مركز الإمام الجنيد للدراسات والبحوث الصوفية المتخصصةدراسات عامة

صناعة الفتوى: كيف يتحصن المفتي من الآفات الأخلاقية؟

نجد أئمتنا يُنبهون على مجموعة من المزالق التي قد تعترض المفتي أثناء مزاولته لهذه المهمة، وهي آفات ومزالق أخلاقية، قد لا ينتبه إليها، وإن كان هدفه نبيلا وشريفا، إلا أنها قد تكون وبالا على آخرته، منها آفة العجب، وهي جد خطيرة بحيث يقتحم المفتي أبوابا لا يدريها، وغياهب لا يعرف طريق النجاة منها، وكل ذلك إعجابا برأيه، وحبا في الكلام عنه، وفي هذا يقول مالك رحمه الله: “لقد أدركت أهل العلم والفقه ببلدنا وإن أحدهم إذا سئل عن مسألة كأن الموت أشرف عليه، ورأيت أهل زمننا هذا يشتهون الكلام فيه، والفتيا، ولو وقفوا على ما يصيرون إليه غدا لقللوا من هذا، (…) وأهل زمننا هذا قد صار فخرهم الفتيا”.[1]

لذلك نجد العلماء يحتاطون أشد الاحتياط من الانزلاق وراء هذه الرغبات المحظورة والنزعات النفسية التي قد لا تظهر للعيان فهي كدبيب النمل الأسود في الليلة الظلماء، عن عطاء بن السائب قال: “أدركت أقواما إن كان أحدهم ليسأل عن شيء فيتكلم وإنه ليرعد”.[2]

 وقد جاء رجل عند الإمام مالك فسأله عن مسألة فأجابه مالك بلا أدري، فقال له ذلك الرجل: إذا قلت أنت يا أبا عبد الله لا أدري فمن يدري؟ قال ويحك ما عرفتني ومن أنا؟ وأي شيء منزلتي حتى أدري ما لا تدرون؟ ثم أخذ يحتج بحديث ابن عمر، وقال: “هذا ابن عمر يقول: لا أدري، فمن أنا؟” وإنما أهلك الناس العجب وطلب الرئاسة، وهذا يضمحل عن قليل”.[3]

كما أن العلماء وضعوا قاعدة من أجل تحصيل هذا المعنى والتدرب عليه حتى لا ينساق المفتي وراء رغباته ويغتر بما لديه، قال الصميري: قال بعض العلماء: “ينبغي أن يكون توقفه – أي المفتي – في المسألة السهلة كالصعبة ليعتاده”.[4]

فالداء العضال الذي انساق وراءه العديد من المفتين ألا وهو العُجب وطلب الرئاسة وحب الظهور، وما فتئ العلماء ينبهون تلامذتهم على مثل هذه الأمراض ويحذرون منها، وإن كانت المسألة مما لا تحتاج إلى كثير من الجهد العقلي ولكن تحتاج إلى درع أخلاقي قوي وضمير حي ويقض، فقد سئل مالك عن مسألة فقال لا أدري، فقال له السائل إنها مسألة خفيفة سهلة، (…) وكان السائل ذا قدر، فغضب مالك وقال: مسألة خفيفة سهلة؟! ليس في العلم شيء خفيف؛ أما سمعت قول الله تعالى: {إنا سنلقي عليك قولا ثقيلا} [المزمل/5] فالعلم كله ثقيل وبخاصة ما يسأل عنه يوم القيامة.”[5]

وقد كان العلماء يتحرجون من الفتيا ويخافون من عواقبها، لكن نجد هذا الزمان الكل يسارع إليها ويتهافت عليها، فعن عبد الرحمن بن أبي ليلى قال: أدركت في هذا المسجد عشرين ومائة من الأنصار من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يسأل أحدهم عن المسألة فيردها هذا إلى هذا، وهذا إلى هذا، حتى ترجع على الأول. وفي رواية: ما منهم من يحدث بحديث، إلا ود أخاه كفاه إياه، ولا يستفتى عن شيء إلا ود أن أخاه كفاه الفتيا”.[6]

 كما على العالم أو المفتي أن يذكر تلامذته بمصير الإنسان وما سيؤول إليه، لعل نفوسهم تتعظ وتتضرع إلى الله تعالى من يوم لا ينفع فيه مال ولا بنون ولا يغني أحد عن أحد، إلا من أتى الله بقلب سليم، فعن حماد بن زيد قال: سمعت أيوب قال: “ينبغي للعالم أن يضع التراب على رأسه تواضعا لله عز وجل”.[7]

 يقول الإمام مالك: “ينبغي للرجل إذا خول علما وصار رأسا يشار إليه بالأصابع، أن يضع التراب على رأسه، ويمتهن نفسه إذا خلا بها، ولا يفرح بالرياسة فإنه إذا اضطجع في قبره وتوسد التراب رأسه ساءه ذلك كله”.[8]

ومن الآفات التي حذر منها العلماء، والتي قد تعتري المفتي أثناء ممارسته لمهامه، هي آفة الإدعاء والفخر بالفتيا، وهو من الأمراض القلبية الخطيرة، التي يجب على المفتي الحذر منها، فقد اتفق ذات يوم أن قال ابن القاسم لمالك: “ليس بعد أهل المدينة أعلم بالبيوع من أهل مصر فقال مالك: ومن أين علموها؟ قال منك، قال مالك، ما أعلمها أنا فكيف يعلمونها بي”،[9]  فهو يتبرأ من ادعاء الفضل والامتنان، ويتهم نفسه حتى لا يُعجب بنفسه، وقد جاء في الحكم أن أصل كل معصية وغفلة وشهوة الرضا عن النفس، وأصل كل طاعة ويقظة وعفة عدم الرضا عنها.

وقد أخذ عن الإمام مالك تلامذته هذا الهدي، وجعلوه نصب أعينهم، وعملوا به في حياتهم، وعلموه لتلامذتهم، شأنه شأن باقي الأئمة، ومن نماذج هؤلاء الإمام ابن القاسم، قال أسد: أتيت ابن القاسم فقال لي: أنا مشغول بنفسي وجعلت الآخرة أمامي، ولكن عليك بابن وهب فأتيته…”.[10]

وكذلك الأمر مع أشهب، فقد جاء في ترتيب المدارك: قال يونس: “دخلت على أشهب في مرضه الذي مات فيه فقال لي: يا يونس. قلت لبيك. قال: انظر ما ها هنا وأشار إلى كتبه، فإذا جمعت من الحجج على هذا البدن الضعيف ما أستريح. أن آخذ المصحف فأضعه على صدري”.[11]

وكان دأب سحنون إذا سئل عن المسائل يتريث ويتأخر في الجواب رغم أنها سهلة وجوابها معروف، قال عيسى: “قلت لسحنون: تأتيك المسائل مشهورة مفهومة، فتأبى الجواب فيها! فقال سحنون: سرعة الجواب بالصواب أشد فتنة من فتنة المال”.[12]

ولقد لخص لنا ابن القيم كيفية التخلص من هذه الآفات والأمراض القلبية وذلك بتصحيح النية، والافتقار إلى الله تعالى وذلك بالتبرؤ من الحول والقوة، يقول الإمام ابن القيم -رحمه الله-: “ينبغي للمفتي الموفق إذا نزلت به المسألة أن ينبعث من قلبه الافتقار الحقيقي الحالي لا العلمي المجرد إلى ملهم الصواب، ومعلم الخير، وهادي القلوب أن يلهمه الصواب، ويفتح له طريق السداد، ويدله على حكمه الذي شرعه لعباده في هذه المسألة؛ فمتى قرع هذا الباب فقد قرع باب التوفيق، وما أجدر من أمّل فضل ربه أن لا يحرمه إياه. فإذا وجد في قلبه هذه الهمة فهي طلائع بشرى التوفيق؛ فعليه أن يوجه وجهه ويحدق نظره إلى منبع الهدى، ومعدن الصواب، ومطلع الرشد؛ وهو النصوص من القرآن والسنة وآثار الصحابة؛ فيستفرغ وسعه في تعرف حكم تلك النازلة منها، فإن ظفر بذلك أخبر به، وإن اشتبه عليه بادر إلى التوبة والاستغفار والإكثار من ذكر الله، فإن العلم نور الله يقذفه في قلب عبده، والهوى والمعصية رياح عاصفة تطفئ ذلك النور أو تكاد، ولا بد أن تضعفه.

 وشهدتُ شيخ الإسلام -ابن تيمية- قدس الله روحه إذا أعيته المسائل واستعصت عليه، فرّ منها إلى التوبة والاستغفار والاستغاثة بالله واللجأ إليه، واستنزال الصواب من عنده والاستفتاح من خزائن رحمته؛ فقلما يلبث المدد الإلهي أن يتتابع عليه مدا، وتزدلف الفتوحات الإلهية إليه بأيتهن يبدأ، ولا ريب أن من وُفق لهذا الافتقار علما وحالا، وسار قلبه في ميادينه بحقيقة وقصدا؛ فقد أُعطي حظه من التوفيق، ومن حُرمه فقد مُنع الطريق والرفيق؛ فمتى أُعين مع هذا الافتقار ببذل الجهد في درك الحق فقد سلك به الصراط المستقيم، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، والله ذو الفضل العظيم”.[13]

خاتمة:

لا يسعنا في الأخير إلا نقف وقفة إكبار وإجلال لتراثنا العلمي الزاخر، وأن نقف وقفة تأمل مع أنفسنا ونحيي في دواخلنا المنهج الأخلاقي الذي سار عليه أئمتنا العظماء، وخصوصا الإمام مالك، ولا نكون مثل أهل الكتاب الذين يأخذون ببعض الكتاب ويكفرون ببعضه، وأن نعيد قراءة تراثنا الزاخر قراءة شاملة، ونستفيد من منهجهم الأخلاقي والتربوي الذي فُقد في هذا العصر، وأن نساهم في وضع مدونة أخلاقية تكون خير سند ومعين لمن يتقلد منصب الفتوى والإمامة، ونربي على ضوئها أنفسنا أولا ثم نبني بها مستقبلا زاهرا ونعلمها للأجيال الصاعدة التي يجب عليها أن تتلقى تربية سلوكية وأخلاقية وعلمية متوازنة في جو مثل جو أهل القرون الأولى التي شهد لها النبي صلى الله عليه وسلم بالخيرية والفضل.

كما ندعوا إلى توحيد الجهود بين الجامعات من أجل الاهتمام بهذا المنصب الخطير حتى لا تذهب جهود الباحثين والأكاديمين سدى خصوصا فيما يتعلق بتبادل الخبرات والتجارب وكل ما من شأنه أن يغني البحث العلمي الرصين.

كما لا تفوتني الفرصة في الدعوة إلى تأسيس مركز للبحث المشترك بين الجامعات والمهتمين بشأن الفتوى بغية الرقي بالبحث العلمي إلى المستوى المنشود.

تنظيم ندوات دولية تجمع كبار الأساتذة والباحثين المتخصصين في قضية من القضايا التي تهتم بقضايا الفتوى، وفي غيرها من المواضيع الهامة.

[1] ترتيب المدارك، 1/ 152.

[2] المصدر السابق نفسه.

[3] نفسه، 1/ 155.

[4] المجموع، 1/ 485.

[5] ترتيب المدارك، 1/ 155.

[6] المعرفة والتاريخ، 2/ 817، والمجموع، 1/ 467-468.

[7] الفقيه والمتفقه، 2/ 230.

[8] ترتيب المدارك، 1/ 206.

[9] ترتيب المدارك، 1/ 156.

[10] ترتيب المدارك، 1/ 584.

[11] ترتيب المدارك، 1/ 591.

[12] ترتيب المدارك، 2/ 37.

[13] إعلام الموقعين، 6/ 67-68.

Science

د.مصطفى بوزغيبة

باحث بمركز الإمام الجنيد التابع للرابطة المحمدية للعلماء

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق