مركز الإمام الجنيد للدراسات والبحوث الصوفية المتخصصةدراسات عامة

التضرعات في الأيام المشهودات

     اهتم أرباب التصوف بأيام الله المشهودة أيما اهتمام، واعتنوا بها أيما عناية، ومن أعظم تلك الأيام أيام ذي الحجة العشرة، هذه الأيام التي أقسم بها الله تعالى في كتابه الكريم بيانا لمنزلتها وكشفا لقدرها عنده، يقول سبحانه: ﴿والفجر وليال عشر[1] ، والمقصود بالليالي العشر: عشر ذي الحجة، كما قال  ابن كثير. وقد أورد الشيخ عبد القادر الجيلاني في كتاب: “الغنية لطالبي طريق الحق” أن الشيخ أبي البركات أخبره، عن الشريف أبى عبد الله محمد بن علي بن محمد بن يحيى بن المهدي بإسناده، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة -رضي الله عنهما -، عن النبي -صلى الله عليه وسلم -أنه قال: “من أحيا ليلة من ليالي عشر ذي الحجة، فكأنما عبد الله عبادة من حج واعتمر طول سنته، ومن صام سنته، ومن صام فيها يومًا فكأنما عبد الله تعالى سائر سنته”[2].

     ومن أعمال البر التي أذن فيها الصالحون بسندهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لمن اندرج في سِلكهم وأخذ عنهم، ما أخبر به الشيخ أبو البركات عن محمد بن محمد بن عبد العزيز الشاهد بإسناده عن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين، عن أبيه محمد بن علي، عن أبيه علي بن الحسين زين العابدين، عن أبيه الحسين بن علي، عن أبيه علي -رضي الله عنه -، عن النبي -صلى الله عليه وسلم -أنه قال: “إذا دخل عشر ذي الحجة، فجدوا في الطاعة، فإنها أيام فضلها الله تعالى وجعل حرمة ليلها كحرمة نهارها، فمن صلى في ليلة من ليالي العشر في الثلث الأخير أربع ركعات يقرأ في كل ركعة بالحمد مرة، والمعوذتين، ويكرر سورة الإخلاص ثلاثًا، ويقرأ آية الكرسي، ويكرر ذلك في كل ركعة، فإذا فرغ من صلاته رفع يديه وقال: سبحان ذي العزة والجبروت، سبحان ذي القدرة والملكوت، سبحان الله الحي الذي لا يموت، لا إله إلا هو يحيى ويميت، وهو حي لا يموت، سبحان الله رب العباد والبلاد، والحمد لله حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا على كل حال، الله أكبر كبيرًا، ربنا جل جلاله وقدرته بكل مكان -قال الشيخ: يعني علمه بكل مكان – ثم يدعو بما شاء، … فإذا كان يوم عرفة، وصام نهارها، وصلى ليلها، وأكثر التضرع بين يدي الله تعالى يقول الله: يا ملائكتي اشهدوا أني قد غفرت له وأشركته بالحجاج إلى بيتي، قال: فتستبشر الملائكة بما يعطى الله تعالى ذلك العبد بصلاته ودعائه” [3].

     ومن تضرعات القوم التي تبين تحققهم بمعنى العبودية لله تعالى قوله:

 يا من بيده الملك والملكوت، وله العزة  والجبروت، وهو الحي الذي لا يموت، تولني بعنايتك واحفظني برعايتك، فإن إحسانك إلى ابتداء يطمعني، وإساءتي بالتهجم عليك تقطعني، ولولا رؤية رحمتك التي تتلاشى في فضائلها الذنوب العظام لأهلكني الخجل من إسرافي، وقبضني الوجل من كثره خلافي،  فإن علمك بي يا إلهي في مراتب رضاك هو الجنة والنعيم، وجهلي بك يا خالقي في درجات غفلتي هو السخط والجحيم، يا إلهي أي عذاب أشد من الصبر عنك، وأي عذوبة أجلى من الصبر عليك، وأي سرور ألذ من معرفتك، وأي غاية أعلى من رؤيتك في وحدتك لا إله إلا أنت، الزمان مكان تنزلاتك، والمكان وعاء مقدوراتك، وأنا الفاني وأنت الحي بالحقيقة، والخلق شؤون علمك، فباطنه الوجه المالك وظاهره الشيء الهالك، أوجدت أشخاص الكون من قاف قدرتك، وبثتهم من جمعية خليقتك، وبسطت لهم بساط كرامتك، وسترتهم بأرديه حلمك، ونشرت عليهم جلابيب رحمتك، ووعدتهم الجميل من لطفك ورأفتك، وأريتهم ما وعدتهم من الستر عند الذنوب والخطايا، وما أسبغت عليهم من الكرم والنعمة في العطايا، وأبنت لهم العفو عند التقصير، وتضعيف الثواب على العمل اليسير، يا من لا يمنع سائله ولا يقطع نائله ولا يرد طالبه ولا تنقص موهبته ولا يخيب آمله، يا من يري عبده القدرة في إسباغ النعم عليه، ويلهمه الحديث بما أسدي من النعمة إليه، اللهم هذا جسدي المؤلف من التراب والطين والحماء المسنون والصلصال يطالبني بلذة حواسه، ويلقي علي الخوف من عجزه وانتكاسه، ويكلفني الزيادة على العادة، ويكل عند تكليفي إياه العبادة، ويميل طورا بالشهوات وطورا بالغضب والتوهمات، ومتى لم تقوني عليه غلبني وخيبني، يا إلهي وأنت العالم الذي لا يُعلم، والقادر الذي يطلع ويرحم، أسالك الإمداد بالعصمة مما يسخطك، وتيسير العمل بما يرضيك، وحسن العاقبة عند تلاقيك، وأن تجعلني من حزب محمد صلى الله عليه وسلم وآله، وتحشرني مع الصابرين من رجاله، يا صبور يا شكور يا مدبر الأزمنة والدهور يا حليم يا غفور [4].

الهوامش :

[1] سورة الفجر، الآية:2

[2]  “الغنية لطالبي طريق الحق عز وجل” لعبد القادر الدين الجيلاني (ت: 561 هـ) تحقيق: أبو عبد الرحمن صلاح بن محمد بن عويضة، دار الكتب العلمية، بيروت – لبنان ط1/1417هـ- 1997م. 2/40.

[3]  “الغنية لطالبي طريق الحق عز وجل” 2/41.

[4]  “التضرُّعات” للشّيخ جَلال الدِّين أبي محمد عبد الله بن إسماعيل بن محاسن الأسدي الصُّوفي المعروف بابن المعمار البغدادي (ت742هـ).

Science

ذ. محمد المنصوري

باحث بمركز الإمام الجنيد للدراسات والبحوث الصوفية المتخصصة بالرابطة المحمدية للعلماء

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق