مركز الإمام أبي عمرو الداني للدراسات والبحوث القرائية المتخصصةدراسات عامة

فلسفة عوارض الأوبئة وطوارق الطواعين في الفكر الخَلْدوني ”توصيف وتوظيف”

الحمد لله المبدئ المعيد الفعَّال لما يريد، الأول الآخر الأقْرب إلى الأَناسي من حَبْل الوريد، وصلاة ربي وسلامه على خاتم رسله ذي البلاغ الأمين والوعد الأكيد الضَّمين، وعلى آله وصحبه الكرام الغُرِّ المُحَجَّلين وعلى التابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.

وبعد؛

ففي إطار الجهود الفكرية التَّمنيعية وجَرْيا على سَنَن الإسهامات الميدانيةالاحترازية التي تنهض بعبْئها الرابطة المحمدية للعلماء بالمملكة المغربية (مَأْرز العلم والمعارف المتكاملة)،من خلال وحداتها البحثيةووسائطها التجديدية،ثم استجابةً للظرفية الاِستثنائية الراهنة التي نعيشها، جرَّاء نبوغ هذا العنصر الوبائي الفتّاك وتفشّيه؛ ارتأينا – بعون من الله سبحانه – أن نقبس لجمْهرة قَرَأَة العالم دُرراً لوامع تربوية وإلماعات سلوكية هادية، أثارتْها قريحة أحد الرُّواد العِتاق المُمَيَّزين من ذوي النباهة والرعاية والشأن والاعتبار …، سياق القول ومتعلقه بحكمة الزمان وفريدة الأوان، العلامة الاِجتماعي الموفَّق النّظّار، عبد الرحمان بن محمد بن خلدون التونسي المقرئ (732 –  808 ه‍ – 1332 – 1406 م‍)، فقد كابد مِثْلَ الذي نكابد في هذا الزمان، وذلك إبَّانطاعون تسع وأربعين وسبعمائة، الذي أَوْدى بمهجة والديه (رحم الله جماعتَهم)، فنقول وبالله سبحانه نستدُّ ونتأيَّد:

إنَّه لما كانت المنازل للقرار والمأْوى،لزم لذلك دفع المضارّعن حيّزها  بالرعاية من الطَّوارق، واستدعاء المنافع بتدْميث الماعون وسائر المرافق، وتَسْييجُ الأسوار واتخاذ الأفنية والدَّارات من جملة ذلك، ثم مما يراعى في الحماية من الآفات السماوية والعوارض الذاتية؛تَطييب الهواء وتطهيره تطلُّبا للسلامة من عَوادي الأمراض، فإن الهواء إذا كان راكدا خبيثا أو مجاورا للمياه الفاسدة أو لمناقع متعفنة أو ما أشبه؛ أَسْرعَمنه العفن فتداعَتْ حبائلهبإمراض الحيوان الكائن فيه لا محالة، برهان ذلك الحس والمشاهدة، فلا يكاد سالكها يَخْلُص من حُمَّى العفن بوجه، إذ الأهوية العفنة إنما يُهَيِّئها – في مطَّرد العادة -لتعفين الأجسام واستشراء الحُمَّيات ركودُها وعدمُ تَموُّجها، فإذا تخلَّلتْها لواقح الرياح وتفشَّتْ وذهبت يَمْنة ويَسْـرة، خَفَّ أَمْر العفن وتقاصر المرض البادي للحيوان والإنسان وضعف مكْمنه، ثم إن مما يلزم مراعاته في المنازل والمقَارِّ قُرْب مرفق الماء وانْدفاقه، إذ به تطيب المراعي للسائمة والضـرع والنتاج،وتخصب المزارع التي هي سبب توافر الأقوات،وغير ذلك مما تعم به البلوى في إقامة الحاجات الإنسانية وتضمين الرَّفاهَة في العيشوليونته وما إليه.

ولذلك نجد أحسن تقاسيم الأقاليم والمعمور المأْهول من مُنكشف الأرض؛ وَسَطُه (الإقليم الرابع وحافاته من الثالث والخامس)،وذلك لاِنْتصابهوَسيطاً بين طرفين متضادَّين، جنوب شديد الحَرِّ وشمال فارط القُرِّ،فكان لأجل ذلك تأثير محسوس على الإنسان في علومه وصنائعه ومبانيه وملابسه وأقواته وفواكهه وحيواناته …، بل سكان هذا المعمور من أَعْدَل البشر أجساما وألوانا وأخلاقا وأديانا، قال العلامة ابن خلدون (ت‍ 808 ه‍): (ولم نقف على خبر بعثة في الأقاليم الجنوبية ولا الشمالية، وذلك أن الأنبياء والرسل إنما يختص بهم أكمل النوع في خَلْقِهمْ وخُلُقهم، قال تعالى: ﴿ كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ ۗ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ ۚ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ﴾[ءال عمران/110]وذلك ليتم القبول لما يأتيهم به الأنبياء من عند الله سبحانه)،[المقدمة الثالثة عند ابن خلدون (في المعتدل من الأقاليم وتأثير الهواء)]،فهؤلاء أهل الأقاليم الثلاثة المعتدلة المتوسطة ظهرت فيهم النُّبوَّات والملك والدول والشـرائع والعلوم والبلدان والأمصار والمباني والفراسة والصنائع الفائقة …، قال العلامة ابن خلدون (ت‍ 808 ه‍): (وأهل هذه الأقاليم التي وقفنا على أخبارهم مثل العرب والروم وفارس وبني إسرائيل واليونان وأهل السند والهند والصين [المقدمة الثالثة عند ابن خلدون (في المعتدل من الأقاليم وتأثير الهواء)]، وذلك كله من أثر نقاوة الهواء ولطفه على الأمزجة والأخلاق، فليتأمل.

ثم أجعل دِرّة النّتاج وقلادة العِقْيان قَالةً خلدونية مرجَّبة مُشعَّة، كأنما قيلت – بمرأى ومسمع – لما نكابده في هذه الأيام العصيبة جرَّاء (الكوفيد 19) الذي يسببه عنصـر الكُورونا،وأن تفشِّيَه واستشـراءَه سنة كونية حتميةتذر برأسها متى تهيَّأ الظرف لها واستوسق الكوْن، قال: وأما كثرة الموَتان فلها أسباب مِنْ … وقوع الوباء، وسببه في الغالب فساد الهواء بكثرة العمران لكثرة ما يخالطه من العفن والرطوبات الفاسدة، وإذا فسد الهواء -وهو غذاء الروح الحيواني وملابسه دائما – فيسري الفساد إلى مزاجه، فإن كان الفساد قويا وقع المرض في الرئة، وهذه هي الطواعين، وأمراضها مخصوصة بالرئة، وإن كان الفساد دون القوي والكثير فيكثر العفن ويتضاعف، فتكثر الحُمَّيات في الأمزجة وتَمْرَض الأبدان وتَهْلِك، وسبب كثرة العفن والرطوبات الفاسدة في هذا كله كثرة العمران ووفُوره … ولهذا تَبيَّن … من الحكمة أن تخلُّل الخَلاَء والقَفْر بين العمران ضروريّ، ليكون تموُّج الهواء يذهب بما يحصل في الهواء من الفساد والعفن بمخالطة الحيوانات ويأتي بالهواء الصحيح، ولهذا فإن الموتان يكون في المدن الموفورة العمران أكثر من غيرها بكثير[كتاب العبر وديوان المبتدإ والخبر (الفصل الحادي والخمسون)].

ثم زاد رحمه الله مفيدا: (إن الأهوية في الأمصار تفسد بمخالطة الأبخرة العفنة  من كثرة الفضلات، والأهوية منشطة للأرواح ومقوية بنشاطها لأَثر الحارِّ الغريزيّ في الهضْم، ثم الرياضة مفقودة لأهل الأمصار، إذ هم – في الغالب – وادعون ساكنون، لا تأخذ منهم الرياضة شيئا، ولا تؤثر فيهم أثرا، فكان وقوع الأمراض كثيرا في المدن والأمصار، … وأما أهل البدو، فمأكولهم قليل في الغالب، … ثم إنّ الرياضة موجودة فيهم من كثرة الحركة في ركض الخيل أو الصيد أو طلب الحاجات أو مهنة أنفسهم …؛ فيحسن بذلك كله الهضم ويجود ويُفقَد إدخال الطعام على الطعام، فتكون أمزجتهم أصلح وأبعد عن الأمراض [كتاب العبر وديوان المبتدإ والخبر، الفصل التاسع والعشرون] ﴿ سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلُ ۖ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا﴾[سورة الفتح /23].

ثم الصلاة والسلام المجدّدان المردّدان على رسول الأمَّة ونبيّ الرّحمة وعلى آله وعِتْرته الطيّبين الطاهرين.

د.مولاي مصطفى بوهلال

    • باحث بمركز الإمام أبي عمرو الداني للدراسات والبحوث القرائية المتخصصة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق