مركز الدراسات القرآنيةدراسات محكمة

قبسات من الوحي (10): مكونات المنهج النقدي في القرآن الكريم

الحديث عن المنهج النقدي في القرآن الكريم، حديث يقتضي أن يُقدّم بين يديه ضبط مصطلحيٌّ من أجل إبراز التمايز بين الذي يُراد بالنقد وبالمنهج في هذا السياق القرآني الاستثنائي، وبين ما يُراد بهما في سياقات أخرى.

والحاصل أن الذهول عن هذه القضية يمكن أن يجعل شائبات مفاهيمية كثيرة تشوب البحث والتناول لهذا الموضوع ذلكم أن السياقات الأخرى التي يُطلق فيها مصطلح النقد ويمارَس، تكون سياقات مؤطرة بمجموعة من النماذج المعرفية، ومن الثوابت النفسية التي توجّه استعمال هذا المصطلح، أي إن ثمة مجموعة من النماذج الكامنة التي تحدد المقاصد والغايات المتوخاة من العملية النقدية؛ وغير خاف أن كل منظومة لها منطلقاتها ومقاصدها وغاياتها التي تؤطر ممارسة عملية النقد من داخلها، وتصبغها بصبغتها، وهذا في النسق القرآني أبرز.

لن أتناول في هذا المقام تلافيف وتفاصيل البحث المصطلحي اللغوي حول المنهج النقدي، وبحسبي أن أركز على ثلاثة أمور:

الأمر الأول: أنّ النقد يُراد من ورائه تمييز الصالح مما دون ذلك، ﴿وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ﴾ (الجن:11)، وهذه قضية بارزة في كل نقد.

الأمر الثاني: أن النقد يمكن أن يكون ستاتيكيا ثابتا، كما يمكن أن يكون ديناميا تجاوزيا. فالنقد الستاتيكي هو النقد الذي يمارَس انطلاقا من وحدات قياسية ومعيارية ثابتة، في حين أن النقد الدينامي التجاوزي: هو الذي تكون له القدرة على إنتاج وحداته القياسية والمعيارية وفقا للسياقات التي يمارَسُ فيها. غير أن السياق القرآني لا يمكن للنقد فيه أن يكون ثابتا ستاتيكيا، إنّما هو متجاوز ودينامي، بحيث إنّ الإنسان في تعامله مع القرآن المجيد لا يزال في ارتقاء كلّما ظن أنه قد أبصر. فإن هذا الإبصار سوف يجد نفسه متجاوزا بمزيد من الحوار والتعاطي مع الوحي الخاتم، المصدِّق لما بين يديه والمهيمن عليه. وهو ما يجسده مفهوم بليغ في القرآن المجيد، مفهوم الأكبرية ﴿هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ)﴾ (الأنعام:78)، والذي تعبر عنه صيغة التكبير في الآذان والصلاة “الله أكبر” التي يقترن فيها اسم الجلالة بصيغة التفضيل فتفيد أنّ الإنسان ما يزال متجاوزا لذاته حين النطق بهذه الأكبرية في كل حركة من حركات الصلاة فيكون بذلك في ارتقاء واقتراب دائمين، ﴿كَلَّا لاَ تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ﴾ (العلق:19)، ﴿وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى﴾ (النجم:42). إن صيغة التفضيل تفيد أن الله عز وجل أكبر ممّا استقر في نفسي عنه سبحانه في اللحظة التي سبقت النطق اللاحق بهذه الأكبرية. ففي السياق القرآني ليست هناك ستاتيكية ولا جمود، وإنما هو التجاوز بإطلاق العلوم الاستنطاقية

الأمر الثالث: الذي أود الإشارة إليه بين يدي الحديث عن المنهج النقدي في القرآن المجيد هو أنّ الإنسان في حواره مع القرآن الكريم، من أجل القيام والاضطلاع بمهمة النقد هذه، وجَب أن ينتبه إلى أن العلوم التي يتحرك انطلاقا منها، تعد في جُلها علوما اجتهادية، اللهم إلاّ ما كان منها توقيفيا كأبواب الاعتقاد والفقه الثابت المستندة أحكامهما إلى نصوص قطعية الثبوت والدلالة. وما عدا ذلك فمن العلوم الاستنطاقية «ذلكم القرآن فاستنطقوه» كما قال علي رضي الله عنه وأرضاه، أو كما قال سيدنا عبد الله بن مسعود «ثَوِّروا القرآن»؛ أي استخرجوا خيراته، وهي علوم يكون الإنسان في حوار دائم مع الوحي انطلاقا من مؤهلاته ومن أفقه المعرفي هو من أجل اكتشاف مفاتيح جديدة يدخل باستعمالها إلى عالمه الرحيب.

وآية ذلك أنّ الله عز وجل يبين أنّ هذا القرآن جاء ميسرا: ﴿وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ﴾ (القمر:17-22-32-40) أربع مرات، ثم في سورة مريم، ﴿فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْمًا لُدًّا﴾ (مريم:97)، وهو تيسير مرتبط بالتدبر، ومرتبط بالنظر المستأنف في الوحي من أجل إنتاج مجموعة من العلوم يمكن أن نصطلح على تسميتها (علوم التيسير).

وبموازاة مع ذلك فالكون فيه ميكانيزمات وآليات أخرى؛ فهو الكتاب المنظور الذي سُخّر في مقابل تيسير القرآن الكتاب المسطور ﴿وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا﴾ (الجاثية:13). والإنسان انطلاقا من حواره مع الكون يكتشف علوما يمكن أن نصطلح على تسميتها بعلوم التسخير. وفي مجالات التيسير تدبّرا: ﴿كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ﴾ (ص:29) كما في مجالات التسخير تفكّرا: ﴿وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَاْلأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ﴾ (آل عمران:191) ينطلق الإنسان في إدراكه وتأسيس معارفه من هبة إلهية استثنائية فريدة (المواءمة) أي إنه قد خُلق موائما للوحي، وموائما للكون. ولولا هذه المواءمة لما استطاع أن يتعقَّل الكون من حوله فيسخره انطلاقا من التفكر، ولما كان قادرا على التعامل مع الوحي وبنائيته ليستطيع بذلك أن ييسره انطلاقا من التدبّر.
وهنا تبرز ظاهرة حريّة بالتتبع والرصد، ومفادها أنه بعد إحكام الكتاب الخاتم، وجعله بناءً وترتيلا، حدثت ثورة في مجالات علوم التيسير، ونشأت علوم.. فإنْ نحن تتبّعنا مثلا ما قام به الصحابة الكرام رضي الله عنهم والتابعون وأتباع التابعين فسوف نجد أن التعارك والتفارك والتشاحذ كان سمة من سمات البحث في مجالات التيسير البارزة.

فقد كان الإمام أبو حنيفة رضي الله عنه يعجبه ارتفاع أصوات محمد بن الحسن الشيباني وأبي يوسف وزُفر حين يتحمسون أثناء تباحث المسائل والقضايا، ويُسَرُّ بذلك. وكذا الإمام مالك بن أنس، وهذا الإمام الشافعي يقرأ القرآن الكريم المرة تلو المرة أثناء بحثه عن دليل للقياس حتى يستقرّ رأيه على قوله تعالى: ﴿فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الأَبْصَار﴾ (الحشر:2)، وكذا أثناء بحثه عن دليل للإجماع. وإن نحن قرأنا كتابه (الرسالة) فسوف نرى نماذج من الحوار الحي والنابض مع القرآن المجيد.

الدكتور أحمد عبادي

• الأمين العام للرابطة المحمدية للعلماء.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق