مركز دراس بن إسماعيل لتقريب المذهب والعقيدة والسلوكدراسات محكمة

فقه العمليات في التراث الفقهي المغربي فقه الشركات ومتعلقاتها نموذجا(4)

2-2 الشركـة في تربيـة دود الحريـر

والصورة الإجمالية لهذه الشركة أن يسهم أحد الشريكين بورق التوت الذي يعلف به الدود، والآخر يسهم بعمله وهو القيام بالتربية والرعاية حتى يتم استخلاص الحرير، مع اشتراكهما في الزريعة وهي البيض الذي يخرج منه دود الحرير، فإذا تم العمل اقتسما الحرير بينهما على حسب ما اتفقا عليه من النسب([1]). وهذه الصورة هي المعنون لها في كتب النوازل بمسألة العلوفة.

وإليها أشار أبو زيد الفاسي في عملياته بقوله:

وفي العلوفة مع الزريعـة يضم عامل بها صنيعـه
وغيره زريعة وورقـة ويأخذ الربع([2]) عن ذي المنفعـة

والمستفاد من فتاوى العلماء في الموضوع أن مسألة العلوفة حسب اصطلاح النوازليين يتجاذبها وجهان:

وجه جائز: وحاصله إدراج المسألة في باب الإجارة لا الشركة، فقد سئل الفقيه الجعدالة عن الشركة الجائزة في علوفة الحرير فكان جوابه:

«إن الوجه الجائز في شركة العلوفة الذي لا ارتياب فيه هو أن يستأجر صاحب الورق من يجمع له جزءا مسمى من ورقه شائعا أو معينا، أو يعلفه له بجزء آخر منها كذلك يملكه الأجير بنفس العقد، وذلك بعد ظهور صلاحها وحلية بيعها، ثم يكونان بعد العقد بالخيار بين أن يشتركا في الزريعة ويعلفها الأجير مشتركة ويقتسماها حريرا، وبين أن يعلف حظ صاحب الورق وحده على حدة ويفعل بجزئه ما شاء من بيع أو غيره، ويتبعها أحكام الإجارة في سائر الوجوه هذا، هو الوجه الذي لا شك في حليته»([3])

وللإمام الحفار تصوير آخر للوجه الجائز في هذه المسألة يقارب ما ورد عن الفقيه الجعدالة، ويظهر ذلك من جوابه المذكور في المعيار حيث جاء فيه ما نصه:

«أقرب ما يفعل في الاشتراك في دود الحرير أن يمهل حتى يظهر الورق في شجر التوت ويحل بيعها، فإذا ظهرت جعل رب الورق حظه من الزريعة وجعل الآخر حظه منها على ما يتفقان عليه من نصف أو ثلث أو ثلثين أو غير ذلك من الأجزاء، ثم يستأجره على خدمة حظه من الورق وجميع الورق لهما وكل ما يحتاج إليه من المؤونة في ذلك بتلك الورق وكذلك ما يحتاج إليه الدود التي للمستأجر من الورق، فتكون خدمة هذا المستأجر موزعة، منها حظ في مقابلة خدمة نصيب شريكه، ومنها حظ آخر فيما يعلق به حظه من الورق، ولا شيء في ذلك إذا كان الورق قد ظهرت وعمله معلوم، فلا يبقى في ذلك شيء من الجهالة، وما يحتاج إليه لذلك الدود حين خروجها وقبل تمام خروج الورق يخدم كل أحد دوده أو يستأجره بها حتى يتم خروج الورق، وذلك أيام يسيرة، ولا يبقى في هذا الوجه إلا اجتماع البيع والشركة، والأمر فيه قريب والخطب يسير، وقد أجازها جماعة، وأما على ما يعمل سائر الناس في هذه المسألة فهو خارج عن القواعد الشرعية، فيه الاستيجار بتلك الورق قبل أن تظهر، والإجارة بشيء مجهول إن كانت الزريعة من عند أحدهما، لأنه يخدم على أن يعطاه جزء من الحرير لا يدرى هل يكون قليلا أم كثيرا، فإذا ألقى حظه من الزريعة ارتفع هذا المحظور، وإذا عقد الاستيجار بينهما بعد ظهور الورق ارتفع المحظور الآخر، هذا أقرب ما يكون في هذه المسألة للجواز، والقسمة بينهما للحرير تكون بحسب ما كانت الزريعة بينهما من النسبة»([4]).

من خلال هذين النصين يتضح أن المعاملة المذكورة لا بد لكي تكون صحيحة من انبنائها على الاستئجار أولا، لتؤول بعد ذلك إلى عقد الشركة، كما يستفاد منهما الشروط اللازمة في صحتها وهي:

– أن تكون الورق قد بدا صلاحها.

– أن يكون المتعاقدان عالمين بمقدارها بالحزر.

– أن يتفقا على أن ما يحتاجان إليه من الورق يكون عليهما معا.([5])

– أن يكون العمل معينا ومعلوما بينهما.([6])

وأما الوجه غير الجائز فهو المشار إليه في جواب الإمام الحفار، حيث يستخلص منه أن عدم جواز المعاملة آت من اشتمالها على الاجارة بشيء مجهول، لأن ما يأخذه العامل مما نتج من الحرير غير معلوم القدر، كما يرجع فساد هذه المعاملة أيضا إلى انخرام شرط من الشروط المذكورة، وفي هذا السياق نجد أبا سعيد بن لب يقرر المعنى الذي لوحظ في عدم جواز هذه المعاملة بعد بيان الوجه الجائز فيها فقال: «وما سوى هذا فإجارة مجهولة. وما ذكرتم من دخول العامل على أن يرضى بما يعطيه صاحبه طيب النفس فذلك معلوم منعه في الشرع، لأنه مخاطرة ويبقى كل واحد منهما على طمع في رجحان جهته، وربما تقع الندامة من أحدهما عند الفراغ إذا رأى بخسا في جهته.»([7])

لكن إذا تعذر التعامل في مسألة العلوفة على الوجه الجائز فإنه يصار إلى الوجه الممنوع مراعاة للضرورة، ومراعاة للقول المجيز لها خارج المذهب، قال أبو القاسم ابن سراج مقررا هذا التأصيل: «العلوفة على الوجه المذكور المسؤول عنها أجازها بعض الفقهاء، فمن عمل به على الوجه المذكور للضرورة وتعذر الوجه الآخر فيرجى أن يجوز.» ثم قال: «وأما السابعة (أي من المسائل المسؤول عنها) وهي مسألة العلوفة بورق التوت على ما جرت به عادة الناس عليه اليوم، فإن كان يجد الإنسان من يوافقه على وجه جائز مثل أن يقلب العامل الورق ويشتري نصفها مثلا من صاحبها بعمله، وما يحتاج إليه من الورق إن نفذت يشتريانها معا أو يشتريها صاحب الورق من غير شرط في أول المعاملة، وأن يشتريها وحده فيرجع نصفها له مثلا بنصف عمله، فإن وجد من يعمل هذا فلا يجوز له أن يعمل ما جرت به عادة الناس اليوم على مذهب مالك وجمهور أهل العلم، ويجوز على مذهب أحمد بن حنبل وبعض علماء السلف قياسا على القراض والمساقاة، وأما إن لم يجد الانسان من يعملها إلا على ما جرت به العادة، وترك ذلك يؤدي إلى تعطيلها ولحوق الحرج وإضاعة المال، فيجوز على مقتضى قول مالك في إجازة الأمر الكلي الحاجي»([8]).

ومما يشهد للجواز أيضا إلحاق المسألة حسب -ابن سراج– بباب المزارعة وليس الإجارة، إذ هي بهذا الاعتبار جارية على أصل شرعي معتبر، «وقد علمنا من أصل الشرع مراعاة هذه المصالح في المزارعة والقراض والمساقاة، فكذلك مسألتنا، وقد قال مالك رضي الله عنه في بعض المسائل: لا بد للناس مما يصلحهم، فظاهر هذا الكلام أنه تراعى مصلحة الناس إذا كانت تجري على أصل شرعي، وروى سحنون أنه أجاز للرجل أن يدفع ملاحته لمن يعمل فيها بجزء معلوم منها، وإن كان بعض أشياخ المذهب اعترضها لأنها إجارة بجزء مجهول (…)، وسحنون رحمه الله راعى ما تقدم من الضرورة فيها والحاجة إليها، وروى ابن رشد المنع في مسألة الملاحة إن سموها إجارة، والجواز إن سموها شركة، وقول سحنون فيها دليل على جواز مسألتنا لما تقدم من شدة الحاجة إلى ذلك»([9]).

وإذا تبين أن مسألة العلوفة أو الشركة في تربية دود الحرير فيها وجه جائز إذا استجمعت الشروط المطلوبة فيها، ووجه غير جائز متى تخلفت تلك الشروط، فإن ما أشار إليه أبو زيد سيدي عبد الرحمن الفاسي في عملياته من جريان العمل بفاس في المسألة المذكورة يتنزل على مقتضى فتوى أبي القاسم ابن سراج([10])، أي الحكم بجواز الصورة الممنوعة فيها إذا اقتضت الضرورة ذلك، وتعذر إقامتها على الوجه الجائز المستجمع للشرائط، وعليه فالعمل المذكور يستمد قوته من الأسس والمعاني الموضحة في تأصيل ابن سراج المثبت أعلاه، ويمكن تلخيصها فيما يلي:

– إدراج المسألة في باب المزارعة –وهي من الشركات– وليس الإجارة، وبه ينحل الإشكال ويحترز من الإجارة المجهولة.

– تعذر الوجه الجائز وقيام داعي الضرورة الملجئة، وهو معنى مصلحي معتبر في تصرفات الشارع وينبغي رعيه في خصوص المسألة.

– أن الأخذ بها على الوجه المذكور، فيه موافقة لمن يجيزها من علماء المذهب المخالف وهو مذهب أحمد بن حنبل.

– أن الجواز المذكور في المسألة له شاهد مذهبي بالموافقة والتأييد، وهو قول سحنون في مسألة الملاحة المشار إليها.

الهوامش:


 ([1]) قال الوزاني: «وكيفيتها على ما أخبر به بعض الناس أن يوتى بزريعته التي تباع في العطارين، وتجعل في شيء ضيق ويجعل الشيء في موضع حار ويغطى ويغفل عنه نحو أربعين يوما فتنشق الزريعة بعد هذه المدة عن دود صغير بالأجنحة ويريد أن يخرج فيغطى عليه ويجعل معه ورق التوت فيصير يأكله حتى يكبر ويعظم فيجعل بقربه أعواد فيصعد عليها ويصير يخرج منه الحرير فإذا خرج منه مات بقدرة الله تعالى إنه على كل شيء قدير.» تحفة أكياس الناس، ص 283-284.

([2]) لا مفهوم للربع هنا بل ذلك تابع لما اتفق عليه الشريكان من النسب. انظر تحفة أكياس الناس للوزاني ص 283.

([3]) المعيار، 5/36.

([4]) المعيار، 5/59.

([5]) نفسه، 5/60-61.

([6]) شرح العمل الفاسي للسجلماسي، 2/247.

([7]) المعيار، 8/192.

([8]) نفسه، 5/62.

([9]) المعيار 5/61.

([10]) انظر شرح العمل الفاسي للسجلماسي، 2/257.

د. إدريس غازي

• خريج دار الحديث الحسنية ـ الرباط.
• دكتوراه في الدراسات الإسلامية، جامعة سيدي محمد بن عبد الله ـ فاس، في موضوع: "أصل ما جرى به العمل ونماذجه من فقه الأموال عند علماء المغرب".
• دبلوم الدراسات العليا من دار الحديث الحسنية، الرباط، في موضوع: "المنهجية الأصولية والاستدلال الحجاجي في المذهب المالكي".
من أعماله:
ـ الشاطبي بين الوعي بضيق البرهان واستشراف آفاق الحجاج.
ـ في الحاجة إلى تجديد المعرفة الأصولية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق