مركز الإمام أبي عمرو الداني للدراسات والبحوث القرائية المتخصصةدراسات عامة

تأصيل الاستمناح لرفع الحرج والجناح

سنة الله في كونه المراوحة بين محبوب النفس ومكروهها، فلا يجري نظامه على سنن مطرد، ولا يستقيم أمره على نهج منفرد، لتختلف جهات التكليف؛ من عسر ويسـر، وحزن وفرح، وسقم وصحة،  فتستجلى بذلك مواقف الأناسي، ويستبان حال الدعي عن الأصيل.

 و لئن كانت جل تصاريف الأحوال على ما ترضاه الأنفس، فإن الذي يخبر المضمرات، و تستخرج به المكنونات، إنما هي المكاره والأهوال المدلهمات، فهي التي تسفر عن الحقائق المخفيات، فعندما يهرع أنقياء النفوس حال الشدة والبأساء إلى المؤازرة والمساندة، ومد يد العون لإسعاف من عضهم الدهر بنابه، نلفي  فئاما  يدعون العوز و الحاجة تصنعا، وما لهم فيها من خلاق تحققا، يوهِمون ويموِّهون، ويتظاهرون بغير ما يخفون، هم إلى الافتئات أقرب، وصنيعهم إلى التزيد والتخرص أصوب، ولو تغلبوا على أمالي النزوات لسُجِّل لهم تاريخ أمجد، كذاك الذي دونته كتب السير والتاريخ عن موقف عمر رضي الله عنه وأهل اليسار معه عام الرمادة، وذاك في السنة الثامنة عشرة من الهجرة، ذكر ابن كثير وغيره ممن أورد القصة من أصحاب التراجم والسير قال: “قال ابن اسحاق وأبو معشـر: كان في هذه السنة-أي الثامنة عشرة- طاعون عمواس وعام الرمادة، فتفاني فيهما الناس، قلت: كان في عام الرمادة جدب عم أرض الحجاز وجاع الناس جوعا شديدا… وسميت عام الرمادة لأن الأرض اسودت من قلة المطر حتى عاد لونها شبيها بالرماد، وقيل: لأنها تُسفى الريح ترابا كالرماد، ويمكن أن تكون سميت لكل منها، والله أعلم.

 وقد أجدبت الناس في هذا السنة بأرض الحجاز، وجفلت[1] الأحياءُ إلى المدينة، ولم يبق عند أحد منهم زاد، فلجأوا إلى أمير المومنين، فأنفق فيهم من حواصل بيت المال مما فيه من الأطعمة والأموال حتى أنفده، وألزم نفسه أن لا يأكل سمنا ولا سمينا حتى يُكشف ما بالناس، فكان في زمن الخصب يُبثُّ له الخبز باللبن والسمن، ثم كان عام الرمادة يبث له بالزيت والخل، وكان يستمرئ الزيت، وكان لا يشبع مع ذلك، فاسود لونُ عمر رضي الله عنه وتغير جسمه حتى كاد يخشى عليه من الضعف، واستمر هذا الحال في الناس تسعةَ أشهر، ثم تحول الحالُ إلى الخصب والدعة، وانشمر[2] الناس عن المدينة إلى أماكنهم … وقد روينا أن عمر عسَّ المدينة ذات ليلة عام الرمادة، فلم يجد أحدا يضحك، ولا يتحدث الناس في منازلهم على العادة، ولم ير سائلا يسأل، فسأل عن سبب ذلك، فقيل له: يا أمير المؤمنين، إن السُّؤال سألوا فلم يُعطَوا، فقطعوا السؤال، والناس في هم وضيق، فهم لا يتحدثون ولا يضحكون، فكتب عمر إلى أبي موسى بالبصرة أن يا غوثاه لأمة محمد، وكتب إلى عمرو بن العاص بمصر أن ياغوثاه لأمة محمد، فبعث إليه كل واحد منهما بقافلة عظيمة تحمل البُرَّ وسائر الأطعمات، ووصلت مِيرة عمرو في البحر إلى جدة، ومن جدة إلى مكة.”

عقب ابن كثير على هذه الواقعة بقوله: ” وهذا الأثر جيد الإسناد، لكن ذكرُ عمرِو بن العاص في عام الرمادة مشكل، فإن مصر لم تكن فتحت في سنة ثماني عشرة، فإما أن يكون عام الرمادة بعد سنة ثماني عشرة، أو يكون ذكر عمرو بن العاص في عام الرمادة وهم، والله أعلم.[3]

وهذا من ثمرة ضبط التواريخ، فمعلوم من المصادر أن مصر فتحت على يد عمرو بن العاص سنة 21ه، وهو ما لا يستقيم و هذا الخبر، ويمكن أن نضيفُ من الاحتمالات الموجهة لصدق الواقعة؛ أن يكون استمداد عمرُ عمرَو بن العاص وهو بمَصـر آخر، أي: قطر آخر، لكنه يحتاج إلى قيد معين رافع للبس.

ومهما يكن من شيء، فالقصد ههنا التدليل على تقعيد هذا المسلك التضامني بين شرائح المجتمع، مساندة للمتضـررين في مصدر رزقهم، وإسعافا للمتأثرين بالجوائح والنوازل الكارثية، إغاثة للملهوف، ونجدة للمكسور، ومساندة لمهيض الجناح المأسور.

وهو عمل أشاد به نبينا صلى الله عليه وسلم، وحث عليه صحبه، وشرَّف أهله المبادرين إليه بانتمائهم إليه وانتمائه إليهم، وكفى به شرفا وفخرا، روى الشيخان عن أبي موسى الأشعري قال: قال النبي صلى الله عليه و سلم “إنَّ الأَشعرِيِّينَ إذَا أرْملُوا[4] في الغزوِ أوْ قلَّ طعامُ عِيالهم بالمدينةِ جمَعُوا ما كانَ عندَهمْ في ثوبٍ واحدٍ ثمَّ اقْتَسموهُ بينهمْ في إناءٍ واحدٍ بالسَّوِيَّةِ، فهمْ منِّي وأَنَا منهمْ.”[5]

وهذا منزلة إحسانية عظيمة، تجود فيها نفس الموسر بمشاركة المقتر ما عنده، كما كان يُجمع كلُّ متاع السُّفر في نطع واحدة، فيقتسم بين الحاضرين على السواء، ودونها مرتبة الجود بجزء من الموجود، ولو كان نزرا يسيراً، وقد قال الشاعر قديما:

ليس العطاء من الفضول سماحة       حتى تجود وما لديـــك قليل

وعلى سنة جده المصطفى صلى الله عليه وسلم يسير مولانا المنصور بالله محمد السادس وطد  الله أمره وسلطانه، موجها تعليماته لاستحداث صندوق عام لتدبير وتغطية مصاريف هذه الجائحة العالمية التي أرقت أعين العالمين، مستنهضا همم الجماء للتضامن رتقا لصدوع ما انكسر، وجبرا لخواطر من تألم وانحسر، نسأل الله تعالى أن يكشف مغبة هذا الوباء، وأن يرفع عن الإنسانية جمعاء الأدواء واللأواء، وأن يعيد علينا سابغ ما عودنا من الآلاء و النعماء.

وكتب الفقير إلى عفوه وغفرانه: الباحث بمركز أبي عمرو الداني عبد الجليل الحوريشي.  


[1] أي أسرع الناس إلى المدينة وتجمعوا بها، من قولهم: جَفَلَتِ الرِّيحُ السَّحابَ : أي ضَرَبَتْه واستَخَفَّتْه وأسرعَتْ به، و جَفَلَ البَحْرُ السَّمَكَ : أَلْقاه علَى الساحِلِ، ومنه حديثُ ابنِ عبّاسٍ رضي اللّه عنهما : ” أنّ رجُلاً قال له : آتِى البَحْرَ فأجِدُه قد جَفَلَ سَمكاً كثيراً فقال: كلْ ما لم تَرَ شَيئاً طافِياً ” تاج العروس، مادة: “ج-ف-ل”

[2] يقال شمَر يشمُر شمْرا، وشمَّر تشميرا، وانشمر و تشمّر؛ مرَّ جادا، قال في التاج: ومُشَمِّر كمُحدثٍ أي ماضٍ في الأمورِ والحوائجِ مُجربٌ، وأكثرُ ذلك في السفر وهو مَجاز. مادة: “ش-م-ر”. والمراد أن الناس انقشعت عن المدينة غير مُلويين على شيء لمحل سكناهم.   

[3] البداية والنهاية لأبي الفداء إسماعيل ابن كثير 774هـ، 7/90.

[4] فني طعامهم. من الإرمال وهو فناء الزاد وقلة الطعام، أصله من الرَّملِ، كأنهم لصقوا بالرمل من القلة.

[5] رواه البخاري في صحيحه، كتاب الشركة، باب الشركة في الطعام والنهد والعروض، رقم: 2354.

ومسلم في صحيحه، كتاب فضائل الصحابة رضي الله تعالى عنهم، باب من فضائل الأشعريين رضي الله عنهم، 2500.

د.عبد الجليل الحوريشي

  • باحث بمركز الإمام أبي عمرو الداني للدراسات والبحوث القرائية المتخصصة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق