مركز ابن القطان للدراسات والأبحاث في الحديث الشريف والسيرة العطرةدراسات عامة

شرح حديث ابن عباس رضي الله عنهما: “أنه صلى الله عليه وسلم خرج عام الفتح في رمضان، فصام حتى بلغ الكديد ثم أفطر”

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله الذي شرع لعباده المؤمنين أفضل الشرائع، وهداهم إلى سبله بأدلة  نواصع، دينا قيما، ومنهجا سمحا، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين، وعلى آله الطيبين، وأصحابه الغر الميامين.

وبعد؛ فإن من يسر هذا الدين، واعتنائه بأحوال المكلفين، أن يسر لهم أمر العبادات، ودلل لهم أداء الواجبات، قال تعالى: (وما جعل عليكم في الدين من حرج ملة أبيكم إبراهيم)   ([1])، فسن لهم الرخص والعزائم، لأسباب تدعو إليها، رفعا للحرج، ودفعا للعنث، قال النبي صلى الله عليه وسلم: “إن الله يحب أن تؤتى رخصه، كما يكره أن تؤتى معصيته”([2]).

ومن تيسيره على هذه الأمة أنه رخص للصائم في رمضان الإفطار حال سفره قال تعالى: (فمن شهد منكم الشهر فليصمه، ومن كان مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر) ([3]).

وقد جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من حديث ابن عباس رضي الله عنهما أنه خرج عام الفتح في رمضان، فصام حتى بلغ الكديد، ثم أفطر، قال: وكان صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم يتبعون الأحدث فالأحدث من أمره”([4]).

ولأهمية موضوع هذا الحديث؛ أحببت أن أتناوله في هذا المقال، وذلك بتخريجه، وشرح معاني ألفاظه من خلال شروح العلماء.

وهذا أوان الشروع في المقصود فأقول وبالله التوفيق:

تخريج الحديث:

أخرج هذا الحديث: مالك في الموطأ، في كتاب: الصيام، باب: ما جاء في الصيام في السفر([5])، والبخاري في صحيحه في كتاب: الصوم، باب: إذا صام أياما من رمضان ثم سافر([6])، وفي كتاب: الجهاد والسير، باب: الخروج في رمضان([7])، وفي كتاب: المغازي، باب: غزوة الفتح في رمضان([8])، ومسلم في صحيحه في كتاب: الصيام، باب: جواز الصوم والفطر في شهر رمضان للمسافر([9])، والنسائي في سننه في كتاب: الصيام، باب: الرخصة للمسافر أن يصوم بعضا ويفطر بعضا([10])، وأحمد في المسند([11]) كلهم من طريق إلى ابن شهاب محمد بن مسلم الزهري، عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود الهذلي، عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم . الحديث.

واللفظ لمسلم.  

شرح معاني الحديث:

قوله: “خرج إلى مكة عام الفتح“: قال الباجي (ت: 474هـ): “يريد عام فتح مكة حتى بلغ الكديد، وهذا يدل على جواز الصوم في السفر؛ لصوم النبي صلى الله عليه وسلم فيه من المدينة حتى بلغ الكديد، وهذا ما بين عسفان وقديد كذلك قال البخاري: فأفطر الناس لفطره، ويحتمل أن يكون ذلك ليتقووا لعدوهم ، وقد روي هذا منصوصا عليه ، ولعله لذلك أخر الفطر إلى الكديد، ولا خلاف بين فقهاء الأمصار في أن صيام رمضان في السفر يصح؛ إلا ما روي عن بعض أهل الظاهر فإنه قال: لا يصح، ولا يجزئ عنه”([12]).

وقال النووي (676ه): “يعنى بالفتح: فتح مكة، وكان سنة ثمان من الهجرة، والكديد: بفتح الكاف وكسر الدال المهملة، وهي: عين جارية بينها وبين المدينة سبع مراحل، أو نحوها، وبينها وبين مكة قريب من مرحلتين، وهي أقرب إلى المدينة من عسفان.. قال القاضي عياض (544هـ): “وعسفان: قرية جامعة بها منبر على ستة وثلاثين ميلا من مكة، قال: والكديد ما بينها وبين قديد”([13]).

قوله: ( فصام حتى بلغ الكديد ثم أفطر ) قال النووي: ” فيه دليل لمذهب الجمهور: أن الصوم والفطر جائزان، وفيه أن المسافر له أن يصوم بعض رمضان دون بعض، ولا يلزمه بصوم بعضه إتمامه، وقد غلط بعض العلماء في فهم هذا الحديث، فتوهم أن الكديد وكراع الغميم قريب من المدينة، وأن قوله:” فصام حتى بلغ الكديد وكراع الغميم” كان في اليوم الذي خرج فيه من المدينة، فزعم أنه خرج من المدينة صائما، فلما بلغ كراع الغميم في يومه أفطر في نهار، واستدل به هذا القائل على أنه إذا سافر بعد طلوع الفجر صائما له أن يفطر في يومه، ومذهب الشافعي والجمهور: أنه لا يجوز الفطر في ذلك اليوم؛ وإنما يجوز لمن طلع عليه الفجر في السفر، واستدلال هذا القائل بهذا الحديث من العجائب الغريبة؛ لأن الكديد، وكراع الغميم على سبع مراحل، أو أكثر من المدينة والله أعلم”([14]).

قوله: “وكان صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم يتبعون الأحدث، فالأحدث من أمره” قال ابن عبد البر القرطبي (ت 463هـ): “يقولون إنه من كلام ابن شهاب، وفيه دليل أن في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ناسخا ومنسوخا … واحتج من ذهب إلى أن الفطر أفضل في السفر؛ لأن آخر فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم الفطر في السفر”([15]).

وقال النووي : “هذا محمول على ما علموا منه النسخ، أو رجحان الثاني مع جوازهما؛ وإلا فقد طاف صلى الله عليه و سلم على بعيره، وتوضأ مرة مرة، ونظائر ذلك من الجائزات التي عملها مرة، أو مرات قليلة؛ لبيان جوازها، وحافظ على الأفضل منها”([16]).

قال ابن عبد البر : “وفي هذا الحديث إباحة السفر في رمضان… وفي ذلك رد لقول من قال: من دخل عليه رمضان لم يجز له أن يسافر فيه إلا أن يصوم؛ لأنه قد لزمه صومه في الحضر، ولو دخل عليه رمضان في سفره كان له أن يفطر في سفره ذلك”([17]).

وقال أيضا: “وفي هذا الحديث أيضا رد لقول من زعم أن الصيام في السفر لا يجزئ؛ لأن الفطر عزيمة من الله تعالى… روي معنى ذلك عن عمر، وابن عمر، وأبي هريرة، وعبد الرحمن بن عوف، وابن عباس على اختلاف عنه، وعن الحسن البصري مثله، وبه قال قوم من أهل الظاهر، وأحاديث هذا الباب تدفع هذا القول، وتقضي بجواز الصوم للمسافر إن شاء الله، وأنه مخير إن شاء صام، وإن شاء أفطر؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم صام في لسفر وأفطر، وعلى التخيير في الصوم، أو الفطر للمسافر جمهور العلماء وجماعة فقهاء الأمصار”([18]).

وقال أيضا: “وفيه أيضا من الفقه: أن المسافر جائز له الصوم في السفر بخلاف ما روي فيه عمن قدمنا ذكره”([19]).

الخاتمة:

وفي ختام هذا المقال خلصت إلى الآتي:

1-أن الشريعة الإسلامية السمحة مبنية على رفع الحرج عن المكلفين.

2-حديث إفطار المسافر في رمضان صحيح متفق عليه.

3-أن حادثة إفطاره صلى الله عليه وسلم كانت عام الفتح بكديد.

4-جواز الصوم والفطر في السفر في رمضان.

5-جواز للمسافر أن يصوم بعضا من رمضان دون بعض.

6-من الأوجه التي وجه بها العلماء إفطار الصحابة في السفر نهار رمضان التقوية على الأعداء.

7-لا خلاف بين الفقهاء أن صيام رمضان في السفر يصح؛ إلا ما روي عن بعض الظاهرية؛ فإنهم قالوا لا يصح، ولا يجزئ به.

8-فيه دليل على أن في حديث النبي صلى الله عليه وسلم ناسخا ومنسوخا؛ ولهذا احتج من ذهب بالقول بأفضلية الفطر على الصيام في السفر بهذا الحديث؛ لأنه آخر فعل للنبي صلى الله عليه وسلم: الفطر في السفر.

9-فيه دليل على إباحة السفر في رمضان.

10-فيه دليل رد قول من زعم أن الصيام في السفر  لا يجزئ.

11-فيه جواز الصوم للمسافر إن شاء، وأنه مخير إن شاء صام، وإن شاء أفطر؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم صام في السفر وأفطر.

والحمد لله رب العالمين.

************

هوامش المقال:

([1]) الحج من الآية: (78).

([2]) أخرجه أحمد في مسنده (10 /107)، برقم: (5866) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما.

([3]) سورة البقرة الآية: 185.

([4]) سيأتي تخريجه.

([5]) الموطأ (1 /395)، برقم: (806)..

([6]).صحيح البخاري (ص: 468)، برقم: (1944).

([7]) صحيح البخاري (ص: 729)، برقم: (2953).

([8]) صحيح البخاري (1046)، برقم:( 4275-4276).

([9]) صحيح مسلم (ص: 497)، برقم: (1113).

([10]) سنن النسائي (ص: 362)، برقم: (2313).

([11])مسند أحمد (3/ 380) برقم: (1892)، و(4 /222)، برقم: (2392) .

([12])المنتقى شرح الموطأ (3 /34) .

([13])صحيح مسلم بشرح النووي (4 /251).

([14])صحيح مسلم بشرح النووي (4 /251).

([15])الاستذكار (10 /68-69).

([16])صحيح مسلم بشرح النووي (4 /251).

([17])الاستذكار (10 /70).

([18])الاستذكار (10/ 71-72).

([19])الاستذكار (10 /77).

***************

لائحة المراجع:

الاستذكار الجامع لمذاهب الأمصار وعلماء الأقطار فيما تضمنه الموطأ من معاني الرأي والآثار وشرح ذلك كله بالإيجاز والاختصار: لابن عبد البر القرطبي. تحقيق: د. عبد المعطي أمين قلعجي. دار قتيبة. ودار الوغى حلب. القاهرة. ط1/1414هـ- 1993مـ.

السنن: لأبي عبد الرحمن أحمد بن شعيب النسائي، حكم على أحاديثه وآثاره، وعلق عليه: محمد ناصر الدين الألباني، اعتنى به: أبو عبيدة مشهور بن حسن آل سلمان، مكتبة المعارف الرياض، ط1. (د-ت).

صحيح البخاري: لمحمد بن إسماعيل البخاري. دار ابن كثير، دمشق، ط1 /1423هـ- 2002مـ.

صحيح مسلم بشرح النووي . لمحيي الدين أبي زكريا يحيى بن شرف النووي، حققه وخرجه وفهرسه: عصام الصبابطي- حازم محمد- عماد عامر. دار الحديث القاهرة. ط4/ 1415هـ- 1994مـ.

صحيح مسلم: لمسلم بن الحجاج النيسابوري. تحقيق: أبو قتيبة نظر محمد الفاريابي، دار طيبة، ط1/ 1427هـ- 2006مـ.

 المسند. لأحمد بن حنبل (ج3) (ج4) (ج 10)، تحقيق: شعيب الأرناؤوط، مع مجموعة من الباحثين، مؤسسة الرسالة ط1/ 1416هـ- 1996مـ

المنتقى شرح موطأ مالك: لأبي الوليد سليمان بن خلف الباجي. تحقيق: محمد عبد القادر أحمد عطا. دار الكتب العلمية بيروت. ط1/ 1420هـ- 1999مـ.

الموطأ: لمالك بن أنس-رواية يحيى الليثي. تحقيق: د. بشار عواد معروف. دار الغرب الإسلامي . ط2/ 1417هـ- 1997مـ.

*راجعت المقال الباحث: خديجة ابوري

Science

د. محمد بن علي اليــولو الجزولي

  • أستاذ باحث مؤهل بمركز ابن القطان للدراسات والأبحاث في الحديث الشريف والسيرة النبوية العطرة بالعرائش، التابع للرابطة المحمدية للعلماء بالرباط.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق