بسم الله الرحمن الرحيم:

    لقد سعت قريش إلى محاربة دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم بشتى الأساليب، ومنها أسلوب الأذى النفسي والمعنوي؛ حيث اتهموه بالجنون كما قال تعالى: (وإن يكاد الذين كفروا ليزلقونك بأبصارهم لما سمعوا الذكر ويقولون إنه لمجنون) ^([1])، وقال سبحانه: ( وقالوا يا أيها الذي نزل عليه الذكر إنك لمجنون) ^([2])، بل كان بعضهم يقولون: إن الذي يأتي محمدا شيطان لا ملك، كما ورد في صحيح البخاري أن امرأة قالت للرسول صلى الله عليه وسلم مستهزئة: “إني لأرجو أن يكون شيطانك قد تركك، لم أره قربك منذ ليلتين أو ثلاثا، فأنزل الله عز وجل: (والضحى والليل إذا سجى ما ودعك ربك وما قلى) ^([3])“^([4])، واتهموه كذلك بالسحر والكذب وأنه يأتي بأساطير الأولين مصداقا لقوله تعالى: (وقال الكافرون هذا ساحر كذاب) ^([5])، وقال: (وقال الذين كفروا إن هذا إلا إفك افتراه وأعانه عليه قوم آخرون فقد جاؤوا ظلما وزورا وقالوا أساطير الأولين اكتتبها فهي تملى عليه بكرة وأصيلا) ^([6]). وقد لقيت هذه الاتهامات الباطلة صدى واسعا في مكة وخارجها؛ لكن سرعان ما تتلاشى خاصة لمن يتذوق حلاوة كلام الله تعالى، وكلام سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما يستمعون إليه، وكان من الذين تأثروا ودخل الإسلام إلى  قلوبهم الصحابي الجليل ضِماد الأزدي رضي الله عنه، الذي قدم مكة وسمع ما كانت قريش تصف به النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ من أنه شاعر أو مجنون، فأتى الرسولَ ـ صلى الله عليه وسلم ـ وعرض عليه أن يرقيه، وكان ذلك سببا في إسلامه ـ رضي الله عنه ـ فمن هو ضماد الأزدي؟ وما قصة إسلامه؟ وما هي أهم الفوائد والعظات المستفادة منها؟ 

أولا: التعريف بضماد الأزدي رضي الله عنه وقصة إسلامه:

هو: ضماد بن ثعلبة الأزدي من أزد شنوءة، ترجم له ابن عبد البر في الاستيعاب^([7])،وابن حجر في الإصابة^([8])، وذكرا له حديث قصة إسلامه مختصرة، والتي سأثبتها هنا .

قال ابن حجر:  “ووقع في الصحابة لابن حبان: ضماد الأزدي كان صديقا للنبي صلى الله عليه وسلم، كذا روايته بخط الحافظ أبي علي البكري، وكذا قال ابن منده إنه يقال فيه: ضماد وضمام”^([9]).

وقد جاءت قصة إسلامه مبسوطة في صحيح مسلم  من حديث ابن عباس رضي الله عنه قال:

“أن ضمادا قدم مكة وكان من أزد شنوءة، وكان يرقي من هذه الريح، فسمع سفهاء من أهل مكة يقولون: إن محمدا مجنون، فقال: لو أني رأيت هذا الرجل لعل الله يشفيه على يدي، قال: فلقيه، فقال: يا محمد، إني أرقي من هذه الريح ، وإن الله يشفي على يدي من شاء ، فهل لك؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : “إن الحمد لله، نحمده ونستعينه، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ،وأن محمدا عبده ورسوله، أما بعد”؛ قال: فقال: أعد علي كلماتك هؤلاء، فأعادهن عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث مرات، قال: فقال: لقد سمعت قول الكهنة، وقول السحرة ،وقول الشعراء، فما سمعت مثل كلماتك هؤلاء، ولقد بلغن ناعوس البحر^([10]). قال: فقال: “هات يدك أبايعك على الإسلام ” قال: فبايعه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :”وعلى قومك” قال: وعلى قومي، قال: فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم سرية فمروا بقومه، فقال صاحب السرية للجيش: هل أصبتم من هؤلاء شيئا؟ فقال رجل من القوم: أصبت منهم مطهرة ،فقال ردوها فإن هؤلاء قوم ضماد”^([11]).

فوائد وعظات منتقاة من قصة إسلام ضماد الأزدي رضي الله عنه:

    لا شك أن في قصة إسلام  ضماد الأزدي من الفوائد و العظات والعبر ،أذكر منها الآتي:

1-أن حملة التشويه التي تحملت قريش أعباءها  لصد دعوة النبي صلى الله عليه وسلم، لم تكن ناجحة بقدر ما كانت سببا في دخول بعضهم إلى الإسلام؛ لأن الفضول دفع بهؤلاء إلى التواصل مع النبي صلى الله عليه وسلم كما هو الشأن بالنسبة لضماد الأزدي رضي الله عنه.

2-أن الشفاء بيد الله تعالى، فهذا ضماد الأزدي رضي الله عنه نسب الشفاء لله تعالى ولم ينسبه لنفسه في قوله: “لعل الله يشفيه على يدي”. 

3-من صفات النبي صلى الله عليه وسلم التي نلمسها من خلال هذا الحدث : صفة الصبر والحلم  والأناة،وفي هذا دلالة على أن الشخصية الدعوية لابد لها من الصبر والحلم والأناة وعدم الاستعجال بتحقيق النتائج اقتداء بسيد الخلق صلى الله عليه وسلم .  

4-أهمية المقدمة التي استفتح بها الرسول صلى الله عليه وسلم كلامه؛ لأنها اشتملت على تعظيم الله وتمجيده، وصرف العبادة له سبحانه^([12])، قال شيخ الإسلام ابن تيمية بعد أن ذكر حديث ضماد الأزدي: ” لهذا استحبت ، وفعلت في مخاطبة الناس بالعلم عموما وخصوصاً : من تعليم الكتاب والسنة والفقه في ذلك . وموعظة الناس ، ومجادلتهم أن يفتتح بهذه الخطبة الشرعية النبوية.” ^([13])

5- تأثر ضماد بفصاحة الرسول صلى الله عليه وسلم، وقوة بيانه، لأن حديث الرسول صلى الله عليه وسلم انبعث من قلب ملئ إيمانا، ويقينا، وحكمة، فأصبح حديثه يصل إلى القلوب، ويجذبها إلى الإيمان^([14]).

6- سرعة إسلام ضماد الأزدي، رغم التشويه لمخطط له من طرف قريش؛ دليل على أن الدين الإسلامي دين محفوظ من الخالق جلا وعلا، وأنه دين الفطرة، والنفس إذا تجردت من الضغوط سرعان ما تتأثر .

7-في قول الرسول صلى الله عليه وسلم: “وعلى قومك” فيه دلالة على الإحسان إلى ضماد وقومه تأليفا للقلوب، فضماد سيد القوم، وإذا بايع بايع قومه^([15])، وفيه دلالة كذلك على حرص النبي صلى الله عليه وسلم على انتشار دعوته، حيث رأى في ضماد صدق إيمانه وحماسته للإسلام، وقوة اقتناعه به، فدفعه ذلك إلى أخذ البيعة منه لقومه^([16]).

8-وفي قوله صلى الله عليه وسلم “ردوها فإن هؤلاء من قوم ضماد ” دلالة على حفظ المعروف والود لأهل السابقة والفضل^([17])

    هذه جملة من الدروس والعبر  المستفادة من قصة إسلام ضماد الأزدي رضي الله عنه على سبيل الإيجاز ا لا الحصر،وقد اشتملت على العديد من القيم التربوية الرفيعة.التي ينبغي على المرء أن يحرص عليها. وأرجو أن أكون قد أفدت فيما ذكرت والله الموفق.

**********************

هوامش المقال:

([1])  سورة القلم الآية: (51).

([2])  سورة الحجر الآية: (6).

([3])  سورة الضحى الآية: (2)

([4])  أخرجه البخاري في صحيحه (3 /326) كتاب: تفسير القرآن، باب: “ما ودعك ربك وما قلى”، برقم: (4950).

([5])  سورة ص من الآية: (4).

([6])  سورة الفرقان الآيتان(4 و 5).

([7])  الاستيعاب (2/ 751).

([8])  الإصابة في تمييز الصحابة (3 /394-395).

([9])  الإصابة في تمييز الصحابة (3/ 395).

([10])  ناعوس البحر قال النووي: ضبطناه بوجهين أحدهما: ناعوس بالنون والعين، هذا هو الموجود في أكثر نسخ بلادنا، والثاني: قاموس بالقاف والميم، وهذا الثاني هو المشهور في روايات الحديث في غير صحيح مسلم والمراد به: وسط البحر  ولجته. مسلم بشرح النووي (3 /137).

([11])  أخرجه مسلم في صحيحه (1 /385-386)، كتاب الجمعة، باب: تخفيف الصلاة والخطبة ، برقم: (868).

([12])  انظر: السيرة النبوية عرض وقائع وتحليل أحداث ص:  (134).

([13])  مجموع فتاوى ابن تيمية (18 /287).

([14])  انظر: السيرة النبوية عرض وقائع وتحليل أحداث ص:  (134).

([15])  انظر: مواقف من حياة المصطفى ص: (85).

([16])  انظر: السيرة النبوية عرض وقائع وتحليل أحداث ص:  (134)

([17])  انظر: السيرة النبوية عرض وقائع وتحليل أحداث ص:  (135).

*******************

لائحة المصادر والمراجع المعتمدة:

الاستيعاب في معرفة الأصحاب. لأبي عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر. تحقيق: علي محمد البجاوي. دار الجيل بيروت. ط1/ 1412- 1992.

الإصابة في تمييز الصحابة. لأحمد بن علي بن حجر العسقلاني. دراسة وتحقيق وتعليق: عادي أحمد عبد الموجود – علي محمد معوض- قدم له: محمد عبد المنعم البري – عبد الفتاح أبو سنة- جمعة طاهر النجار. دار الكتب العلمية بيروت 2010. 

الجامع الصحيح. أبو عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري، قام بشرحه وتصحيحه وتنقيحه: محب الدين الخطيب، ورقم كتبه وأبوابه وأحاديثه: محمد فؤاد عبد الباقي، وراجعه وقام بإخراجه وأشرف على طبعه: قصي محب الدين الخطيب، المطبعة السلفية القاهرة. ط 1/ 1400هـ

السيرة النبوية (عرض وقائع وتحليل أحداث). لعلي محمد الصلابي. دار ابن الجوزي القاهرة. ط1 /1428هـ-2007م.

صحيح مسلم بشرح النووي. ليحيى بن شرف النووي. ضبط نص الصحيح ورقمت كتبه وأبوابه وأحاديثه: محمد فؤاد عبد الباقي. دار الكتب العلمية بيروت. 2017مـ..

صحيح مسلم. وفي طليعته: غاية الابتهاج لمقتفي أسانيد كتاب مسلم بن الحجاج للزبيدي.دار طيبة. الرياض. ط1/ 1427هـ-2006مـ.

مجموع فتاوي ابن تيمية. جمع وترتيب: عبد الرحمن بن محمد بن قاسم وساعده ابنه محمد. مجمع الملك فهد في المدينة المنورة تحت إشراف: وزارة الشؤون الإسلامية والأوقاف والدعوة والإرشاد السعودية. 1425هـ- 2004مـ

مواقف من حياة المصطفى (دروس وعبر). مصطفى مبارك إيدوز. دار الكتب العلمية بيروت. 2012.

*راجع المقال الباحث: عبد الفتاح مغفور