صوم الصبيان: توجيهات نبوية
بسم الله الرحمن الرحيم
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين
إنا نعيش هذه الأيام من شهر رمضان المبارك، أبهى الأيام التي تسود فيها أعمال البر والخير والإحسان، والمسابقة والمسارعة إلى العبادات، والمساجد مليئة بالصائمين الطائعين شيبا، وشبابا، وصبيانا، الركع السجد، ونجد هؤلاء الأطفال يقبلون على العبادات، بأنفس مطمئنة، ولابد من تعليهم مبادئ العبادات،لما يبلغوا السن السابعة، لتمرينهم على مداومتها، فعن معبد الجهني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «علموا الصبي الصلاة ابن سبع سنين»[1]، فتعليم الصبي ذكرانا وإناثا، في سبع سنين، وهو سن التمييز، ليألفوها فلا يتركوها إذا بلغوا، وقد عقد الإمام ابن أبي الدنيا (المتوفى رحمه الله تعالى سنة: 281هـ) في كتابه: العيال[2]، بابا سماه: باب: تعليم الصبيان الصلاة، روى فيه أحاديث ترغيب الصبيان في الصلاة والصيام.
وقد بَوَّب الإمام البخاري (المتوفى رحمه الله تعالى سنة: 256هـ) في: الجامع الصحيح[3]، بابا سماه: "باب: صوم الصبيان"، من كتاب: الصيام، روى فيه حديث الرُّبَيِّعِ بِنْتِ مُعَوِّذٍ رضي الله عنها، قالت: «أرسل النبي صلى الله عليه وسلم غداة عاشوراء إلى قرى الأنصار: من أصبح مفطرا فليتم بقية يومه، ومن أصبح صائما فليصم، قالت: فكنا نصومه بَعْدُ، وَنُصَوِّمُ صبياننا، ونجعل لهم اللُّعْبَةَ مِنَ العِهْنِ، فإذا بكى أحدهم على الطعام أعطيناه ذاك حتى يكون عند الإفطار»[4]، وهذا الحديث رواه: مسلم في: المسند الصحيح[5]، باب: من أكل في عاشوراء فليكف بقية يومه، من كتاب: الصيام.
كما بَوَّب الحافظ عبد الرزاق (المتوفى رحمه الله تعالى سنة: 211هـ) في: المصنف[6]، بابا سماه: "باب: متى يؤمر الصبي بالصيام؟"، من كتاب: الصيام، روى فيه أثر ابن سيرين: «يؤمر الصبي بالصلاة إذا عرف يمينه من شماله، وبالصوم إذا أطاقه»[7]، وأثر هشام بن عروة: «كان أبي يأمر الصبيان بالصلاة إذا عقلوها، والصيام إذا أطاقوه»[8]، وحديث: محمد بن عبد الرحمن بن لبيبة، عن جده، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا صام الغلام ثلاثة أيام متتابعة، فقد وجب عليه صيام شهر رمضان»[9]، وهذا الحديث رواه الديلمي في: فردوس الأخبار[10].
إن المقصد من تَصْويم الصبيان، هو: تمرينهم على فعل الخيرات، والطاعات، وتعويدهم على العبادات، منها: الصوم، خصوصا إذا قاربوا سن المراهقة، ومتى أطاقوه وقدروا عليه عند بلوغ سن التكليف، وجب عليهم، فيسهل عليهم الصيام عندئذ، ويحصل الأجر بذلك لأوليائهم.
وقد نص العلماء على الحكمة والقصد من تصويم الصبيان، فقال الحافظ ابن بطال (المتوفى رحمه الله تعالى سنة: 449هـ): "أجمع العلماء أنه لا تلزم العبادات والفرائض إلا عند البلوغ، إلا أن كثيرًا من العلماء استحبوا أن يدرب الصبيان على الصيام والعبادات رجاء بركتها لهم، وليعتادوها، وتسهل عليهم إذا لزمتهم، قال المهلب: وفي هذا الحديث من الفقه أن من حمل صبيا على طاعة الله، ودَرَّبَه على التزام شرائعه فإنه مأجور بذلك، وأن المشقة التي تلزم الصبيان في ذلك غير محاسب بها من حملهم عليها"[11].
وقال القاضي عياض (المتوفى رحمه الله تعالى سنة: 544هـ): " تمرين الصغار على فعل الخير، ورجاء نزول الرحمة بصومهم، والأجر بذلك لأوليائهم، والصبيان لا يلزمهم صوم، ولا يخاطبون به حتى يبلغوا، وقيل: إنهم مخاطبون بالطاعات على الندب، وهذا لا يصح"[12].
وقال الحافظ النووي (المتوفى رحمه الله تعالى سنة: 676هـ): "تمرين الصبيان على الطاعات، وتعويدهم العبادات، ولكنهم ليسوا مكلفين"[13].
وقال الحافظ ابن حجر (المتوفى رحمه الله تعالى سنة: 852هـ): " مشروعية تمرين الصبيان على الصيام؛ لأن من كان في مثل السّن الذي ذُكر في هذا الحديث فهو غير مكلف، وإنما صنع لهم ذلك للتمرين "[14].
وقال العلامة محمد الطاهر بن عاشور (المتوفى رحمه الله تعالى سنة: 1393هـ): "وعندي أنه يحسن بالأولياء أن يُعَود صبيانهم الذين قاربوا المراهقة على الصوم اليوم واليومين والثلاثة، على حسب تفاوت أسنانهم وقواهم، ليشبُّوا على ذلك"[15].
إن غاية المقام من هذا المقال هو بيان أن صوم الصبيان ذكرانا وإناثا، القصد منه تمرينهم على الطاعات، وترسيخ أصول الدين وأركانه في نفوسهم، لتكون كالغريزة لهم، وذلك حسب الاستطاعة، والاستطاعة تبتدئ منذ مرحلة البلوغ، وهي بمثابة انتقال صريح من حال الطفولة إلى حال التكليف.
وقبل أن يصل الصبي ذكر كان أم أنثى إلى سن التكليف، فقد جرت عادة المغاربة في بلدنا الحبيب، عند صيام الأطفال فيلبسون ما زين من لباس تقليدي، وتحضير ما لَذَّ وطَابَ من الطعام والشراب، وعند رفع آذان صلاة المغرب يتناول الطفل الفطور بمعية العائلة في وسط يسوده البهجة والاعتزاز، فيفطر على سبع تمرات، وكأس من حليب، ووجه الفرح والسرور باديان على محيا الوجوه، احتفاء بما قام به في هذا اليوم البهيج، فالغاية من هذه الخطوة هي: ترغيب الناشئة في الطاعات، وتربيتهم على الهوية الدينية المغربية.
************
هوامش المقال:
[1]) أخرجه الترمذي في: سننه 2 /259؛ أبواب: الصلاة، باب: ما جاء متى يؤمر الصبي بالصلاة، رقم الحديث: 407، والدارمي في: سننه 2897؛ كتاب: الصلاة، باب: متى يؤمر الصبي بالصلاة، رقم الحديث: 1471، وابن خزيمة في: صحيحة؛ كتاب: الصلاة، باب: أمر الصبيان بالصلاة، وضربهم على تركها قبل البلوغ كي يعتادوا بها، رقم الحديث: 1002، والحاكم: في مستدركه 1 /158، وقال: "هذا حديث صحيح على شرط مسلم و لم يخرجاه".
[2] ) العيال 1/ 463_477.
[3]) الصحيح 3/ 37.
[4]) الصحيح 3 /37، رقم الحديث: 1960.
[5]) الصحيح 2 /798، رقم الحديث: 1136.
[6]) المصنف 4 /5.
[7]) المصنف 4/ 5، رقم الحديث: 7418.
[8]) المصنف 4 /5، رقم الحديث: 7421.
[9]) المصنف 4 /6، رقم الحديث: 7428.
[10]) فردوس الأخبار 1 /393، رقم الحديث: 1283.
[11]) شرح صحيح البخاري 4/ 107.
[12]) إكمال المعلم بفوائد مسلم 4/ 91.
[13] ) المنهاج شرح صحيح مسلم بن الحجاج 8 /14.
[14]) فتح الباري بشرح صحيح البخاري 4 /174.
[15]) النظر الفسيح عند مضائق الأنظار في الجامع الصحيح ص: 57.
***************
جريدة المراجع
إكمال المعلم بفوائد مسلم لعياض بن موسى بن عياض اليحصبى، تحقيق: يحيى إسماعيل، دار الوفاء للطباعة، المنصورة-مصر، الطبعة الثالثة: 1426/ 2005.
الجامع الصحيح (السنن) لمحمد بن عيسى بن سَوْرة الترمذي، تحقيق ج2: محمد فؤاد عبد الباقي، مكتبة ومطبعة مصطفى البابي الحلبي وأولاده، مصر، الطبعة الثانية: 1397 /1977.
الجامع المسند الصحيح المختصر من أمور رسول الله صلى الله عليه وسلم وسننه وأيامه محمد بن إسماعيل البخاري الجعفي، تحقيق: محمد زهير بن ناصر الناصر، دار طوق النجاة، بيروت-لبنان، دار المنهاج، جدة-السعودية، الطبعة: الأولى: 1422، طبعة مصورة عن الطبعة الكبرى الأميرية، بولاق- مصر، 1311.
السنن لعبد الله بن عبد الرحمن الدارمي، تحقيق: حسين سليم أسد الداراني، دار المغني للنشر والتوزيع، الرياض- السعودية، الطبعة الأولى: 1421 /2000.
شرح صحيح البخاري لعلي بن خلف بن عبد الملك ابن بطال، تحقيق: ياسر بن إبراهيم، مكتبة الرشد، الرياض- السعودية، الطبعة الثالثة: 1425 /2004.
الصحيح لمحمد بن إسحاق بن خزيمة النيسابوري، تحقيق: الدكتور محمد مصطفى الأعظمي، المكتب الإسلامي، الطبعة الثالثة: 1424 /2003.
العيال لعبد الله بن محمد ابن أبي الدنيا، تحقيق : نجم عبد الرحمن خلف، دار ابن القيم، السعودية، الطبعة الأولى: 1990.
فتح الباري بشرح صحيح البخاري لأحمد بن علي ابن حجر العسقلاني، المطبعة الكبرى الأميرية، بولاق- مصر، الطبعة الأولى: 1300.
المستدرك على الصحيحين لمحمد بن عبد الله بن محمد الحاكم النيسابوري، وفي ذيله تلخيص المستدرك لمحمد بن أحمد الذهبي، مطبعة مجلس دائرة المعارف النظامية، حيدر آباد- الهند، الطبعة الأولى: 1340-1341-1342.
المسند الصحيح المختصر بنقل العدل عن العدل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لمسلم بن الحجاج القشيري النيسابوري تحقيق: محمد فؤاد عبد الباقي، دار إحياء التراث العربي، بيروت-لبنان، (د-ت).
المصنف لعبد الرزاق بن همام بن نافع الحميري اليماني الصنعاني، دار التأصيل، القاهرة- مصر، الطبعة الأولى: 1436 /2015.
المنهاج شرح صحيح مسلم بن الحجاج ليحيى بن شرف بن مري النووي، دار إحياء التراث العربي، بيروت- لبنان، الطبعة الثانية: 1392.
النظر الفسيح عند مضائق الأنظار في الجامع الصحيح لمحمد الطاهر بن عاشور، دار سحنون، تونس، دار السلام، مصر، الطبعة الأولى: 1428 /2007.
*راجع المقال الباحث: محمد إليولو