وحدة الإحياءأعلام

موقف أبي بكر ابن العربي من تصوف شيخه أبي حامد الغزالي

موقف أبي بكر ابن العربي من تصوف شيخه أبي حامد الغزالي

 ذ. حسن عزوزي

(العدد 12)

للغزالي في تاريخ الفكر الإسلامي مكانة ما نحسب أنها كانت لغيره من مفكري الإسلام، وهو كسواه من العلماء لابد أن يختلف الناس في تقويمه ما بين مادح وقادح، فإذا كان له ذلك الدور البارز في نقض الفلسفة وبيان تهافتها ودور آخر في الرد على الباطنية وإبراز فضائحها،فإنه بدوره لم ينج من نقد معاصريه ومن أتى بعده في كثير من جوانب حياته الفكرية المتميزة.

ويعتبر جانب التصوف الذي سلكه في الثلث الأخير من حياته أبرز تلك الجوانب تعرضا للنقد والتشنيع[1]، وليس من طرف أعدائه عقيدة ومذهبا وسلوكا فحسب، بل حتى من أخص تلامذته الذين لازموه مدة وتبينوا طريقته في سلوك طريق القوم[2].

ويعتبر القاضي أبوبكر بن العربي أبرز من تصدى لشيخه أبي حامد الغزالي في نقد وتقييم معالم فكره الصوفي، وهو لا يكتفي في ذلك بالاستناد إلى كتب شيخه فحسب، بل إن الرواية الشفوية أيضا كان لها دور كبير كما تدل عليه بعض النصوص الواردة  في كتبه،  ومعلوم أن ابن العربي في رحلته إلى المشرق[3]، قد التقى بالغزالي عام 490 حسبما ذكره في كتابه (العواصم من القواصم) حيث قال: “وقد فاوضت فيها؛ (أي في إحدى المسائل)، أبا حامد الغزالي حين لقائي به بمدينة السلام[4]، في جمادى الآخرة سنة تسعين وأربعمائة، وقد كان راض نفسه بالطريقة الصوفية من سنة ست وثمانين إلى ذلك الوقت نحوا من خمسة أعوام، وتجرد لها واصطحب مع العزلة نبذ كل فرقة، فتفرغ لي بسبب بيناه في كتابه “ترتيب الرحلة” فقرأت عليه جملة من كتبه وسمعت كتابه الذي سماه بالإحياء لعلوم الدين فسألته سؤال المسترشد عن عقيدته والمستكشف عن طريقته لأقف من تلك الرموز التي أومأ إليها في كتبه على موقف تام المعرفة…”[5].

وقد وصف في كتابه قانون التأويل شدة فرحته بلقائه وما وجده فيه من ترحيب به وتخصيص له بالملازمة حيث يقول: “وقد علم هذا الإمام مني أني من السالكين في سبيل المهتدين فسددني إلى سوائها وأوجد لي معلوم دليلها وأرشدني إلى ظاهرها وتأويلها”.

ونجد الغزالي نفسه يصدر شهادة اعتراف بالتفوق والنباهة في حق تلميذه واصفا إياه بأنه قد أحرز من العلم في وقت تردده إلي، يقول الغزالي، ما لم يحرزه غيره مع طول الأمد، وذلك لما خص به من صفاء الذهن وذكاء الحس واتقاد القريحة، وما يخرج من العراق إلا وهو مستقل بنفسه حائز قصب السبق بين أقرانه”[6].

 وإذا كان كتاب “قانون التأويل” قد ألفه ابن العربي عام 533[7]، فإن كتاب العواصم قد ألفه بعد ذلك بثلاث سنوات (536)،  لكن ثمة فرق شاسع بين مضمون الكتابين فيما يتعلق بنقد ابن العربي لشيخه، فإذا كان في الكتاب الأول، وقد ألفه بعد أكثر من أربعين سنة من لقائه بحجة الإسلام لا ينتقده مباشرة وبشكل صريح، فإنه في الكتاب الثاني لم يتوان في نقد شيخه نقدا لاذعا، فهو يضعه تارة في صف الغلاة من المتصوفة وتارة في صف الباطنية من فلاسفة المسلمين.

إن ابن العربي في قانون التأويل مهما تعرض أحيانا لنقد شيخه في بعض ما ذهب إليه من أفكار صوفية، فإنه يناقشه مناقشة هادئة ولا يصفه بأوصاف قادحة، بل إنه كان لا يشير إلى اسمه إلا معرضا[8]، في حين نجده يعمد منذ الصفحات الأولى من كتابه “العواصم من القواصم” إلى حشر الغزالي ضمن كل التيارات المتطرفة المعارضة للفكر السني والتي أخذ ابن العربي على عاتقه مهمة فضحها في كتابه هذا.

وقبل التعرض لأهم المسائل والقضايا التي ناقش ابن العربي فيها شيخه فيما يتعلق بالجانب الصوفي من حياته الفكرية، نرى لزاما علينا الإشارة إلى مسألة إحراق كتاب “الإحياء”[9]، من طرف المرابطين لما لها من علاقة، قد لا تبدو مباشرة لأول وهلة، بنقد ابن العربي لشيخه، إذا علمنا أن ابن العربي قد رافق في رحلة طويلة إلى المشرق والده وقد أدرك الغزالي ضرورة الحكم المرابطي المجاهد فكتب لابن العربي ولوالده[10]، يشيد فيها بأحوال الأمير المرابطي خاصة وأنه رفع المظالم وبدد المفسدين واستبدل بهم الصالحين ورتب الجهاد…” إضافة إلى إكرامه لأهل العلم وتوقيره لهم وتنزيله باسمهم وأتباعه لما يشوفونه إليه من أحكام الله تعالى…” وقد ختم رسالته تلك بأن أوصى خيرا بابن العربي ووالده، إذ: “رعاية أمثالهما من آداب الدين المعينة على أمير المسلمين، والله تعالى وفق الأمير ناصر المسلمين ليتوسل إلى الله تعالى في القيام بإكرام أهل العلم…” وإذا كان الغزالي قد حمل على فقهاء السلاطين حملة شنعاء في كتبه وخاصة في الإحياء حيث صنفهم إلى علماء الدنيا وعلماء الآخرة، ووصف علماء الدنيا الموالين للسلاطين بأنهم علماء السوء يتاجرون بعملهم وينشغلون بعلم الظاهر عن علم الباطن، وهو تصنيف يتكرر مرارا في الإحياء ويخترقه من أوله إلى آخره، فإنه يستشف من رسالته أنه استثنى فقهاء المرابطين حيث أبدى اتجاههم كل تأييد وإشادة نظرا لدورهم في حراسة بيضة الإسلام في الجانب الغربي من دار الإسلام. ولهذا فإن سبب إحراق كتاب الإحياء والذي كان يقف وراءه فقهاء المغرب المرابطي لا يمكن أن يعزى إلى موقف الغزالي من فقهاء السلاطين، خاصة إذا علمنا أن تلميذه ابن العربي الذي يكن احتراما كبيرا لشيخه معدود من أئمة فقهاء العدوتين.

لكل ذلك فإن مسألة موقف المرابطين من كتاب “الإحياء” مبنية بالأساس على موقف فقهاء المغرب المرابطي من كتابات الغزالي الصوفية، وخاصة كتاب “الإحياء”، مع العلم أن الخصومة بين رجال المذهب ورجال التصوف قديمة متأصلة بالأندلس التي انطلقت منها شرارة الدعوة إلى إحراق “الإحياء”. ويجب أن لا نغفل في هذا السياق أحد أبرز العوامل التي دفعت المرابطين إلى اتخاذ هذا الموقف، وهو ظهور بعض الحركات الصوفية ذات المنحى الباطني مثل حركة ابن مسرة وحركة ابن قسي بالأندلس[11].

فإذا أدركنا طبيعة الموقف المرابطي من الغزالي والقائم على معارضة شديدة  لما بثه في كتبه من آراء ومواقف صوفية غير سنية، سهل علينا إذن فهم موقف ابن العربي من شيخه الذي ناقشه طويلا ورد عليه كثيرا فيما نحا إليه في اتجاهه الصوفي.

1. لقد كان أول ما دشن به ابن العربي حملته على الغزالي في كتابه “العواصم من القواصم” أخذه عليه التماسه لمصدر آخر من مصادر المعرفة غير العقل وهو القلب، حيث ذهب إلى أن مشكلة المعرفة لا تتضح عن طريق الاستدلال بل هي إشراق نوراني يسطع على القلوب وتتجلى به الحقائق والمعارف، فالتصفية مبدأ والإشراق غاية، فابن العربي لم يرض للغزالي مثل هذا الرأي الذي لمس فيه نزعة صوفية متطرفة ومنحى باطنيا. وقد اعتبر هذا الموقف الصوفي قاصمة أعظم من قاصمة من أنكر الحقائق من الشكاك لا لشيء إلا أنها  أصدرت كما يقول: “عمن اشتهر بالمعرفة بين الناس”.

وابن العربي أحيانا في نقده لشيخه يشير إليه ضمن طائفة الصوفية الذين ينحون نفس المنحى، وإذا كان يصنفه وإياهم في إطار الموقف المتطرف، فإنه بالمقابل لا يلبث يشيد بطائفة من المتصوفة المعتدلين كالمحاسبي والقشيري[12] ممن اعترفوا بالمعرفة العقلية الاستدلالية، وإن كانوا يرون أن لطف الله إذا فاض على العبد أشرق عليه من العرفان ما يجعله يستغني عن مقتضى الأدلة[13]، وابن العربي نفسه كما سوف نبين في نهاية هذا البحث لا ينكر التصوف أصلا وإنما ينكر منه ما خالطه شيء من أقوال الفلاسفة أو غلاة الباطنية والمبتدعة. أما ما كان منه قائما على أساس الزهد وتصفية القلب وطهارة النفس، فلا يرى بأسا بالأخذ به ما دام مرجعه القرآن والسنة. ولهذا يقول في “العواصم من القواصم”[14] : “ولا ينكر أحد أن صفاء القلب وطهارته مقصود شرعي، إنما المستنكر أن صفاءه يوجب تجلي  العلوم فيه بذاته” وفي قانون التأويل تفصيل لهذه المسألة التي يرى أنها مما أملته الفلاسفة وانخدع بها زمرة من الصوفية[15]، وقد أورد في هذا السياق ما قاله له الغزالي من لفظه وكتبه له من خطه من أن القلب إذا تطهر عن علاقة البدن المحسوس وتجرد المعقول انكشفت له الحقائق، وهذه الأمور لا تدرك إلا بالتجربة لها عند أربابها بالكون معهم والصحبة لهم…”[16] سمع ابن العربي كلام شيخه وقد أحدث وقعا شديدا في نفسه فأخذ يتأمل بصادق البصيرة وعرضه على قواعد النظر في المعقول والمنقول، ثم ناقشه على طريقة المتكلمين مقارنا بين كلامه عن المعرفة القلبية وإدراكها للحقائق وحديث الصوفية عن المعرفة الإشرافية، فيقول له: “لم تثبت لك معرفة النفس والروح والقلب على ما تزعم ولا استقرت عندك حقيقة لذلك كله، وأما الإشارة بتجرد النفس أو القلب عن علائق المحسوسات لترقى إلى المعقولات فعسى أن يكون ذلك إذا مات، فأما مع الحياة فيبعد ذلك أو يستحيل عادة…” وابن العربي في ردوده يستشهد بالآيات والأحاديث النبوية الصحيحة التي تنقض كل تلك الآراء الدخيلة[17] التي لم يعرفها السلف الصالح الذين لم يقولوا بالتماس المعرفة بالتجربة ولا بالصحبة إذا لم يثبت دليل في ذلك ولا سبقت به عادة، فالصحابة ومن اهتدوا بهديهم لم يسلكوا طريق التجربة ولم ينظروا في تحقيق ذلك[18].

وبعد أن حمل على طائفة الصوفية فيما ذهبوا إليه عقد في قانونه[19] فقرة موجزة تحت عنوان (انتصاف) قال فيها: “فأنا أجاد له بالحسنى حين عجزت عن عقوبة الدنيا[20]، وأقول يعلم الله ويشهد لي كتبي ومسائلي وكلامي مع الفرق بأني جد بصير بأغراض القوم  ومقاصدهم فإن معلمي كان فحلا من فحولهم، عظيما من عظمائهم، وتا الله وإني وإن كنت محتشما له غير راض عنه وقد رددت عليه فيما أمكن واحتشمت جانبه فيما تيسر”.

وقد ترتب عن قول الغزالي بأن القلب الصقيل الذي تتجلى فيه الحقائق أهم مصدر من مصادر المعرفة قوله بأن العلم من ثمرات العمل وليس العكس، فذهب ابن العربي إلى أنه يحتمل أن يكون أبو حامد قد بنى هذا على مذهب الصوفية المعروف في أن العلم من ثمرات العمل فعقد للرد على ذلك فصلا في قانون التأويل بعنوان “ذكر بيان أن العلم قبل العمل”.

وهنا ينبه شيخه على كونه يعتمد في الاحتجاج لكلامه السابق بأحاديث موضوعة سبق أن فاوضه فيها واعترف له بقلة بضاعته في الحديث[21]، ثم ذكر ابن العربي – في سياق رده على شيخه – أن غلاة الصوفية ودعاة الباطنية يتشبهون بالمبتدعة في تعلقهم بمتشابهات الآيات والآثار على محكماتها، فيخترعون أحاديث أو تخترع لهم على قالب أغراضهم ينسبونها إلى النبي صلى الله عليه وسلم ويتعلقون بها، ومن الأحاديث التي أنكر عليه روايتها حديث: “الناس نيام حتى إذا ماتوا انتبهوا[22]، وحديث: “إن الله خلق الخلق من ظلمة ثم رش عليهم من نوره”[23].

2. ومما أخذ ابن العربي على الغزالي تمسكه بمصطلح “العشق”  المعروف لدى الصوفية، حيث يرى الشيخ أن المستحق للمحبة هو الله وحده، فلا محبوب بالحقيقة ولا معشوق إلا الله دون سواه وهو حب لا يدركه إلا ذوو البصائر، وهكذا بنى العشق على المحبة وملأ به كتابه “الإحياء”[24] على اعتبار أن الله تعالى موضوع الجلال والكمال فكيف لا يعشق، ويرد عليه ابن العربي بأن هذا الاصطلاح لم يرد في ألفاظ الشريعة وليس له أصل فيها[25] حتى إن المحبة التي هي بدون العشق مرتبة لولا أن الله تعالى أطلقها على نفسه ما أطلقناها فكيف يجوز تعديها إلى سواها[26].

إن ابن العربي في محاولته توضيح الموقف الإسلامي السني المحض يريد أن يبعد كل دخيل أو شائبة من شوائب الأفكار الغنوصية والباطنية والوقوف عند حدود المصطلح القرآني والنبوي.

ومما لامه ابن العربي على شيخه كونه قد تبدلت حاله وتغيرت طريقته في الوعظ والتدريس، فحاول أن يبرز التناقض الحاصل بما كان يبثه لتلامذته وما قيدوه عنه في بداية أمره وبين ما أصبح يفشيه بينهم ويحذره في كتبه من اللجوء إلى منهج التأويل الخاطئ الذي أدى به، حسب ابن العربي، إلى أن يلتقي مع تيار الصوفية الباطنية، إلا أنه يقر بأن شيخه إنما سقط في كل ذلك من غير قصد منه ولا إرادة، بل تم ذلك بسبب إقباله بكل همة على التصوف، فلم يميز أحيانا بين التأويل الشرعي المحمود، والتأويل الغالي المذموم، فالغزالي في نظر ابن العربي قد بلغ الذروة في العلم والمعرفة لولا أنه دنس معارفه بمناهج الصوفية في التأويل مما لا يتسق مع أصول الشريعة ومعانيها، وهذا ما جعله يصدم حينما رأى حجة الإسلام يتخلى عن مجال العلم وينتقل إلى مجال الذوق والخلوة، وهذا ما يحكيه عنه عندما يقول: “… وقد كنت رأيته في البرية وبيده عكازة وعليه مرقعه[27] وعلى عاتقه ركوة وقد كنت رأيته ببغداد يحضر مجالسه نحو أربعمائة من أكابر الناس وأفاضلهم يأخذون عنه العلم، فدنوت منه وقلت له: “يا إمام!أليس تدريس العلم ببغداد خير من هذا…؟ ويقول عنه في موضع آخر وقد كان أبو حامد تاجا في هامة الليالي حتى أوغل في التصوف وأكثر معهم التصرف، فخرج على الحقيقة وحاد في أكثر أحواله عن الطريقة، وجاء بألفاظ لا تطاق، ومعان ليس لها مع الشريعة انتظام ولا اتساق، فكان علماء بغداد يقولون: لقد أصابت الإسلام فيه عين[28]، فإذا ذكروه جعلوه في حيز العدم وقرعوا عليه السن من ندم، وقاموا في التأسف عليه على قدم. فإذا  لقيته رأيت رجلا قد علا في نفسه، أي بوقته، لا يبالي بغده ولا بأمسه، فواحسرتي عليه… إلى أن قال: وعلى كل حال فالذي أراه لكم على الإطلاق أن تقتصروا على كتب علمائنا الأشعرية وعلى العبارات الإسلامية والأدلة القرآنية، وأنتم في غنى عن ذلك كله[29].

3. وإذا كان ابن العربي قد اعترض على الغزالي كثيرا من آرائه الصوفية وشدد النقد عليه في كثير من نظرياته كمذهبه في اكتساب المعرفة وتأثير النفس وفي الفيض، وانتهاجه منهج التأويل، فإنه هو نفسه كان قد سلك في آخر حياته مسلكا “إحيائيا” حسبما وصلنا متأثرا ببعض آراء شيوخه من الصوفية وخاصة الغزالي.

لقد سجل لنا اعترافه بأنه ليس من الزهاد ولا من المتصوفة، وهو ما يستشف من كلامه حين تحدث عن الزهد في كتابه “عارضة الأحوذي” حيث قال: (هذا نوع قد أفضنا فيه وإن لم نكن من أهله في تفسير القرآن وفيه بدائع)[30].

وإذا كنا نعلم أن التصوف العلمي يحتاج إلى رقة في القلب وميل إلى العزلة، فإن ابن العربي يقر صراحة بأن في قلبه قسوة طبيعية مما جعله يشكو أمره ويبث حزنه إلى أحد شيوخه في الزهد وهو أبو بكر الطرطوشي حيث قال: “وقد كنت فاوضت في ذلك شيخي في الزهد أبا بكر القرشي وكانت في قسوة جبلية وشكوت إليه بقلبي من ذلك فقال لي : (“تباك إذا لم يطعك البكاء، وتحزن إذا لم يجبك الحزن حتى تتخذه عادة، وإن مد الله في عمري لأجمعن كتابا في البكاء، وفارقته ولم أدر ما فعل بي)[31].

ونقل المقري في نفحه أنه لما كان ابن العربي مقيما بمكة حاجا، كان يشرب من ماء زمزم ناويا به أن يفتح الله عليه بالعلم غير أنه نسي أن ينوي العمل، وعبر لنا عن ندمه على ذلك وقال: (ويا ليتني شربته للعمل)[32].

ومهما جهلنا تاريخ هذا التمني فالواقع أن ابن العربي قد مال في آخر حياته إلى الزهد لما تعرض له من محن وظروف اجتماعية قاسية، وفضل العزلة على الاجتماع وآثر قراءة الزهاد والعباد واستأنس في كتاباته بتلك المعاني الجميلة والإشارات اللطيفة التي يبثها القوم في كتبهم وخاصة ما يتعلق منها بتفسير القرءان بدليل أنه نقل كثيرا من ذلك في كتابيه “أحكام القرآن[33]“، و”قانون التأويل”[34]، وخاصة نقله من تفسير القشيري المسمى لطائف الإشارات، و إن كان لا يشير إليه[35] وكان ينعت هؤلاء بنعوت منها قوله: قال شيوخ الصوفية[36]، قال أرباب القلوب[37]، قال شيوخ الزهد[38]، قال شيوخ المعاني[39].

ونتيجة غربته وتأثره أصبحت لابن العربي ميول صوفية أضفاها على معظم كتبه وعبر عنها بوجه خاص في كتابيه “سراج المريدين” و “الأمد الأقصى في أسماء الله الحسنى”[40].

كما صرح في كتبه ببعض أسماء شيوخه الصوفية كأبي بكر الطرطوشي (ت 520) وأبي بكر أحمد بن علي بن بدران الصوفي وابن عطاء المقدسي شيخ الفقهاء والصوفية ببيت المقدس، وقد نقل عن جميع هؤلاء. كما نجده يأخذ بالتفسير الإشاري المقبول في عدة مواضع من كتابه “قانون التأويل”، عند قوله تعالى: (أولم ينظروا في ملكوت السموات والأرض وما خلق الله…) ( الأعراف: 185). وعند قوله: (ولقد همت به وهم بها) ( يوسف: 24). وقوله عز وجل: (واجعلنا للمتقين إماما) ( الفرقان: 4) وقد استشهد عندها بكلام القشيري في تفسيره، كما أخذ برأي الصوفية في تعريف الخشوع في الصلاة عند قوله تعالى: (الذين هم في صلاتهم خاشعون) (المومنون: 2).

4. تلك هي إذن المعالم العامة لنقد ابن العربي للمنحى الصوفي في فكر شيخه الغزالي، ذلك النقد الذي كان ولا يزال يشكل الأساس والأصل الذي ارتكز عليه كثير من العلماء في انتقاداتهم الموجهة إلى حجة الإسلام، ونشير بالخصوص إلى انتقادات ابن رشد، وابن سبعين[41]، وابن تيمية، ويبدو أن ابن العربي هو الذي نبه هذا الأخير إلى نقد الغزالي حيث قال ابن تيمية، في كتابه “نقض المنطق”[42]، (وهو أي الغزالي) يميل إلى الفلسفة، لكنه أظهرها في قالب التصوف والعبارات الإسلامية، ولهذا فقد رد عليه علماء المسلمين، حتى أخص أصحابه أبو بكر بن العربي فإنه قال: “شيخنا أبو حامد دخل في بطن الفلاسفة ثم أراد أن يخرج منهم فما قدر”. إن قضية نقد ابن العربي لشيخه إنما هي راجعة بالأساس إلى إيمان الرجل بأن تصوف أبي حامد ومنحاه الفكري قد أضحى مناقضا للمبادئ الأولى والمواقف الرائدة التي وقفها الغزالي ضد الفلاسفة والباطنية، كما أن اتجاهه الجديد إلى حياة  التصوف قد أدت بالشيخ، من حيث شعر أو لم يشعر، إلى نفس القناة الفكرية الباطنية التي طالما فضح ركائزها ونظرياتها السلبية.

ومهما اتفقنا مع ابن العربي في نقده لتصوف شيخه أو اختلفنا، فإن ذلك لا يضر الغزالي في شيء، وهو على كل حال تقييم لجانب واحد من جوانب فكره المتعددة ويكفيه فخرا وشموخا في هذا المجال أنه نقل التصوف من مجرد الذوق والتحليق والشطح غير المنضبط بالشرع ولا بالعقل إلى علم أخلاقي عملي يعالج أمراض القلوب وآفاق النفوس، ومن عرف كيف كان التصوف قبل الغزالي ثم كيف صار بعده عرف فضل الغزالي على التصوف وأهله.

أما قاضينا الإمام أبوبكر بن العربي فقد كان في نقده لتصوف شيخه حريصا على تنقية أجواء الفكر الإسلامي الصحيح من الشوائب والآراء الدخيلة، وقد أبان لنا في كتابه “العواصم من القواصم” عن نزعة نقدية عز نظيرها لدى باقي فقهاء الإسلام، وجهها على وجه الخصوص لنظريات الفلسفة اليونانية التي علقت شوائبها ببعض الأفكار الإسلامية، كما كانت النزعة النقدية الأصلية موجهة أيضا إلى كل التيارات المتطرفة والغربية عن روح الإسلام، وخاصة منها التيار الباطني وما تفرغ عنه.

الهوامش

  1. من أشهر من انتقده أبوبكر الطرطوشي (ت 520) شيخ ابن العربي، اتهم الغزالي بأنه هجر العلم إلى العمل، ودخل في علوم الخواطر وأرباب القلوب ووساوس الشيطان، وقد رد عليه ابن السبكي في طبقات الشافعية، كما انتقده الإمام المازري (ت 536)، وقد أنكر عليه الاستناد إلى الأحاديث الواهية في كتابه “الإحياء”، كما انتقده القاضي عياض (ت 544) في آخر كتابه “الشفا” حيث قال: “لو اختصر الغزالي كتابه “الإحياء” واقتصر فيه على العلم الخالص لكان كتابا مفيدا، كما انتقده ابن الجوزي في “تلبيس إبليس” وابن تيمية في الرسالة السبعينية ضمن فتاويه، إلا أن هذا الأخير يعترف مع ذلك بأن في الإحياء من كلام المشايخ الصوفية العارفين مما هو موافق للكتاب والسنة.

  .2بالمقابل هناك من تلامذته من تأثروا به في جانب المسلك الصوفي وأذاعوا أرائه، ونشروا كتابه الإحياء في ربوع الأندلس، وقد ذكر منهم المستشرق الفرنسي أورفوي: عبد الرحمن اللبسي وابن حصين القرطبي.

Dominique urvoy : penseurs d’Al Andalous : La vie intellectuelle a Cordoue et servile en temps des empires bertoures. (XI – XIX siècles) paris 1990 pp 169 – 170.

  1. راجع عن هذه الرحلة كتاب ابن العربي: “ترتيب الرحلة” مخطوط الخزانة العامة بالرباط 1275 ك.

وانظر أيضا:

E. Lévi – Provençal : le titre souverain des Almoravides et sa légitimation par le califat abbasside – Arabia 1955 pp 265 – 280.

  1. وفي “قانون التأويل” تح ذ. مصطفى الصغيري، رسالة دبلوم مرقونة بدار الحديث الحسنية 2/81: “… حتى ورد علينا ذانشمند (بالفارسية وهو عالم العلماء) فنزل برباط أبي سعد بإزاء المدرسة النظامية معرضا عن الدنيا مقبلا على الله تعالى فمشينا إليه وعرضنا أمنيتنا عليه وقلت له: أنت ضالتنا الذي كنا ننشد وإمامنا الذي به نسترشد”.
  2. العواصم من القواصم ضمن كتاب: آراء ابن العربي الكلامية للدكتور عمار طالبي طبعة الجزائر 1974 – 2/30.
  3. أحمد مختار العبادي: دراسات في تاريخ المغرب والأندلس، الإسكندرية 1967 ص: 479 – 480.
  4. كما ذكره في عارضة الحوذي 11/49.
  5. فهو المقصود مثلا عند قول ابن العربي في قانون التأويل “وانخدع به زمرة من الصوفية “وقوله: “ليت شعري ما الذي أحوج بعض الأشياخ “وقوله في خاتمة الكتاب: “دخلت يوما على بعض أشياخي”.
  6. انظر عن اختلاف علماء المغرب بشأن كتاب “الإحياء” وإحراقه المعيار للونشريسي، طبع الرباط ج 12/184 – 188.
  7. D. URVOY/ OP cit p 90.

وراجع عن رسالة الغزالي إلى يوسف بن تاشفين مقالة:

vignera   M.J.بمجلة ALANDALUS  (353 – 351) صص – 2. 1977 XIII.

  1. انظر عن حركة المريدين وأمامها ابن قسي:

Y Lagaratére : La tarique et la révolte des Muridasa in ROMM 1ER SEN 1983 – PP 157 – 170.

  1. وقد استقدم من كتبه أثناء رحلته إلى المشرق رسالته إلى الصوفية وكتابه في علم التذكير وتفسيره المعروف كـ “لطائف الإشارات”، وقد اعتمد عليه كثيرا في قانون التأويل.
  2. العواصم، 2/30.
  3. المصدر السابق، 2/23.
  4. قانون التأويل، 2/260.
  5. العواصم من القواصم، 2/31.
  6. انظر مثلا العواصم، 2/38 حيث رد على قول الغزالي بقطع العلائق والتجرد من أسباب الدنيا مستشهدا في ذلك بالأحاديث النبوية الصحيحة.
  7. أورد ابن العربي في هذا السياق قول عمر رضي الله عنه: “يا سارية الجبل”، ومسألة اندكاك الجبل للأوزاعي وأقر بأن ما يعرف بالكرامات أصل في الدين وعمدة المسلمين لا ينكرها إلا جاهل، اتفق عليها  العلماء واختلفوا هل هي خرق عادة أو إجابة دعوة ثم بين بأن الكرامة إذا جرت فإنها لا تجري بتأثير نفس وإنما بسؤال العبد الصالح ربه فيجيب دعوته.
  8. 3/268.
  9.  ربما قصد من ذلك أنه لا يستطيع مقاضاته بعد أن ذهب منه منصب القضاء.
  10. كما فاوض ابن العربي شيخه الطرطوشي الذي أنكر على الغزالي ولم يعذره وهاجمه بشدة.
  11. وينظر في وضع هذين الحديثين: سلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة للألباني وكتاب الموضوعات لابن الجوزي واللآلئ المصنوعة في الأحاديث الموضوعة للسيوطي.
  12. المصدر المرجع نفسه.
  13. انظر إحياء علوم الدين 4/300.
  14. انظر ما ذكره ابن القيم عن المحبة والعشق في كتابه القيم مدارج السالكين تح محمد حامد الفقي، طبعة دار الفكر بدون تاريخ 3/29.
  15. سراج المريدين و 106 نقلا عن عمار طالبي في كتابه: أراء ابن العربي الكلامية 1/218.
  16. ويروي أبو الحسن بن حرزهم عن شيخه أبي بكر بن العربي أسانيد متصلة ورد فيها أن الغزالي قد ألبس ابن العربي المرقعة.
  17. وقد أشار الغزالي إلى نفس المعنى في كتابه “المنقذ من الضلال” ص: 131.
  18. انظر “العواصم من القواصم” 2/107 – 108.
  19. انظر العارضة 9/181.
  20. سراج المريدين و57 نقلا عن طالبي 1/209.
  21. نفح الطيب 2/248 (تح إحسان عباس  طبعة 1968 بيروت).
  22. انظر أحكام القرآن، تح على البجاوي ط 2 القاهرة 1967 – 3/1486.
  23. المصدر السابق 2/1259.
  24. المصدر السابق 3/1436.
  25. المصدر السابق 3/1138.
  26. انظر مثلا أحكام القرآن 3/1180 – 1247 – 1422.
  27. انظر قانون التأويل في آخره.
  28. انظر الصفحات التالية من قانون التأويل: 103 – 137 – 160 – 198 – 199 – 223 – 283 – 295 – 296 – 297.
  29. يوجد مخطوطا بالخزانة العامة بالرباط تحت رقم 2670ك وراجع أطروحة الدكتور عبد الكبير المدغري: الناسخ والمنسوخ لابن العربي 1/105 – 106.
  30. قال ابن سبعين: “الغزالي لسان دون بيان، وصوت دون كلام وتخليط يجمع الأضداد وحيرة تقطع الأكباد، مرة صوفي وأخرى فيلسوف وثالثة أشعري ورابعة فقيه وخامسة محير وإدراكه في العلوم القديمة أضعف من خيط العنكبوت، وفي التصوف كذلك لأنه دخل الطريق بالاضطرار الذي دعاه لذلك من عدم الإدراك، وينبغي أن يعذر ويشكر لكونه من علماء الإسلام على اعتقاد الجمهور ولكونه عظم التصوف” عبد الرحمن بدوي: مقدمة رسائل ابن سبعين ص: 14.
  31. نقض المنطق، طبع القاهرة 1370 ص: 56، وراجع فتاوى ابن تيمية 4/63 – 66.
Science
الوسوم

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق