مركز دراس بن إسماعيل لتقريب المذهب والعقيدة والسلوكدراسات عامة

في رحاب توحيد ابن عاشر

إعداد:

د/ عبد الله معصر، رئيس مركز دراس بن إسماعيل

د/ مولاي إدريس غازي، باحث بمركز دراس بن إسماعيل.


قال الناظم رحمه الله:

يجب لله الوجــود والـقدم        كذا البقاء والغنى المطلق عـــــم

وخلفه لخلقه بلا مثـــــال        ووحدة الذات ووصف والفعـال

وقدرة إرادة علم حيـــــاة        سمع كلام بصر ذي واجبـــات

قال الشارح رحمه الله:

(و) الثامنة (إرادة)؛ وهي صفة تخصص بعض الممكنات المتضادة بالوقوع بدلا عن البعض المقابل له، فتخصص بالوقوع للوجود بَدَلاً عن العدم أو العكس، وكون الوجود في الوقت المعين لا قبله ولا بعده، والبياض بدل السواد مثلا أو العكس، والطول بدل القصر أو العكس، والغلظ بدل الرقة أو العكس، والعلم بدل الجهل أو العكس، والسعادة بدل الشقاوة أو العكس، والذكورة بدل الأنوثة أو العكس، والخصب بدل الجدب أو العكس، واليقظة بدل النوم أو العكس، إلى غير ذلك، ثم تؤثر القدرة على وفق تخصيص الإرادة، فمتعلقهما واحد، وللإرادة أيضا تعلقان تنجيزي وصلاحي، لكن كلاهما قديم، والصلاحي عام؛ لأن ما خصصته الإرادة بالوجود فهي صالحة لأن تخصصه بالعدم، وما خصصته بالعدم فهي صالحة لأن تخصصه بالوجود، وما خصصته بوقت فهي صالحة لأن تخصصه بما قبله أو بما بعده، إلا أن الحكمة اقتضت أن يكون الأمر على ما هو عليه كما أراده مولانا جل وعلا، فالواقع هو مقتضى الحكمة فلا يمكن العدول عنه نظرا إليها، وإن أمكن بالنظر إلى ذاته، والقدرة والإرادة صالحتان في أنفسهما لما وقع، ولأعظم وأعظم من الأعظم وأعظم من أعظم من الأعظم وهلم جرا، فلا منافاة بين جواز ذلك كله وصلاحية القدرة والإرادة له واقتضاء الحكمة الاقتصار على هذا القدر الواقع، فصار هذا القدر الواقع ممكنا بالذات واجبا بالغير كالممكن الذي وجب لتعلق العلم بوقوعه، وهذا معنى قول حجة الإسلام فيما نسب إليه ليس في الإمكان أبدع مما كان. والتنجيزي خاص بما وقع، أو يقع كما وقع أو يقع، ومنهم من زاد للإرادة تعلقا تنجيزيا حادثا حاصلا عند بروز المقدورات لأوقاتها، والحق أنه يكفي في ذلك التنجيزي القديم.

فإن قلت: لم لا يكون التخصيص بالقدرة نفسها فلا تكون ثم صفة زائدة عليها؟ قلنا: القدرة مستوية النسبة للمقدورات المتقابلة، فترجيح بعضها على بعض لا يكون بما استوت نسبته وإلا لكان مستوي النسبة غير مستوي النسبة، لا يقال: يلزم مثل ذلك في الإرادة لاستواء نسبتها بالصلاحية إلى الجميع، فيحتاج التخصيص إلى الترجيح بصفة أخرى ويتسلسل، لأنا نقول: الإرادة من صفة نفسها التخصيص والترجيح، فإذا خصصت فلا يقال لابد من مرجح آخر؛ لأن الصفة النفسية للشيء لا تعلل، فلا يقال لم كان العلم كاشفا مثلا ولا كذلك القدرة، إذ ليس التخصيص من مقتضيات ذاتها، ولا يقال لو عكس تخصيصها بأن تخصص ما وجد بالعدم بدل الوجود وما عدم بالوجود بدل العدم لم يكن محالا، فما السر؟ لأنا نقول: أما أنه ليس محالا فمسلم، وأما السر فمن مواقف العقول، وَكُل من سأل عنه لم يزده الحق على أنه مختص بعلم ذلك؛ لأن الاطلاع عليه لا يكون إلا مع إحاطة العلم وهي خاصية العلم القديم، فلذا قال في جواب الملائكة: (إني أعلم مالا تعلمون)[1]، وفي جواب قول قريش: (لولا أنزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم أهم يقسمون)[2] الآية، وفي جواب قولهم: (لولا نزل عليه آية من ربه قل إن الله قادر على أن ينزل آية)[3]. وقيل إن سر القدر ينكشف لأهل الجنة إذا دخلوها، ولا ينكشف قبل ذلك. فإن قلت: لعل المخصص العلم وليس ثم إرادة، قلنا: التخصيص تأثير فلا يكون إلا بصفة مؤثرة، والعلم غير مؤثر بدليل تعلقه بالواجب والمستحيل، وكذا السمع والبصر والكلام والحياة، فلم يبق إلا القدرة، وقد أبطلنا أن تكون مخصصة، فلم يبق للتخصيص إلا صفة الإرادة وهو المطلوب.

ثم تخصيص الإرادة على وفق العلم، فما علم الله أنه واقع أراد وقوعه، وما أراد وقوعه علم أنه واقع حسنا كان أو قبيحا، وما لم يعلم وقوعه لم يرد وقوعه وبالعكس حسنا كان أو قبيحا، والمعتزلة جعلوا الإرادة تابعة للأمر أي على وفقه، فكل ما أمر الله به تعالى من الإيمان والطاعة فهو من مراده وقع أم لا، وكل ما نهى عنه فليس مرادا له وقع أم لا، وللصلاح والأصلح دون ما ليس كذلك، فعندنا إيمان أبي جهل مثلا مأمور به غير مراد؛ إذ لو أراده الله لوقع، وعندهم مأمور به ومراد، وعندنا كفره مراد غير مأمور به، وعندهم ليس بمراد ولا مأمورٍ به، فلزم أن يقع في ملكه ما لا يريد. قال السعد: حُكيَ عن عمرو بن عبيد المعتزلي أنه قال: ما ألزمني أحد مثل ما ألزمني مجوسي كان معي في السفينة، قلت له لم لا تسلم؟ قال: لأن الله لم يرد إسلامي، فإذا أراد إسلامي أسلمت، فقلت إن الله تعالى أراد إسلامك ولكن الشياطين لا يدعونك، فقال فأنا مع الشريك الأغلب هـ. وَحُكي أن القاضي عبد الجبار الهمذاني دخل على الصاحب ابن عباد وعنده الأستاذ أبو إسحاق الاسفرايني، فلما رأى الأستاذ قال: سبحان من تنزه عن الفحشاء، ففهم الأستاذ أنه يريد عن إرادتها وخلقها، وأنها كلمة حق أريد بها باطل، فقال الأستاذ: سبحان من لا يقع في ملكه إلا ما يشاء، فالتفت عبد الجبار وعرف أنه فهم عنه، فقال: أيريد ربنا أن يعصى؟ فقال الأستاذ: أفيعصى ربنا قهرا؟ قال: أرأيت إن منعني الهدى وقضى علي بالردى أأحْسَن إلي أم أساء؟ قال: إن منعك ما هو لك فقد أساء، وإن منعك ما هو له فيختص برحمته من يشاء. فانصرف الحاضرون يقولون ليس والله عن هذا جواب. ويذكر أن هذه المباحثة وقعت بين رجل والحسين بن علي، فانصرف الرجل وهو يقول الله أعلم حيث يجعل رسالاته. ويروى أن رجلا قال لابن عباس: أنت الذي تزعم أن الله تعالى يريد أن يعصى؟ قال: نعم، قال الرجل: ما أراد الله أن يعصى بل أن يطاع، قال ابن عباس: ويحك فمن حال بين الله وبين ما أراد. ورد أهل السنة على المعتزلة بقوله تعالى: (إنما يريد الله ليعذبهم بها في الدنيا وتزهق أنفسهم وهم كافرون)[4]، وغير ذلك. قال السعد: قد يتمسك من الجانبين بالآيات، وباب التأويل مفتوح على الفريقين هـ. فإن قيل: كيف يريد تعالى القبيح ويفعله على ما زعمتم أن الجميع أثر قدرته وإرادته؟ قلنا القبح بالنسبة إلى العبد فقط، وأما بالنسبة إليه تعالى فالأفعال إما فضل أو عدل فلا قبح. فإن قيل: يلزم من كون فعل العبد واقعا بإرادة الله تعالى، وهو القاهر فوق عباده، أن يكون العبد مجبورا مقهورا، وحينئد لا يبقى محل للثواب والعقاب، ويلزم صحة الاحتجاج بالقدر، ويكون عقاب العباد على معاصيهم بعد أن اضطرهم إليها ظلما، وذلك كله مناقض لنصوص الشريعة، وهذه شبهة المعتزلة، فكيف التفصي[5]عنها. قلنا: العبد في أفعاله الاختيارية وإن كان مجبورا فهو في قالب مختار، وكل أحد يفرق بالضرورة بين حركة البطش وحركة الارتعاش، فتفضل تعالى بإسقاط التكليف في حال الاضطرار ظاهرا وباطنا، ورتب بمحض اختياره التكليف والثواب والعقاب على الاختياري بحسب الظاهر، وهو الذي قارنته القدرة الحادثة بلا تأثير لها أصلا كما مر، وإن كان مجبورا عليه في الحقيقة؛ لأن العبيد ملكه يتصرف فيهم كيف يشاء، ولا يسأل عما يفعل، (قل فلله الحجة البالغة)[6] وهي الملك، ويستحيل وصفه تعالى بالظلم كما قال: (وما ربك بظلام للعبيد)[7]، (إن الله لا يظلم الناس شيئا)[8]، وفي الحديث القدسي: (إني حرمت الظلم على نفسي)، وإنما استحال لأن تصرف المالك في ملكه يستحيل كونه ظلما؛ ولأن الظلم إنما كان ظلما لكونه منهيا عنه، ولا ناهي له تعالى، ولأنه يتضمن الجهل أو السفه؛ لأنه وضع الشيء في غير محله، وكلاهما محال على الله تعالى، وقد حكى البدر الزركشي أنه تناظر أبو موسى الأشعري وعمرو بن العاص، فقال عمرو: إن أجد أحدا أحاكم إليه ربي، فقال أبو موسى: أنا ذلك الحاكم، فقال عمرو: أيُقَدر علي الشيء ثم يعاقبني عليه؟ قال: نعم، قال عمرو: لم؟ قال: لأنه لا يظلمك، فسكت عمرو ولم يجد جوابا. وفي مسلم أن عمران بن حصين سأل أبا الأسود عما قضى على الكافرين من كفرهم، أفلا يكون ظلما؟ قال أبو الأسود: كل شيء خلق الله وملك يده، لا يسأل عما يفعل وهم يسألون، فقال له عمران: أحسنت، وإنما أردت أن أجرب عقلك. وعدم صحة الاحتجاج بالقدر في قول المشركين: (لو شاء الله ما أشركنا)[9]، (لو شاء الله ما عبدنا من دونه من شيء)[10] الآية، (لو شاء الرحمن ما عبدناهم)[11]، لأن المالك المتصرف في ملكه كيف شاء لم يقبل الاحتجاج به لا لأن القدر في نفسه غير قاهر للعبد، ولو شاء أن يقبل الاحتجاج به لكان له ذلك، بل له إثابة العاصي وتعذيب المطيع، وإثابة الكل أو تعذيب الكل، قال الإمام الحوضي:

لو رحم العاصي وعذب المطيع         أو رحم الكل أو عذب الجميع

لكان ما فعل من ذا ممكنـــــــــا          وكــــــان حكمه جميلا حسنا

ولعدم قبول الاحتجاج بالقدر لطيفة، وهي أن العبد قبل الفعل غير مطلع على ما جرى به القدر، لعدم اطلاعه على الغيب، فلا يقصد بفعله المنهي موافقة القدر، بل لا يعلم أن الفعل سبق به القدر إلا بعد وقوعه، قال الشعراني في العهود: “يحكى أن إبليس قال يا رب تأمرني بالسجود لآدم ولم ترد ذلك مني، فلو أردته مني لوقع ولم أخالف، قال: متى علمت أني لم أرده منك، قبل الإباية أم بعدها؟ قال: بل بعدها، قال: فبذلك أخذتك” اهـ. فإن قلت كيف احتج آدم بالقدر وقبل منه احتجاجه به فيما ورد في الصحيح: (احتج آدم وموسى، فقال موسى يا آدم أنت أبونا خيبتنا وأخرجتنا من الجنة، فقال له آدم يا موسى اصطفاك الله وخط لك بيده، أتلومني على أمر قدره الله علي قبل أن يخلقني بأربعين سنة، فحج آدم موسى ثلاثا). قلت: أحسن الأجوبة ما ذكره ابن عباد في جواب له على قول القائل لمن يلومه على التفريط وترك العمل الصالح ما وفقنا لذلك، وحاصله أن هذا القول تارة يكون خطأ وتارة يكون صوابا باختلاف القصد، فإن قاله صاحبه على سبيل الانتصار لنفسه والاحتجاج لها ونفي اللوم عنها فهو خطأ؛ لأن العبد من حيث هو عبد لا يليق به الاحتجاج لنفسه والانتصار لها ونفي اللوم عنها بين يدي مولاه وإظهار أن لا حق عليه له، وإن كان في كلامه ينطق بالحكمة ومحض الحق، ومن هذا الوجه قول المشركين: (لو شاء الله ما أشركنا)، (لو شاء الله ما عبدنا من دونه من شيء)، ولذا لم يعذرهم الحق مع أن كلامهم في نفسه صحيح يجب على كل واحد اعتقاد مضمنه. وإن قاله على سبيل الإخبار عن نفوذ قدر الله وقضائه وأن العبد لا مهرب له منه من غير قصد لنصرة النفس والاحتجاج لها، بل مع شدة افتقارٍ وظهور انكسارٍ واستحضار العبد أن لِلَه أن يؤاخذه إلا أن يعفو عنه، فهو صواب، ومن هذا الوجه قول آدم: أتلومني على أمر قدره الله علي، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: فحج آدم موسى، أي غلبه بالحجة، والمراد لم يترك له محلا للاعتراض بعد؛ لأنه اعترف بالعجز، وقد علم موسى أنه كان معترفا به وأنه تاب الله عليه، لذلك فلا محل للوم، ومعنى قوله قدره الله علي قبل أن يخلقني بأربعين سنة أنه أظهر قضاءه بذلك للملائكة في ذلك الوقت، أو كتب قضاءه بذلك في التوراة في ذلك الوقت، ففي بعض طرق الحديث أن آدم قال: فكم وجدت الله كتب ذلك في التوراة من قبل أن أخلق؟ قال بأربعين.

فإن قيل إذا كان الكفر قضاء من الله تعالى وقد ثبت أن الرضا بالقضاء واجب، لزم وجوب الرضى بالكفر، والرضا بالكفر كفر، فكيف يجب؟ قلنا الكفر مقضي لا قضاء، والواجب إنما هو الرضى بالقضاء الذي هو التعلق التنجيزي للقدرة عند الأكثرين، ومعنى الرضا به ترك المنازعة والاعتراض واعتقاد ثبوت الحكمة والعدل والصواب وعدم الظلم، وهذا لا يستلزم وجوب الرضى بالمقضي، ولا ينافي وجوب السعي في الانتقال عنه إن كان مذموما شرعا. وقد سئل سيدي عبد الرحمن بن محمد الفاسي عن إيضاح الفرق بين القضاء الذي يجب الرضى به والمقضِي الذي لا يجب الرضى به فأجاب: يتبين الجواب بضرب مثل هو أن الطبيب الماهر إذا دبر لك دواء مرا بشيعا فذقته واستبشعته، فإن استبشعته من حيث مرارته صدقَكَ إذا سلمتَ له حسن تدبيره ونظره، وإن سفهت تدبيره ونظره وزعمت أن الصواب العدول عنه بالكلية قلب عليك تسفيهك وكنت مخطئا، فكذا القضاء تدبيرُ اللَه لعباده واختيارُه لما يتصرف به فيهم، فهو راجع إليه، والمقضي ما وقع عليه التدبير والاختيار مما هو وصف العبد، فإذا رضي بوصف الرب فلا يضر أن لا يرضى وصف العبد الذي هو مدبر ومختار لا نفس التدبير والاختيار. اهـ موشحا. وأما ما أجيب به أيضا من اختلاف الاعتبار وأن الشيء من حيث ذاته يكره ومن حيث كونه مقضيا يرضى به فبعيد، والظاهر أنه لا يكلف بمحبته والرضى به ولو من حيث كونه مقضيا، بل لا يجوز هذا، وأما رضى الله ومحبته فعلى وفق الأمر لا الإرادة، قال تعالى: (ولا يرضى لعباده الكفر)[12]، (والله لا يحب الفساد)[13]، (لا يحب الله الجهر بالسوء)[14]، كما قال: (إن الله لا يأمر بالفحشاء)[15]، ولما كان الأمر عاما لمن شاء له الهداية ومن شاء له الإضلال صار أعم من الهداية والتوفيق كما قال: (والله يدعو إلى دار السلام)[16] الآية، وبما قررناه في هذه المباحث يتخرج الجواب عن قول ذلك اليهودي:

أيا علماء الدين ذمي دينـــــــــــكم         تحير دُلّوه بأوضــــح حجـــــــة

إذا ما قضى ربي بكفري بزعمكم         ولم يرضَهُ مني فما وجه حيلتي

قضى بضلالي ثم قال ارض بالقضا     فهل أنا راض بالذي فيه شقوتي

دعاني وسد الباب دوني فهل إلى     دخولي سبيل بينوا لى قضيتي

إذا شاء ربي الكفر مني مشيئـــة     فهل أنا عاص باتباع المشيئــة

وهل لي اختيار أن أخالف حكمه     فبالله فاشفوا بالبراهين علتـــي

وقد ذكر صاحب المعيار جوابين عن هذه الأبيات لأبي سعيد بن لب أحدهما ينيف على الثلاثين بيتا،  والآخر هو قوله:

قضى الله كفر الكافرين ولم يـكن       ليرضاه تكليفا لدى كل أمـــــــــــــة

نهى خلقه عما أراد وقوعــــــــه       وإنفـــاذه والملك أبلغ حجـــــــــــــة

فنرضى قضاء الرب حكما وإنما       كراهتنا مصروفة للخطيئــــــــــة

دعا الكل تكليفا ووفق بعضهــــم        فخص بتوفيق وعم بدعــــــــــوة

فتعصي إذا لم تنتهج طرق شرعه      وإن كنت تمشي في اتباع المشيئة

فلا ترضى فعلا قد نهى عنه شرعُه        وسلم  لتدبير وحكم  مشيئــــــــــة

إليك اختيار الكسب والرب خالق        مريد لتدبير له في الخليقـــــــــــة

وما لم يرده الله ليس بكائـــــــــن       تعالى وجل الله رب البريـــــــــــة

فهذا جواب عن مسائل سائـــــــل       جهول ينادي وهو أعمى البصيرة

أيا علماء الدين ذمي دينكـــــــــــم       تحير دلوه بأوضح حجـــــــــــــة

فإن قيل: هل يجوز إطلاق أن الله أراد الكفر والمعاصي والشرور وخلقها لصحة ذلك في الاعتقاد أو لا يجوز، وإنما يقال خلق الكائنات كلها ونحو ذلك تأدبا وحذرا من إيهام أن المعصية حسنة مأمور بها، أو يجوز حيث لا إيهام ويمنع معه؟ قلت: قد قيل بكل من الثلاثة، ووسطها أوسطها، واختاره القلشاني وغيره، ويؤيده قوله تعالى: (ما أصابك من حسنة)[17] الآية، مع قوله قبل: (قل كل من عند الله)[18]، وقوله: (صراط الذين أنعمت عليهم)[19] الآية، إذ لم يقل: ولا الذين أضللتهم كما قال أنعمت عليهم، وقوله: (وإنا لا ندري أشر أريد)[20] الآية، فبنى فعل الإرادة في جانب الشر للمفعول، وأظهر في جانب الخير الفاعل وهو ربهم، وقول إبراهيم: (الذي خلقني فهو يهدين) إلى (يشفين)[21]، لم يقل وإذا أمرضني على أسلوب الأفعال السابقة واللاحقة أدبا، وقول الخضر: (فأردت أن أعيبها)[22] مع قوله: (فأراد ربك أن يبلغا أشدهما) إلى [105] قوله: (من ربك)[23]، فنسب إرادة العيب لنفسه، وإرادة بلوغ الأشد واستخراج الكنز رحمة لله أدبا في التعبير، وفي دعاء نبوي: (الخير في يديك والشر ليس إليك)، أي ليس منسوبا إليك من حيث هو شر، ولذلك اقتصر على الخير في آية: (بيدك الخير)[24]، ومما روعيت فيه الحقيقة الحديث القدسي: (أنا الله الذي لا إله إلا أنا خلقت الخير والشر فطوبى لمن خلقته للخير وأجريت الخير على يده، وويل لمن خلقته للشر وأجريت الشر على يديه)، ومما روعي فيه الحقيقة والأدب معا ما في مناجاة الحكم: (إلهي إن ظهرت المحاسن مني فبفضلك ولك المنة علي، وإن ظهرت المساوي مني فبعدلك ولك الحجة علي).

 وأما ما هو محمود شرعا من أفعال العباد فينسب إلى الله تعالى حقيقة خلقا وإيجادا وشريعة وأدبا، وإلى العبد شريعة لا حقيقة لكسبه له، وينبغي لصاحبه الاقتصار على نسبته إلى الله تعالى أدبا. قال سهل بن عبد الله: (إذا عمل العبد حسنة [و] قال: يا رب بفضلك استُعملت، وأنت أعنت، وأنت سهلت، شكر الله له، وقال: يا عبدي، بل أنت أطعت، وأنت تقربت، وإن نظر إلى نفسه فقال: أنا أطعت وعملت وتقربت أعرض الله عنه، وقال: يا عبدي أنا وفقت، وأنا أعنت وسهلت، وإذا عمل سيئة فقال: يا رب أنت قدرت وقضيت وحكمت غضب المولى عليه، وقال: يا عبدي بل أنت أسأت وجهلت وعصيت، وإن قال يا رب أنا ظلمت وأنا أسأت وأنا جهلت أقبل المولى عليه وقال: يا عبدي أنا قدرت وقضيت، وقد غفرت وحلمت وسترت) اهـ. ومن علم أن مشيئة الله تعالى هي النافذة كما قال تعالى: (وربك يخلق ما يشاء)[25] الآية، أورثه ذلك إسقاط التدبير مع الله وترك الحسد، فإنه اعتراض على اختيار الحق كما قيل:

ألا قل لمن بات لي حاسدا        أتدري على من أسأت الأدب

أسأت على الله في حكمــه        لأنك لم ترض لي ما وهـــب

فجازاك عنــي بأن زادني        وسد عليك وجوه الطلــــب

وأورثه الرضى بما يبرز به القدر. قال محمد الباقر رضي الله عنه: ندعو الله تعالى فيما نحب، فإذا وقع ما نكره لم نخالف الله فيما أحب، وقال بعضهم:

يا خالقا لما يشـــــــــــا     مما يشا كيف يشــــا

ومعطيا لما يشــــــــــا      ومانعا لما يشــــــــا

إن لم تقدر ما نشـــــــــا      فالطف بنا فيما تشــا

كي لا يكون ما نشـــــا      خلاف ما أنت تشـــا

وللإمام الشافعي:

فما شئتَ كان وإن لم أشـــــأ      وما شئتُ إن لم تشأ لم يكــــــن

خلقت العباد على ما علـمت        ففي العلم يجري الفتى والمسـن

فهذا هديت وهذا خذلـــت        وهذا أعنت وذا لم تعـــــــــن

وهذا شقي وهذا سعيــــــــد     وهذا قبيح وهذا حســــــــــن

وهذا قوي وهذا ضعيــــــف     وكل بأعماله مرتهــــــــــــــن

 

شرح العالم العلامة البحر الفهامة شيخ الشيوخ سيدي محمد الطيب بن عبد المجيد المدعو ابن كيران المولود سنة 1172هـ المتوفى بمدينة فاس 17 محرم سنة 1227 هـ على توحيد العالم الماهر سيدي عبد الواحد بن عاشر قدس الله سرهما آمين، من الصفحة: 58 إلى الصفحة:63. 

(طبع على نفقة الحاج عبد الهادي بن المكي التازي التاجر بالفحامين) 

مطبعة التوفيق الأدبية

الهوامش:

 


[1] – سورة البقرة، الآية: 30.

[2] – سورة الزخرف، الآية:31-32.

[3] – سورة الأنعام، الآية: 37.

[4] – سورة التوبة، الآية: 55.

[5] – تفصَّى من الشيء أو عنه: تخلص منه، تفصى الشيء: بلغ الغاية في البحث عنه .

[6] – سورة الأنعام، الآية: 149.

[7] – سورة فصلت، الآية: 46.

[8] – سورة يونس، الآية: 44.

[9] – سورة الأنعام، الآية: 148.

[10] – سورة النحل، الآية: 35.

[11] – سورة الزخرف،الآية:20

[12]– سورة الزمر، الآية: 7.

[13]– سورة البقرة، الآية: 205

[14]– سورة النساء، الآية: 148.

[15]– سورة الأعراف، الآية: 28.     

[16]– سورة يونس، الآية: 25.

[17] – سورة النساء، جزء من الآية: 79.

[18] – سورة النساء، جزء من الآية: 78.

[19] – سورة الفاتحة، الآية: 7.

[20] – سورة الجن، الآية: 10.

[21] – سورة االشعراء، الآيات: 78-79-80.

[22] – سورة الكهف،الآية:79

[23] – سورة الكهف، الآية: 82.

[24] – سورة آل عمران، الآية: 26.

[25] – سورة القصص، الآية: 68.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق