مركز الإمام أبي عمرو الداني للدراسات والبحوث القرائية المتخصصةدراسات عامة

منزلة الإخبات

يتحدث أرباب القلوب عن منازل سير العباد إلى الله، وأن سيرهم ذاك إما أن يكون إلى عروج وصعود، وإما إلى تسفل وهبوط، ترتع النفس في الحالة الأولى في بحبوحة من طيب العيش، وانشراح النفس، وسعة الصدر، ومزيد تعرف إلى الله، بما لا يستطيع وصفه البيان، ولا يخطه بليغ بيراع، وإنما يقف على حقيقة معناه من ذاق ثم ترقى في مقامات الوصول، تشوفا لنيل تمام الرضى والقبول.
ويرتكس أصحاب الحالة الثانية في خضم من ضنك العيش، وانقباض النفس، وضيق الصدر، بما يزيد صاحبه تمردا وانتكاسا وابتعادا عن إدراك مغزى الوجود، وصدق ربنا إذ يقول: ” فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْـرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ” [الأنعام:25]وإن المقام الذي أثرناه في المقال السابق –مقام الإخبات-، لمن أجل المقامات التي تذكي جذوة الإيمان في النفوس، وتبعث على الطمأنينة والخشوع، والشعور بلذة السكينة والخضوع، وتدفع عن العبد التردد و النكوص، وتوطنه على الثبات والصمود، وتكبح فيه غريزة الجنوح إلى الظلم والتسلط، قال صاحب المدارج: “والسالك مسافر إلى ربه سائر إليه على مدى أنفاسه، لا ينتهي مسيره إليه ما دام نفسه يصحبه، شبه حصول الإخبات له بالماء العذب الذي يرِده المسافر على ظمأ وحاجة في أول مناهله، فيرويه مورده ويزيل عنه خواطر تردده في إتمام سفره أو رجوعه إلى وطنه لمشقة السفر، فإذا ورد ذلك الماء زال عنه التردد وخاطر الرجوع، كذلك السالك إذا ورد مورد الإخبات تخلص من التردد والرجوع، ونزل أول منازل الطمأنينة بسفره، وجد في السير”
ولا يكون ذلك إلا بمجاهدة النفس ومغالبتها، فالناس عطشى ولا ري لهم إلا بالنهل من النبع الريان؛ نبع الوحي الذي لا ينضب، فإذا ما وردوه أخبتوا، فإذا ما أخبتوا أبصروا، ولاحت لهم ضيعة أعمارهم فيما أسلفوا، وانقشعت عن أبصارهم حجب الحيرة والتردد، فوطنوا النفس على ملازمة ما ظفروا به؛ وعكفوا على التزود بما يزيدهم إخباتا وتذللا ، لتيقنهم أن الرفعة والعزة عند لزوم عتبة العبدية الحقة، و أن الافتقار الدؤوب إلى علام الغيوب هو الذي يورث القلب مادة حياته و نشاطه، “مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا” [فاطر:10].
إن البشرية اليوم -مهما بلغت من علم ومعرفة- يعوزها سكون الروح، وصلاح البال، وهدوء النفس، وهي قيم تنكبت مسالكها، وابتغتها في غير مظانها، فالذي يضفي على الحياة البهاء، ويكسبها الرونق والجمال، هو اهتداء الناس في شتى معايشهم بمنهج رب العالمين، الذي يدعوا الجماء الغفير إلى الانضواء تحت لوائه، و الإخبات له سرا وعلانية دون سواه، تخلقا بكريم فضائله وفواضله، ونصحا لسائر الخلق في المعاملة، وإنصافا من نفسك لمن هو دونك، ورفقا بالغر الضعيف لا مجاملة أو مصانعة، وإنما شعورا ينبعث من القلب انسيابا، وهي قيم تستمد وازعها من إخبات العبد لمولاه، و مداومة استحضار رقابته على خلقه، فتصير هذه المراقبةُ مغالبةً لشهوة التغلب والتسلط، كاسرة للؤم طبعه الحرون، وهذه هي أول درجات الإخبات يقول صاحب المنازل: “وهو على ثلاث درجات؛ الدرجة الأولى: أن تستغرق العصمة الشهوة، وتستدرك الإرادة الغفلة، ويستهوي الطلب السلوة، المريد السالك : تعرض له غفلة عن مراده تضعف إرادته، وشهوة تعارض إرادته، فتصده عن مراده، ورجوع عن مراده، وسلوة عنه، فهذه الدرجة من الإخبات تحميه عن هذه الثلاثة، فتستغرق عصمته شهوته، والعصمة هي الحماية والحفظ، و الشهوة الميل إلى مطالب النفس، و الاستغراق للشيء الاحتواء عليه والإحاطة به، يقول : تغلب عصمته شهوته وتقهرها وتستوفي جميع أجزائها فإذا استوفت العصمة جميع أجزاء الشهوة؛ فذلك دليل على إخباته ودخوله في مقام الطمأنينة، ونزوله أول منازلها، وخلاصه في هذا المنزل من تردد الخواطر بين الإقبال والإدبار والرجوع والعزم، الاستقامة والعزم الجازم والجد في السير، وذلك علامة السكينة، وتستدرك إرادته غفلته، والإرادة عند القوم: هي اسم لأول منازل القاصدين إلى الله، و المريد هو الذي خرج من وطن طبعه ونفسه وأخذ في السفر إلى الله والدار الآخرة، فإذا نزل في منزل الإخبات أحاطت إرادته بغفلته فاستدركها، واستدرك بها فارطها، وأما استهواء طلبه لسلوته فهو قهر محبته لسلوته وغلبتها له بحيث تهوي السلوة وتسقط كالذي يهوي في بئر، وهذا علامة المحبة الصادقة؛ أن تقهر فيه وارد السلوة وتدفنها في هوة لا تحيا بعدها أبدا. فالحاصل : أن عصمته وحمايته تقهر شهوته، وإرادته تقهر غفلته، ومحبته تقهر سلوته” .

د.عبد الجليل الحوريشي

  • باحث بمركز الإمام أبي عمرو الداني للدراسات والبحوث القرائية المتخصصة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق