وحدة الإحياءدراسات عامة

تفعيل الحرية بين نسقين.. من التطبيع التنظيمي إلى التنزيه التكريمي

أولا: الحرية في نسق المدركات السياسية الغربية

1. منشأ المدركات السياسية الغربية

إن طبيعة العناصر الفكرية اليونانية والرومانية التي سيقدر لها المساهمة في تشكيل المدركات السياسية للتقاليد السياسية للحضارة الغربية، ما كان ليتم لولا ما شهدته العصور الأوروبية الوسطى من تفاعل وتطور لمدركات وتقاليد حضارية متعددة تشكلت بها المدركات الفكرية للحضارة الغربية وتقاليدها السياسية الحديثة، والتي يرمز إليها العنوان الكبير “الديمقراطية”.

من تلك المدركات والتقاليد ما هو إسلامي، ومنها ما هو جرماني، ناهيك عن تلك الكنسيّة (الكاثوليكية خاصة) التي سادت العصور الأوروبية الوسطى بمدركاتها وتقاليدها، وما توجِّه تفاعل كل ذلك من فكر عصر النهضة، وما آل إليه هذا الفكر من رفض للتراث الكاثوليكي، كانت الثورة الفرنسية بمواقفها من “الكنيسة” ومدركاتها وتقاليدها، أكثر صور هذا الرفض  عنفاً وحدة[1].

لن نقف هنا عند تأثير الحضارة الإسلامية وتقاليدها والتي كانت المدرسة الرشدية Averroisme، في احتكامها إلى “العقل في شؤون الدين والدنيا[2]” من أبرز مظاهره، وإن لم تكن بالضرورة من أعمقها وأوسعها. بل سنرجئ إلقاء الضوء على طبيعة المدركات الفكرية الإسلامية، إلى حين اتضاح ملامح المدركات الفكرية الغربية لمفهوم “الطغيان”. وهو إرجاء يبرره، من جهة، أن تأثير التقاليد والمدركات الإسلامية، هو أمر لم يُقدّر له أن يعتبر عنصراً ذاتياً من عناصر تشكيل التقاليد والمدركات الغربية؛ ومن جهة أخرى فإن الصراع والعداء السياسي والديني بين الإسلام وأوروبا، من عصر النهضة وإلى الآن، يجعل من تبين تأثير التقاليد الإسلامية مهمة وعرة ليس هنا مجالها، لا من الناحية المنهجية وحسب، بل لأصداء ذلك العداء في الفكر السياسي المعاصر، الغربي في بنيته وموضوعاته، تلك الأصداء التي تجعل من “التحيز[3]” المنهجي، والمعرفي أيضاً، أمراً لا يصح تجاهله عندما تنطلق عملية البحث في تأثير المدركات والتقاليد الإسلامية في تلك الغربية، من وقائع الفكر والدراسات الغربية ذاتها.. لذا سنكتفي هنا بأخذ عامل “التحيز” بالاعتبار حين نصل إلى بيان طبيعة المدركات الفكرية لمفهوم “الطغيان” في الفقه الغربي.. فما لا يدرك كله، لا يترك كله كما يقال.

2.  التقاليد الجرمانية والكنسيّة

الانتقال إلى تناول طبيعة المدركات السياسية في كل من التقاليد الجرمانية والكنسيّة، يقودنا بدايةً إلى ملاحظة أنّ التنبّه إلى استمرارية تأثيرهما في المدركات السياسية الغربية، قد برز وتعزّز نتيجةً للتطورات العنيفة بين الحربين الأوروبيتين العظيمتين الأولى والثانية، وما ارتبط بهما من ظهور وهيمنة للنظم الديكتاتورية والشمولية النازية والفاشستية منها على وجه الخصوص. فهذه النظم لم تقتصر وحسب على رفض التراث الكاثوليكي كما فعلت الثورة الفرنسية، بل تجاوزت ذلك إلى تهديد “جميع التقاليد العزيزة على الحضارة الغربية” بمضمونها الديمقراطي العام المرتبط “باحترام الكرامة الإنسانية[4]“. من جهة، لفت هذا التهديد إلى “استمرارية” للتقاليد الجرمانية باعتبارها مسلكاً من مسالك العصور الأوروبية الوسطى التي ربطت “حضارة العالم اليوناني واللاتيني بعصر النهضة”. ومن جهة أخرى، فانه قد ألقى الضوء على حقيقة التطور الإنساني العام نحو الديمقراطية، مما جعله يتكشَّف تطوراً ناشئاً عن تفاعل بين مفاهيم متعددة ومتعارضة لا فيما بينها وحسب، بل في توظيف أيٍّ  منها سياسياً وحضارياً. وهو ما يبدو جلياً بالنسبة لمدركات التعامل السياسي في التقاليد الجرمانية، التي يحددها حامد ربيع في أربعة منطلقات رئيسة: “مبدأ العنصر؛ القوة أساس للشرعية؛ العلاقة السياسية علاقة تعاقدية؛ مبدأ شخصية القوانين[5].”

إن “مبدأ شخصية القوانين” هو الإضافة الجرمانية الأصيلة للفكر السياسي الغربي، باعتباره مبدأ لفهم “الظاهرة القانونية” على أنها “امتداد لعملية الانتماء الاجتماعي والقومي”.. ومن ثم، فهو مبدأ يكرِّس فهم ظاهرة “السلطة” باعتبارها علاقة “تعاقدية”، وباعتبارها أيضاً علاقة “تعاقدية” بين “المواطن والجماعة السياسية”، وليس بين المواطن والحاكم، أو حتى “بين المواطن والدول”.. غير أن تفاعل هذه المفاهيم مع مبدأي “العنصر” و”القوة كأساس للشرعية، يضفي على مبدأ “شخصية القوانين” طابعاً عنصرياً ولا ديمقراطيا؛ إذ أنهما يقدمان مصدراً لتبرير “امتداد القانون من حيث نفاذه إلى خارج الإقليم القومي[6]“؛ أي مصدراً مفاهيمياً لتبرير مشروعية legality ممارسة القهر المادي ضد شعوب أخرى، وإن لم يكن، بطبيعة الحال، تبريراً لشرعيته legitimacy. وبدوره، فإن مبدأ “العنصر”، رغم طابعه غير الديمقراطي، يجعل من المجتمع الجرماني مجتمعاً “يقوم على مبدأ المساواة” رغم عنصريته؛ بمعنى أنه ليس طبقياً في ممارسته لظاهرة السلطة داخل مجتمعه، وذلك خلافاً لما سيكون عليه الحال، مثلاً، في المجتمع الروماني[7].

أما مبدأ “القوة كأساس للشرعية” فلا يخفى كيف أنّه قد يؤدي في لحظات تاريخية معينة إلى تفريغ المدركات الأخرى من أية مضامين ديمقراطية لها. سواء المفهوم التعاقدي للعلاقة السياسية، أو مضمون المساواة العنصرية بين أفرد المجتمع الواحد، وهو ما يحدث فعلاً عندما يختل التوازن بين هذه المبادئ والمدركات، فيطغى مبدأ “القوة” على غيره، وتبرز ظواهر ديكتاتورية وشمولية كالنازية أو الفاشية.

إن ما سبق يبين، فيما يبينه، أنّ الدلالة الفكرية والسياسية لمفهوم معين، مثل”الطغيان” أو “الاستبداد”، لا تكمن في طبيعة المبادئ والقيم التي يقوم عليها “المفهوم”، بقدر ما  تكمن في طبيعة العلاقة القائمة بينها؛ أي من لها الأولوية على المبادئ أو القيم الأخرى، والذي تتحدد بأولويته علاقة التوازن بين المبادئ أو القيم برمتها، والذي يكون بذلك منطلق التصور السياسي وما يخلقه من مفاهيم[8].

هذه الظاهرة المفاهيمية (المُركّبة والمتداخلة) تعكسها أيضاً، بطبيعة الحال، التقاليد والمدركات الكنسيّة، ومآلها في التقاليد الغربية الحديثة عبر عصر النهضة. لقد كان “المنطلق الجوهري” للتقاليد الكنسيّة يدور حول “مبدأ المساواة”، وإن تذبذب أحياناً بينه وبين مبدأ “العدالة”[9]. من مبدأ “المساواة” نبع مفهوم “الإنابة” و”التمثيل السياسي” ولو بصورة “جزئية”، فالسلطة في الكنيسة لم تكن وراثية، و”الرئيس الأعلى أو البابا إنما يتم اختياره” إرادياً من ممثلي الكنيسة[10]. ومن مبدأ المساواة هذا سعت الكنيسة إلى فرض عالمية وظيفتها السياسية، “مخاطبة الجميع بلا استثناء”؛ إذ أن الجميع “رعاياها دون تمييز” ومن ثم فمن “حقها أن تحكم العالم” من منطلق “الدولة الواحدة[11]“، ومن منطلق “المثالية الخلقية” الذي يعني تمكين الضعيف من الوصول إلى حقوقه عندما يعجز بإرادته وقوته الذاتيتين عن الوصول إليها كلياً أو جزئياً[12].

ولقد وجدت الكنيسة الكاثوليكية في “نظرية الحق الإلهي” كما صاغها القديس توماس الأكويني St. Thomas Aquinas (1226-74م)، تخريجا فلسفيا لممارسة “استحقاقها” لمثل هذه السلطات الروحية والأدبية المطلقة، وهي تصارع السلطة المدنية في أوروبا وتحاول احتوائها. فعبر الصياغة النظرية هذه، أمكن التوفيق بين الصورة البسيطة والمتداعية للنظرية (والقائلة بأن الحكم لله وحده الذي يختار لأدائه في الأرض حاكماً بأمره)، وبين ممارسة السلطة وأشكال الحكم المختلفة استناداً إلى الإرادة الإلهية كمصدر للحق والشرعية في الحكم[13].

 إذ جاءت صياغة توماس الأكويني لتميز بين (أ) مصدر السلطة كجوهر ومبدأ، باعتباره إرادة الله؛ وبين (ب) القانون الطبيعي الذي أودعه الله في ضمائر الناس ليختاروا وفقه شكل الحكم وأسلوبه كان ملكياً أو أرستقراطياً أو ديمقراطيا؛ وبين (ج) ممارسة الناس ذاتها للسلطة وأدائهم للحكم[14]. وعلى أساس من هذا التخريج، أصبح ممكناً للكنيسة الكاثوليكية أن تمارس سلطات روحية وسياسية ومالية، متسلحة بمفهوم “الحق الإلهي” في “الرقابة” على الحكام، وفي “الحرمان” كجزاء لمن يتحدى هذا الحق[15]. ومتسلحة أيضاً بالدعوة إلى “مقاومة الطغيان” عندما تفرض السلطة المدنية على المواطن المثاليات اللاكاثوليكية[16].

وهكذا كانت الكنيسة من جهة، تنتقل عملياً بأوروبا من “مرحلة النظام العرفي إلى مرحلة النظام القانوني”، وهو إسهام يسجَّل للكنيسة وإن كان يمكِّن للسلطة السياسية أن تستند لمصدر للشرعية (هو هنا “الحق الإلهي”) غير القوة المادية القاهرة، فيصبح بذلك قهر السلطة “قهراً قانونياً[17]“؛ ومن جهة أخرى كانت الكنيسة تمهد عبر تخريجاتها النظرية تلك إلى إيناع مفهوم “الرقابة الشعبية” على الحكام، والذي سيبدعه خصومها كحق في مقاومة طغيان الكنيسة ذاتها، أو طغيان غيرها، ولكن استناداً إلى مفهوم “السيادة الشعبية”، وليس استناداً إلى فكرة “الولاء” للكنيسة كتعاليم وقواعد تفسر الإرادة الإلهية وتبررِّ دعوة “الرعية” إلى مقاومة ما تراه الكنيسة “طغياناً”؛ كما كانت تمهد أيضاً إلى ظهور المفهوم الليبرالي، أو غير الكنسي، للقانون الطبيعي؛ أي “تفسير القانون الطبيعي” باعتباره يستتبع التزامات بحقوق طبيعية، وباعتباره يستند إلى “مفهوم العلاقات التعاقدية”، وليس إلى “القانون الطبيعي” كما تفسره الكنيسة[18].

إن ما اضطلع به خصوم الكنيسة العقائديين والسياسيين من تطوير لتصوراتها حول “المساواة”، ومن ارتقاء بمدلولالتها الفكرية والسياسية، لا ينتقص من أصالة وعمق الإسهامات الكنسيّة في تشكيل الفكر الغربي الحديث؛ غير أن هذا الصراع بين الكنيسة وخصومها كان إعلاناً صاخباً عن فشل الحضارة الكاثوليكية (في العصور الأوروبية الوسيطة) في استيعاب المتغيرات المجتمعية، وفي تطوير المفاهيم والنظم والممارسات الكنسية الكاثوليكية تطويراً متكاملاً ومعبراً عن فلسفتها الدينية.

 ولم يكن لجوء الكنيسة للإرهاب الفكري وللقهر السياسي في مواجهة خصومها هو العلامة الحقيقية على هذا الفشل، فقد يكون خصومها أكثر إسرافاً منها في اللجوء إليهما، بل كانت علامته الحقيقية ترتسم في واقع تشكل الحضارة الغربية، عبر انفتاحها على التجديد باسم عصر النهضة، على أساسٍ من “رفض التراث الكاثوليكي” وطابعه الديني على وجه الخصوص. إنه الرفض الذي اتخذ، منذ اندلاع الثورة الفرنسية وغيرها، من مفهوم “اللادينية” أو “العلمانية” Secularism; Secularisme, laicité شعاراً ومبدءاً للحضارة الغربية الحديثة[19].

3. “اللادينية” النهضة الأوروبية السياسية

 لقد كان مبدأ “اللادينية” أو “العَلمانية” تكريساً لمسار حضاري متميز (عن المسار الكاثوليكي)، والذي بدأت أوروبا تتخطَّاه منذ عصر النهضة. إن دلالته تذهب إلى ما هو أبعد وأعمق من الفصل بين “ما لله وما لقيصر”، أو “فصل الدين عن الدولة”. فلم يكن “مفهوم الاستقلال الحكومي إزاء القوى غير الدينية[20]” إلا تعبيراً سياسياً محدوداً في سياق تغير حضاري عميق وواسع في مدركاته الفكرية ونسقه المجتمعي. بدايةً، رفع شعار “اللادينية” في وجه “عزلة وانطوائية وتحجر[21]” الممارسة السياسية للكنيسة، ليؤكد على “حرية الضمير” كأساس في اختيار الفرد لانتمائه العقيدي، أو في رفضه “أي عقيدة”، وليؤكد أيضاً على حرية الفرد في “ممارسة الطقوس الدينية” لعقيدته.

وهو تأكيد ارتفع منذ الثورة الفرنسية ليجعل من “الحرية” قيمة سياسية فردية ثابتة ولها الأولوية في التقاليد الغربية الحديثة. وسرعان ما بدأ مبدأ “اللادينية”، في المنتصف الثاني للقرن الثامن عشر، يعبِّر عن مثالية فلسفية معينة تجعل من الإنسان مرجعيتها المطلقة في بناء تصوراتها؛ وذلك في مواجهة الصراعات الدينية في أوروبا المتفتتة ما بين الكنيسة الأم الكاثوليكية، وبين الأخريات أنجلوساكسونية أو بروتستانتية أو أرثوذكسية.

ولقد طرحت هذه الفلسفة نفسها باعتبارها تقدم تصوراً إنسانياً “مطلقاً” في مواجهة التصور الديني الذي رأته، من واقع التفتت الكنسي، تصوراً نسبياً[22]. وهو ما يعني تهميش القيم المطلقة (أخلاقية أو دينية)، أو نزع القداسة عنها، وهو ما يتفق مع وصفها بالنسبية، وذلك باسم عقلانية الإنسان ومركزيته، التي تستبعد أي مركزية مرجعية خارجية مطلقة، دينية أو أخلاقية، هي بطبيعتها مرجعية غير خاضعة للعقلانية الكاملة والصارمة[23].

بذلك كانت هذه المثالية الفلسفية، والتي عبّرت عنها بدايةً المدرسة الهيومانيةhumanism; humanisme   تكرس تحول الحضارة الأوروبية عن نمطها الكاثوليكي الذي يستند إلى مرجعية مطلقة (العقيدة المسيحية) تتجاوز الإنسان والطبيعة، إلى نمطها الحديث العلماني الذي تغيب فيه المرجعية المعرفية المطلقة، أو تُغيَّب، أو تُهمّش؛ فتتمايز بذلك الظواهر المجتمعية ومؤسساتها (سياسية وثقافية واقتصادية واجتماعية…)، تمايزاً تندفع به كل منها إلى الانفصال عن غيرها، لتتحرك وفق “قوانينها الداخلية والذاتية” غير منضبطة بمرجعية عليا خارجية[24].

4.  نشأة التقاليد السياسية الغربية الحديثة

 هذا السياق الحضاري الجديد، “النسبي” في مرجعيته، “الوضعي” في منهجيته، و”المتمايز” في مؤسساته ونظمه، لابدّ وأن يتلازم وخصائص معينة تميز تطور الإدراك الغربي لقيمه الأساسية، وبالتالي تميز نسق العلاقات بين هذه القيم.. ويمكن عبر رصد خصائص تطور الإدراك الغربي لقيمه السياسية، أن تتحدد علاقة مفهوم القهر، أسميناه طغياناً أو استبداداً، بهذا الإدراك، وبما يشمل تحديد مضمون هذا المفهوم. وإذا أُخذ بالاعتبار أن الفكر السياسي الراهن، هو غربي في صياغته، فإن “تحديد خصائص تصور الإدراك الغربي لقيمه السياسية”، يصبح ضرورياً لتحديد مفهوم الطغيان (أو الاستبداد) على أساسٍ يتبين عبره العناصر والمقومات الفكرية لصياغته الغربية.. وعبر ذلك يمكن إدراك النسق الذي يحكم العلاقة بين القيم السياسية في الإدراك الغربي.

إن ما سبق يثير في ذهن الباحث تساؤلين أساسيين:

أ. ما هو المنطق السياسي الذي أدى إلى تحول مبدأ “المساواة” من قيمة “تابعة” تتشكل بالمتطلبات الحركية لمبدأ “الحرية” كقيمة عليا، إلى مبدأ أصيل (في التقاليد الشيوعية) يتحدد به “مفهوم الحرية” ذاته؟

ب. ماهية المقومات الفكرية لمفهوم “الحرية” في الفقه السياسي الغربي؟ وإذ نحاول هنا الإجابة عن هذين التساؤلين، فإننا نرمي من ذلك إلى تحديد خصائص المدركات السياسية للحضارة الغربية، ومن ثم تصور ما يقابلها من خصائص للمدركات السياسية في الحضارة الإسلامية.

5. التقاليد السياسية للثورة الفرنسية

 يبين الدكتور حامد ربيع المنطق السياسي الذي خضع له تطور “مفهوم المساواة” (في الفقه الغربي)، عبر مقارنته “النظامية” بين مكتسبات المفهوم في كل من “الثورات الكبرى الثلاث”: (الأمريكية والفرنسية والشيوعية). فيلاحظ، بدايةً، أن الثورة الفرنسية قد جعلت من “الحرية”، بمعنى حرية “الإرادة الفردية”، مبدأها “الأصيل”؛ وأنها انطلقت من هذا المبدأ لتعتبر أن “المساواة” تعني أن كل “مواطن” إنما “يملك قسطاً متساوياً من الإرادة” مع أي مواطن آخر في “الجماعة”. ومن هنا، فإن “المساواة” هي “مساواة بين المواطنين” في الجماعة السياسية، وهي (بذلك) مساواة “مرتبطة بمبدأ القومية السياسية”.

وبهذا كانت “العلاقة القومية” هي “الخلفية الفكرية” لمفهوم “المساواة” ومنطلق “التعبيرات النظامية” عنه في الثورة الفرنسية. ففي مقابل حرية “الإرادة الفردية” للمواطن، تبرز “سيادة الأمة” كتعبير عن عدم قابلية “إرادة الجماعة” للتجزئة، فهي إرادة “واحدة” تعبر عن نفسها “من خلال العمل التشريعي الذي هو تعبير عن الإرادة العامة” لمجموع المواطنين؛ وحيث حق المواطن في “الرقابة على السلطة” انطلاقاً من مبدأ “الفصل بين السلطات” هو حق يرتبط بهدف “حماية سيادة الأمة[25].”

بهذا كانت الثورة الفرنسية تدفع مبدأ المساواة إلى قلب “النظام المتكامل للقيم السياسية”، ليلتحم مفهوم المساواة بالحرية متشكلاً بمفهومها، وليكرِّس مفهوم الحقوق السياسية، حيث “لا التزام دون حقوق، ولا حق دون واجب”. غير أنه بالرغم من هذا، لم يقدّر للنظم السياسية للثورة الفرنسية أن تجعل من مساواتها مساواة فعلية قابلة للممارسة، بل كانت “مساواة شكلية مجردة”؛ فمساواتها كانت من جهة مساواة “رعوية” تعني المواطنين وحدهم وتتحدد بالانتماء القومي؛ أما حيث “الرعوية موضع شك، أو دلالتها موضع تقلص” كما هو مثلاً شأن العبيد في المستعمرات، فإن المساواة لا موضع لها.

ومن جهة أخرى أعمق دلالة، فقد كانت مساواتها “مساواة قانونية” مجردة؛ فهي قد اعتبرت أن “كل مواطن له جميع الحقوق ونفس الحقوق”، غير أن اعترافها بذلك لا يتعرض “لاستخدام هذه الحقوق”، وإنما يقتصر على “إلغاء مظاهر التمييز [القانوني] بين المواطن وأخيه المواطن”، ولا يرتقي من خلال الممارسة إلى أن يكون أداة لتسوية هذه الحقوق. ومن هنا، مع أن الثورة الفرنسية (كانتفاضة اجتماعية) قد نجحت في تجريد الطبقة الأرستقراطية من امتيازاتها، إلا أن هذا التجريد قد تم لحساب الطبقة البورجوازية والتي استطاعت عبر صياغتها لمبدأ “حرية الإرادة” أن تتحكم في الطبقات العمالية وذلك عبر “المساواة الشكلية بين العامل ورب العمل” -وهو ما مثله بالفعل قانون ليشابلييه الذي “قضى باسم المساواة على كل حماية للعامل” في مواجهة رب العمل؛ أي أن مفهوم الثورة الفرنسية للمساواة كان “امتداداً سياسياً للمفهوم القانوني لفكرة المواطن”، دون أن يرتبط ذلك “بالبعد الاجتماعي لمفهوم المساواة”، أو حتى “بالوظيفة السياسية” له[26].

6. التقاليد السياسية للثورة الأمريكية 

وعلى خلاف ذلك، فتقاليد الثورة الأمريكية تجعل لمفهوم المساواة بعده الوظيفي السياسي، بل وتمهد لتأصيل هذا المفهوم لتقوم الثورة الشيوعية، فيما بعد، بإبراز بعده الاجتماعي؛ إذ أن المساواة في تقاليد الثورة الأمريكية لم تكن مساواة قانونية وحسب؛ بل سياسية أيضاً: تجعل المساواة تعبيراً سياسياً عن حقوق الفرد “الطبيعية” “السابقة على وجود الدولة”، وبما يحمي نطاق حقوق الفرد في مواجهة النظام السياسي ذاته.  فلم تكن المساواة بذلك مجرد تعبير عن مفهوم المواطنية في نطاق مفهوم الانتماء القومي أو الدولة القومية أو سيادة الأمة، كما هو شأن الثورة الفرنسية، بل كانت تعبيراً عن حقوقه بصفتها ملازمةً لوجوده الفردي ذاته.

ولقد ارتبط هذا المفهوم السياسي للمساواة بالإطار التاريخي للثورة الأمريكية، والذي اختلط من خلاله طابع الثورة التحريري (من العبودية) بطابعها التحرري من (الاستعمار)، لتختلط بذلك قيمها الفردية بقيمها الجماعية، وليبرز بهذا مفهوم المساواة كواحد من “الأصول الثابتة لمفهوم الرقابة الدستورية على الوظيفة التشريعية” في النظام السياسي الأمريكي منذ بدايته، وليرتفع بذلك مفهوم المساواة إلى مرتبة التقييم للسياسة في نطاقها الفردي والحركي[27].

غير أن تأثير التقاليد الديمقراطية الأمريكية في الفكر الأوروبي جاء متأخراً، رغم الأسبقية التاريخية للثورة الأمريكية بالنسبة للثورة الفرنسية؛ إذ لم يُقدر لهذا التأثير أن يظهر إلا بعد معايشة المفكر السياسي الفرنسي توكفيل Tocquville (1805-59م) للتقاليد الديمقراطية الأمريكية عن كثب، وذيوع كتابه عن الديمقراطية الأمريكية (1835م). في كتابه هذا، عزا نجاح الثورة الأمريكية في تحقيق غاياتها، وفشل تلك الفرنسية (ولو مؤقتاً)، إلى أن مساواة الأولى كانت مساواة “فعلية” تسمح للفقراء بأن يضعوا أنفسهم في الحالة التي تمكنهم من “الارتقاء”، ولم تكن كالثانية مجرد “مساواة أمام القانون”، معتبراً أن المعضلة التي يتعين على المجتمعات الحديثة أن تحلها، إنما تكمن في “التوفيق بين المساواة [الفعلية] والحرية[28]“. ومن هنا فإن فلسفته السياسية من جهة، وفلسفة روسّو Rousseau (1712-78م) حول “العدالة الاجتماعية” التي تؤكد على المساواة بمعنى “التسوية” في الأوضاع الاقتصادية كأساس للممارسة السياسية “المتساوية”، من جهة أخرى، قد اعتُبرتا “الخلفية العامة للتصور الماركسي لمبدأ المساواة[29].”

7. نسق القيم السياسية الماركسية

عبر دوتوكفيل، ومن قبله روسّو، ظهر مفهوم “الواقعية والفاعلية” كأساس للممارسة، وذلك من خلال إبرازهما “العلاقة بين الظاهرة السياسية والظاهرة الاقتصادية[30]“. وهو إبراز أكد عند توكفايل على عنصر الحماية الموضوعية لحقوق الفرد السياسية إزاء السلطة؛ بينما كان يؤكد عند روسّو على التقريب “بقدر الإمكان” بين الأوضاع المعيشيّة للناس، حتى لا يكون هناك طغاة يشترون الحرية، وآخرون (فقراء) يبيعونها[31]. وكان ما أضافته الفلسفة الماركسية هو جعلها “مفهوم الكفاف الاقتصادي” الأساس للديمقراطية السياسية؛ أي أنها اعتبرت المساواة “الفعلية” هي تسوية في الأوضاع الاقتصادية، وليست مجرد تسوية في الحقوق السياسية[32].

إن هذا المفهوم “الاقتصادي” للمساواة قد أبرز “حقوقاً جديدة”، لم يكن يعرفها النظام السياسي الغربي؛ غير أنه في سبيل ذلك قد جعل، عبر الفلسفة الماركسية وتقاليدها الشيوعية، من المساواة محوراً للسياسة التطويرية للنظام المجتمعي. بهذا لم تكن “المساواة” ترتفع وحسب لتضحي المبدأ الأصيل من بين القيم السياسية الفردية، بل كانت تصعّد لتطغى على مضمون القيمة الجماعية ذاتها؛ أي أنها لم تقتصر على أن تصبح البعد، أو الهدف، الجزئي microscopic الأصيل للقيمة الجماعية العليا، بل أصبحت جوهراً لهذه القيمة الجماعية، ومن هنا لم تكن المساواة الماركسية، ذلك التوفيق المتوازن، الذي تطلع إليه دوتوكفيل، بين المساواة والحرية، والذي لا تطغى فيه الحرية على المساواة، وإنما توفيقاً تطغى فيه المساواة على الحرية، وتبرز عبره “مشكلة الحرية” مشكلة متأزمة في الأنظمة الشيوعية[33].

8.  سمات المدركات السياسية الغربية

 وهكذا، فإنه يمكننا أن نلحظ “التجريبية الإجرائية” كسمة تلازم إدراك الحضارة الغربية لقيمها السياسية، وتحكم نسق العلاقة فيما بينها. إن التجريبية تعني أن المقومات الفكرية لمفهوم قيمة سياسية معينة (وبما يحدد نطاق ممارستها على مستوى الأفراد، ومجال ممارستها في الواقع)، إنما تتحدد من خلال واقع الممارسة العملية والخبرة التاريخية ذاتهما؛ أي أن الممارسة تكون مصدراً أساسياً لتحديد مفهوم “القيمة” ذاتها، ونسق علاقتها بالقيم الأخرى أيضاً؛ أي أن الممارسة ليست مجرد إطار لإغناء صور ومتطلبات التطبيقات النظامية للقيمة. ومن ثم فإن مفهوم قيمة سياسية معينة، كالحرية مثلاً، يصبح في ذاته عُرضةً للتطور، وللتغيير، وليس للإثراء والتأصيل وحسب.

كلمة الحرية في أوسع معانيها تفيد “اختفاء القيود على النشاط الفردي أو الجماعي”، وهو ما قد يفيد، بل يفيد فعلاً، “القدرة على الحركة دون ضوابط” وبما في ذلك ضوابط “القانون[34]“. ولقد تطور المفهوم عبر الممارسة العملية منذ أن برز عبر الثورة الفرنسية مؤكداً “حرية الضمير” و”حرية ممارسة الطقوس الدينية[35]“؛ ثم عبر مواجهة “الحركة القومية الألمانية” للغزو الفرنسي الحضاري (ممثلاً في غزو التشريعات الفرنسية عبر نابليون)، لتؤكد “حق الشخصية القانونية في أن تنظم حياتها بإرادتها الفردية”، ومبرزة من خلال ذلك “أن استقبال القوانين الأجنبية هو مخالفة للحرية السياسية[36]“.

ولقد أُستكمل عنصر “التنظيم الذاتي” هذا كمقوم للحرية، بفكرة “الاستقلال وعدم التبعية” كحق للمواطن في أن “ينظم حياته بإرادة فردية”، وهي الفكرة التي أخذت، في نطاق التعامل الدولي، صورة “مبدأ حق تقرير المصير” للشعوب، وذلك في أعقاب الحرب الأوروبية العظمى الثانية[37]. وأخيراً، نجد أن الجوهر “الفردي لقيمة الحرية” قد قام عبر مقومين إجرائيين: أولهما: “ذاتي” يؤكد حق المواطن في أن يعرف النتائج القانونية التي تترتب على تصرفاته، فلا يعيش خوفاً من السلطة “يرفضه المنطق الطبيعي للمسؤولية”، وهو ما يعبر عنه “مبدأ الثقة”، والآخر “إيجابي” ويعبر عنه “مفهوم المشاركة” والذي يؤكد “حق الطبقة المحكومة في أن تشترك في صياغة القرار السياسي[38].”

9. مقوَّمات الحرية في التقاليد الغربية السياسية المعاصرة

هذه المقومات الفكرية المتمثلة في (عنصر التنظيم الذاتي، وعدم التبعية، ومبدأ الثقة، ومفهوم المشاركة)، كما نجدها في أدبيات “النظرية السياسية”، ليست مجرد تأصيل للحرية كقيمة سياسية، إنها من جهة، تعبر عن تطور من حرية غير محددة، إلى حرية ينظمها القانون؛ ومن حرية الضمير والاعتقاد، إلى حرية ذاتية سلبية (يؤكدها مبدأ “الثقة”) إلى أخيرة إيجابية (عبر إيناع مفهوم المشاركة”)؛ ومن حرية مقصورة على النطاق الداخلي (يمارس عبرها المجتمع حق “التنظيم الذاتي”) إلى حرية في نطاق التعامل الدولي يبرزها “مبدأ حق تقرير المصير”. ومن جهة ثانية، فإن هذه “المقومات” تظهر تغير نطاق ممارسة “الحرية”، وهو وإن بدا تغيراً باتجاه “اتساع” نطاق هذه الممارسة، غير أنه ليس هناك ما يمنع، من الناحية النظرية، في أن يأخذ هذا التغير اتجاهاً مغايراً؛ أي نحو “انكماش” نطاق ممارسة الحرية السياسية، وذلك في حالة عجز نسق القيم التي ترتبط به قيمة “الحرية السياسية” عن الحيلولة دون ذلك.

 والفقه الأمريكي يظهر قابليته لمثل هذا “الانكماش”، فليست أطروحات صامويل هانتنغتون Huntington حول فاعلية النظم الديكتاتورية في المجتمعات المتخلفة، وحول “صراع الحضارات”، وحدها في هذا المجال. ناهيك عن أنّ الممارسة السياسية الغربية في نطاق التعامل الدولي لا تعكس ذلك الالتزام الذي تعكسه ممارستها لقيم “الحرية السياسية” في المجال الداخلي (لمجتماعاتها)، بل تكاد تعكس نقيضه[39]. بل إن ما عرضناه آنفاً يظهر كيف أن تطور مبدأ المساواة قد قاد في نهاية المطاف إلى انقلاب نسق القيم السياسية رأساً على عقب.

إن ما سبق يبين الطابع “التجريبي” في بناء الفقه الغربي للمقومات الفكرية لمفهوم “الحرية السياسية”. وهو طابع يفسره المنطلق “الوضعي” الذي ارتبطت به القيم السياسية الغربية، ليس فقط أن هذه “الوضعية”، كمنطلق، تغيب أية مرجعية مطلقة، ومن ثم تلوذ بـ”التجريبية”. بل أيضاً لأنها “وضعية مادية”، بمعنى أن تكامل المقومات الفكرية للقيم السياسية قد يتم كتعبير عن الضرورات الاجتماعية التي تفرضها موازين القوى الاجتماعية، أكثر من كونه، أو ليس لكونه، معبراً عن مثاليات فكرية أو عقيدية معينة، كما هو، مثلاً، شأن انبثاق القيم السياسية للحضارة الإسلامية[40]. إن هذه السمة “المادية”، للقيم السياسية الغربية تفسر من جهة، تخلف الممارسة السياسية الغربية في نطاقها الخارجي الدولي، عن التعبير عن قيمها السياسية التي تمارسها في نطاقها الداخلي المجتمعي؛ إذ لا تواجه ممارساتها الخارجية، وخاصةً في العالم المتخلف، واقعاً سياسياً وموازين قوى تفرض عليها مثل ذلك التعبير. ومن جهة أخرى، تفسر هذه السمة “المادية”، نسق القيم السياسية في الفكر الغربي[41].

10. الخصوصية السياسية للحضارات

 ومن هنا يعتبر فقه “النظرية السياسية” أن الحضارة الغربية الحديثة تعبّر عن منحى حضاري له خصوصيته في موقفه من الظاهرة السياسية. وبالتحديد، أنها تعبر عن التحول عن نموذج الحضارة “اللاسياسية” Apolitical الذي تمثله الحضارة الكاثوليكية بجلاء، إلى نموذج الحضارة “السياسية” Political. إنّ النموذجين (السياسي واللاسياسي) يلتقيان في عدم تجاهلهما للظاهرة السياسية، وذلك خلافاً لما عليه حال النموذج “الغيرسياسي” Non-Political، والذي تمثله الحضارات الموصوفة بأنها “غير سياسية”، كتلك الفرعونية والفارسية والتي يضفي تجاهلها للظاهرة السياسية على ممارستها المتعلقة بالنظام “صفة إدارية مطلقة”.

إلا أن النموذجين (السياسي واللاسياسي) يتميزان عن بعضهما في نظرتهما للظاهرة السياسية وفي تعاملهما معها. فالحضارة الكاثوليكية توصف بأنها “حضارة لا سياسية”؛ لأنها لا تجعل من السلطة مجرد حقيقة سياسية، بل تجعلها امتداداً لعلاقة حضارية، بأبعادها العقيدية، والأخلاقية، تقيد الحاكم والمواطن معاً من أجل تثبيت قيمها العقيدية والأخلاقية كإطار للظاهرة السياسية ولغيرها من الظواهر المجتمعية، وجاعلةً بذلك من التعامل الايجابي إزاء السلطة “واجباً يرتفع عن مستوى الالتزام الخلقي”.

وعلى خلاف ذلك، فإن الحضارة الغربية الحديثة، كأبرز تمثيل للنموذج الحضاري “السياسي”، تنظر أساساً إلى السلطة على أنها “حقيقة سياسية”؛ ومن ثم، فإنّ “العلاقة بين الحاكم والمحكوم” باعتبارها علاقة تدور حول ظاهرة السلطة وحقوقها والرقابة عليها، تصبح هي “المحور الأصيل في تحليل الظاهرة الاجتماعية” وفي التعامل معها[42].

ثانياً: الحرية في نسق المدركات السياسية الإسلامية

1. نسق القيم الجماعية” التوحيدي

كقيمة جماعية مطلقة في الأمة، تقوم قيمة التوحيد “تنطق” بِـ”الحق” قيمةً مطلقة يُبتغي أن تتحقق وتَتُم في عالم الشهود الذي يعيشه الناس (في التاريخ)، ولِتسود وتعم رغماً عن المشركين بالتوحيد ورغماُ عن الكافرين بالحق: ﴿يُريدون أن يُطفِئُوا نورَ اللهِ بأفواهِهِمْ ويابى اللهُ إلاّ أن يُتِمّ نُورَهُ ولو كَرِهَ الكافرون. هو الّذي أرسَلَ رسُولَهُ بالهُدَى ودِينِ الحقِّ لِيُظْهِرَهُ على الدِّينِ كُلِّهِ ولو كَرِهَ المُشرِكُون﴾ (التوبة: 32-33). و”الحق” لا يكون إلاّ بالشهادة الوسط العدل الفاعلة في حياة الناس عبر الزمان: ﴿وكذلك جعلناهم أمة وَسَطاً، لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيداً﴾ (البقرة: 142).

غير أنّ البرّ بالحق كقيمة، لا يكون إلاّ بالاقبال على “الشهادة” الحيّه الفاعلة في واقع الناس وشهودهم، واستقبالها واتِّقاء ما يحول دونها؛ فهذا ما ينطبق مضمونا على ما تعنيه لفظة “التقوى” في لغة القرآن[43]. وهذه “الشهادة ” إنما تكون، أولاً، إيماناً بمصدر الحق (“الواحد” سبحانه)؛ وثانياً، بـِ”إقامة” الصلاة تعزيزاً للإيمان حمداً وتسبيحاً واستهداءً بالحق (الهادي) عند البذل في سبيل الحق؛ وتكون ثالثاً، تصديقاً للإيمان بـِ”البذل” على قدر الفريضة المقدّرة (زكاةً) وبذلاً بما يتجاوزها (إيتاءً  للمال على حبِّه)، بما يجعل البذل مُلَبِّياً لاحتياجات مستحقِّي البذل؛ وتكون رابعاً إيفاءً بعهد الله والتزاماً بكلِّ عهدٍ حق؛ وتكون أخيراً وأولاً، إعمالاً للإيمان وللبذل وللصلاة وللعهد: صبراً عند الضيق (في البأساء) وفي المُلِّمات (في الضراء) وعندما تستَعِّرُّ المواجهة (حرباً قتالاً حين البأس) مع أعداء الحق وخصومه: ﴿وإن تصبِروا وتَتَّقُوا فإنّ ذلك من عزم الاُمور﴾ (ءال عمران: 186)؛ فالبِرُّ بالحق لا يكون إلاّ بِـ”التقوى” التي تتحقق بها هذه “الشهادة”:

﴿ليس البِرُّ أن تُوَلوا وجوهكم قِبَل المشرق والمغرب، ولَكن البِرّ من ـامن بالله واليوم الاَخر والملائكة والكتاب والنبيئين وءاتى المال على حُبِّهِ ذوي القُربى واليتامى والمساكين وابن السبيل والسائلينَ وفي الرِّقاب وأقام الصلاة وءاتى الزّكاة، والمُوفون بعهدهم إذا عاهدوا، والصابرين في البأساء والضَرّاء وحين البأس، أولئك الذين صدقوا، وأولئك هم المتقون﴾ (البقرة: 176).

هكذا تقوم قيمة “التقوى” كقيمة وسيلة (في المدركات الجماعية للأمة التوحيدية تتحقق بها قيمة “التوحيد بالحق”: قيمة “الحق الواحد الصمد”؛ فيكون مردودها وغايتها المفازةُ الحقة للمتقيين في الحياة الأخرى (الحيوان): ﴿ولَلدّار الاَخرة خيرٌ للذين يتقون﴾ (الاَنعام: 33)؛ ويكون النصر مآل وعاقبة المتقين في حياتهم المشهودة (في التاريخ): ﴿إنّ الاَرض لله يورثُهاَ من يشاء من عباده، والعاقبة للمتقين﴾ (الاَعراف: 128)، فالله يَنصر من يُحسِن في أخذه الدنيا بالتقوى: ﴿إن الله مع الذين اتّقوا والذين هم مُحسنون﴾ (النحل: 128)، فهؤلاء المُحسِنين عملا” هم مؤمنين أُولي ألباب وحِكمة وسَعة علمٍ بالدنيا، فهم متقين من أهل الفلاح الفائزين: ﴿فاتقوا الله يا أولي الاَلبابَ، الذين ءامنوا﴾ (الطلاق: 10)؛ ﴿فاتقوا الله يا أولي الاَلباب لعلّكم تفلحون﴾ (المائدة: 102). ومن هنا، فإن  “الحق” يدعو المؤمنين إلى التقوى كأفراد: ﴿وسَيُجَنّبُها الاَتقى… ولسوف يَرْضى﴾ (اليل: 17-21)[44]، كما يدعوهم للتقوى كأفراد في جماعة المؤمنين: ﴿يأيها الذين ءامنوا اتقوا الله حقّ تقاته﴾ (ءال عمران: 102)، كما يدعوهم إليها كأمة: ﴿وأنّ هذه أُمَّتُكم أُمّة واحدةً، وأنا ربّكم فاتقون﴾ (المومنون: 53)، بل يدعو الله الناس لتقواه حقاً صمداً على امتداد الزمان والمكان خالقاً ورباًّ لهم: ﴿يأيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفسٍ واحدة وخلق منها زوجها وبثّ منهما رجالاً كثيراً ونساءً، واتقوا الله الذي تساءلون به والاَرحام﴾ (النساء: 1).

وبهذا يبدأ نسق القيم الجماعية لدى الأمة بالاكتمال، بعد أن أصبحت فيه قيمة التقوى ليس وحسب قيمةً وسيلة أساس[45] لِـ “قيمة توحيد الحق” جاعلة المفازة (والفوز الحق) مآلاً للمتقين في الحياة الحقة لآخرة، وفلاحاً وفوزاً لسعيهم في دنياهم ونصراً لهم في تاريخهم وحياتهم المشهودة؛ بل أيضاً قيمةً ناظمة لسلوك الأفراد في الجماعة، ولوظيفة الأمة الحضارية وعمرانها في الأرض، وقيمةً تنتظم العلاقات بين الناس عبر الزمان: ﴿يأيها الناس إنّا خلقناكُم من ذَكَرٍ وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا، إن أكرمكم عند الله أتقاكم﴾ (الحجرات: 13).

2. السمة الوصفية للحرية في القرآن الكريم

 تظهر لنا قيمة “الحرية” في النسق التوحيدي القرآني، قيمة تابعة لقيمة “الأمانة” وتصف مدى القدرة على “التمكين” اضطلاعاً بالأمانة التي يحملها الإنسان: ﴿اِنّا عرضنا الاَمانةَ على السمواتِ والاَرضِ والجبال فأبين أن يحمِلْنها وأشفقن مِنْهَا، وحَمَلَها الانسانُ إنّه كان ظلوماً جهولاً﴾ (الاَحزاب: 72). فإن كان الانسان يتميز عن العالم الطبيعي (السموات والأرض والجبال) بالمقدرة على “المجاوزة[46]“، إلاّ أنّ حملَ أمانة الاختيار يظل حملاً ثقيلاً تكتنفه مخاطر “ظلمِ” تعطيل حمل الأمانة، أو “الجهل” بمتطلبات حملها؛ إذ أنّ حملها يتطلّب نهي النفس عن الهوى: ﴿ولا تَتَّبِعَ الهوى فَيُضِلّك عن سبيل اللهِ﴾ (ص: 25)؛ والحرية قد يجعل الانسان يختار هواه؛ إذ أن حريته كاملة فيما يختار: ﴿اعملوا ما شئتُم، إنه بما تعملون بصير﴾ (فصلت: 39)؛ ﴿لَّسْتَ عليهم بمصيطر﴾ (الغاشية: 22)؛ ﴿اِنّا هديناه السبيل إمّا شاكراً وإما كفوراً﴾ (الاِنسان: 3)؛ كما أنها حرية اختيار مسؤولة: ﴿وكان عهدُ اللهِ مسئولا﴾ (الاَِحزاب: 15).

لذا فإن النسق التوحيدي للقرآن إنما يعرف “الأمانة” كقيمة نظامية تستهدف “التمكين” في الأرض عدلاً وصدقاً (وتجاوزاً للمسلكية الظلومة الجهولة أولاً)؛ إذ أنه نسق لا يقبل “التمكين” إلا بالحرية المسؤولة.. وبذلك تضحى الحرية فيه قيمة وصفية يتحدد بها مدى اضطلاع “التمكين” بحمل “الأمانة” صدقاً وعدلاً.. ومن هنا فإن “الحرية” كقيمة وصفية هي “حرية” تلاحظ مدى قيام الأمانة، أولاً على قيمة “الصدق”، تكريساً لحرية المعرفة والقول في الجماعة: ﴿وتمت كلمة ربك صدقاً وعدلاً﴾ (الاَنعام: 116)؛ ﴿وإذا قلتُم فاعدِلوا﴾ (الاَنعام: 153)؛ ﴿يأيها الذين ءامنوا اتقوا الله وقولوا قولاً سديداً﴾ (الاَحزاب: 70). كما تقوم، ثانياً، على قيمة “التواصي” بالحق إعمالاً لأمانة النظر والرأي؛ و”التواصي” بالصبر إعمالاً لنهي النفس عن الهوى: ﴿وممن خلقنا أُمّة يهدُون بالحق وبِهِ يعدِلون﴾ (الاَعراف: 181)؛ ﴿إنّ الانسان لفي خسرِ. إلاّ الذين ءامنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحقِّ. وتواصوا بالصبر﴾ (العصر: 2-3). وتقوم ثالثاً، على قيمة “الشورى”، لئلاّ يستأثر فرد أو فئة بسلطة الاختيار في الأمر العام المتعلق بالأفراد ككل في الجماعة: ﴿وأمرهم شورى بينهم﴾ (الشورى: 35).

ومن ثم، فإن “الشورى” في أمر من أمور الجماعة ومصلحتها فيه، مكفولة لكلّ من له أهلية النظر في هذا الأمر وفي المصلحة المتعلقة به؛ ولا حق لأحد من رجال الحكم أو غيرهم أن يمسّ بحرية القول الصادق وحرية المعرفة، أو بحرية إبداء الرأي والاجتهاد. والاجتهاد استنباطاً للأحكام الشرعية من القرآن والسنة النبوية الثابتة، هو “حق ثابت في الإسلام” لكلِّ من له الإلمام بدلالة لغة القرآن والسُنَّة؛ (أي اللغة العربية)، وبالقواعد العامة للتشريع ومقاصده.

 ويستوي في هذا الحق “الرجل والمرأة والحاكم والمحكوم”؛ وهم “يستوون في ثبوت هذا الحق لهم” كما “يستوون في حق احتمال الخطأ”، فلا يعرف “الإسلام عصمة أحد من الخطأ، إلا الرسول فيما يبلِّغه عن ربِّه[47]“، فالاجتهاد عرضه للخطأ، ولقد اجتهد النبي، صلى الله عليه وسلم، في أسرى بدر وفي أن تُؤخذ منهم الفِدْيَة، فكان اجتهاده، صلى الله عليه وسلم، هذا “عرضة للخطأ”، فنزل القرآن بالحكم الأولَى في ذلك[48].

وإذا كان قد ثبت أنّ فعل الرسول الذي يكون مجتهداً فيه، ولا يبلِّغ عن ربِّه، هو اجتهاد “عرضة للخطأ”،  فإن غير الرسول يكون بالأولَى عُرضه للخطأ، مهما تأهّل للنظر والبحث وللاجتهاد، ومهما “قرُبت نسبتُه” إلى الرسول صلى الله عليه وسلم[49]. كما أنّ على المجتهد، وإن صُدِّر للفتوى، أن يُقَدِّم دليله على فتواه واجتهاده إلى من يطلبها من المستَفْتِين. فالاجتهاد من جهة لا يرتبط بـِ”حق تحليل أو تحريم” في الشريعة؛ وهو من جهةٍ أخرى، استنباط من أصول الشريعة القطعية، قرآناً وسنةً ثابثة، لا يخالف أصلاً من أصولها، ويتحرّى بالحق وفقاً لذلك، وجوه مصلحة الجماعة، وإحقاق العدل[50]. وبالشورى وبمن تختاره الأمة ممن هم أهلٌ الشورى حكمةً وفهماً ودرايةً بمصالحها، تختارُ الأمة من بين الاجتهادات الشرعية، ما يكون قوانين تختارها للحكم، وما يكون العمل به في أمورها العامة. وفي هذا يبيِّن الإمام الأكبر محمود شلتوت:

الخليفة أو الإمام ليس معصوماً من الخطأ، ولا هو مهبط للوحي، ولا أَثَرَة له بالنظر والفهم، وليس له سوى النصح والإرشاد؛ وإقامة الحدود والأحكام في دائرة ما رسم الله، وهو نائبٌ في وظيفته عن الأمة، توليه وتُبقيه، وتطيعه مادام قائماً بمهمته، وقائماً على حدود الله، وتعزله إذا انحرف عن الحدود واقتحم حدود الله.. وكما أن هذا وضع الخليفة، فهو وضع القاضي والمفتي، و”شيخ الإسلام” و”الملا” فوظيفة القاضي لا تعدو الفصل في الخصومات بما اختير الحكم به من القوانين.

فقيمة “الحرية” كقيمة وصفية في النسق التوحيدي للمدركات الجماعية، تُظهر أنّ “الحاكمية” في الأمة  هي للتشريع، وأنّ الأمة هي مصدر السلطان فيها، وأن مشروعية السلطة هو في انبثاقها عن إرادة الأمة واختيارها الحرّ الصادق العدْل[51]. كما أنها تُظهر أن مجالها لا ينحصر في “الظاهرة السياسية” باعتبارها تدور حول علاقة الحاكم والمحكوم؛ فهو مجال يتسع لمجالات حمل الأمانة وسياسة الجماعة، بما يحقق مصالح الأمة ويسوسها، وهو ما تؤكده “السنة” الثابتة عن الرسول، صلى الله عليه وسلم، فيما يرويه الشيخان البخاري ومسلم في صحيحيهما، أن الرسول، صلى الله عليه وسلم، لقال[52]:

“كلّكُم راعٍ فمسؤولٌ عن رعِيَّته، فالأميرُ الذي على الناسِ راعٍ وهو مسؤولٌ عنهم، والرجل راعٍ على أهل بيته وهو مسؤولٌ عنهم، والمرأة راعية على بيتِ بعلها وولَدِه وهي مسؤولة عنهم، والعبدُ راعٍ على مالِ سيِّده وهو مسؤول عنه، ألا فكلكم راعٍ وكلكم مسؤول عن رعيّته”.

فالحرية إنما تكون بقدر التمكن صدقاً وعدلاً من حمل الأمانة؛ فمن موجبات حمل الأمانة بالعدل وبالعلم، لئلاّ يكون الإنسان ظلوماً جهولاً في حمله للأمانة، أن تُحرّر مقدرته وتُطلَق حريته في حملها. ومن هنا، فقد شرّع الإسلام للتحرر من العبودية لغيرِ “الحق الواحد”: “لا إله إلاّ الله”: وشرّع للعتق وللانعتاق، ولم يشرّع للعبودية والرق والقهر[53]: ﴿فلا اقتحم العَقَبةَ. وما أدراك ما العقبةُ. فَكُّ رقبةٍ. اَو اِطعامٌ في يومٍ ذي مسغبة. يتيماً ذا مقربة. اَو مسكينا ذا متربة﴾ (البلد: 11-16)؛ ﴿ونريدُ أن نَّمُنَّ على الذين استُضعِفوا في الاَرضِ ونجعلهم أيمة ونجعلهم الوارثين﴾ (القصص: 4).

ووصلَ الإسلام في تشريعه للعِتق، إلى حيث جعلَ ضرب الرقيق أو الإضرار بهم، مُوجِباً لعِتقهم؛ وجعل العتق كفّارة مندوبة للذنوب، كما جعله كفّارة في الذنوب عندما تكون الكفّارة فيها مفروضة، ككفارة العتق في القتل الخطأ، وككفارة العتق عند الحنث باليمين، بل جعل التشوّف للانعتاق مُوجِباً له عندما شرّع “المكاتبة[54]” على العتق؛ فتشريع الإسلام يُشَرِّع للحرية ولم يُشَرِّع للعبودية والقهر؛ ويجعل من التحرر والانعتاق مسؤولية يحملها الأحرار وغير الأحرار على السواء؛ فكانت قاعدة: “الشارِع[55] مُتَشَوِّف للحرية”، هي القاعدة الشرعية التي استخلصها الفقهاء في بيان حكم الشريع بشأن موانع الحرية[56].

إنّ التشوّف إلى “الحرية” في نسق المدركات الجماعية التوحيدي، هو تشوّف إلى الاستجابة لداعِ حمل الأمانة: ﴿الذين استجابوا لله والرسول من بعد ما أصابهم القرح للذين أحسنوا منهم واتقوا أجرٌ عظيم. الذين قال لهم الناسُ إن الناسَ قد جمعوا لكم فاخشَوهم فزادهم إيماناً، وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل﴾ (ءال عمران: 172-173). فليست الاستجابة لداعِ “الحرية” (التوحيدية)، طغياناً متفلِّتاً يصدر عن داعِ القوّة الظالمة القاهرة: ﴿قالَ سَنَقْتُلُ أبناءَهم ونَسْتَحْي نِساءَهُم وإناّ فوقَهُمْ قاهِرون﴾ (الاَعراف: 126)؛ فلا يردع طغيانها داخلياً إلاّ “توازنا” في القوى بين السلطات داخل الجماعة: يكبحُ طغيان الأقوى منها على غيرها داخل الجماعة، لكنه لا يكبح طغيان الجماعة خارجياً استعماراً وعدواناً وإبادةً إلاّ بما يردع بالمقاومة والتحرر طغيانها. لهذا لم تصل الجماعة العربية الإسلامية في قمعها لـِ”حركات الرفض” فيها إلى حدِّ “استئصال” وجودها وتراثها: كما هو شأن “السلطة” في الحضارة الرومانية[57]؛ أو شأنها (تجاه العرب والمسلمين) في إسبانيا الكاثوليكية[58]. كما ظلّ للجماعات والطوائف المتميّزة دينياً أو عرقياً أو تاريخياً في الحضارة الإسلامية، حقوقها وكيانها بموازاة الأمة وفي إطار سلطتها وكيانها؛ ولم تتعرض للإبادة كما تعرَّض لها، مثلاً الهنود الحمر في “العالم الجديد” مِنْ قِبَل المهاجرين والمستعمرين الانكليز: الذين “جرّدوا ضحاياهم من إنسانيتهم قبل أن يروهم”، والذين استوحوا من “مدركاتهم الجماعية” وأساطير “العهد القديم” فيها:”كل المبررات الأخلاقية لإبادة الهنود واجتياح بلادهم”، واستوحوا من مدركاتهم تلك ما اعتبروا به أميركا “أرض كنعان الجديدة”، واعتبروا الهنود “الكنعانيين جدد”، وأنفسهم “شعب الله” الإنكليزي.

وهي مدركات جماعية يُعبِّر عنها نائبٌ في الكونغرس الأميركي (خلال المدة 1834-1839م) فيقول: “قَدَر الهندي الذي يواجه الأنجلوسكسوني، مثل قدر الكنعاني الذي يواجه الإسرائيلي: انه الموت”. فاستجابة الحرية إلى حمل الأمانة، لا يتحوّل في مدركات الجماعة إلى “أخلاق إبادية” تتألَّه بها الجماعات، وتُعلن تفوقها وتمارس تعاليها على غيرها، وتتنافس على احتكار “الاختيار الإلهي[59]“. وهو تنافس بدا ظاهراً، عند منير العكش، بين التطبيق الإيماني النازي والآخر الأنجلوسكسوني، خلال الحربين الأوربيتين العالميتين في القرن العشرين وما بعدهما، فكان تقاتلاً وحشياً فتّاكاً على احتكار “الاختيار الإلهي[60]“:

“إن فكرة التفوق (…) خلقت لدى النازيين شعوراً بأن توسعهم حتمي بسبب تفوقهم الثقافي والعرقي. وأن هذا التوسع واجب أخلاقي تمليه مصلحة الإنسانية وضرورة تهميش الأعراق المنحطة. وهو ما أدى لاحقاً إلى اعتقادهم بحقهم في التوسع اللانهائي من أجل قيادة العالم، ولخير العالم. وهذا ما قدّمه إيمان الفهم الإنكليزي التطبيقي لفكرة إسرائيل التاريخية في العالم الجديد، للأنكلوسكسون [في فرعه الأميركي]، بتفوقهم العرقي والثقافي الذي يمدّهم بحق التوسع وقيادة العالم وحق قمع أي مقاومة لهذه القيادة بالحروب والعنف والإبادات. إن أميركا الأنكلوسكسونية ما تزال تعتبر نفسها الأمة (…) الأعلى أو الأقوى. وهي لِهذا، صاحبة الحق الأعلى في قيادة العالم.. ألمانيا النازية وأميركا تؤمن بفكرة انحطاط قوانين وأخلاق الشعوب الأخرى وضرورة عدم احترامها عندما تتعارض مع حقها في النماء والتوسع. وكلتاهما تؤمن بأن متطلبات النماء والتوسع والذي يتم باسم الإنسانية كلها أو (المجتمع الدولي) قد تستوجب عدم احترام حق الآخرين (المنحطين عرقياً وثقافياً) في تقرير مصيرهم أو سيادتهم على أراضيهم”.

وعلى الضِّد من عقيدة الادِّعاء بِـ”الاختيار الإلهي”، ومحاولة احتكاره، والتي تجعل قوة أصحابها جموحاً طاغياً بالحرية، لا يعصم الناس منه إلاّ قوةٌ تُوازِنُها أو تطغى عليها؛ فإن تشوُّف الاستجابة لداعِ حمل الأمانة، يجعل الحريةَ مسؤوليةَ تحريرٍ للمقدرة على حمل الأمانة، سواء تحرير مقدرة المتشوِّف للحرية، أم تحرير مقدرة غيره من الناس. فتوزيع السلطات وتوازنها في المنظومة التوحيدية، لا ينبع من منطلق الفصل بينها بما يقيم “حوائط وحواجز” بين السلطات لمنعها من البغي على بعضها البعض؛ وبما “يمنع الجسد من الوحدة في التعامل” إذا اختلّ التوازن فيما بينها، فتظهر تارة “الشرعية” لما هو مقبول أخلاقياً، و”المشروعية” لما هو مقبول “قانونياً” – كما هو الأمر بالنسبة للقيم الفردية في المدركات الجماعية الغربية الليبرالية.

 إن منطق “حرية التحرير” (تحريراً للمقدرة على حمل الأمانة)، لا يعرِف إلاّ مشروعية الشرعية “الدينية”، التي تجعل “القوّة” في خدمة “قيمة الحرية”، ولا تكون “القوة” في منطِقه قيمةً إلاّ في خدمة “حرية التحرير”. فمنطق المدركات الجماعية التوحيدي، لا يعمل على الفصل بين السلطات ليأمن بغيها على بعضها البعض، بقدر ما يوزِّع السلطات ليحمل كل فرد، وكل جزء في الجماعة، أمانته ويمارس مسؤوليته: “كلكم راعٍ وكلكم مسئولٌ عن رعيته”.

الجماعة التراحمية: ومن هنا تتميّز الجماعات في النسق التوحيدي بسمتها التراحمية، وذلك في مقابل السمة التعاقدية[61] للجماعات في النسق التطبيعي. إنّ السمة التراحمية للجماعة لا تنفي ابتناءها على الاتفاق بين أفرادها، والذي هو فعل تعاقدي بطبيعة الحال، ولكن الاتفاق التراحمي بين الأفراد في الجماعة يكون مصدره الولاء لقيم “الحق” فيها، وليس تعاقداً أساسه مصالح طبيعية/مادية محضة بين الأفراد.

إنّ السمة التراحمية هذه لا يقتصر أثرها على المؤسسات التعاقدية في النسق التوحيدي، عندما تصبغها بقيمها التراحمية الأساسَ المصلحي للجماعات في النسق التوحيدي، فضلاً عن مقاصدها وأهدافها وأغراضها ومنهجية عملها والتنشئة السياسية فيها؛ بل إنّ أثرها الأساس يطال بنية الجماعة المجتمعية التوحيدية ككل بمختلف جماعاتها الفرعية، سواءً تعلق الأمر بالأحزاب السياسية أم بالنقابات الحرفية والمهنية أم بالجماعات الدينية أم القبلية أم بغيرها من الجماعات الفرعية؛ إذ أنه في مقابل مؤسسة (أ) الفرد و(ب) الدولة و(ج) القانون في النسق التطبيعي، تكون مؤسسة (أ) الجماعة التراحمية، و(ب) الأمة، و(ج) الأحكام والأعراف المتسقة مع القيم التراحمية، في النسق التوحيدي[62]. وبينما يكون الفرد التعاقدي هو الوحدة الاجتماعية الأساس في النسق التطبيعي، تكون الجماعة التراحمية أساسها في النسق التوحيدي، وحيث ينبع دور الفرد من انتمائه لجماعته وقيمها انتماءً طوعياً جوانياً ذاتياً لا يقبل طائعاً بالطغيان الذي لا يتفعل إلا بالإلزام الإكراهي الخارجي.

فعلى خلاف النسق التطبيعي، نجد في النسق التوحيدي أنّ ما يحكم الجماعات وتنشئتها وعلاقاتها فيما بينها، إنّما يعبّر عن الشرعية (وليس المشروعية غير الشرعية)، وعن مصالح  تضامنية تراحمية (وليس تنافسية صراعية)، وعن تكامل المصالح (وليس توازنها بالضرورة)؛ وحيث القيم والأحكام الشرعية والأعراف التراحمية (وليس المصالح الصراعية) تحكم الحياة العامة.  وإذ تضحى المصالح الفردية مصالح فردية مشتركة مرتبطة بالجماعات التراحمية، تتعدّد انتماءات الفرد إلى الجماعات في النسق التوحيدي؛ ويتكرّس للأسرة باعتبارها الجماعة التراحمية الأم، دورَها في احتضان قيم الجماعة والتنشئة عليها؛ وتتعدّد الجماعات التراحمية وتتشابك وتتداخل أفقياً ورأسياً على امتداد الشرائح الاجتماعية والاقتصادية في الأمة المجتمعية؛ ولتحول بذلك دون فرز الأمة إلى جماعات وطبقات متنافرة أو متصارعة، ومنعزلة عن بعضها البعض، أو إلى مؤسسات تعاقدية صراعية مُتفلِّتة من الانتماء إلى الأمة ومن الالتزام بمصالحها العامة.. فتكون الجماعات التراحمية وتعددها بكل ذلك، عاملاً في وحدة الأمة لا تفككها، ويرتبط دورها كجماعات بالحياة الجماعية والدينية والثقافية وتكويناتها المختلفة، وليس بالحياة المهنية أو السياسية وحسب، وتكون هذه التعددية التراحمية ذاتها عامل تعزيز لهوية الجماعات الفرعية ودورها في إطار الانتماء المشترك لهوية الأمة كإطار جامع تتكامل الجماعات فيها.

ومن هنا كان عقم محاولات تطويع المدركات الجماعية للأمة (العربية والإسلامية)، للتطبيق النظامي للمدركات الغربية حول “الحرية”. فالمدركات الجماعية للأمة، تسعى إلى تكامل سعي الأفراد والأجزاء في الجماعة عبر انتظامها تراحمياً بعقيدتها وحولها؛ فتتعزّز بذلك، من جهة، مقدرة الأفراد على الحرية بـِ”التواصي” و”الشورى” على قاعدة من “الصدق” في القول والمعرفة، في إطار الولاء للأمة. وتتعزز بذلك، من جهة أخرى، مقدرة “الأمة الوسط” على حمل الأمانة، حملاً لا يقوم على الازدواجية بين ما هو “مشروع” بالممارسة تجاه الأضعف قوةً، أو ما هو “مشروع” اتباعاً للهوى، وبين ما هو شرعيةٌ نظريةٌ أو مجردةٌ أو أخلاقيةٌ. فحمل الأمانة يكون بالحرية الشرعية، ولا يكون بحرية مشروعة غير شرعية. غير أن شرعية الحرية قد لا تتحقق وإن تحقق العلم بما هو “حقٌ: شرعيّ”: ﴿فما اختلفوا إلاّ من بعد ما جاءهم العلم، بَغْياً بينهم﴾ (الجاثية: 16). وهو بغيٌ يمهِّد له من يرى من الناسِ أنّه مستغنٍ بنفسِهِ عن الحق وأصحابه: ﴿كلاّ إنّ الاِنسان ليطغى. أن رءاهُ استغْنَى﴾ (العلق: 6-7). ولابدّ حينئذٍ من الانتصار للحرية الشرعية: ﴿والذين إذا أصابهم البغي هم ينتصرون﴾ (الشورى: 36). وهو انتصار لها بالحق وفقاً لما تقود إليه الشورى بين “الرعاة: المسؤولين” القائمين على “رعاية” المصالح المختلفة في الجماعة: ﴿وأمرهم شورى بينهم﴾. ويأتي ما يُروى عن خليفة رسول الله أبي بكر الصديق ليؤكد توازن الحكم بالحق عبر تكامل أدوار المسؤولية تكاملاً يقوم به كل ذي مسؤوليةٍ وأمانة بدوره في الرعاية: فيروى عنه، رضي الله عنه، قوله[63]:

“فإني قد وُلِّيتُ عليكم ولست بخيركم ولستُ بخيِّكم، فإن أحسنتُ فأعينوني، وإن أسأتُ فقوِّموني. الصدق أمانة، والكذب خيانة، والضعيف فيكم قوي عندي حتى آخذ منه الحق إن شاء الله، لا يدع قومٌ الجهاد في سبيل الله إلاّ ضربهم الله بالذل، ولا يشيع قومٌ قط الفاحشة إلاّ عمّهم الله بالبلاء، أطيعوني ما أطعتُ الله ورسوله، فإذا عصيتُ الله ورسوله فلا طاعة لي عليكم”.

فالمنظومة الإسلامية تنبع من الولاء للشرع، بما ينشأ عنه من تكامل بين الأدوار تكاملاً يقوم على التخصص، سواء على صعيد التشريع من قبل أهل العلم والنظر، أم على صعيد قضاء القضاة، أم على صعيد إقامة “الأمر” في ظل صعيد عبر شورى “أهل الشورى” المعنيين بذلك الصعيد: تكاملاً بين الأصعدة وبين الأدوار لا يملك أي منها الاستغناء بدوره أو صعيده دون الأدوار والأصعدة الأخرى. وتتضافر قيم “الطاعة” و”التزكية”، و”التوبة” وما ينبثق عن هذا التضافر من أنظمة ويتكرّس به من تقاليد، في إطار “الصدق” و”التواصي” و”الشورى”. فيكون التكامل بين أصعدة حمل الأمانة، والتضافر بين أدوار دعاتها ومسؤوليها، أساساً محقِّقاً لوحدة قواعد التعامل داخلياً وخارجياً؛ أي أن “الحرية” في المنظومة التوحيدية، هي حرية شرعية تكاد لا تعرِف التوازن بين القوى إلاّ في إطار المشروعية الشرعية. وهي في ذلك على الضدِّ من المنظومة التي تتحدد به المشروعية بتوازن القوى داخلياً، والتي إن تحقق لها ذلك، فلا عاصم من طغيانها خارجياً إلاّ بقوّة تُوَازِنها أو ترجَحَ قوتها المادية.

إنّ تشوّف النفس المؤمنة إلى “التمكين”، هو استجابة لداعِ حمل الأمانة؛ وهي استجابة يسوسُها القِسط والحق في نسق القيم الفردية للجماعة؛ وتحكمها قيمة التوحيد (“الحق الصمد”) كقيمة عليا فيها: ﴿إنّ الذي فرضَ عليك القرءان لرادُّكَ إلى معاد﴾ (القصص: 85)؛ ﴿له الحكم وإليه ترجعون﴾ (القصص: 88)، وإنّ الذي فرض القرآن ﴿للذين ءامنوا هدى وشفاءً﴾[64]، يعصِمُ “النفسَ المؤمنة” من أن تنغلق على ذاتها في قفصِ “عالم ما بعد الحداثة” الضيِّق المُتَشَظِّي، حيث النفسُ “مُغْتَرِبَةً ببعدها الطبيعي الوحيد، الذي لا يتشوّف إلى الحرية فضلاً عن حملِ أمانتها. فالتشوُّف التوحيدي إلى الحرية، يعصِم النفس المؤمنة من الطغيان والتألّه: ﴿كلاّ إنّ الانسانَ لَيَطغى. أن رءاه اسْتَغْنَى. إنّ إلى ربِّك الرُّجْعَى﴾ (العلق: 6-8)؛ سواء طغيان التألّه والعلو أم طغيان التعصّب والإفساد. فالنفس “المطمئنّة” بإيمانها وتوكلها، لا ترتضي بالحرية تفرداً دون الآخرين بأمر الجماعة أو الناس؛ ﴿كدأبِ ءالِ فرعون، والذين من قبلِهم﴾ (ءال عمران: 11)، والذين من بعدهم (كالزعيم الأعلى والدوتشي والفوهرر): ﴿قال فرعون ما أريكم إلاّ ما أرى﴾ (غافر: 29).

 كما أنها لا ترتضي بالتمكين انضواءً في عَصَبِيَّةِ جماعةٍ متعاليةٍ: سواءً كانت العصبية عصبية عنصرية لجماعةٍ قَبَلِيّة أو عرقيّة؛ أم عصبيةٍ اجتماعية لديكتاتورية طبقية؛ أم عصبية لقداسة تقاليد وتاريخ نحلةٍ دينية؛ أم عصبية لجماعة وظيفية[65] ترى قداستها في واقع هيمنتها العسكرية أو السياسية (سطوةً وطغياناً)، أو الدينيّة (كهنوتاً)، أو المالية (مراباةً وتفرداً بتحريك الأموال وجني فاحش الربح).

بل إنّ “النفس المطمئنة” لا ترتضي التعالي انضواءً في جماعة “المؤمنين” يفترض أفرادها أن القداسة و”الاختيار الإلهي” قد وقعت عليهم عندما حلّ فيهم “إيمانهم”؛ إذ أنّ “النفس المطمئنة” تتشوّف إلى “التمكين” استجابةً لداعِ حمل الأمانة، والقيام بمسؤوليتها: ﴿واتّبِع سبيل من اَناب إليَّ﴾ (لقمان: 14)؛ ﴿ومن يبخلْ فإنّما يَبْخَلُ عن نفسِه، والله الغنيّ، وأنتم الفقراء﴾ (محمد: 39). “النفس المطمئنة” لا ترى في حملِ الأمانة احتكاراً لفضل، أو علواً على أحد: ﴿يمنون عليك أن اَسلَموا، قُل لاّ تَمُنُّوا عليَّ إسلامكم، بلِ اللهُ يَمُنُّ عليكُم أن هداكُم للاِيمان إن كنتم صادقين﴾ (الحجرات: 17)؛ كما أنها لا تجعل من تشوُّفِها للتمكين مسوِّغا لادِّعاء تمام الهداية: ﴿فربكم أعلمُ بمن هو أهدى سبيلاً﴾ (الاِسراء: 84)؛ أو مسوِّغاً لتمجيد الجماعة: ﴿اَلم ترَ إلى الذين يُزكون أنفسهم، بل الله يُزكِّي من يشاء﴾ (النساء: 48). فتمجيد الذات، أو ادعاء تمام الهداية، أو المَنّ بالإسلام، هو بمثابة التولِّي عن”حمل الأمانة”، “جهلا”ً بمتطلبات حملها، و”ظلماً” للذات يَتَقَوَّضُ به واقع الحرية في الأمة[66]، وتؤول به الحرية لغيرها ممن هو أكثر مقدرةً على التحرر: ﴿وإن تَتَوَلَّوْا يستبدِلْ قوماً غيركم ثم لا يكونُوا أمثالكُم﴾ (محمد: 39).

قيمة “الكرامة”: بدورها تؤكد قيمة “الكرامة” كقيمة وصفية في النسق التوحيدي، على تساوي الناس في إنسانيتهم. فـ”الكرامة” العائدة إلى الصفة الإنسانية “المجاوزة” تجعل الناس سواسية من حيث كرامة إنسانيتهم: ﴿إذ قال ربُّكَ للملائكةِ إنِّي خالقٌ بشراً من طين. فإذا سَوَّيْتُهُ ونفختُ فيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُوا له ساجدين﴾ (ص: 70-71). وهي “كرامة” تجعل الناس متميزين بإنسانيتهم عن أشياء العالم الطبيعي الأخرى، فالإنسان وحده هو “الفاعل الصانع المُغَيِّر المُطوِّر” في علاقاته بعناصر الوجود[67]: ﴿ألم ترَ أن الله سخّر لكم ما في الاَرض﴾ (الحج: 63)؛ فالإنسان ليس موضعاً للتشييء وإهدار إنسانيته “المجاوِزَة” وكأنه عنصر من عناصر الوجود المادي الطبيعي: ﴿ولقد كرّمنا بني ءادم وحملناهم في البرِّ والبحر ورزقناهم من الطيِّبات وفضّلناهم على كثير مِمَّن خلقنا تفضيلاً﴾ (الاِسراء: 70). فـَ”الكرامة” كقيمة وصفية تصف العلاقات الفردية في إطار الجماعة، تعني أنّ “المساواة بين الناس، كل الناس، في المجتمع قواعدَ عامة ومجرّدة سابقة على نشأة تلك العلاقات[68]“. وهو ما يقتضي التسويَّة بين الناس في الحقوق المدنية والمسؤولية والجزاء، وفي تكافؤ الفرص في حق التعلّم وحق التملّك وحق العمل وحماية الانتفاع بهذه الحقوق.

غير أنّ ما يترتب على قيمة “الكرامة” من “مساواة” في الحقوق، لا تعني “المِثْلِيَّة” وجعل “المساواة” بين الناس “تسوية” فيما ينشأ عن العلاقات التي يحكمها مبدأ “المساواة”: حكماً مجرداً سابقاً على نشأة تلك العلاقات. فما يتميز به الناس في العلم أو الفكر أو الرزق أو غير ذلك مما يتميز به عمل الإنسان وما يُظهره من مقدرة ذاتية فهو لا يخضع للتسوية في النسق التوحيدي؛ لأنه ينشأ في إطار علاقات المساواة. فـَ”الكرامة” الإنسانية لا تجعل المساواة تسويةً بين الناس –كما هو شأن “المساواة”، مثلاً، في المنظومة الشيوعية، في منحاها للتسوية بين الناس، فتُسوِّي بينهم في الحرمان من حق الملكية الفردية، وفي عائد الرزق والكسب الذي ينشأ عن علاقات العمل.

كما أن “المساواة” في الكرامة الإنسانية، لا تسمح في النسق التوحيدي بجعل التفاوت الفطري في الخِلقة أو المواهب أو القدرات مسوِّغاً في مطلقية هذه “الكرامة”؛ كما أنها لا تلغي خصوصية الخَلق الجنسية من حيث هي خصوصية؛ إذ للخصوصية الخلقيّة أيضاً “قيمتها” المطلقة وهويتها في إطار ثنائية الخالق/ المخلوق التي تميِّز النسق التوحيدي. فالمساواة الإنسانية بين جنسي الإنسان (الذكر والأنثى)، لا تسلب الإنسان من خصوصية الذكرية أو الأنثوية، ولا تجعل منها “تسوية بين الجنسين”، كما أنها لا تقبل إهدار هذه الخصوصية الجنسيّة في “مِثليّة[69]” جنسية.

خلاصة: عندما ننظر إلى القيمة باعتبارها هدفاً عاماً مجرّداً لا يقبل الإشباع المادي، فإننا حينها لا نتعامل وحسب مع ما ينتظم الغايات المجتمعية ويحكمها بل أيضاً مع ما يوجِّه مفردات السلوك الإنساني على الصعيد اليومي ذاته. فالحديث عن “القيم” هو حديث عن أسس الحياة الإنسانية وعمّا ينتظمها أيضاً من أنساق حضارية ونظم عامة لمجتمعاتها. وعلى أساسٍ من هذه النظرة، تناولنا “الحرية” باعتبارها قيمة سياسية فردية تنتظم الحياة السياسية والنظام العام للجماعات السياسية التي نعرفها راهنًا أممًا مجتمعية لها مؤسساتها في إطار المؤسسة الأعم؛ أي “الدولة” محكومةّ بالقيمة الجماعية التي تحتكم إليها مرجعية الجماعة السياسية؛ أي القيمة التي يتحدد بها ما تتوقعه الجماعة من أفرادها وذلك بالتوازي مع ما يتوقعه الأفراد من الجماعة من التزامات قيمية تأتي الحرية قيمةً (فرديةً) بارزة لها- وذلك إلى جانب قيم العدالة أو المساواة أو الكرامة أو التقوى أو غيرها من القيم السياسية الفردية.. وفي هذا لسياق، وفي ضوء ما سبق، يمكننا تسجيل مجموعتين من الملاحظات، تتعلق أولاهما بالنسق الحضاري التطبيعي، والأخرى بالنسق التوحيدي الإسلامي

أ. النسق التطبيعي: تبيّن لنا (أولاً) تميّز النسق الحضاري الغربي المعاصر بالتزامه بالديمقراطية كقيمة جماعية تعلى من كرامة الإنسان باعتباره المطلق المرجعي على الصعيد المعرفي الذي يحكم نسق قيمها السياسية الفردية.. فالديمقراطية بحكم هذه المرجعية تنظر إلى الإنسان باعتباره جزءاً لا يتجزأ من العالم الطبيعي المادي.. وهكذا فإن هذا النسق “التطبيعي للإنسان” لا ينطلق من معيار مرجعي تقييمي يضبط نسق قيمه السياسية الفردية.. وقد قاد هذا (ثانياً) إلى التعامل مع “الحرية” باعتبارها قيمة نظامية ولها الأولوية كذلك على غيرها من القيم الفردية وإن اقتضى هذا إضفاء طابعٍ تقييميٍ لها: ولتكون الحرية بذلك قيمة فردية عليا كما هو الشأن في النسق الليبرالي المحض الذي عرف التوحّش والتغوّل تداعياتٍ للحرية النظامية المعيارية.

وبسبب من هذا التوحّش والتغوّل عرف النسق الحضاري الغربي المعاصر (ثالثاً) ارتدادًا عن الحرية إلى المساواة كقيمة فردية عليا كما هو شأن “التجربة الاشتراكية السوفيتية” التي أضفت بدورها السِمتين التقيمية والتنظيمية معاً على المساواة ووظيفتها الوصفية، وذلك عندما أمسى إلغاء الملكية الخاصة المعيار الأداة للإلغاء المأمول للمصدر المظنون للظلم في المجتمعات “الاشتراكية اللينينية”.

ب. النسق التنزيهي: إن الأنساق الحضارية للأديان السماوية والإسلام منها بصفة خاصة، إنما تتخذ (أولاً) من “التوحيد التنزيهي” مرجعية معرفية لها. وهي بذلك تجعل “الحق” (مرفوداً بالقسط كقيمة وسيلة مساندة) قيمةً أساس تحكم الجماعة السياسية وقيمها الفردية.. ومن هنا يتسنّـى (ثانياً) للعدالة أن تتخذ مكانتها كقيمة فردية عليا في هذا النسق التنزيهي، وتمارس وظيفتها لا كقيمة إجرائية وحسب (كما شأن النسق التطبيعي) وإنما كقيمة تقييمية.. وفي هذا السياق لا تكون “الحرية” قيمة تنظيمية (كما هو شأن النسق التطبيعي)؛ كما أنها لا توسَّد وظيفة تقييم الحقوق تقيماً إجرائيا هائما مرتهنا بمؤسسة الدولة بالأساس وليس بذات الجماعة السياسية- وذلك ما لم يواجه بفعل جماعي انقلابي؛ (أي بالثورة).

وعلى خلاف ذلك فإن الحرية التنزيهية تضحى (ثالثاً) قيمة وصفية رافدة تراقب مقدرة الإنسان على حمل أمانته التكليفية، وما يهددها وبالأخص ظلما وجهلا.. وهو ما يفسر الطبيعة التشوّفية للحرية المناط تحقيقها في الأحكام التشريعية للإسلام.

وفي مواجهة المساواة كقيمة وصفية في النسق التطبيعي تأتي الكرامة (رابعاً) كقيمة وصفية أساس تقود الحرية، لتعمل على ضمان كرامة الإنسان كإنسان، وليس وحسب ضمان تحقّق المساواة المجردة بين الأفراد؛ ومن ثم تضحى المساواة التنزيهية مساواة ندّية (عبر استهدافها تحقق تكافؤ الفرص) وليس مساواة مثلية صمّاء.

وما سبق إنما يتخذ (خامساً) سياقه تنظيميا وإجرائيا عبر قيمة “التقوى” باعتبارها قيمة جماعية تتحقق إجرائيا بالانضباط الذاتي للأفراد، لا بالتطويع الخارجي الذي قد يفسح المجال للاستبداد الكامن عبر توغّل الدولة، مثلاً، أو تهميش الجماعة لحسابها.

إن كل ما سبق، إنما يقتضي إعادة النظر في نظم الحداثة “الديمقراطية” بما يُفَعِّل أنساق الحضارات التنزيهية، ولا يفتئت على قيم بعينها عبر تنصيب وظائفها لغيرها، خاصةً أنه تنصيب لا تتأتى ممارسته إلا بتعطيل وممارسة قيم أخرى لوظائف غيرها..

حينئذ يمكن لنا أن نُفَعِّل بكفاءة رساليّة فاعلة، كثيرا من مبادئ العمل السياسي: كالحق في المراقبة والمساءلة، وتداول مواقع ومهام المسؤوليات وعدم تركيز الثروات؛ ناهيك بتوظيفات أدوات العمل العام كالتمثيل النيابي والانتخاب والاقتراع والاستفتاء… حينئذ، يمكننا مواجهة الاستبداد الكامن في الأنساق الفكرية عندما يتم تبنيها على عواهنها.. وحينئذ لا ننشغل بالاستبداد الظاهر ونحن غافلين عن استبداده الخفي الكامن الأشد خطراً وفتكاً.

الهوامش


[1]. انظر حامد ربيع،  محاضرات في النظرية السياسية، ص39-55.

[2]. عصمت سيف الدولة، النظام النيابي ومشكلة الديمقراطية، ص47.

[3]. انظر: عبد الوهاب المسيري (محرر)، إشكالية التحيز، (القاهرة: المعهد العالمي للفكر الإسلامي، نقابة المهندسين المصرية، 1995)، على وجه الخصوص: فقه التحيز، ص26-29.

[4]. انظر حامد ربيع، محاضرات في النظرية السياسية، ص48-51؛ وأيضاً لحامد ربيع، تحقيق وتعليق وترجمة،  سلوك المالك في تدبير الممالك، ج 1، (القاهرة: دار الشعب، 1980)، ص42-3.

[5]. المرجع نفسه، ص49.

[6]. المرجع نفسه، ص50-51

[7]. المرجع نفسه، ص51.

[8]. المرجع نفسه، على سبيل المثال لا الحصر، انظر: “التعريف بالقيم السياسية التابعة”، ص8-15.

[9]. المرجع نفسه، ص51.

[10]. المرجع نفسه، ص53.

[11]. المرجع نفسه، ص55.

[12]. المرجع نفسه، ص47.

[13]. عصمت سيف الدولة،  النظام النيابي ومشكلة الديمقراطية، ص39

[14]. المرجع نفسه، Scruton; “Aquinas”..

[15]. المرجع نفسه، ص 38.

[16]. محاضرات في النظرية السياسية، م، س، ص52.

[17]. عصمت سيف الدولة، النظام النيابي ومشكلة الديمقراطية، ص40.

[18]. المرجع نفسه، الفصل3، خاصةً ص 46 وما بعدها؛ وانظر أيضا:

 George Sabine, A History of Political Thought, New York: Holt, Rinechart and Winston, 1964, 3rd ed., pp. 429-33, pp. 531-4, 601-4.

[19]. محاضرات في النظرية السياسية، م، س، ص 12 على وجه الخصوص.

[20]. المرجع نفسه، ص203.

[21]. المرجع نفسه، ص204.

[22]. المرجع نفسه، ص204؛ Scruton, Humanism”.

[23]. انظر: “الطبيعة الفلسفية لظاهرة القيم”، في حامد ربيع، محاضرات في النظرية السياسية، م، س، ص6-8.

[24]. انظر: المسيري، العلمانية الشاملة، ص26. وحامد ربيع، محاضرات في النظرية السياسية، م، س، ص10-17.

[25]. محاضرات في النظرية السياسية، “مبدأ المساواة والثورات الكبرى”، ص256-260.

[26]. المرجع نفسه، ص127.

[27]. المرجع نفسه، ص61-256-260.

[28]. المرجع نفسه، ص261؛ وScruton “Tocqueville”.

[29]. المرجع نفسه، ص262-3؛

Rousseau,  The Social Contract and Discourses.  tr. G. Cole. London: Dent, 1968, no. 660 in Everyman’s Library, “A Discourse on the Origin of Inequality”.

[30]. حامد ربيع،  محاضرات في النظرية السياسية، م، س، ص262.

[31]. انظر Rousseau, A Discourse on Political Economy, p.250.؛ كذلك، لاحظ الاقتباس الاستهلالي لعصمت سيف الدولة،  التمثيل النيابي، ص3.

[32]. حامد ربيع،  محاضرات في النظرية السياسية، م، س، ص263.

[33]. المرجع نفسه، ص264-5؛ عصمت سيف الدولة،  أسس الاشتراكية العربية، (القاهرة: الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1965)، ص181-261.

[34]. حامد ربيع، محاضرات في النظرية السياسية، م، س، ص104.

[35]. المرجع نفسه، ص204.

[36]. المرجع نفسه، ص11.

[37]. المرجع نفسه، ص111-2.

[38]. المرجع نفسه، ص112.

[39]. انظر Samuel H.؛ وأيضاً حامد ربيع، محاضرات في النظرية السياسية، ص36.

[40]. حامد ربيع، سلوك المالك في تدبير الممالك، ص32؛ وفي طبيعة القيم الإسلامية، انظر: عصمت سيف الدولة،  عن العروبة والإسلام، ص161 وما بعدها.

[41]. انظر جمال حمدان، إستراتيجية التحرير والاستعمار، (القاهرة: دار الشروق).

[42]. حامد ربيع، محاضرات في النظرية السياسية، م، س، ص9-10.

[43]. يُقال: وقاه المكروهَ… وحماهُ منه وحفظه أن يناله، ويكون بذلك في المكروه في الدنيا وفي المكروه في الآخره من العذاب [ويقال] اتّقى الشيء: استقبله وجعل بينه وبينه حاجزاً. تقول: اتّقى الفارس السيف بالترس. انظر: مادة “وقى”، معجم ألفاظ القرآن الكريم (مجمع اللغة العربية، القاهرة)، مجلدان، القاهرة: دار الإنسان، 1973، مجلد2، ص677-81.

[44]. سيُجنبها؛ أي سيُجَنّبَ النار.

[45]. أي القيمة الوسيلة لِقيمة “التوحيد الحق” العليا في نسق الجماعة.

[46]. انظر فقرة 2-1/3د من “الدراسة”.

[47]. محمود شلتوت، الإسلام عقيدة وشريعة، ص565-8.

[48]. انظر تفاسير القرآن الكريم المتعلقة بآية 67 من سورة الأنفال (8).

[49]. الإسلام عقيدة وشريعة، م، س، ص568.

[50]. المرجع نفسه، ص571.

[51]. انظر: حامد ربيع، سلوك المالك في تدبير الممالك، ص164؛ وعلى سبيل المثال انظر في ذلك: محمد سليم العوا، في النظام السياسي الإسلامي؛ عبد الرزاق أحمد السنهوري، فقه الخلافة وتطورها، القاهرة: الهيئة المصرية العامة  للكتاب، 1989،؛ منظور الدين أحمد، النظرية السياسية الإسلامية، ترجمة: عبد الجواد خلف وعبد المعطي قلعجي، كراتشي: جامعة الدراسات الإسلامية، (1409ﻫ/1989م)، ط1.

[52]. انظر: اللؤلؤ والمرجان فيما اتفق عليه الشيخان (جَمَعَه: محمد فؤاد عبد الباقي)، الكويت: وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، (1397ﻫ/1977م)، ” كتاب الإمارة”، حديث رقم 1199، ص478؛ كذلك انظر الحديث في صحيح مسلم، باب الإمارة، كتاب ” كلكم راعٍ…؛ وفي صحيح البخاري، كتاب العتق، باب كراهية التطاول على الرقيق.

[53]. انظر حول ذلك: عباس محمود العقاد، حقائق الإسلام وأباطيل خصومه، بيروت: دار الكتاب العربي، (1386ﻫ/1966م)، ط3، ص285 وما بعدها.

[54]. المكاتبة هي عتق العبد مقابل مال أو عمل يؤديه. انظر القاموس الفقهي (سعدي أبو حبيب)، دمشق: دار الفكر، (1402ﻫ/ 1982م)، ط1، ص316.

[55]. كلمة الشارع هي المصدر فاعل من الفعل “شَرَعَ”، فالشارع هنا هي بمعنى المُشَرِّع؛ أي مقتضى التشريع الإسلامي.

[56]. انظر على سبيل المثال: محمد الطاهر بن عاشور، أصول النظام الاجتماعي في الإسلام، تونس: الشركة التونسية للنشر، الجزائر: المؤسسة الوطنية للكتاب)، 1985، ط3، ص167-68؛ وكذلك: علي عبد الواحد وافي، حقوق الإنسان في الإسلام، القاهرة: دار نهضة مصر، 1387ﻫ/1967م، ط4، ص200-219.

[57]. انظر حامد ربيع، سلوك المالك في تدبير الممالك، ص32.

[58]. انظر فقرة 3-1/2 من “الدراسة”.

[59]. انظر: منير العكش، “المعنى الإسرائيلي لأميركا”، مجتزأ من: أميركا والإبادات الجماعية. وكان من المقرّر (في مارس 2002) أن يصدر خلال شهر عن: دار رياض نجيب الريِّس، بيروت. ولقد حصلَ “الباحث” على النص المُعَد للنشر من المؤلِّف نفسِه، والاقتباس هنا هو من ص 1، 7 من هذا النص المجتزأ.

[60]. المرجع نفسه، ص9-10.

[61]. عبد الوهاب المسيري، الجماعات الوظيفية اليهودية، القاهرة: دار الشروق، 2002، انظر على سبيل المثال: 542- 6.

[62]. رِِ في هذه المعاني الدراسة الرائدة لـ: رفيق حبيب، الأمة والدولة، القاهرة: دار الشروق، 2001، ص17-27 على وجه الخصوص.

[63]. انظر: توفيق الشاوي، فقه الشورى والاستشارة، المنصورة (مصر): دار الوفاء، (1413ﻫ/1992م)، ط2، ص440، وذلك نقلاً عن: البداية والنهاية، لابن كثير، ج5، ص248، ومن غير الإشارة إلى الناشر أو تاريخ النشر ومكانه.

[64]. انظر الآية 44 من سورة فُصِّلت (43): ﴿ولو جعلناه قرءاناً اَعجمياًّ لقالوا لولا فُصِّلت ـاياته، ءآعجميٌ وعربيٌ، قل هو للذين ءامنوا هدىً وشفاء، والذين لا يومنون في ءاذانهم وقرٌ وهو عليهم عمىً، أولئك يُنَادَون من مكانٍ بعيد﴾؛ وراجع الفقرة (2-1/2) من “الدراسة”.

[65]. انظر الدراسة الرائدة والغنيّة لعبد الوهاب المسيري والتي قدّمت هذا المفهوم الهام ثم أصّلته بما يفسر العديد من الظواهر الاجتماعية والطاغية منها، خاصة (كالظاهرة الصهيونية على وجه الخصوص): عبد الوهاب المسيري، الجماعات الوظيفية اليهودية (نموذج تفسيري جديد)، القاهرة: دار الشروق، 2002م، ط1، وبالأخص ص19-54.

[66]. لاحظ تناول السياقِ القرآني لدلالةِ “الجهل” و”الظلم” في الآية 72 من سورة الاَحزاب: ﴿إنّا عرضنا الاَمانة على السموات والاَرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها، وحَمَلَها الاِنسان، إنّه كان ظلوماً جهولاً﴾.

[67]. انظر حول هذه الفكرة: عصمت سيف الدولة، عن العروبة والإسلام، ص74-5.

[68]. عصمت سيف الدولة، عن العروبة والإسلام، ص78.

[69]. المقصود بالمثلية الجنسية هو الشذوذ الجنسي. وموقف القرآن الكريم من المثلية الجنسية يتضح من الآية 166-165، من سورة الشعراء: ﴿اَتاتون الذُكران من العالمين. وتَذَرُون ما خلقَ لكم ربُّكُم من اَزواجكم، بل اَنتم قومٌ عادُون﴾.

د. سعيد خالد الحسن

جامعة محمد الخامس السويسي/سلا

رئيس مركز خالد الحسن-الرباط

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق