاني والدلالات، جذورها ثابتة وممتدة في النصوص، وفروعها متنوعة ومتجددة في المعاني؛ إذ التأويل هو نوعٌ من التحليل اللغوي الذي يبعث على الحيوية، ويجدد الرؤية، ويبحث عن المعنى الطريف، فلا يجعل نصوص الوحي جامدة، ولا معانيه مملة، فيُثير مطلوب الخبر المفيد الانتحاء نحو الوجهة والقبلة الصحيحة، في ظل تعدد السياق.
ألا ترى أن أكثر المفسرين قد وَسموا عناوين تفاسيرهم بعبارة التأويل؛ لأن الجمهور الأعظم من معاني القرآن البديعةِ: الشرعيةِ والبيانيةِ والبلاغيةِ، والكونيةِ، لا تُعرف إلا بالتأويل، كما أن المفسرَ حينما يُفسر كتاب الله، يكون جلُّ اهتمامِه في البحث عن المعنى الطريف، وإلا لما كان لتفسيره مزية، والمعنى الطريف لا يُدرك إلا بالتأويل.
ويسوغ التأويل حيثما أوجبته ضرورة الشرع أو العقل أو الحس، لكن في إطار ما تحتمله ألفاظ النصوص وينسجم مع طريق الوضع؛ ولذلك قال الشاطبي: "فإن كثيرا من الناس يأخذون أدلة القرآن بحسب ما يعطيه العقلُ فيها، لا بحسب ما يُفهم من طريق الوضع، وفي ذلك فسادٌ كبيرٌ، وخروجٌ عن مقصود الشارع" (وقد ذكرته آنفا).
ومن عدالة الإسلام وواقعيته أنه قد وقف موقفا قضائيا في غاية العدل والإنصاف من المتأول في أخطر الأحكام المتصلة بالحق في الحياة.
ولا نجد في التاريخ الإسلامي مدرسة من المدارس الإسلامية إلا وقد لجأت إلى التأويل في استنطاق الوحي؛ لموجبات عقلية أو شرعية أو لغوية؛ لتنسجم النصوص، فلا يضربُ بعضُها بعضا، وذلك بغض النظر عن قُرب التأويل أو بُعده من الصواب.
وهذا ابن حزم من أشهر الناس تمسكا بالظواهر، وأبعدِهم عن التأويل، وقد وجدناه يلوذ بالتأويل في مُحلّاه في مثل تأويل حديث: "سَيحان وجَيحان، والنيل والفرات، كلٌّ من أنهار الجنة"، وتأويل حديث: "ما بين بيتي ومنبري روضة من رياض الجنة"، وهما حديثان صحيحان ثابتان، قال: "وهذان الحديثان ليس على ما يظنه أهل الجهل من أن تلك الروضة قطعة منقطعة من الجنة! وأن هذه الأنهار مهبطة من الجنة! هذا باطلٌ وكذبٌ...".
ثم ذكر أن معنى كون الروضة من الجنة إنما هو لفضلها، وأن الصلاة فيها تؤدي إلى الجنة، وأن تلك الأنهار لبركتها أضيفت إلى الجنة، كما تقول في اليوم الطيب: هذا من أيام الجنة...
ثم حمل بشدة على من حملوا هذه الأخبار على ظاهرها، قال: "وسبحان من جعل هؤلاء القوم يتأولون الأخبار الصحاح بلا برهان! مثل: "البيعان بالخيار حتى يتفرقا"، ومثل: "لا صلاة لمن لا يقيم صلبه في الركوع والسجود"، وغير ذلك، ثم يأتون إلى الأخبار التي قد صحّ البرهان من القرآن ومن ضرورة الحس على أنها ليست على ظاهرها، فيريدون حملها على ظاهرها![48]".
بهذا يمكن لنا أن نصطلح على تسمية المعاني والدلالات الشرعية والبيانية والبلاغية والكونية الواردة في الوحي من طريق معهود اللغة بالمعاني والدلالات الثابتة والمعهودة.
وفي المقابل، يمكننا أن نصطلح على تسمية المعاني والدلالات المستفادة من التأويليات بالمعاني والدلالات المتجددة أو المتغيِّرة، على اعتبار أنها غير ثابتة ولا معهودة، وأنها وَفق رهانات تأويلية ومذاهب متأولة، وأن هذه المعاني والدلالات المستفادات من العملية التأويلية منها ما هو مقبول، ومنها ما هو غير مقبول، ومنها ما هو طريف، ومنها ما هو غير طريف، ومنها ما هو ذو بعد وظيفي، ومنها ما هو ذو بعد غير وظيفي، ومنها ومنها...
على أن مبنى البُعد التأويلي على الدلالات، ومدارُه عليها وفيها، وهو بُعْدٌ عظيم في إطار تحقيق علم النص، وتحقيق علم السياق، وتحقيق علم تنزيل النص على السياق، وهو بُعدٌ خطير أيضا حينما يُوظف في غير موضعه من هذه الأنساق الثلاثة.
وعملية التأويل ضرورية لكل إنسان سوي يعير الانتباه إلى ما يحيط به من ظواهر الكون، فيريد أن يتعرّف على تفاصيل ما ظهر منها، وتقوده عملية التعرف على الظواهر إلى طلب معرفة ما خفي منها وما بطن.
وإذا كانت الظواهر أو الأفعال أو ضروب السلوك لا تتلاءم مع ما يستبطنه من معارف وعادات وأعراف، فإنه يلجأ إلى عملية تأويل الظاهر أو ضروب السلوك أو الأفعال، ليجعلها منسجمة متناغمة مع معارفه الخلفية، وهذا يعني أن الكائن البشري يعتقد في شيء أنه أصلٌ أو أوّلٌ أو أساسٌ، وأن هناك شيئا ثانويا أو فرعيا يمكن أن يَرجع إلى الأصل أو الأول أو الأساس..
وبهذا الاعتقاد يرجع إلى التأويل بطريق ردِّ الغائب إلى الشاهد، على أن قدرات الإنسان المحايثة القابلة للتطوير والتنمية غير محدودة، وأن إمكانات الكون لا محدودة، وكلتا المؤهلتين متفاعلة مع الأخرى، ولا يتحقق وجودها إلا بها، فهذه من تلك، وتلك من هذه، وهذا يعني أن القدرات البشرية غير محيطة بكل شيء علما دفعة واحدة، وإنما يتحقق علمها شيئا فشيئا؛ ولذلك فهي ترجئ ما لم تستطع معرفته وتأويله إلى حين، بيد أنها تتخذه حافزا لتنشيط بعض القدرات من كمونها.
فالتأويل إذن، يعكس الأوليات والمبادئ والأعراف ومشاغل الأمم والأفراد؛ ولهذا فإن التأويل يختلف من أمة إلى أمة، ومن فرد إلى فرد، فهو عملية تاريخية وتاريخانية، بمعنى أنه خاضع لإكراهات التاريخ ومستجيب لها، وأنه صانع للتاريخ ولثوراته.
ومن يستعرض تاريخ التأويل يتبين له صحة هذه البديهية في التأويل القديم للعهدين بتياراته المختلفة، وفي التأويل العربي الإسلامي باتجاهاته المتنوعة، وفي التأويل الحديث بمنظوراته المتعددة.
ومهما اختلفت التأويلات باختلاف الأديان والأجناس والأمم والجماعات والأفراد وتطورات الأفراد، فإن أصل نشأة التأويل وسيرورته وإجرائه يرجع إلى مقولتين:
أولاهما؛ غرابة المعنى عن القيم السائدة؛ أعني: (القيم الثقافية والفكرية والسياسية).
وثانيهما؛ بث قيم جديدة بتأويل جديد؛ أي إرجاع الغرابة إلى الألفة ودسّ الغرابة في الألفة؛ ومن هذا المعنى قوله صلى الله عليه وسلم: "بدأ الإسلام غريبا، وسيعود غريبا، فطوبى للغرباء"؛ أي طوبى للذين يعملون على نشر قيم الإسلام السمحة ويصنعون الألفة.
وإذا كانت كل عملية تأويلية كما وصفتها لها رهان تريد أن تعززه، وأن تخلقه وتصنعه للفوز بالرهان، فإنه لا بد من الانتصار على المعوقات مهما اختلفت أنواعها وأصنافها، ولتحقيق النصر فإنها تلجأ إلى صياغة قوانين لتضبط في ضوئها نفسها. ولنضرب مثالا على ذلك برِهان المثقفين الأندلسيين في عهد ابن رشد والشاطبي.
فقد جسّد ابن رشد والشاطبي مجهودهما التأويلي برهانه، وقد كان الرهان هو وحدة الأمة، وقوة الدولة، وتحقيق المصلحة في الدنيا والسعي للآخرة؛ أي كان الرهان وَفق مرجع القبلة والوجهة الصحيحة.
فكتب ابن رشد في الفلسفة وعلم الكلام، وكتب الشاطبي في الأصول والمقاصد، وإن اختلفت في المضمون وفي كيفية البرهنة عليه وفي الخلفيات الإبستيمولوجية، فإننا نزعم أنها تعالج الإشكال نفسه وتتوخى الرهان عينَه.
لكن يجب أن نذكر في هذا السياق أن ابن رشد والشاطبي ليسا إلا حالة من وضع عام في زمنهم، وأن الأندلسيين وقتئذ كانوا يصوغون أنساقهم الفكرية والسياسية والاجتماعية لحل مشاكلهم بالقراءة وليس بالإبداع في غالب الأحيان، فابن رشد قارئ لتراث أرسطو وللتراث العربي الإسلامي، والشاطبي قارئ للثقافة العربية الإسلامية المعقولة، وكذلك ابن عميرة وابن البناء والسجلماسي وغيرهم[49].
إنهم قراء لتراث غيرهم بطريقتهم الخاصة لحل مشاكل المجتمع والدولة وتعزيز وحدة الأمة وقوة الدولة لتحقيق السعادة في الدارين، ولكن الحل سينتج تضاريس، أي: سينتج نوعا من المجال المعرفي الذي سيصبح بدوره إشكاليا حيثما تغيَّر الوضع التاريخي، وقد أصبحت الحلول المقترحة إشكالات، ولكنها صارت إشكالات حادة في وقتنا المعاصر؛ ولذلك وجب الجمع بين القراءة والإبداع.
البصائر الكونية: ماهيتها وأثرها الدلالي في الانتحاء نحو القبلة والوجهة الصحيحة
وأما بصائر الوجود أو البصائر الكونية؛ فالمقصود بها أسرار الكون وهادياته من المعاني والدلالات الإرشادية نحو القبلة الحقّة والوجهة الصحيحة، أو نحو إبانة الطريق وإيضاح المحجّة، والمستوحاة من المشاهد والسنن الكونية (الكتاب المنظور)، فإن تمييز وإدراك تلك المعاني والدلالات يتم بالبصائر لا بالأبصار، والبصائر لا تتم إلا مع العقل والفكر لا مع عدمه، وهي معاني ودلالات وأسرار، دأب الوحي على توجيه الأنظار إليها، ويستطيع أن يدركها الإنسان بقدر اجتهاده في تطلبها، وبحسب وسائل استهدائه إليها من علوم التسخير، فهي من باب الهدايات العامة.
لكن نريد أن نؤكد على أن هذه البصائر تَبْعد منه وتقرب بحسب الوعي بمقاصد القبلة والوجهة التي فطر الله الناس عليها، وبحسب البُعد والقُرب من الاستهداء بمرجع هذه الوجهة وتلك القبلة الذي هو الوحي، ألا ترى أن الله عز وجل حينما شبّه نور القرآن لشدة نوره بالبرق الخاطف لشدة ضوئه، كنى بذلك عن ضعف بصائر الكفار والمنافقين في قوله: ﴿يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ﴾ (البقرة: 19)، فشدة ضوء النور تزيدها عمى؛ لضعفها وهوانها، تشبيها لها بضعف البصر الحسي، فهو كلما كان أضعف، كان النور أشدَّ إذهابا له، كما قال الشاعر:
خفافيش أعماها النهار بضوئه *** ووافقها قطع من الليل مظلم[50]
ثم إن الكون مسخرٌ للإنسان، وهذا الإنسان مستخلفٌ في الأرض، فلا بد أن يكون هذا الكون منسجما مع مقتضيات هذا الاستخلاف ومعينا عليه، ودالا على وجهته وقبلته، وميسِّرا عليه سبل إدراك سبيل ذلك الانسجام وتلك المقتضيات في الكتاب المنظور، كتيسير سبيل الدين في الكتاب المسطور؛ إذ هو المطلوب التوجه إليه فيهما معا، ألا ترى إلى قوله تعالى: ﴿ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ﴾ (عبس: 20) كيف جمع فيه بين السبيلين؛ سبيل تيسير الخروج إلى الحياة الدنيوية، وسبيل تيسير الدين، لكن السبيل الأول عام في كل حيوان، وهو مشاهدٌ ملموسٌ، فلا مزية للإنسان فيه على غيره، فكان سبيل تيسير الدين هو الخاص بالإنسان، وهو المطلوب التوجه إليه، أي: خلقه من نطفة، وقدر مجيئه إلى الدنيا، ويسّر له الدين في التكاليف، ثم أماته ليرى ماذا عمل؟ والسياق يبدأ من قوله: ﴿قُتِلَ الْإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ﴾ (عبس: 17)[51].
ولهذا كان الوحي طافحا بالآيات الكونية، وبالمسميات والظواهر الكونية وسُننها وخَلقها ونِظامها، وقد وظفها كثيرا في معاني الإيمان والاعتقاد ودلائل اليقين وبراهين البعث، مرة بإجمال، كما في قوله في سورة البقرة: ﴿إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ (البقرة: 163)، فلم يبيّن هنا وجهَ كونهما آية، ومرة بتفصيل، مع بيان وجه آيتهما، وذلك في مواضع عدة، كما في قوله: ﴿÷أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ...﴾ (ق: 6)، وفي قوله: ﴿الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا...﴾ (الملك: 3)، وقِس على ذلك سائر الظواهر الكونية.
كما وظّفها الوحي في مقامات طغيان القوة والسلطة، وفي مظاهر هذه القوة، وأسباب تلك السلطة ومسبباتها، وذلك من أجل تنبيه الإنسان إلى أخطائه وغروره، وانحرافه عن الوجهة الصحيحة والقبلة الحقة، وتذكيره بصدق مرجعهما، كما في حديثه عن طغيان الحضارات السابقة، كالحضارة الفرعونية وغيرها، وهي معان تقوم في كثير من المواقف والأحوال الهادية على أساس الإدراك الحسي للظواهر التي تملأ العالم من حولنا..
ومن ثم تكررت الدعوة في الوحي إلى إمعان النظر فيها، وخوطب فيه الإنسان على أساس من العقل الذي يبني المجردات على المحسوسات، من أجل أن يتدبر المغزى الذي يجده وراء ما يراه ويسميه، وأول ما يجده من ذلك نظاما كونيا دقيقا دالا دلالة يقينية على منشئه؛ إذ الصدفة لا يمكن أن تنشئ نظاما كهذا، ولا الطبيعة يمكن أن تسير نفسها، ولا العلم يمكن أن يمدنا، بالنسبة لهذا الكون وتطوره، بأكثر من نظريات فلسفية ظنية.
وغرض الوحي من تلك الدعوة وذلك الخطاب، هو الانتحاء نحو القبلة والوجهة الصحيحة المفهومة من دلالة التنبيه في قوله تعالى: ﴿وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا﴾ (الإسراء: 85)، وإرشاد الإنسان إلى درجات الاستواء والاعتدال في كل ما يتصل به أو ينتجه، وتنبيهه على عدم الوقوع في مصايد ودركات الإغواء والانحراف والغرور، وأنه كما يجهل كثيرا من أحوال نفسه التي بين يديه وجنبيه ولا ينكر وجودها، فكذلك يجهل كثيرا من أحوال هذا الكون الفسيح الذي لا ينكر وجوده، وأنه لو حاول أن يقيم دليلا على الكون الفسيح، لم يسعفه الحس ولا العقل، ولم يجد أمامه إلا وجهة الكتاب المسطور وقبلته، ﴿بَلْ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ﴾ (البقرة: 115).
وفي باب الاعتبار والاهتداء دعا الوحي إلى الاعتبار والنظر في عواقب وآثار الأمم السابقة مع أنبيائهم، وهذا الباب من جنس النظر في الكتاب المنظور؛ إذ العالم لا يخلو من آثار نبي من لدن آدم إلى زماننا، وقد علم جنس ما جاءت به الأنبياء والمرسلون، وما كانوا يدعون إليه و يأمرون به، ولم تزل آثار المرسلين في الأرض، ولم يـزل عند الناس من آثار الرسل ما يعرفون به ما جاءت به الرسـل، ويفرقـون به بين الرسل وغير الرسل؛ إذ النبوة مشتملة على علوم وأعمال لابد أن يتصف الرسول بها، وهي أشرف العلوم وأشرف الأعمال، ولا يمكن أن يشتبه الصادق فيها بالكاذب.
ومعجزات الأنبياء من هذا الباب؛ إذ النظر فيها هو من جنس المقايسة بين السنن الكونية الطبيعية الدالة على صدق الوجهة والقبلة، والسنن الكونية غير الطبيعية الدالة على صدق مرجع تلك الوجهة والقبلة.
وإذ لم يكن بإمكان الغرب أن يطمس آثار الأنبياء والرسل، فإنه لم يعد بإمكانه الآن في ظل العولمة أن يطمِس الآثار التي تدل على الحضارة الإسلامية المسطورة، ولا أن يعمد إلى تشويه حقائقها المتصلة بها في مظاهرها الروحية والفكرية والمادية.
وقد وصفت الحضارة الإسلامية بالمسطورة؛ وأعني بها آلاف المخطوطات الإسلامية في العلوم الإنسانية والدقيقة التي كانت هي سبب النقلة التي عرفها الغرب، وقد بقيت المصنفات الطبية الإسلامية عمدة الطلاب والأساتذة في الجامعات الفرنسية إلى القرن السادس عشر، وفي إنجلترا إلى منتصف القرن التاسع عشر.
أما الحضارة الإسلامية المنظورة؛ فلم يبق من عمرانها غير المساجد وبعض المعاهد التاريخية الشهيرة التي اعترف بفضلها وسبقها الغرب، إضافة إلى المساحات الحرة داخل البيوتات التقليدية والمساجد والمعاهد والبيمارستانات لتلطيف درجات الحرارة.
ومن حسن الحظ أن كثيرا من المدن الإسلامية قد حافظت على خرائطها الطبوغرافية التي تحافظ على مركزية القبلة والوجهة، وذلك من خلال الحفاظ على مركزية المساجد الكبرى.
إن الحقيقة التي يجب أن يعيها عامة المسلمين هي أن عالمية الإسلام في حاجة إلى سُفراء عالمين عاملين، يمتثلون أوامرَه، ويجتنبون نواهيَه، ويجعلون معانِيَه وفضائِلَه محسوسةً في الواقع المعيش؛ أي هو في حاجة إلى سفراء يعيشون عالميةَ الإسلام وحيويتَه وواقعيتَه ومرونتَه ومحبتَه وتعارفَه وإيثارَه... وحركيته نحو القبلة والوجهة، كما أننا في حاجة إلى رؤى استشرافية لعالم متغيِّر، ولإيجاد حلول للمشاكل التي يموج فيها المسلمون وغيرهم موجا في ظل العولمة، وإلى اجتهاد استباقي لتحديد الاستراتيجيات القابلة للحد من الخلاف وآثاره، وإلى تكييف الأحكام التي يمكن أن تلبي حاجة الإنسان المعاصر في هذا العالم المتغيّر وبإيقاعات سريعة جدا، وإلى تحيين حلول أسئلة التحديات الأكثر عرضة للانتقاد كالفروق الطبقية والعدالة الاجتماعية... ومما يساعد على تحقيق ذلك العلم بجميع معطيات ومقتضيات السياق الكوني المعاصر.
وإنا لنشعر بالسعادة حينما نجد قليلا من الناس يهتمون بمعاني الإيمان والإحسان وللناس جميعا، وفي مقابل ذلك نشعر بالخيبة والحسرة حينما نرى كثيرا من الناس لا يُلقون بالا لهذه المعاني حتى بالنسبة لأنفسهم.
ومما لا شك فيه أن تحقيق الفِعل الإيجابي وتبادل أدوار معاني الإحسان بين الناس جميعا سيجعل الفرد سعيدا، وقد أثبتت الدراسات العلمية أن الإنسان السعيد يُنتج بمقدار الضعفين على الأقل، ويركز على أداء واجباته بنسبة تزيد على 80 بالمائة، كما يتمتع بصحة أفضل، وهو ما يعني تحقيق انعدام الفوارق الاجتماعية وتحقيق الطفرة الاقتصادية وتوفير نسبة كبيرة من الأموال المخصصة للقطاعات الصحية والعلاجية، والارتقاء بمستوى الخدمات.
وهاهنا تبدو لنا جليا الأدوار العظيمة للقيم الإسلامية التي حث عليها الشرع، وما يمكن أن تلبيه للفرد والجماعة في هذا العالم المتغيّر، سواء على المستوى الروحي أو الاجتماعي أو الاقتصادي...
وبفعل تفشي الصراعات والظواهر الاجتماعية المقلقة، كالانتقام والانتحار والتمرد واليأس من الحياة... وتفشي القيم الغريبة كالكراهية والتنابز بالألقاب وعدم التسامح، اتجهت كثير من الدول إلى الاهتمام بترسيخ القيم النبيلة والإيجابية ونشر الفكر الإيجابي المحفِّز على الإحساس بالسعادة، وعلى شعور الإنسان بالكرامة، وترسيخ القيم الإسلامية في البرامج والمناهج الدراسية بطريقة وظيفية تطبيقية، وليس بطريقة نظرية كلاسيكية.
وإن الشعوب والأمم مهما توفرت على موارد بشرية مؤهلة ومتمكنة من الرأسمال العلمي والتقني، فإنها تبقى دائما في حاجة ماسة إلى الرأسمال القيمي والأخلاقي، وإلا كانت عرضة للتشتت وطغيان العالم المادي وفساد البيئة.
رجوع وانعطاف
وقد أشرت آنفا إلى أن النظر في الكتاب المنظور يعين على التفكر والتذكر والاعتبار والموازنة والمقارنة والمقايسة، وله أثر كبير في إيضاح المعاني وتقريبها إلى ذهن السامع، مما يؤدي إلى سرعة الفهم، وأن الوحي قد وظفه في أساليب خطابه، ودعا إليه وأمر به كما في قوله في سورة يونس: ﴿قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ...﴾ (الآية: 101)، بل وبّخ في سورة الأعراف مَن لم يمتثل هذا الأمر، ونبّه على وجوب المبادرة إلى الامتثال في قوله: ﴿أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ...﴾ (الآية: 185).
ولا شك أن الموازنة والمقايسة بين المعاني والدلالات المستنبطة من الكتاب المسطور، والمعاني والدلالات المحسوسة في الكتاب المنظور، لا يمكن أن تؤدي إلا إلى نتائج متناغمة ومتكاملة.
بعض أساليب القرآن في الموازنة بين الأمرين
وهذه الموازنة والمقايسة استخدمها القرآن كثيرا في أساليبه، كما في ظاهرة التضاد، وفي تعادلات الأضداد للتنبيه على التعادل والتوازن، فقوله: ﴿وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ﴾ (الرحمن: 5) يشير إلى أن الميزان أصل الكون، وأن التعادل والتوازن سمت الوجود ومعلم الجمال وضرورة البقاء في عالمنا، وأن هذه الصورة من التوازن من قوانين الطبيعة وسنن الكون الذي يمثل الإنسان جزءا منه، وله اتصال قوي ومباشر معه، حتى ليقال إن كل القوانين الأساسية التي تحكم الطبيعة هي نفسها التي تحكم الإنسان.
وهذه التقابلات الضدية بين أشياء الوجود تتعادل وتتزن، فهناك الثنائية الضدية بين السكون والحركة في أشياء الكون، والحركة والسكون ظاهرة وجودية تبرز في حركة الإنسان والذوات... وهناك الثنائيات المعنوية لليل والنهار.. والشروق والغروب.. التي تبرز زمن الحركة.
ووراء هذا التعادل في الخطاب القرآني التنبيه على المعطيات المجسِّدة لحقيقة الوجود والحياة الحقيقية؛ إذ في الإسلام تتعادل ضرورات الدنيا والآخرة، ولغة العقل والمنطق ولغة الإيمان والإحسان...
وهذه الظاهرة الأسلوبية في القرآن، والتي يمكن أن نسميها بتعادلات الأضداد، أو المتعادلات الضدية، مدخل مفيد جدا في الجمع بين القراءتين، وأمثلة تعادلات الأضداد في معطيات النص القرآني كثيرة، وترد لبيان القيمة الجوهرية لها وضروراتها في الحياة، كما في قوله في آل عمران: ﴿قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ. تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾ (آل عمران: 26-27)، وفي قوله في سورة النجم: ﴿وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى. وَأَنَّهُ هُوَ أَمَاتَ وَأَحْيَا. وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى. مِنْ نُطْفَةٍ إِذَا تُمْنَى. وَأَنَّ عَلَيْهِ النَّشْأَةَ الْأُخْرَى. وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنَى وَأَقْنَى﴾ (الآيات: 42-47)، فالتضاد بين المفردات الواردة في هذه الآية، مثلا، يتسع لظاهر المعنى، ثم يتجاوزه لمعانٍ أخرى أوسع، وتتسع لدلالات سياقية متعددة ومتسعة، فيصبح الضحك يفيد كل ما هو إيجابي؛ كالفرح والعطاء والمنح... والبكاء يفيد كل ما هو سلبي؛ كالموت والفقر والحرمان... وغير ذلك من المظاهر المجسدة لواقع الإنسان.
ولذلك نلاحظ من خلال قراءتنا للكتاب المسطور أن هذه الألفاظ المتقابلة قد أخذت أبعادا دلالية حسِّية ومعنوية، وهذا التوسع الدلالي وامتداده حاصل في كثير من مثيلاتها. فلفظ الحياة يتسع للمادي، ويتجاوزه إلى الحياة المعنوية؛ كالعلم والإيمان، والخير والإحسان..
وبهذا يلتقي الضحك مع الحياة، والبكاء مع الموت، فأصبحت كل كلمتين تمثل مستوى دلاليا واحدا، الأول يفيد الإيجاب، والآخر يفيد السَّلب، وهذه العلاقات اللفظية تجسد المآلات الواقعية والفكرية في الحياة كما هي، وتُبيِّن قدرة الله في تحقيق الشيء وضده، وما يترتب على هذا من حِكم في تدبيره لشؤون العباد، وهنا تظهر لنا بجلاء قيمة التكامل المعرفي بين القراءتين.
وبعد؛ فلعل هذا الموضوع قد أخذ نصيبه من التشبيك والتوشيج بينه وبين سائر مداخلات هذه الندوة الدولية المباركة، وجاء بتحقيق بعض أغراض وأهداف محورها الثالث.
الهوامش
[1] ينظر: أبو إسحاق الشاطبي، فتاوى الشاطبي، تحقيق: محمد أبو الأجفان، ط2، (1406ﻫ/1985م)، ص187، وأبو العباس أحمد بن أحمد المعروف ببابا التنبكتي، نيل الابتهاج بتطريز الديباج، تحقيق: حماه الله ولد سالم، بيروت: دار الكتب العلمية، د. ط، 2013، ص49.
[2]. أبو جعفر الطبري، جامع البيان، تحقيق: أحمد محمد شاكر، مصر: دار المعارف، 1408ﻫ، 6/309.
[3]. جامع البيان، م، س، 6/364.
[4]. أبو إسحاق الشاطبي، الموافقات في أصول الشريعة، تحقيق: عبد الله دراز-محمد عبد الله دراز، دار الكتب العلمية، ط1، (1425ﻫ/2004م)، 2/56.
[5]. يحيى رمضان، القراءة السياقية عند الأصوليين: قراءة في مفهوم معهود العرب عند الشاطبي،، ضمن أعمال الندوة العلمية التي نظمتها الرابطة المحمدية للعلماء بالرباط، أيام 10 و11 و12 جمادى الثانية 1428ﻫ الموافق لـ26 و27 و28 يونيو 2007م، حول موضوع: أهمية اعتبار السياق في المجالات التشريعية وصلته بسلامة العمل بالأحكام، ص265-281.
[6]. أبو الفتح عثمان بن جني الموصلي، الخصائص، المكتبة العلمية، د. ط، (1375ﻫ/1952م)، 1/124.
[7]. ينظر: الفخر الرازي، المحصول في علم الأصول، تحقيق: طه جابر فياض العلواني، بيروت: مؤسسة الرسالة، ط2، 1412ﻫ، 1/201، وانظر: شهاب الدين أحمد بن إدريس القرافي، نفائس الأصول في شرح المحصول، تحقيق: عادل أحمد عبد الموجود، علي محمد معوض، مكتبة نزار مصطفى الباز، ط1، (1416ﻫ/1995م)، 1/512، و محمد بن بهادر بن عبد الله الزركشي بدر الدين، البحر المحيط، تحقيق: عادل أحمد عبدالموجود وعلي محمد معوض وأخرين، بيروت: دار الكتب العلمية، ط1، (1413ﻫ/1993م)، 2/13، وغيرها.
[8]. ينظر: البحر المحيط، م، س، 6/202.
[9]. ينظر: ابن جزي الكلبي الغرناطي، تقريب الوصول إلي علم الأصول، تحقيق: محمد المختار بن محمد الأمين الشنقيطي، القاهرة: مكتبة ابن تيمية، وجدة: مكتبة العلم، ط1، 1414ﻫ، ص473.
[10]. ينظر: شهاب الدين القرافي، شرح تنقيح الفصول، القاهرة: دار الفكر ومكتبة الكليات الأزهرية، ط1، (1393ﻫ/1973م)، ص122.
[11]. ينظر: محمد الأمين بن محمد المختار بن عبد القادر الجكني الشنقيطي، مذكرة في أصول الفقه، بيروت: دار القلم، د. ط، 1391ﻫ، ص320-321.
[12]. ينظر: جلال الدين السيوطي، المزهر في علوم اللغة وأنواعها، تحقيق: فؤاد علي منصور، بيروت: دار الكتب العلمية، ط1، (1418ﻫ/1998م)، 1/149.
[13]. أبو العباس ثعلب، الفصيح، تحقيق: عاطف مدكور، دار المعارف، د. ط، د. ت، ص260.
[14]. جامع البيان، م، س، 7/100.
[15]. ينظر: جلال الدين السيوطي، بغية الوعاة في طبقات اللغويين والنحاة، تحقيق: محمد أبو الفضل إبراهيم، صيدا: المكتبة العصرية/لبنان، 1428ﻫ، 2/164.
[16]. أبو محمد عبد الله بن مسلم بن قتيبة الدينوري، تأويل مشكل القرآن، تحقيق:أحمد صقر، القاهرة: مكتبة دار التراث، ط2، (1393ﻫ/1973م)، ص86.
[17]. أبو عُبيد القاسم بن سلاّم، الناسخ والمنسوخ، دراسة وتحقيق: محمد بن صالح المديفر (أصل التحقيق رسالة جامعية)، الرياض: مكتبه الرشد/شركة الرياض، ط2، (1418ﻫ/1997م)، ص247.
[18]. محمد بن جرير الطبري، تفسير الطبري (جامع البيان عن تأويل آي القرآن)، مصر: دار المعارف، 7/103.
[19]. البحر المحيط، م، س، 1/12.
[20]. ابن هشام الأنصاري جمال الدين، مغني اللبيب عن كتب الأعاريب، بيروت: دار الفكر، ط1، (1392ﻫ/1972م)، ص698 و706.
[21]. بدر الدين الزركشي، البرهان في علوم القرآن، دار الفكر تحقيق: محمد أبو الفضل إبراهيم، دار الفكر، ط2، (1391ﻫ/1972م)، 1/304.
[22]. المصدر نفسه، 1/304.
[23]. ينظر: المصدر نفسه، 2/160.
[24]. ينظر: عبد الرحمن حسن حبنكة الميداني، قواعد التدبر الأمثل لكتاب الله عز وجل: تأملات، دمشق: دار القلم، ط2، (1409ﻫ/1989م)، ص317.
[25]. فعدد من أوجه المعنى يصدق على عموم اللغة لا على خصوص القرآن. ينظر: تمام حسان، اجتهادات لغوية، القاهرة: عالم الكتب، ط1، (1428ﻫ/2007م)، ص184.
[26]. ينظر: اجتهادات لغوية، م، س، ص185 وما بعدها.
[27]. أبو عبيدة معمر بن المثنى التيمى البصري، مجاز القرآن، تحقيق: محمد فواد سزگين، القاهرة: مكتبة الخانجى، (1374ﻫ/1954م)، 1/8 وما بعدها.
[28]. ينظر: ابن أبي العز، شرح العقيدة الطحاوية، تحقيق: عبد الله بن عبد المحسن التركي وشعيب الأرناؤوط، بيروت: مؤسسة الرسالة، ط2، (1411ﻫ/1990م)، 1/251.
[29]. ينظر: أحمد بن فارس بن زكريا الرازي أبو الحسين، الصاحبي في فقه اللغة العربية ومسائلها وسنن العرب في كلامها، تحقيق: عمر فاروق الطباع، بيروت: مكتبة المعارف، ط1، (1414ﻫ/1993م)، ص77.
[30]. ينظر تفصيل ذلك في كتاب: عبد الله بن الشيخ المحفوظ بن بيه، أمالي الدلالات ومجالي الاختلافات، المكتبة المكية - دار ابن حزم، ط1، 1990، ص73.
[31]. ينظر: ابن منظور الإفريقي، لسان العرب، بيروت: دار صادر، ط3، (1414ﻫ/1994م)، (دحا).
[32]. ينظر: تقريب الوصول.. م، س، ص345، الهامش(1).
[33]. الموافقات، م، س، 1/18.
[34]. أبو على الحسن بن رشيق القيرواني الأزدي، العمدة في محاسن الشعر وآدابه، تحقيق: توفيق النيفر ومختار العبيدي وجمال حمادة، تونس: المجمع التونسي للعلوم والآداب، (بيت الحكمة)، 2009، 2/678.
[35]. ينظر: حسن سليمان حسين الجميلي، الاتساع في اللغة عند ابن جني، رسالة دكتوراه في اللغة والنحو، الموصل: كلية الآداب، 1996، ص51.
[36]. ينظر: علاء صاحب حمادي تكّي، الاتساع وأثره في المعجم العربي: لسان العرب أنموذجا، رسالة لنيل الماجستير في اللغة وآدابها بجامعة كربلاء، (1433ﻫ/2012م)، ص2-41.
[37]. البحر المحيط، م، س، 1/104.
[38]. نجم الدين الطوفي، الإكسير في علم التفسير، تحقيق: عبد القادر حسين، القاهرة: مكتبة الآداب، (1397ﻫ/1977م)، ص27.
[39]. ينظر: البرهان في علوم القرآن، م، س، 2/183، والإكسير، م، س، ص3.
[40]. ينظر: محمد المختار ولد أباه، مدخل إلى أصول الفقه المالكي، نشر الدار العربية للكتاب، 1987، ص31-38.
[41]. اجتهادات لغوية، م، س، ص285.
[42]. عادل رشاد غنيم، المنهج السياقي وأثره في تطوير دراسات التفسير، بحث مقدم للمؤتمر الدولي لتطوير الدراسات القرآنية بالسعودية، 1434ﻫ.
[43]. قواعد التدبر الأمثل لكتاب الله عز وجل: تأملات، م، س، ص239.
[44]. المرجع نفسه، ص241.
[45]. ينظر: مدخل إلى أصول الفقه المالكي، م، س، ص39.
[46]. علي بن محمد بن علي الزين الشريف الجرجاني، كتاب التعريفات، بيروت: دار الكتب العلمية/لبنان، ط3، (1408ﻫ/1988م)، ص50.
[47]. ينظر: التأويل وفق مقتضيات السياق المقامي في ضوء تراث الإمام أبي القاسم السهيلي (ت581ﻫ)، منشور ضمن أعمال الندوة الدولية التي نظمتها الرابطة المحمدية للعلماء في موضوع: التأويل: سؤال المرجعية ومقتضيات السياق، يومي: 17 و18 شعبان 1434ﻫ الموافق لـ26 و27 يونيو 2013م بالرباط-المملكة المغربية، ص517-551.
[48]. أبو محمد علي بن أحمد بن سعيد بن حزم الأندلسي القرطبي الظاهري، المحلى بالآثار، بيروت: المكتب التجاري للطباعة والتوزيع والنشر، د. ط، د. ت، 7/283-284.
[49]. ينظر: تحليل ذلك في كتاب: محمد مفتاح، النص من القراءة إلى التنظير (Text of reading To endoscopy)، إربد: عالم الكتب الحديث/الأردن، ط1، 2016، ص76-88.
[50]. ينظر: محمد الأمين بن محمد المختار الجكني الشنقيطي، أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن، جدة: مجمع الفقه الإسلامي، 1/63.
[51]. ينظر: المصدر نفسه، 9/55.