مركز الإمام أبي عمرو الداني للدراسات والبحوث القرائية المتخصصةدراسات عامة

فرحة المقرئ الأريب بتزييل النِّسبة بين اختلافي القراء والفقهاء في تثوير كلام ربِّنا المُجيب

الحمد لله رب العالمين وبه نستعين، وصلوات ربِّنا وسلامه على رسوله الأمين، وعلى آله وصحبه والتابعين.

وبعد؛ فقد قَضتْ مشيئة الله الغالبة وجفَّ قلم التقدير الأزلي، بسبْق نافذ حُكْمه ومَضـاء فصْل قضائه، إذْ جعل طبائع الإنسان وأَوْهامه تتمايز في اكتناه مكنون عالم الاستخلاف والشهادة (في مطاويه ومثانيه)، ثم تتغاير في تقصُّص كرائم مستودَعات الكتاب العزيز وتَبريز لطائف بدائعه، تمايزاً أَمْلته دَواعي الفطرة والهداية – طينةً وخُلُقاً وجثماناً – من غير اعتبار عَوادي الفكرة والسياسة وذرائعهما، حتى يتنبَّل بمجاريها عن سائر النوع أو يتفضَّل عليه، كلاّ، بل مهما أوتي الإنسان من حيلة سَيْب المدد في التقدير، أو أُعطي من الاستيلاء على آماد البحث ومسارح النظر ومدارج التدبّر وما إليه؛ فإنَّ آلات الإدراك فيه وأصول التفكر لديه، مهما كَمُلت أو امتلأتْ أو تمَّت؛ فإنه لا يسلم في تصـرّفاته واستدلالاته وتردُّد فكره، من مغبّة اختلال البدْء والأصل أو قُصور التصور والنظر أوالحمْل وما إليه، إذ الرّعاية للكتاب العزيز من هذه الأنحاء والجوانب وتثمير ظواهره وصيْد فرائده، وكدّ القلب لاقتناص ما انطوت عليه آيه من لطيف مُفاد الأحكام الشـرعية، وبَثِّ ما تفنَّن منه من كريم الأوصاف التكليفية العملية والعقدية والخلقية …؛ تَرْجمُان أمين على الإعجاز الإلهي المنجَز في محكم تنزيله، المصدَّق بشاهد قوله جل في عليائه: [قُل لَّئِن اجْتَمَعَت الْإِنسُ وَالِجْنُّ عَلى أَن يَّأْتوا بِمِثْلِ هَذا الْقُرْآنِ لا يَأْتونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهيراً] [الإسراء/88].

وعليه؛ فحَمَلةُ الشـريعة العصماء ونَقَلَةُ تفصيلاتها على أنَّ الفتيا في دين الله – زمن الصحب الكرام – وتَحْريز دلالات النصوص الشرعية؛ لم يكن يتخلَّلُ ثَغْرها أو ينهض بأمر تصـريفها في مشاعر الناس غير حِزْب القراء منهم، وهم المهَرة بكتاب الله تعالى (حرْفاً وحدّاً)، العرّافة المتوسمون الكَفلَة بدلالاته واقتضاءاته وإشاراته وما إليه، بما تلقّوه عن النبي صلى الله عليه وسلم أو شهدوه من أحواله وسننه وتصـرفاته وما إليه، وإنما اختُصوا – من بين الناس – بذلك النعت (القراء) فصاروا أحْلاسَ القرآن وأرْحاءَ فنونه؛ لغرابته يومئذ ولغلبة سَمْت الأُمِّية واستحواذها على أحوال العرب، فلذلك انْماز منهم من عالج الكتاب وعانى هجاءه وتجرد لقراءته، وداوم على النظر فيه وممارسته حتى انسحب وصف القراءة عليه، واصطبغ به فانتصب أقعد به من غيره.[مقدمة ابن خلدون (الفصل السابع: علم الفقه وما يتبعه من الفرائض)] [المذاهب الفقهية أحمد تيمور ص 47]، وعليه؛ فإنه لما حَميَ وطيسُ الحاجِ الى أعيان هؤلاء القراء الفقهاء، وتعينت الرّجعة إليهم لتبصير الناس بحكم الله تعالى فيما يَجدُّ من صور الواقعات، أويترجَّع من عوارض الحوادث المهيمنات النازلة، التي لا نص فيها ولا نظائر متشابهات أو ما أشبه، وبقي الأمر على ذلك صدر الملّة حتى انتداح رقعة الإسلام – بعد عصر الصحابة – فتمكّن الاستنباط وتغلغل في النفوس، واستطال حبْل مدِّه وتم للفقه رونقه واستوى شبابه – زمن التابعين – وأضحى فنّا وصناعة وملكةً ناشئةً بتتابع الفعل واطّراد مَرِّه وكَرِّه؛ أَفَلَ وصف القراء وتوارى، وجرى نعتُ الفقهاء والعلماء فأُحِلّ محلّته، وسَدَّ سَدَّه بَلْ كَفل رُؤْبته وما إليه، ثم اتّبع أهلُ كل عصر فُتْيا من كان عندهم من أجلاّء الصحابة واستنباطه وحكومته وتخريجات مسائله، فكان أهل المدينة في الأغلب على فتاوى عبد الله بن عمر، وأهل الكوفة على فتاوى عبد الله بن مسعود، وأهل مكة على فتاوى عبد الله بن عباس، وأهل مصـر على فتاوى عبد الله بن عمرو بن العاص، فعلى هؤلاء الصحب الفقهاء القرّاء وغيرهم دارتْ أسانيد القراءات العشر المشهورة، وعلى منحاتهم عوَّل الرواة فَمَن بعدهم على الوِلاء آخراً بعد أوّل، فإنَّ القراءة يُبنى عليها المذهب كما يقول ابن العربي المعافري (ت‍ 543 ه‍) [أحكام القرآن 1/119]، ثم هي  حجة الفقهاء في الاستنباط كما يرى البطليوسي (ت‍ 521ه‍)، ويمكن تجريد وجْه الصلة الوثقى بين الفريقين (القراء والفقهاء) من خلال استعراض شآبيب الإجلال الدائب وسجومه، وتقصُّص سُيوب الإكبار والتوقير العاجبة التي يكنُّها الواحد للآخر ويُزجيها إليه، مع الاعتراف بمنزلة سَمِيِّه في بابه الذي تجرّد له (قراءة وفقها) فغلب عليه حتى قُصد فيه، فالقارئ كان على دراية تامة بمسائل الفقه محيطا بمُهماتها ولو لم ينْتَه إلى الغَوْر أويبلغ القَعْر في ذلك أو ما أشبه، ثم الفقيه لا تتقاصر ثقافته عن الحياطة بالقرآن وعلومه (حفظا وتأويلا)، والاستظهار لوجوه قراءاته وأنحاء أدائه ولحونه وما إليه، ولو لم يَتَناه في ذلك أو يَعْتَل الذّروة، فهذا الإمام أبو حنيفة (ت‍ 150 ه‍) يقول لحمزة المقرئ (ت‍ 156 ه‍): [شيئان غلبتنا عليهما، لسنا ننازعك فيهما؛ القرآن، والفرائض] غاية النهاية 1/263 ، وعند ابن الجزري أن أبا حنيفة فقيه العراق المعظم في الأفاق روى القراءة عرضاً عن الأعمش وعاصم وعبد الرحمان بن أبي ليلى [غاية النهاية 2/342]، وهذا إمام دار الهجرة يقول: قراءة نافع سنة …، كما إنه لمّا سئل عن الجهر بالبسملة في الصلاة فإنه قد قال: سَلوا نافعا، فكل علم يسئل عنه أهله، ونافع إمام الناس في القراءة [لطائف الإشارات 1/94]، وقال الليث بن سعد: قدمت المدينة ونافع إمام الناس في القراءة لا ينازع [لطائف الإشارات 1/94]، وقال الشافعي في نافع: فكيف برجل قرأ عليه مالك [لطائف الإشارات 1/94]، وغير ذلك كثير مما يجلّي تبجيل القوم قرّاء وفقهاءَ بعضِهم بعضا، ثم هؤلاء الفقهاء الأجلاء كانوا أصحاب مذاهب في القراءة واختيارات في الأداء، تكفَّلت دواوين الطبقات والتراجم بحفظ أكثرها عنهم، فالإمام الشافعي (ت‍ 204 ت‍) كان من أعلم الناس بالقراءات، وكان له اختيار، روى قراءة ابن كثير عن ابن قسطنطين (ت‍ 170 ه‍)، ولأجل ذلك اختار التكبير من سورة الضحى إلى آخر القرآن، اتّباعا لسنة أهل مكة المشـرفة. [النشـر 2/410]، وغير ذلك من صور الهيْبة والتوقير المتبادلة بين الصنفين من الناس.

وعليه؛ فمعالجة قضايا القراءات رواية ودراية، ثم استفراغ الوسع وبذل آخر اللبوس في اكتناه مراد الله تعالى من تحصيلات ألفاظ القرآن ودلائل أوعية وحيه وتنزيله؛ مع لحظ الأُثْرة الرّجعية على المتعبد المؤتسـي ودرْك رجْع نافع غَيثه؛ لَمِمّا يشْحذ الأذهان ويُرهف الفِكَر، ويزيد المكلّف تصديقا ورسوخا في تطلُّب أحكام الحلال والحرام والمشتبه بينهما وما إليه والتمثّلِ بها، مع ما يُذْكي فيه كلُّ ذلك من مُكْنة النقد الصحيح، ويُرْبي فيه من ناشئة عَزْم التدبير ورعْي مآل الأحوال في الحمْل والتقدير …، إذ القراءة والفقه فنَّان متلازمان أو فنَنان مُتعانقان متآزران، يعضُد أحدهما الآخر ويستبصـر ببيِّنته، بل علم القراءة القرآنية عمدة المذهب الفقهي وعلى مسائله تُخرَّج حكومات الأقضية والنوازل، وبمعاسفه تتبدَّد غواشي الحجب وتتفرَّق دواهي الغَباوة عن مطارح الشـريعة العصماء ومسارحها وما إليه؛ ف‍ (القراءة حُجَّة الفقيه) و(مَحجَّة المفسِّـر)، فالفقه معرفة أحكام الله تعالى في أفعال المكلفين، بالوجوب والحظر والندب والكراهة والإباحة، وهي متلقاة من الكتاب والسنة وما نصبه الشارع لمعرفتها من الأدلة، [المقدمة (الفصل التاسع، علم الفقه وما يتبعه من الفرائض)]، ثم القراءات إنما هي علم بكيفيات أداء كلمات القرآن الكريم واختلافها معزوا لناقله، [منجد المقرئين ص 9]، ولذلك وجدنا علماء الكلام وأصول الدين والفقه يضمِّنون كتبهم مسائل القراءات ومباحثها، رعْياً لجانب العلوم المستنبطة من القرآن العظيم أو الخادمة له، حراسةً لماهيّته ودراسةً لأنماط تلقيه وتأديته، ثم ذَبّاً عن حوزته وساحته بتتبع الوارد الثابت من أدائه وقراءاته وسائر أوضاعه، مثل الإنصاف للباقلاني (ت‍ 403 ه‍)، والمغني للقاضي عبد الجبار (ت‍ 415 ه‍)، و المعتمد لأبي الحسين البصري (ت‍ 436 ه‍)، ك‍ حكم التلفيق بين القراءتين، وحكم الصلاة بشواذ القراءة، حكم اختلاف حرفي الإمام والمأموم، حكم المفاضلة بين أوجه القراءة … كلها وغيرها مسائل اجتهادية خلافية مفتقرة إلى قواطع البراهين وسوانح الحجج الدالة، فيُلجأ في اكتناه وصفها الشرعي إلى إعمال آلة الاستنباط والاكتناه وذرائعهما، ولاضَيْر، فإن العلم فطنة ودراية آكد منه سماعا ورواية، وللدراية ضبطها ونظمها وللرواية نقلها وتعلُّمها، والفضل بيد الله يؤتيه من يشاء، والله ذو الفضل العظيم.

على أن هذه الأوصاف الفقهية المكتنزة في مدارك الأدلة الشرعية؛ قد كثر فيها الخلاف بين المجتهدين المخرِّجين، باختلاف مداركهم وتباين أنظارهم وتعدُّدها، خلافا لابد من وقوعه وطروئه … واتسع ذلك في الملة اتساعا [الفصل التاسع، الخلافيات]، ثم هو اختلاف مغاير مباينٌ للَّذي قد يُظَنُّ في اختلاف القراء، وأنهم (القرّاء) في ذلك إنما صاروا إليه من جهة الاجتهاد والقياس وإعمال الفكر في حمل الكلام على ما هو أليق بالأحدوثة وأوفق للقصة، وأن حالهم في ذلك كحال الفقهاء المجتهدين في الأحكام أو ما شابه، كلا بل الوضع متفرّق وغير متفق، قال الباقلاني (ت‍ 403 ه‍): [الأمر في القراءات يجب أن يكون أضيق من مسائل الاجتهاد، لأن مسائل الاجتهاد لا نص من النبي صلى الله عليه وسلم عليها، وما من القرآن كلمة ولا حرف إلا عليه نص] الانتصار 415، فالقراءة سنة متبعة ونقل محضٌ، ولا مجال للاجتهاد فيها بمجرد القياس، إلا أن يأتي خِفّاً مِن وَراء وَراء  [البرهان 1/322]، ثم الاجتهاد المُعتمل بالنظر والمحتفي بأدبياته الشهير ب‍ الاختيار في الوسط القرائي؛ فإنما هو نخْل واستصفاء من دائرة المروي وحيّزه، مُنبنٍ على معايير من النظر معروفة متعلقة باكتمال الأهلية وتحصيل المَلاءة بثقافة الصنعة وما إليه [البرهان 1/331، الإبانة لمكي ص 49]، قال اليزيدي (ت‍ 202 ه‍): (كان أبو عمرو قد عرف القراءات، فقرأ من كل قراءة أحسنها وبما يختار العرب، وبما بلغه من لغة النبي صلى الله عليه وسلم وجاء تصديقه في كتاب الله عز وجل) [المفردات للداني ص 113] ثم القراء عند نقلهم أوجه الأداء عن أئمتهم وجماجمهم ومعادن إفادتهم؛ فإنهم كانوا يفرّقون بين ما رواه الناقل وبين ما خرَّجه بفقهه ورآه، مع اشتهاره بالثقة والأمانة والضبط والعدالة والصيانة وتوابعها، وهو ما يَنْمي وجه إضافة كل حرف إلى أحد قراء الأمصار، في مثل قول الداني (ت‍ 444 ه‍): (إن معنى إضافة كل حرف مما أنزل الله تعالى إلى من أضيف من الصحابة كأُبيّ وعبد الله وزيد وغيرهم؛ من قبَل أنه كان أضبط له، وأكثر قراءة وإقراء به وملازمة له وميلا إليه، لا غير ذلك، وكذلك إضافة الحروف والقراءات إلى أئمة القراءة بالأمصار؛ المراد بها أن ذلك القارئ، وذلك الإمام اختار القراءة بذلك الوجه من اللغة وآثره على غيره وداوم عليه، ولزمه حتى اشتهر وعرف به وقصد فيه وأخذ عنه، فلذلك أضيف إليه دون غيره من القراء، وهذه الإضافة إضافة اختيار ودوام ولزوم، لا إضافة اختراع ورأي واجتهاد) جامع البيان 1/129، على أن كثرة الوجوه في تلاوة ألفاظ القرآن وتعدادها لا يمكن أن يحمل إلا على أن ذلك؛ خاصة عند المتأخرين دون المتقدمين، لأنهم (المتقدمين) كانوا يقرأون القراءات طريقا طريقا، فلا يقع لهم إلا القليل من الأوجه، وأما المتأخرون فقرأوها رواية رواية، بل قراءة قراءة بل أكثر، حتى صاروا يقرؤون الختمة الواحدة للسبعة أو العشرة؛ فتشعبت معهم الطرق وكثرت الأوجه. [إتحاف فضلاء البشر 1/126]

إذن؛ فلعلَّ في نبإ الذي قُصَّ وذُكر كفاية ومقنع لمن كان يرْجو تبيُّنَ معالم الفرق بين اختلاف القراء واختلاف الفقهاء في تثوير أحكام القرآن الكريم، وذلك أنه إنما تَمايَزَ اختلاف القراء من اختلاف الفقهاء، من جهة كَوْن اختلاف القراء كله حق وصواب، نزل من عند الله وهو كلامه لا شك فيه، واختلاف الفقهاء اختلاف اجتهادي، والحق في نفس الأمر فيه واحد، فكل مذهب بالنسبة إلى الآخر صواب يحتمل الخطأ، وكل قراءة بالنسبة إلى الأخرى حق وصواب في نفس الأمر، نقطع بذلك ونؤمن به [النشـر 1/52]، ولا يضير بُغْيةَ هذا الملتمس ما يُحَسّ من قول ابن مجاهد (ت‍ 324 ه‍) في السبعة : اختلف الناس في القراءة كما اختلفوا في الأحكام … ورويت الآثار بالاختلاف عن الصحابة والتابعين؛ توسعة ورحمة للمسلمين، وبعض ذلك قريب من بعض [السبعة ص 45]، ولكنه عند الاكتناه والتَّلوُّم؛ يُلْفى وقد أَلْقى وجْهُ الشبه بين الاختلافين ببعد ما بين المنزلتين واتّساع ما بين العدوتين، لانفكاك الجهتين وبُعْد ما بين الفرْقيْن، إذ إن الخلاف في أوجه القراءات غيرُ ما في اختلاف الفروع الفقهية وتباين أحكامها، لأن الأول حق في واقع الأمر ونفسه، تكْنِزه عبارته صلى الله عليه وسلم: (شاف كاف)، وأما الخلاف الفروعي؛ فحقٌّ باعتبار الاجتهاد، وفي واقع الأمر الحق ليس إلا واحدا، لعدم جواز العمل بالمقابل، قال الجعبري (ت‍ 732 ه‍): معنى قول ابن مجاهد (ت‍ 324 ه‍): اختلف الناس في القراءة كما اختلفوا في الأحكام …؛ التشبيه في التعدد لا في المأخذ [كنز المعاني 1/80 [(فصل في معرفة منشإ الخلاف)، رسالة جامعية تح شفيع]، إذ إن كلام الله تعالى واحد بالذات لا يتعدد، وإنما شرف الله القرآن على سائر الكتب المنزلة بكثرة الأحكام واتساع اللغات، [الجعبري 1/60، السبب الموجب لاختلاف القراء ص 143]، ففي الاختلاف توسعةٌ ويَسـارٌ ورحمة على الخلق السائرين، خاصة في الفروع والفتاوى والأقضية وما إليه، لأن القراءات وأوجه الأداء قد ثبت الدليل وقام البرهان على توقيفيتها واتباع ما اشتملت عليه من المعاني (علما وعملا)، فلا يحلُّ ترك موجَب إحداها لأجل الأخرى، ظنّا أن مثل ذلك تعارض أو تضاد أو ما أشبه [النشر 1/51]، ومما يزيد ما نحن فيه من تبين وجه الفرق والنسبة بين الاختلافين؛ مسألة إثبات البسملة وتركها في القراءة وشهرة الخلاف في ذلك بين القراء والفقهاء، أو اعتبار قرآنيتها وعدم اعتبار ذلك، قال ابن العربي المعافري (ت‍ 543 ه‍): (الاختلاف فيها يمنع من أن تكون آية، ويمنع من تكفير من يعدها من القرآن؛ فإن الكفر لا يكون إلا بمخالفة النص والإجماع في أبواب العقائد) [أحكام القرآن الآية الأولى، قوله تعالى: بسم الله الرحمن الرحيم]، وفائدة الخلاف في ذلك ما يتعلق بالأحكام من أن قراءة الفاتحة شرط في صحة الصلاة …، فتدخل (بسم الله الرحمن الرحيم) [الفاتحة] في الوجوب عند من يراه أو في الاستحباب كذلك [أحكام القرآن الآية الأولى، قوله تعالى: بسم الله الرحمن الرحيم]، قال ابن الجزري (ت‍ 833 ه‍): روى الحافظ أبو عمرو الداني بإسناد صحيح، وكذلك رواه أبو بكر بن مجاهد عن شيخه موسى بن إسحاق القاضي عن محمد بن إسحاق المسيبي عن أبيه، وروينا أيضا عن ابن المسيبي قال: كنا نقرأ (بسم الله الرحمن الرحيم) أول فاتحة الكتاب، وفي أول سورة البقرة وبين السورتين في العرض والصلاة، هكذا كان مذهب القراء بالمدينة، قال: وفقهاء المدينة لا يفعلون ذلك، قلت: وحكى أبو القاسم الهذلي عن مالك أنه سأل نافعا عن البسملة فقال: السنة الجهر بها، فسلم إليه وقال: كل علم يسأل عنه أهله [النشـر1/271] ومثل ذلك وجدناه عند القسطلاني إذ يقول: [ونزلت أولَها (البسملة أول الفاتحة) في بعض الأحرف السبعة، فمن قرأ بحرف نزلت فيه؛ عدَّها آية …، ومن قرأ بحرف لم تنزل معه؛ لم يعدّها، ولزمه من إجماع كونها (الفاتحة) سبع آيات؛ أن يعدّ عوضها (عليهم) الأولى … ونزلت أيضا مع أول كل سورة غير الفاتحة، في بعض الأحرف السبعة] لطائف الإشارات 1/276، فهذه إشارة نظرية طريفة ينجلي بها حقيقة كل من اختلافي القراء والفقهاء (منشأً وصورة ومآلا)، ولعل هذا الاختلاف وحدوده ينجلي ساطعا باستعراض طرف من الشواهد الأدائية والأمثلة القرائية مما له بليغ الأثر في إغناء الدلالات الشـرعية الفقهية المنفكّة عن تقلبات الألفاظ القرآنية (نحوا وصرفا وصوتا …).

وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه ومن تبع

د.مولاي مصطفى بوهلال

    • باحث بمركز الإمام أبي عمرو الداني للدراسات والبحوث القرائية المتخصصة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق