وحدة الإحياءدراسات عامة

علم كلام جديد أم تجديد لعلم الكلام.. إشكاليات وقضايا

يعد علم الكلام بعدا وفاعلا رئيسيا في المنظومة المعرفية لأي دين، ولارتباطه بالمسألة العقدية والإيمانية يعد أكثر عناصرها حساسية، ومن الطبيعي وفقا لهذه المكانة والموقعية أن يمثل التنامي أو التغييرات والتعديلات الطارئة عليه، تغيرا بنيويا في البناء الهندسي والمعرفي لأي دين، مما ينتج حساسية التحفظ على تجديد هذا العلم أو تجاوز شكله القديم، ربما أكثر من سواه من العلوم الدينية شأن الفقه وأصوله أو علوم الدين المختلفة، لاحتواء هذا العلم على المبادئ التصديقية للمعارف الأخرى، لذا يجب أن تكون الانطلاقة من القاعدة إلى القمة، حيث غلب الاهتمام في السابق على الفقه دون الكلام وتهميش الأخير لصالح الأول، منذ القرن التاسع الهجري، وهو ما يجعل بعض المتحيزين لعلم الكلام الجديد يرى أن التنمية الشاملة لعلم الكلام من الضروري أن توضع “في سلم الأولويات الفكرية والثقافية؛ لأن قضية إعادة ترتيب الأولويات بما يناسب الظروف الثقافية الراهنة، وعدم التقيد بالترتيب السابق لهذه الأولويات الذي اقتضته ظروف سابقة مختلفة، تعد واحدة من أهم ما ينبغي تحديده، للتوصل إلى نمو صحيح بدلا من التورط بحالات تورم[1].”

لم تنشط الدعوة لعلم الكلام الجديد إلا في العقدين الأخيرين، رغم أن الظهور الأول لتعبير الكلام الجديد يعود للعقد الأول من القرن المنصرم، حين طرحه العالم الهندي شبلي النعماني المتوفى سنة 1332ﻫ/نوفمبر سنة 1914م) في كتابه” علم كلام جديد” والذي ترجم للفارسية سنة 1950 بالعنوان نفسه[2]، وقد تناول شبلي النعماني -سيرا على خطى السيد أحمد خان- حيث كان أحد تلاميذ الأخير، مسائل تتعلق بحقوق الإنسان وحقوق المرأة، والإرث والحقوق العامة للشعب، بجوار مباحث الكلام التقليدية كوجود الباري والنبوة والمعاد والتأويل غيرها..

وبعد صدور هذا الكتاب صدرت في طهران عدد من الكتب والدراسات التي تركز على مسألة الكلام الجديد، منها –حسب عبد الجبار الرفاعي- كتاب جواد تارا” أربع مقالات في الفلسفة والكلام الجديد” ثم توالت جهود كل من العلامة محمد حسين الطباطبائي وتلميذه الشيخ مرتضى المطهري، الذي كان أحد أقرب المقربين للخوميني بعد الثورة حتى اغتياله سنة 1980، ورغم حرصه على طقوسيات التدين التقليدي، إلا أن معرفته الفلسفية والعقلية أتاحت له أن يسعى لتأسيس منهجية جديدة لعلم الكلام، مؤكدا أنه إذا كانت وظائف علم الكلام القديم تتمثل في وظيفتين هما: دحض الشبهات الواردة على الدين وفروعه، وبيان الأدلة على الأصول، فهذا يعني غيابه عن الشبهات المستجدة في عصرنا، فضلا عن أن الشبهات الماضية أمست بلا موضوع في هذا العصر، كما وفر التقدم العلمي الكثير من الأدلة والبراهين الجديدة التي لم يعهدها العقل سابقا، مما يوجب ضرورة إيجاد أسس منهجية نحو علم كلام جديد، وكتب مطهري تصورات أولية حول هذه الأسس، واهتم بترسيم مفهوم علم الكلام الجديد[3].

وهو ما حملته المدرسة الإيرانية الكلامية الحديثة -بالخصوص- حين صارحت بتدشينها وتأسيسها هذا التوجه الكلامي الجديد، كما توالت متزامنا معها جهود عربية وإسلامية متعددة تسعى لتجديد علم الكلام، وفق مداخل مختلفة، قد يكون مركزها التصفية وقد يكون هدفها التربية الأيديولوجية، كما وجدت مداخل أخرى لها تركز على أبعاد فكرية أو حوارية أو لغوية أو إنسانية بشكل رئيس، وهو ما يعبر عن مشهد ثقافي وفكري ديني سائد غالب الآن في إيران، يهتم في الأوساط الحوزوية والمعاهد الأكاديمية بدراسات ما يطلق عليها الكلام الجديد، وهو ما يؤكده الدكتور أحمد قراملكي بقوله: “واحدة من أبرز خصائص التفكير الديني في السنوات الأخيرة دراسته لقضايا الكلام الجديد، فكثرة البحوث والكتب التي ظهرت خلال الأعوام الماضية، حول الموضوع تشير بوضوح إلى مستوى إقبال الدارسين على هذا المجال المعرفي” فضلا عن إدراجها في المناهج الدراسية[4].

لكن مع هذا يلاحظ أن عدم البرمجة الصحيحة، وانسراب مواضيع غير كلامية وربما غير دينية إليه، أدى إلى دخول قضايا غير ذات صلة بالكلام الجديد إليه، وهو ما أفضى إلى حصول تصوّرات مضبّبة عن الهوية المعرفية للكلام الجديد، لدى قطاع عريض من الباحثين.

أولا: تجديد القديم أم جديد متجاوز

يبدو الفارق بين وصف الجهود الكلامية الحديثة في العالم العربي والإسلامي بأنها “تجديد في علم الكلام”، أو كونها “كلاما جديدا”، فرقا جوهريا ومائزا لحد بعيد بين الجهود والنقاشات التي تتم حول هذا الموضوع، فبينما يعني تجديد علم الكلام التجديد مع الحفاظ على مباني العلم القديم وموضوعاته ومناهجه من خلال مداخل تطويرية وتجديدية أو مداخل مرنة أو ضابطة لمحاولات التجديد الدائمة.

هذا بينما يعني وصف “الكلام الجديد” وصفا متجاوزا يتحدث عن علم كلام جديد يحمل فلسفة للدين مغايرة ومعرفية تختلف عن العلم القديم، في أغراضه وموضوعاته ومبانيه ومناهجه، فيتم استيعاب الأخيرة، ويتم وضع الدين في عمق جدل فكري ومعرفي لا ينطلق من مسلمات الاعتقاد حتى يثبتها أو ينفيها، ملتحم بشكل معرفي مع القضايا المعاصرة والمناهج الحديثة في الرؤية والتحليل برؤية غير إطلاقية أو حدية، تلح على مقولات الكفر والإيمان، ولكن تراعى نسبية الفهم وإن قيدتها بعدم نسبية الحقيقة.

بداية لاحظنا أن السائد في فضاء الكتابات العربية المعاصرة، حول علم الكلام (تجديدا لقديم أو تأسيسا لجديد)، هو الحديث عن تجديد علم الكلام، بينما تبدو المدرسة الإيرانية الكلامية أكثر اعتناء بالدعوة أو التجاوز نحو التأسيس لكلام جديد.

 وهو ما تعبر عنه أسماء مختلفة التوجهات والاتجاهات في هذا الخصوص، أبرزها حسن حنفي في “من العقيدة إلى الثورة”، وفق مشروعه التراث والتجديد ومنزع ظاهراتي واضح، وكذلك طه عبد الرحمن في كتابه “في أصول الحوار وتجديد علم الكلام[5]“، عبر تأكيده على المنهج المناظراتي والحواري، وأبو يعرب المرزوقي عبر مدخله عن الثورة القرآنية واللسان العربي، رغم محاولاته الشديدة والعميقة في نقد علم الكلام[6]، وحسن الشافعي في محاولته لضبط قواعد التجديد الكلامي[7] وغيرهم كثيرون[8]، وهي دعوة تتشارك فيها الإصلاحية العربية والإسلامية منذ بدايات القرن العشرين وحتى اللحظة الراهنة، وليست هناك سوى استثناءات قليلة تتحدث عن علم كلام جديد، لعل أبرزها المصري حسن حنفي والعراقي المقيم في لبنان عبد الجبار الرفاعي أحد خريجي الحوزة العلمية في قم[9]. وإن كان يمكن وضع أغلب الجهود العربية التجديدية أو الإصلاحية في خانة فلسفة الدين أو إصلاح الفقه، ورغم عمق تجربة حنفي في العقيدة والثورة، إلا أننا نرى أن تجربته في إصلاح المنظومة الكلامية، تظل مشروعا كليا كان فيه الكلام هامشا لصالح إرادوية إصلاحية ونهضوية كانت هي المتن من منظور اليساري قبل الإسلامي!

ورغم عمق هذا المشروع الذي دشنه الدكتور حسن حنفي وجسارته ومحاولته استلهام تراث لاهوت التحرير من أجل تحرير إسلامي إلا أنه ظل متلبسا بالرؤية والهدف والراهن واللاشعور والشعور دون المنهجية المحددة والضابطة لكلام جديد، كما سعى من أتوا بعده في هذا الاتجاه، ولكن تظل محاولة أستاذنا الجليل في هذا الاتجاه علامة مهمة في جهود تجديد علم الكلام المعاصر عربيا وإسلاميا.

 بينما يظل السائد في الفضاء الإسلامي غير العربي الحديث عن علم كلام جديد، كما مثلته جهود الهنديان شبلي النعماني ومحمد إقبال والإيراني آية الله طالقاني والشهيد مرتضى مطهري وعلى شريعتي، ثم توالى مع الدعوات الإصلاحية لتجديد الفكر الديني عموما وتمثله الآن مدرسة الكلام الجديد في إيران بجهود أمثال محمد مجتهد شبستري[10] وعبد الكريم سوروش[11] ومصطفى ملكيان في دعوته للمعنوية والروحية الجديدة[12]، وغيرهم أمثال ومحسن كديفر ومحمد لغنهاوزن. وربما عُدّ الرئيس محمد خاتمي واحدا منهم. ولعل من تجليات هذا التجاذب المعرفي بين تياري التقليد والتحديث ان يتخذ احيانا وضعية قانونية وشكلا من الادانة القضائية التي يستخدمها المحافظون الذين يسيطرون على المحاكم، ويتوسلون بها لعرقلة انتشار وذيوع هذه الافكار بين الناس. وتمثل ادانة الاصلاحي هاشم آغاجاري مؤخرا عيّنة على هذا التجاذب..

ونظن أن الجسارة في طرح الكلام الجديد في الفضاء الإيراني والشيعي بينما يبقى التحفظ السني والعربي قائما على هذا الطرح، هو عمق الجدل حول تجديد التفكير الديني وتصحيح العقائد وتحريرها في الفضاء الإيراني والشيعي، بدءًا من أطروحات أمثال آية الله طالقاني وعلي شريعتي وعلي الوردي في الدعوة لفصل التشيع العلوي عن التشيع الصفوي[13]، وكذلك عمق التوجهات الصوفية والإشراقية في البيئة الإيرانية والرغبة العميقة في الانفتاح على الفضاء الإسلامي الأوسع، والتحرر من الانغلاق المذهبي، بينما انشغل الفضاء السني بقضايا الحاكمية وسقوط الخلافة على مدار القرن العشرين بشكل رئيس، بل إن كثير من الجهود الشيعية العربية، وخاصة مدرسة النجف التنويرية، التي مثلتها أسماء كمحمد رضا المظفر، ومحمد باقر الصدر في العراق، ولاحقا السيد محمد حسن الأمين، والسيد محمد حسين فضل الله، والمرحوم الشيخ محمد مهدي شمس الدين وغيرهم في لبنان، التي كانت مهمومة بشكل رئيس بتجديد النمط التقليدي للتعليم الديني في الحوزة العلمية بالدرجة الاولى، وربما هو ما كان غالبا على توجهات الإصلاحية الإسلامية السنية كذلك، ممثلة في الإمام محمد عبده في مصر وتلميذه محمد رشيد رضا، والشيخ محمد الطاهر بن عاشور في تونس، والشيخ محمد راغب الطباخ في سوريا وغيرهم، كما اهتم كثير منهم بتنازعات السلطة والهوية والرد على الشبهات عبر التأسيس المتصل وليس التأسيس المستقل.

إن التباين الأساسي بين جهود تجديد التفكير الديني كما مثلته الكلامية الأصولية الجديدة، التي بدأت مع كل من رشيد رضا وحسن البنا، وبين دعوات وأطروحات علم الكلام الجديد، يكمن في الموقف من تسييس الدين وخطاب الهوية الذي حضر مع أزمة الحداثة ولا زال يلف أغلب تياراتنا الفكرية حتى اللحظة الراهنة، نظرا للتحديات البنيوية والخارجية التي تواجهها، بينما يبدو الكلام الجديد -كما يطرحه ممثلوه- تأسيسا مستقلا انطلق من وعي الضرورة والهوية ولكن لم يظل متلبسا بها، متأثرين بالخصوص بالمنتوجات الفلسفية الغربية، خاصة فيما يخص فلسفة الدين، ومتحررين من منطق الوصاية على التدين، ومن وثوقية الأيديولوجيا وإكراهاتها، تأكيدا على أن ثمة أسئلة لاهوتية جديدة في هذا العصر تستدعي إجابات عصرية وجديدة عليها[14].

وبينما كانت السياسة مركزا في اتجاهات الإصلاحية العربية، وحتى اللحظة الحاضرة لدى مختلف الاتجاهات الدينية والصحوية، كانت الإشراقية والمعنوية الجديدة Spirituality -بتعبيرات مصطفى ملكليان- مركزا في أطروحات اتجاهات الكلامية الجديدة، متحولين بعلم الكلام من قديمه وأيضا من محاولات تجديده إلى محاولات طرح كلام جديد، ولكن يبقى السؤال؛ هل هو جديد في تحققه أم يظل في مقام تعريفه فقط؟ وهل هناك هندسة معرفية جديدة لعلم الكلام تختلف عن قديمه، يمكن وصفها بعلم الكلام الجديد؟ وهل الهوية المعرفية لهذا العلم الجديد واضحة ناصعة لم تصبها ضبابية التداخل مع علوم أخرى قديمة وحديثة؟

وسواء كانت العملية تجديدا لقديم أو محاولة إنشاء لعلم جديد، فإن جلّ المهتمين بالدراسات الكلامية المعاصرة متفقون على أزمة علم الكلام في شكله التاريخي، سواء فيما يخص نزعته التجريدية الناتجة عن سيطرة المنطق الصوري عليه، أو نزعته اليقينية الناتجة عن نزوعه الدفاعي، وكذلك نزعته المذهبية التي تعضد مقولات المذهب دون سواه، وتؤسس كل منها لإسقاط الفرقة الناجية على معتقداته، كما تسقط الهلاك والفساد على ما يعتقد فيه سواها.

ولا يصح القول إن ملمح الأزمة الوحيد هو غيبة مبحث الإنسان عن المدونات الكلامية القديمة، والدعوة للتمكين له في أطروحات الكلام الجديد، وهو ما يعني كما يشير أبو يعرب المرزوقي، نزولا أو انسحابا بالثيولوجيا الإسلامية نحو الثيولوجيا المسيحية، أو من الثيولوجيا إلى الأنثروبولوجيا، حيث إن “أهم مميز بين المنظورين المسيحي والاسلامي، أن الأول يقبل التوحيد بينهما، والثاني يحظره، فمنزلة الإنسان الوجودية وكلمة الله مسألتان متمايزتان في الكلام الاسلامي، لكنهما تعتبران مسألة واحدة في الثيولوجيا المسيحية[15]“، وأظن المرزوقي هنا يسعى للفصل بين المبحث اللاهوتي والمبحث الإنساني، وهو خلاف شكلي مع أطروحات علم الكلام الجديد التي نراها تلتقي مع ما يدعو إليه المرزوقي من أهمية التجربة الفردية في الإيمان دون وصاية من المتكلمين القدماء أو الجدد، وتأكيد الرابطة بين المقدس والإنساني، حتى لا يكون الأول تكأة ومبررا دائما للاستبداد السلطاني أو الروحي.

ولكن مشكلة غياب مبحث الإنسان عن الجدل السجالي والحجاجي للمدونات الكلامية، ليست هي السبب الوحيد لصعود الكلام الجديد أو اكتشاف أزمة الكلام القديم، فهناك تحديات عديدة ومباحث متعددة، تطرحها فلسفة الدين واللحظة الآنية في تاريخ العالم الوجداني والفكري، تبرر للتوجهات الجديدة سواء تجديدا للكلام التقليدي أو إنتاجا لكلام جديد متجاوز له، فهناك أسباب عديدة أخرى منها، على سبيل المثال لا الحصر، مركزية مباحث كالإمامة والكلام في (قضية خلق القرآن)، والعلاقة بين الذات والصفات، وكذلك الفجوة التاريخية والمعرفية بين زمنية علم الكلام القديم وبين العصر الحديث، فضلا عن تاريخية الكثير من قضاياه ومباحثه، شأن تكفير مرتكب الكبيرة، أو الإمامة، والخروج، وخلق القرآن، والقدر وغيرها، وتسييس أغلب هذه القضايا وحملها على سيف الخليفة والسلطان والشاه مذهبيا وسياسيا في وجه المعارضين في كثير من الأحيان[16].

مخاضات أزمة

يقول شبلي النعماني في أول كتاب يحمل عنوان “علم الكلام الجديد” ومعلنا لأزمة الكلام التقليدي التي أجمع عليها الإصلاحيون المسلمون، شرقا وغربا، ومعلنا دعوته الخجول لإنشاء علم كلام جديد: “إن علم الكلام القديم يعنى ببحث العقائد الإسلامية؛ لأن شبهات الخصوم، كانت ترتكز على العقائد فقط، بينما يجري التأكيد اليوم على الأبعاد الأخلاقية والتاريخية والاجتماعية في الدين، وتتمحور الشبهات حول المسائل الأخلاقية والقانونية من الدين، وليس العقائد، فإن الباحثين الأوروبيين يعتبرون الدليل الأقوى على بطلان الدين هي مسائل تعدد الزوجات، والطلاق والأسرى والجهاد، وبناء على ذلك سيدور البحث في علم الكلام الجديد حول مسائل من هذا القبيل، حيث تعتبر هذه المسائل من اختصاص علم الكلام الجديد[17]“، وهو في هذا أشبه بالجدل الإسلامي مع شبهات المستشرقين، فما يدعوه كلاما جديدا ليس إلا دفع الشبهات العصرية، والتشريعية منها بالخصوص، ورغم تناول النعماني لمسائل الإيمان والغيب إلا أنه ركز على المسائل التشريعية بشكل خاص، مما يجعل وصفه، بأنه مؤسس علم الكلام الجديد، وصفا غير دقيق.

هذه الأسباب مجتمعة -وغيرها- جعلت مطلب التجديد مطلبا عاما وشاملا لا ينكره محافظ كما لا يستحي منه ناقد! فهناك إجماع بين كثير من الخطابات الإسلامية الفلسفية، حتى الصحوية والأصولية منها، على أزمة هذا العلم، كل من وجهته، وإن كان الاتجاه السلفي بالخصوص هو أكثرها شدة عليه قديما وحديثا، منتقلا بالحكم من درجة التحفظ أو التخطئة إلى التكفير والاتهام في كثير من الأحيان.

ومن خلال هذه الأزمة كانت الدعوات  لتجديد التفكير الديني وإصلاح الفهم الإسلامي، سواء في استحياء المنهج السلفي من قبل التيارات السلفية أو التأويل السياسي الذي يبدأ من الحاكمية ولا يقف عند ولاية الفقيه، أو الفصل بين العقيدة وبين علم العقيدة من قبل التيارات الدينية الدعوية، شأن جماعة التبليغ والدعوة وغيرها، وهو ما يعبر عن أزمة مبطنة في التفكير الديني الإسلامي يحاول كل اتجاه من هذه الاتجاهات الخروج منها وفق تصوره وتأويلاته، فلم تعد هناك قراءة واحدة للإسلام ككل -ليس فقط في تشكلاته الأصولية-، ولكن هناك قراءات وتأويلات متعددة يتماهى كل منها مع الحقيقة الإسلامية ومبطونها، إن بشكل نسبي أو بشكل إطلاقي وحدي.

ولعل حسن البنا، مؤسس جماعة الإخوان المسلمين، كان الأسبق وعيا بأزمة الكلام التقليدي، خاصة وأن صعود جماعته ترافق مع الحملة على القبورية -من جماعات كأنصار السنة والجمعية الشرعية في مصر- كما أتى تاليا لمقولات الإصلاحية الإسلامية ممثلة في كتابات كل من محمد عبده والسيد محمد رشيد رضا -صاحب المنار- الذين لم يخفيا دعوتهما لضرورة تجديد التفكير الديني كما لم يخفيا إعجابها بالدعوة الوهابية النجدية في الحجاز، أو حملتهما على مدونات الكلام والفقه التقليدي في الأزهر.

ومن هنا كتب بعض مفكري الجماعة شأن السيد سابق كتابه “تبسيط العقائد”، كما حاول آخرون شأن أبي الأعلى المودودي وضع فلسفة سياسية وثورية للدين، في المصطلحات الأربعة عند المودودي حين أول مفاهيم راسخة ومركزية (الدين والإله والرب والعبادة) تأويلا سياسيا وحاكميا محضا في  رسالته “المصطلحات الأربعة في القرآن” التي ألفها عام 1941 وهو عام تأسيسه الجماعة الإسلامية في الهند[18]، وكذلك في كتابه “الانقلاب الإسلامي” متجاوزا بذلك كلية للمدونات الكلامية التقليدية، وقد استلهم الأستاذ سيد قطب ما جاء فيها مؤسسا لمفهوم الحاكمية، التي اعتبرها أخص عقائد الألوهية[19]، بل إن تأويلات عديدة للعقيدة من قبل الجماعات الإسلامية والإحيائية مع اتهامات صارخة للكلام القديم، سواء في شكله الأشعري والماتريدي أو المذهبي بعموم، من قبل الجماعات السلفية بالخصوص والسلفية الجهادية أيضا التي جعلت من المسألة التوحيدية والتطهيرية- عبر الجرح والتعديل- منهجها في الإصلاح![20].

ولكن هذه الكلامية الأصولية الجديدة التي تصر على النص وترفض التأويل والعقل، ليست شأننا هنا؛ لأنها عبر احتكارها لمفهوم السلفية والفرقة الناجية ومنطق الصواب، أكثر تقليدية وتبعية للتراث القديم، ربما في كثير من جوانبها ووجوهها من الكلام القديم وكثير من ممثليه.

ما أردناه من هذا التقدمة هو التأكيد على أن التحديات هي مخاضات الجديد، وكاشفات الأزمة، وإن كان مشروع النهضة أو الإصلاحية الإسلامية -حسب تسميات مختلفة- ودعوته لتجديد التفكير الديني وإصلاحه، نتاج صدمة الحداثة ولحظة العصر التي عرفتها مصر وتونس وإيران والهند، وسائر بلدان العالم العربي والإسلامي  فإن علم الكلام الجديد -إن صحت تسميته- أو تجديده فهو ليس إلا دلالة على أزمة مستوعبة وواضحة لأزمة الكلام والتقليدي وسائر بنانا الثقافية، مما يستدعي تجديدها ولو ضربا وتحليقا غير مضبوط أو مضبوط من قبل البعض.

وسنحاول في هذا البحث الذي عنوناه “علم كلام جديد أم تجديد لعلم الكلام” مساءلة مسألة الهوية المعرفية والهندسة المعرفية لهذا العلم، من خلال استقراء موضوعاته ومسائله ومناهجه، وهل هي تتحقق تجاوزا وانفصالا عن الكلام القديم أم لا، كما سنحاول التعاطي مع الجدل السائر حول هذا المفهوم، وكذلك بين الممثلين له والمعارضين، وإن كان الأخيرون من دعاة التجديد وإن لم يكونوا من دعاة الكلام الجديد، محاولين في قراءتنا الكشف في الآن نفسه عن الفروق بين أطروحات الكلام الجديد عربيا وإيرانيا، وتفسير سياقاتها، ثم نخلص لأهم نتائج بحثنا في النهاية.

ثانيا: في الهوية المعرفية للكلام الجديد

هناك رؤية ترى أن التجديد على مستوى علم الكلام هو بتحويل الجهد الكلامي إلى مؤسسة، أو مأسسة علم الكلام[21]، ولكن المقصود بعلم الكلام الجديد وهندسته المعرفية التي تشرعن لهذا الوصف بالجديد، هو تجدد على مستويات المسائل والمبادئ والمنهج والوظائف، وهو ما أنتجت معا هندسة معرفية لعلم كلام قديم مختلف بالكلية أو بدرجة كبيرة عن سلفه، أو علم الكلام التقليدي.

يدلل أنصار علم الكلام الجديد وممثلوه -مثل حيدر حب الله وعبد الجبار الرفاعي- على هذه التغيرات والتطورات التي حدثت في البنية الكلامية، وتبيح تسمية منتوجاتها بعلم الكلام الجديد، بأن الكلام الجديد قد حمل التغيرات التالية:

  1. تجدّد المسائل: يقول حيدر حب الله: “ظهرت أفكارٌ جديدةٌ ومذاهب كلامية جديدة قد يصح لنا أن نقول إنها أكثر بكثير مما ذهب وتنحّى عن حلبة الصراع، وهذه الاتجاهات لم تستخدم نفس آليات البحث التي كان يتم الاعتماد عليها سابقاً، بل استقت لنفسها أنماط تفكيرٍ أخرى، وهذا تحوّلٌ جذري وأساسي في مساحات العمل وأفق التفكير الطارئة على علم الكلام[22].”

ويحدد حب الله موضوعات علم الكلام الجديدة في اثنين وعشرين مسألة عرض لها[23]، نختار منها ما يلي:

ـ النطاق الديني: ويقصد به حب الله التساؤلات حول محدودية الدين وامتداده، وهل هو محصور في دائرة الفرديات والأخلاقيات، أم أنه يمتد ليشمل النواحي السياسية والاقتصادية والطبية وغيرها؟ وما هي تأثيرات الجواب هنا على الفهم الديني ككل؟ وتنطرح في هذا السياق -حسب حب الله- مجموعة من النظريات، منها نظرية “انتظارات وتوقعات البشر من الدين”. كما تدرس بعمق هنا نظرية شمول الدين لكل وقائع الحياة، وشكل هذا الشمول؟ وتنطرح في هذا السياق نظرية “الحد الأعلى والحد الأدنى للدين”، أو نظرية “تكامل التجربة الدينية” التي طرحها الدكتور عبد الكريم سروش[24].

ـ اللغة الدينية: ويقصد بها التساؤلات حول طبيعة اللغة الدينية، وهل هي لغة رمزية أم لغة أسطورية؟ وهل هي واقعية أم قصصية؟ وهل ترجع القضايا الدينية إلى مضمون أم أنها بلا معنى كما يقول الوضعيون؟ وهل هي إنشائية أم إخبارية، حقيقية أم مجازية؟ وكيف يمكن تقييم التوصيفات البشرية للدين، سيما الباري سبحانه وتعالى؟[25].

ـ النزعة الدينية: ويتساءل هذا المبحث حول أسباب ظهور التدين، هل هو الخوف أم الطبقية حسب النهج الماركسي؟ وما طبيعة حاجة البشر للدين؛ هل هي حاجة فطرية؟ وما هي الفطرة؟ وهل هي أمر آخر غير البديهيات القبلية التي قررها علم المنطق، أم أنها ليست سوى هذه القبليات الواضحة عقليا؟

ـ التجربة الدينية: ويقصد بها بحث حقيقة المشاعر الدينية وعناصرها، والفرق بين التجربة الدينية والتجربة الأخلاقية والعلاقة بين التجربة الدينية والتجربة العرفانية[26]، وفي هذا القبيل يميز محمد مجتهد شبستري، مثلا، بين المعتقد الديني والتجربة الدينية. فيرى أن العقيدة الدينية كأية عقيدة أخرى حالة ذهنية. يمكن أن يكون مصدرها تجربة أصيلة. وقد يكون مصدرها التلقين والدعاية أو عوامل أخرى، ويحض بدلا من ذلك على إحياء الدين من خلال النفوذ إلى عالم التجارب الدينية، وإلى الحالة الباطنية التي تعيش من خلالها النفس البشرية؛ أي إلى الوجه الداخلي للإنسان المعاصر الذي يعيش في فضاء اللايقين واللاجدوى، ويرى في وقفة وجودية “كيركغاردية” أن على علم الكلام الجديد ان يمنح الإنسان الحديث المعنى لحياته، وأن يخرجه من متاهة القلق ولجّة الاحباط[27].

ـ عقلانية الدين: ويقصد بهذا المبحث إثبات القضايا الدينية بشكل عقلاني أو شهودي وليس غيبيا، وهنا -كما يشير حيدر حب الله- تحضر نظريات الكانطيين فيما يرتبط بالعقل العملي والإثبات الأخلاقي للدين والانفتاح على المدارس الروحية والعرفانية للأديان المختلفة[28]، وقد صدر لمصطفى ملكيان في هذا الاتجاه كتابه “التدين المعقلن”.

ـ علاقة الدين بالعلم: ويعتبر محمد مجتهد شبستري هذه المسألة أهم مسائل علم الكلام الجديد، حيث يتساءل: هل يجب وضع المفاهيم الدينية كخط أحمر ونتائج نهائية أمام العلم لا يسمح له بتجاوزها أم نمنح العلم حق الاستقلال؟ هل نحن ملزمون بالتوفيق بين النتائج العلمية لاسيما تلك المتعلقة بالظواهر الكونية والخلقة الإنسانية، ومن أبرزها نظرية داروين، ونظريات علم الاجتماع وعلم النفس، وبين المفاهيم الدينية؟ ويطرح شبستري مجموعة من الأدوات أو القوانين لتطويع المتن الديني للعلم[29].

 ومما تناقشه مباحث الكلام الجديد، أيضا، قضايا من قبيل معنى وحقيقة الدين، والجوهر والعرض في الدين، والقاسم المشترك بين الأديان، والتعددية الدينية، والدور الديني في حياة الفرد والجماعة، ومفهوم الجماعة والمجتمع الديني، والمعرفة الدينية والبشرية وحدود التفاعل بينهما، وموضع الذاتية والموضوعية في القراءة الدينية، وهل هناك إسقاطات دائمة على النص الديني، والثبات والتحول في الدين وعلاقة الدين بالأسطورة، وآفات الدين بمعنى مساوئه كالتطرف والعصبية والفوقية الدينية والشخصانية والحروب والكبت الجنسي والفكري والإرهاب بمختلف أشكاله -العنف والخشونة- وغيرها من المسائل التي يهتم بها المتكلمون الجدد[30].

  1. تجدد المبادىء: فالتراكمات المعرفية والعلمية في كل من العلوم الإنسانية والتطبيقية، وهو ما يطرح تحديات مختلفة على موضوعة الدين أو منظومته بشكل كبير، والمواكبة الكلامية لهذه التحولات العلمية العظيمة، وهذا نحو مهم من أنحاء التجدّد الحاصل، واستدعاء هذه المستجدات العلمية من قبل المتكلم المعاصر والجديد، لاشك تجعل مبادئه مختلفة عن مبادئ المتكلم القديم وزمنيته، الذي كان يتكلم من مبادئ الحجاج والدفع والانتصار -الديني أو المذهبي- في آن واحد، إن تجدد المبادئ يعني كما يقول عبد الجبار الرفاعي: “الخروج من الاهتمام بقضايا وجود البارئ وصفاته والنبوة العامة والخاصة والغيب والمعاد إلى نطاق واسع يستوعب كافة القضايا الموجودة في النصوص المقدسة، سواء منها النظرة إلى الواقع أم الناظرة إلى الأخلاق والقيم[31].”
  2. تجدّد المنهج والتوجهات: كان المنهج الغالب على علم الكلام القديم هو المنطق الصوري الأرسطي، والحجاج حول عدد من القضايا المشهورة بين الملل والنحل، وهو ما تطور مع تلاقي الكلام بالفلسفة مع أمثال نصير الدين الطوسي، وفخر الدين الرازي، تمّ على إثره حصول التزاوج بين الفلسفة والكلام بعد قرونٍ من التخاصم، أما اليوم ففضلاً عن أن الفلسفة نفسها قد خضعت لتحولاتٍ بنيويةٍ -مع الأخذ بعين الاعتبار التحولات العالمية لها- فإن العلوم الأخرى قد تعرضت هي الأخرى أيضاً لانقلاباتٍ منهجيّة، بل صار المنهج نفسه عرضةً للنقد والتحليل أيضاً. ويستخدم علم الكلام الجديد بجوار المنطق الصوري عددا من المناهج الأخرى شأن المنطق الاستقرائي والمنطق الرياضي والتجريبي والذاتي والديالكتيكي. وبينما غلبت على الكلام القديم سمة الانتصارية والتحيز المعرفي والأيديولوجي سواء في جدال وحجاج النحل داخل الملة الواحدة أو في نقد الملل الأخرى، يسعى الكلام الجديد للموضوعية مع التحيز المعرفي وليس التحيز العقدي، اتكاء على فلسفة الدين، ونسبية الفهم رغم تأكيد ممثليه على عدم نسبية الحقيقة الإيمانية بالخصوص.

ويختصر البعض من المتابعين لتطورات الكلام الجديد هذه المسألة بقوله: “إذا كان الكلام القديم أحادي المنهج فإن الكلام الجديد متعدد المناهج” ولكن لا يصح هذا القول خاصة وأن علم الكلام القديم كان متعدد المناهج ولم يكن منغلقا على منهج واحد، بل استخدم كل ما أتيح له في عصر ويدعمه في مهمته في رد الشبهات عن الأحكام التي أوردها واضع الملة.

ويلحظ أحمد قراملكي ملاحظة مهمة حيث يفرق بين المناهج والتوجهات قائلا: “من المناسب التذكير بالتمييز الذي بين المنهج والتوجّه  Method and approach فالمنهج يطلق عادة على أساليب النقد والإثبات والإبطال في مقام الحكم والتقييم، أما التوجّه فيطلق على أسلوب الباحث في جمع المعلومات واكتشاف الحقيقة، وبهذا المعنى يكتسب كل من المنهج والتوجه ظروفا منطقية متمايزة، وعلى هذا الأساس تنحصر المناهج الكلامية غالباً بمقام الدفاع (إثبات التعاليم وإبطال الآراء المعارضة)، بينما تختص التوجهات بمهمة تصحيح العقائد وعرض المعتقدات الدينية.[32]

وعن توجهات المتكلمين القدامي يقول قراملكي إنها كانت: “كتوجهات كل أرباب المعارف المتداولة آنذاك، توجهات مباشرة، بينما نادراً ما نلاحظ اليوم توجهات مباشرة” أما توجهات المتكلمين الجدد فهي تنحو -كما يقول قراملكي- نحو: استعمال وتوظيف الفروع الوسيطة Interdisciplinary في تفسير الظواهر الدينية، فالمسائل الكلامية الجديدة في فهم المتكلمين المعاصرين مسائل متعددة الأصول، والمسائل متعددة الأصول لا يمكن اصطيادها إلاّ بدراسة الفروع الوسيطة.

ورغم أن التحوّل في التوجهات من أهم التحولات الكلامية، إلاّ أن حصر التجدد فيها خطأ بيّن واقتصار مغلوط على وجه من وجوه الشيء دون هويته الكلية[33]، فقد تتعدد التوجهات داخل هذا العلم، ولكن هذا التعدد لا يعني وجود علم كلام جديد بالحقيقة أو التحقق، وليس أدل على ذلك من تعدد التوجهات الفلسفية والاجتماعية الحديثة وما بعد الحديثة، التي لا تكف عن الإنتاج والتوالد، ولكن يعني ذلك علم فلسفة أو علم اجتماع جديد.

ولعل من الواضح أن ما يطلق عليه علم الكلام الجديد يتمايز بتوجهاته الجديدة، التي تتعاطي قضايا ومناهج لم يعرفها الكلام القديم، ولكن يتماس معه في كثير من الأحيان، وإن اتسع ليمثل فلسفة دينية إسلامية ذات بعد باطني أكثر منه تأسيس مستقلا أو منفصلا عن التراث الكلامي السابق، ولا يمانع حيدر حب الله وعبد الجبار الرفاعي وأبو القاسم فنائي وصف ما نعرفه بالكلام الجديد بـ”فلسفة الدين[34]“، ولكن يؤكدان على تسميته بعلم كلام جديد، فهو أقرب لفلسفة الدين منه إلى علم الكلام الجديد، حيث تمتاز الأولى بمنهجية فلسفية في قراءة الدين، تطل على الظاهرة الدينية إطلالة محايدة، أو موضوعية، قد تنفي الإيمان وقد تثبته وفق تصورها، ولكن لا يعلن انتماءه لدين معين شأن المتكلمين القدامي والجدد، وهو ما يجعل قراملكي يقول: “إذا نجحنا في القيام بعملية فرز لهذين العلمين، فإننا لن نجد حينئذ فارقاً وجيهاً بين الكلام القديم والجديد لا في الموضوع ولا في المنهج، بل ولا في الغاية[35].”

وهو شبيه بما يتجه إليه مفكرنا العربي الكبير أبو يعرب المرزوقي في دراسته العميقة حول فلسفة الدين، الذي يرى المتكلمين الجدد فيه جاهلين بالفارق بين تحديث الإسلام وتمسيحه؛ -أي جعله مسيحيا- حيث يقول انطلاقا من مفهومه لفلسفة الدين، حيث إنه رغم تنكره لقضايا علم الكلام القديم، إلا أنه يرفض استبدالها بما يسمى بعلم الكلام الجديد قائلا: “لا نعتبره جديدا فضلا عن أن التجديد لا يقع من دون الشرطين التاليين:

الأول: هو أن عملية تجاوز الكلام الثاني للكلام الأول لا تكون بمجرد القطع والتناسي، بل لابد من بيان كيفة الانتقال ببيان أسلوب العلاج الجديد لما اعتبر الكلام القديم قد فشل في علاجه.

والثاني: أنه لابد من النقلة المفهومة من حال كان عليها الفكر إلى حال أخرى آل إليها بمقتضى ما أدرك من الحال السابقة وما اكتشف فيها من موجهات موجبة أو سالبة توصل إليها[36].”

وفي هذا ينطلق المرزوقي من موقفه المناهض لعلم الكلام -قديمه وجديده معا- حيث يرى في كليهما غيّما على الثورة القرآنية والفهم الصحيح للقرآن، قائلا: “ذلك أن جلّ قضايا علم الكلام الإسلامية يمكن إرجاع ما استعوص منها إلى تأويل الرموز القرآنية فضلا عن سوئه الناتج عن العجلة في تحليل خصائص اللسان العربي عامة والأسلوب القرآني خاصة. كما أن جلّ قضايا الكلام المسمى جديدا مصدرها سوء فهم الأمر الذي يجعل الأزمة الإسلامية الفكرية والحضارية والوجودية الحالية تمثل لأعماق الأزمة البشرية في عصرنا بحيث إن مصير العالم كله رهين علاج بؤرتي الثورة الإسلامية لصلة ذلك كله بالثورة القرآنية التي أفسد شروط فهمها الخطاب الكلامي[37]“..

  1. التمايز في الأهداف والوظائف:  يبدو الكلام الجديد -حسب ممثليه- متمايزاً عن الكلام التقليدي من حيث الأهداف، فالأهداف التي صاغ القدماء أفكارهم الكلامية لبلوغها لا تخرج عن صنفين: الدفاع عن المعتقدات الدينية؛ أي إثبات الآراء الدينية وإبطال الآراء المعارضة، أو اكتساب المعرفة بعالم الوجود عن طريق الوحي السماوي. ويزعم البعض أن المتكلم المعاصر يعيش في فضاء آخر، ويتحدث مع مخاطبين آخرين، بحيث لا يحتاج، ولا يمكنه أساسا، أن ينصب الأهداف السابقة أمام عينيه أهدافا يُكرّس لها جهوده ومباحثه، وإنما يرى مهمته المتناسقة مع الظروف الحديثة، هي تفسير الايمان وتقديم الدين للناس، وقد سبق أن أوردنا كلاما لشبستري في هذا الاتجاه.
  2. التجدّد في الهندسة المعرفية للعلم: فالتغييرات التي تعرّضت العلوم لها لم تكن محصورةً في نطاق المسائل والمنهج والمبادئ، بل تعدّتها لتشمل مجموع هذه الأمور، نتيجة التطورات المعرفية والسياسية والثقافية المستجدة مع العصر الحديث، والتي فرضت أسئلتها واستدعت إجاباتها العقدية من قبل المتكلمين الجدد، فغيرت في المباني والمناهج والأهداف والوظائف مما صنع هندسة معرفية جديدة مختلفة عن النظام المعرفي للعلم القديم، وهو ما يبيح تسميته وطرحه وشرعية الاعتراف بتجاوزه له[38] التي لا زالت محل تحفظ من المتحفظين على هذه التسمية لعلم كلام جديد ينعون به علم كلام قديم.

على سبيل الخاتمة

رغم أن هناك أطروحات متعددة تصب في طرح علم كلام جديد، خاصة لمجتهد شبستري وعبد الكريم سروش، إلا أن بقاء الجدل حول تسمية هذا العلم وهويته المعرفية ووظائفه لا زالت محل خلاف في الغالب، هل هي علم جديد أم مجرد محاولات للتجديد، أم أنها أحرى بتسميات أخرى من قبيل فلسفة الدين أو “علم النظريات العقدية[39]“؟ وهي تسميات لا زلنا نراها غير دقيقة، خاصة وأن كثيرا مما يطرحه الكلام الجديد مسبوق إليه، سواء في همه الباطني أو روحيته بتعبيرات ملكيان، فقد عرف التراث الصوفي الإسلامي قريبا من هذه التوجهات، حتى بشرية الدين ذاتها، كما عرف التراث الفلسفي والإصلاحي من قبل النعماني وبعده مع أسماء  كالسيد أحمد خان وكمالك بن نبي ومحمد إقبال وأبي الكلام أزاد ومحمد فريد وجدي ورشيد رضا -في مرحلته الأولى-، طروحات كثيرة في هذا الاتجاه، كما لا زال يلامسها بشكل كبير كتابات النهضة العربية المعاصرة.

ولكن يبقى التساؤل؛ هل استنفذ علم  الكلام القديم أغراضه سواء على المستوى الإسلامي ككل، في ظل حملات دعوية وتبشيرية نشطة، اتخذت من ثورة المعلومات والانترنت سبيلا ومسربا لوجدانات الناس، وتثير من التاريخ ما تشعل به الواقع كل يوم؟ أو على المستوى الطائفي في ظل جدل مذهبي وتبشير مذهبي لا زالت أوار معاركه مستعرة على المستوى الوطني في بلد كالعراق أو على المستوى الأممي الإسلامي ككل؟ ويكفي أن هناك جماعتان تتطاحنان في بلد كباكستان منذ ما يزيد عن عقد أحدهما تسمى “جند الصحابة” انتسابا للسنّة، والثانية تتسمى “جند محمد” انتسابا لآل بيته الطاهرين، ولم تخف بلدان كمصر والمغرب في السنتين الماضيتين قلقهما مما يسمى “التبشير الشيعي” الذي صار ينشط حتى في إفريقيا وبلدان أخرى، وإن لم أكن ضده ولكن لا شك أن المدونات العقدية له حاضرة، كما أن المدونات والمقولات المناهضة له تحضر بالتأكيد كرد فعل عليها.

بل إذا ذهبنا للفضاء السنّي الإسلامي وجدنا الصراع بين المذاهب الإٍسلامية الأشعرية من جهة والسلفيات الوهابية والحديثية من جهة أخرى، والماتريدية والصوفية وأخيرا الأحباش، مما يعني أننا لازلنا اجتماعيا أو على مستوى الحد الأعلى -الاجتماعي من الدين- نعيش مقولات الإسلاميين القدامى بشكل معاصر وبنفس طقوسهم في الغالب.

ما أردنا الإشارة إليه أن ما يعرف بالكلام الجديد أو محاولات تجديد الكلام القديم ليس إلا صيحة في فضاء الإصلاحية الإسلامية، متعددة الصيحات، دون قدرة على الفعل في ظل عمق ماضوي راسخ في الوعي العام، وتكلس على مستويات السياق تصعب بل تعوق دائما إمكانات الحراك.

الهوامش

  1. حيدر حب الله، “علم الكلام الجديد: قراءة أولية”، ضمن” العقلانية الإسلامية والكلام الجديد” مجموعة باحثين، بيروت: مركز الحضارة لتنمية الفكر الإسلامي، ط1، سنة 2008، ص9-10.
  2. شبلي النعماني، “علم كلام جديد”، ترجمه للفارسية سيد محمد تقى فخر داعي، طهران 1329 ش. وراجع معلومات أوفى حول جهود شبلي النعماني على موقع مؤسسة شبلي النعماني على الإنترنت على الرابط التالي:

://www.shibliacademy.org/Allama_Shibli_Nomani

  1. راجع عبد الجبار الرفاعي، “علم الكلام الجديد”، ضمن كتاب” العقلانية الإسلامية والكلام الجديد” مجموعة باحثين، م، س، ص76، وراجع حول مرتضى المطهري ومؤلفاته موقعه بالفارسية على شبكة الإنترنت.
  2. أحمد قراملكي، “التجديد في علم الكلام”، ترجمة حيدر نجف، منشورة على الرابط التالي على شبكة الإنترنت:

://www.alargam.com/sorts/kalam/105.htm

  1. انظر: طه عبد الرحمن، “في أصول الحوار وتجديد علم الكلام”، ط المركز الثقافي العربي سنة 2000.
  2. راجع مثلا كتابه، أبو يعرب المرزوقي، “الثورة القرآنية وأزمة التعليم الديني”، تونس: الدار المتوسطية للنشر، سنة 2009.
  3. انظر حسن عبد اللطيف الشافعي، “علم الكلام بين ماضيه وحاضره”، ورقة مقدمة للمؤتمر الدولي الثالث للفلسفة الإسلامية “دور العقيدة في حياة الإنسان المعاصر”، كلية دار العلوم جامعة القاهرة سنة 1997 ونشرت في كتاب المؤتمر.
  4. نذكر منهم العروي محمد أركون وعابد الجابري ورضوان السيد وسعيد بن سعيد العلوي ومحمد سبيلا وعبد الحميد مدكور وغيرهم عشرات من الأكاديميين والباحثين في الفلسفة الإسلامية الذين ألحوا على نقد المنظومة الكلامية القديمة ودعوا لضرورة تجديدها.
  5. راجع عبد الجبار الرفاعي، “الاجتهاد الكلامي: مناهج ورؤى متنوعة في الكلام الجديد،” بغداد: مركز دراسات فلسفة الدين، سنة 2002.
  6. انظر محمد مجتهد شبستري، “مدخل إلى علم الكلام الجديد”، ترجمة وإعداد جواد علي، الكتاب السادس من مجلة قضايا إسلامية معاصرة، عام 1998، ص51-58،.
  7. راجع عبد الكريم سوروش، “القبض والبسط في الشريعة”، ترجمة وتحقيق دلال عباس، ط دار الجديد سنة 2002.
  8. مصطفى ملكيان، “التدين العقلاني”، ترجمة عبد الجبار الرفاعي وحيدر نجف، بغداد: مركز دراسات فلسفة الدين، سنة 2007.
  9. انظر على شريعتي، “التشيع العلوي والتشيع الصفوي”، ترجمة حيدر مجيد، ط دار الأمير سنة 2002 وأيضا علي الوردي، “الدولة الصفوية والتشيع”، ضمن كتاب “لمحات اجتماعية من تاريخ العراق الحديث” ط دار الوراق للنشر سنة 2007، وأعيد نشرها في كتاب المسبار رقم 23حول” الصفوية” مركز المسبار للدراسات والبحوث بدولة الإمارات العربية المتحدة سنة 2008.
  10. انظر مثلا: مصطفى ملكيان، “الدين والحداثة”، منشور على موقع جمعية تنوير الكويتية على الرابط التاليM

://www.kwtanweer.com/articles/readarticle.php?articleID=392

وراجع أيضا إبراهيم العبادي، “الإسلام والحداثة: إشكالية الصراع والخصام”، مجلة قضايا إسلامية معاصرة، بغداد: مركز دراسات فلسفة الدين، العدد 31-32، ويمكن مطالعتها على شبكة الإنترنت على الرابط التالي:

://www.kwtanweer.com/articles/readarticle.php?articleID=392

  1. أبو يعرب المرزوقي، “في العلاقة بين الكلام القديم والكلام الجديد”، منشور على موقع الفلسفة- فضاء أبو يعرب المرزوقي، على الرابط التالي:

://www.alfalsafa.com/fi%20al%20alaka%20bayna%20al%20kalam.html

  1. راجع حسن الشافعي، “المدخل إلى دراسة علم الكلام”، مكتبة وهبة ط1 سنة 1995.
  2. شبلي النعماني، “علم كلام جديد”، ترجمه للفارسية سيد محمد تقى فخر داعي، طهران 1329 ش، ص42.
  3. أبو الأعلى المودودي، “المصطلحات الأربعة في القرآن”، تقديم محمد عاصم الحداد، تخريج الشيخ الألباني، منشورة على شبكة الإنترنت على الرابط التالي:

 http://islamport.com/w/qur/Web/2159/1.htm

  1. راجع دراستنا هاني نسيره، “القاعدة والسلفية الجهادية، الروافد الفكرية وحدود المراجعات”، مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية ط أغسطس سنة 2008.
  2. راجع هاني نسيره، “السلفية ومنطق الفرقة الناجية”، ضمن كتاب “أزمة النهضة العربية وحرب الأفكار” ط الهيئة المصرية العامة للكتاب سنة 2009 وفيها عرض لمعركة المذهبية واللامذهبية التي ثارت بين كل من الشيخ محمد سعيد البوطي من جهة -ممثلا للأشعرية- وبين الشيخ الألباني وتلامذته من جهة أخرى ممثلا للسلفية الحديثية الجديدة.
  3. محمود حب الله، م، س، ص11.
  4. حيدر حب الله، “الكلام الجديد: قراءة أولية”، م، س.
  5. المصدر نفسه ص 38 وما بعدها.
  6. المصدر نفسه ص39.
  7. المصدر نفسه.
  8. المصدر نفسه.
  9. محمد مجتهد شبستري، م، س.
  10. حيدر حب الله، م، س، ص40.
  11. محمد مجتهد شبستري، م، س.
  12. المصدر نفسه.
  13. راجع عبد الجبار الرفاعي، علم الكلام الجديد، م، س، ص 71.
  14. أحمد قراملكي، م، س.
  15. المصدر نفسه.
  16. راجع العقلانية وعلم الكلام الجديد، م، س.
  17. أحمد قراملكي، تجديد علم الكلام، م، س.
  18. أبو يعرب المرزوقي، “دروس في فلسفة الدين بديلا عن علم الكلام”، موقع الفلسفة- فضاء أبي يعرب على الرابط التالي:

http://www.alfalsafa.com/dourous%20fi%20falsafat%20addin.htm

  1. المصدر نفسه.
  2. حيدر حب الله، م، س.
  3. هذه التسمية يرجحها حيدر حب الله.
الوسوم

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق