مركز الدراسات القرآنيةشذور

شذرات من التفسير: معاني اليأس في القرآن

من أوجه تفسير القرآن بالقرآن بيان موضوعات القرآن الكريم، وهو ما عبر عنه بالترتيل أو البنائية[1] على مستوى القرآن كله أو بعض سوره، أو في السورة الواحدة، وفي كل مستوى من هذه المستويات الثلاث وجوه من البيان القرآني[2]، سأقتصر في هذه الشذرة على المستوى الأول؛ المتمثل في بيان الموضوع في القرآن كله، من خلال بيان معاني مفردة اليأس في القرآن، فقد فسّر القاضي بكر بن العلاء القشيري المالكي (ت344هـ) معانيها في كتابه الأحكام، عند تفسيره لقوله تعالى: ﴿وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ﴾[3] فقال:
«واليأس والقنوط والظن بعضه أقوى من بعض، وكذلك الرجاء، وهذا يتسع الكلام فيه، فإذا قيل منه شيء أُنزل على قدر ما يظهر من المعنى فيه، فمن ذلك أن الإنسان قد يقول: قد يئست من مريضي، إذا كان الأغلب عنده أنه لا يبرأ، وكذلك يئست من غائبي إذا كان الأغلب عنده أنه لا يقدم، ولو قال إذا مات غائبه أو مات مريضه: قد يئست منه، لكان الكلام عند الناس جرى على غير وجهه، إلا أن يتبين معنى ما قصد له في كلامه، إلا أن يريد أن هذا اليأس أورثه الصبر والتسليم، والأغلب في كلام الناس في ذكر اليأس ما قدمنا ذكره.
وقال الله تبارك وتعالى:﴿وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ﴾[4] والقنوط واليأس سواء، وليس يعلمون يقينا أن المطر لا يكون، وقد قال عز وجل: ﴿لَا يَسْأَمُ الْإِنْسَانُ مِنْ دُعَاءِ الْخَيْرِ وَإِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ فَيَئُوسٌ قَنُوطٌ﴾[5] وقال عز وجل: ﴿وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ إِنَّهُ لَيَئُوسٌ كَفُورٌ(9) وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ نَعْمَاءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئَاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ﴾[6] فأخبر تبارك اسمه عن طمع الإنسان ويأسه الذي ليس بيقين.
وقال عز وجل: ﴿حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا﴾[7] دخل قلوب الرسل اليأس من غير يقين استيقنوه؛ لأن اليقين يأتيهم من قبل الله تعالى، كما قيل في قصة نوح : ﴿وَأُوحِيَ إِلَى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ﴾[8] فكان اليأس الذي وقع للرسل، وظن قومهم أنهم قد كَذَبُوا ـ مخففة ـ أيس الرسل من قومهم أن يؤمنوا، وظن قومهم أن الرسل قد كذبوا ما جاءوهم به، جاءهم نصر الله عند ذلك، وقد قرأها قوم ﴿قَدْ كُذِبُوا﴾ ثقيلة مشددة، ومعناها: حتى إذا استيأس الرسل من قومهم أن يؤمنوا، ﴿وَظَنُّوا﴾ هاهنا ظن الرسل أن قومهم قد قاموا على تكذيبهم، هذا معناه على هذه القراءة عندي ـ والله أعلم ـ وهذه القراءة أبين وأصح مخرجا، وهي قراءة نافع وأهل المدينة، وكلا القراءتين تدل على أن اليأس ليس بيقين.
وأما قوله: ﴿كَمَا يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحَابِ الْقُبُورِ﴾[9] وهذا معناه على ما قال ابن عباس وغيره؛ من الآخرة ومن البعث؛ لأنهم كانوا غير متيقنين بعود الموتى وأمر البعث، وهذا فيمن يقول بالدهر من الكفار، وهذا ـ أيضا ـ ليس بيقين؛ لأنهم قالوا: ﴿وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ﴾[10] قال الله عز وجل: ﴿وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ﴾[11] فأعلمنا ـ تبارك وتعالى ـ أن جحدهم بالآخرة إنما هو ظن يظنونه.
وقال عز وجل في قصة يوسف : ﴿فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيًّا﴾[12] ويأسهم ليس بيقين.
وكان عمر  يقول في خطبته: أيها الناس إن الطمع فقر، وإن اليأس غنى، وإن المرء إذا يئس من شيء استغنى عنه[13]، فجعل عمر رحمه الله اليأس بإزاء الطمع.
وقال إسماعيل: سمعت أحمد بن المعذل ينشد شعر الرجل من القدماء يصف ناقة فقال:

صفراء من تَلْد بني العباس *** ضربها كالضبي في الكناس

فالنفس بين طمع وإياس

فجعل الشاعر اليأس بإزاء الطمع
فرجعنا إلى قوله تعالى: ﴿وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ﴾[14] فذكر اليأس مع الريبة»[15].

الهوامش:

1. من أوائل من نظر لهذا في المفهوم في القرآن الكريم الدكتور أحمد عبادي في كتابه مفهوم الترتيل في القرآن الكريم: النظرية والمنهج، عن دار أبي رقراق، ط.1، 2007م.
2. استعرض الدكتور محمد قجوي في كتابه القيم تفسير القرآن بالقرآن: دراسة تاريخية ونظرية، طبعة المعارف الجديدة، جميع هذه الوجوه بأمثلتها التطبيقية في الفصل الثالث من الباب الثاني من الكتاب.
3. سورة الطلاق، من الآية: 4.
4. سورة الشورى، من الآية: 28.
5. سورة فصلت، من الآية: 49.
6. سورة هود، من الآية: 9ـ10.
7. سورة يوسف، من الآية: 110.
8. سورة هود، من الآية: 36.
9. سورة الممتحنة، من الآية: 13.
0. سورة الجاثية، من الآية: 24.
1. سورة الجاثية، من الآية: 24.
2. سورة يوسف، من الآية: 80.
3. أخرجه ابن المبارك في الزهد والرقائق: (1/223 و253) وابن شبة في تاريخ المدينة: (2/767).
4. سورة الطلاق، من الآية: 4.
5. أحكام القرآن، للقاضي بكر بن العلاء القشيري المالكي، تحقيق: سلمان الصمدي، جائزة دبي الدولية لقرآن الكريم، ط.1، 1437هـ/2016م: (2/ 572ـ574).

Science

د. محمد لحمادي

باحث بمركز الدراسات القرآنية

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق