وحدة الإحياءدراسات محكمة

المقاصد العقدية من خلال موطأ الإمام مالك

ينصب البحث في علم مقاصد العقيدة على معاقد الإيمان الستة، وما ينتجه الإيمان بها من أثر على النفوس ينسحب أثره على المجتمعات ويتجاوزه إلى يوم المعاد. فنكون حينذاك أمام بحث في مجمل مقاصد العقيدة، كما يمكن البحث في مبحث واحد من مباحث الإيمان الستة، فتتبين لنا مقاصده، ويمكن أيضا النظر إلى كل حكم من أحكام العقيدة فندرس مقصوده أو مقاصده.

وعلى هذا يمكن تقسيم مقاصد العقيدة إلى ثلاثة أقسام:

أ. المقاصد العامة

وهي المقاصد التي يتم استقراؤها من مجموع مباحث الإيمان الستة كلها، وتبتدئ كمرحلة أولية بوجوب الإيمان بجميع أركان الإيمان، من مثل توحيد الله، عز وجل، الذي تتجلى أعلى مقاصده أو مقصده العام في تحرير الإنسان عقلا وبدنا، وإصلاحه حالا ومآلا، وينسحب الأمر على باقي معاقد الإيمان واستخراج مقاصدها العامة، ويمكن أيضا استخراج المقصود العام من جميع معاقد الإيمان الستة بعد استقراء مقاصدها العامة.

ب. المقاصد الخاصة 

وهي المقاصد المستخرجة من مبحث خاص من مباحث الإيمان من مثل الإيمان بالله تعالى وما يجب أن يثبت له من صفات، وما يجوز أن يتصف به، وما يجب أن ينفى عنه، واستخراج مقاصد هذه الصفات أو مقصد كل صفة على حدة، وأيضا من مثل الإيمان باليوم الآخر، وما أعده الله من نعيم لأهل الإيمان وجحيم لأهل الكفر، ومقاصد الأمر بالطاعة، ومقاصد النهي عن المعصية، ومقاصد الابتلاء والجزاء والعقاب… وهذه المقاصد تستخرج من متعلقات أصول الإيمان أو من مسائله.

ج. المقاصد الجزئية

وهي مقاصد كل حكم من أحكام العقيدة من إيجاب أو تحريم أو ندب أو كراهة، مثال ذلك: مقاصد وجوب الإخلاص، ومقاصد تحريم الشرك والنفاق والرياء، ومن مثل كذلك الندب إلى التفكر في الآفاق والأنفس لاستشعار عظمة الله تعالى والإيقان بوحدانيته، وكراهة الخمول والكسل وتعطيل العقل في الوصول إلى هذا المراد.

د. منهج الكشف عن مقاصد العقيدة

يقوم منهج الكشف عن مقاصد العقيدة يقوم على مسلك كبير هو مسلك استقراء الأحكام المعروفة عللها للوصول إلى حكمة متحدة مستخلصة من مجموع الحكم تكون بدورها هي المقصد العقدي المراد بيانه. ويرى الشيخ الطاهر ابن عاشور أن الاستقراء هو أعظم الطرق للكشف عن المقاصد[1].

كما يقوم منهج الكشف عن مقاصد العقيدة على التماس المقصد في صريح الأوامر والنواهي، وهناك بالطبع طرق أخرى منها طريق التدبر الذي يمكن أن يكون عوضا عن لفظ الاستقراء لأن فيه نظرا وتفكرا في عواقب الأمور ومآلات المعاني، فهو طريق مطلق في البحث عن المقاصد العقدية كما الشرعية فضلا عن كونه مصطلحا أصيلا في العربية والقرآن وشاملا لكل أنواع المقاصد[2].

 المقاصد العقدية من خلال موطأ الإمام مالك

تثبت السنة من حيث المبدأ والعموم، وجود مقاصد للأحكام، ووجوب اعتبارها ومراعاتها،  وما قيل في مقاصدية القرآن الكريم يمكن أن يقال في مقاصدية السنة الشريفة من جهة كونها مبينة لأحكام القرآن وشارحة ومدعمة لها، ومن جهة كونها مبرزة لمقاصده وأسراره…

فالنواحي المقاصدية التي أقرّها القرآن الكريم في الجملة هي نفسها التي عملت السنة الشريفة على إبرازها وتأكيدها وتفصيلها وتفريعها، بحكم العلاقة الوثيقة بينهما في بيان الشرع وتحديد مقاصده وأسراره[3]، قال الإمام الشاطبي: “…النظر إلى ما دل عليه الكتاب في الجملة، وإنّه موجود في السنة على الكمال زيادة إلى ما فيها من البيان والشرح، وذلك أن القرآن الكريم أتى بالتعريف بمصالح الدارين جَلْبًا لها، والتعريف بمفاسدها دَفْعًا لها… وإذا نظرنا إلى السنة وجدناها لا تزيد على تقرير هذه الأمور، فالكتاب أتى بها أصولا لا يُرْجع إليها، والسنة أتت بها تفريعا على الكتاب وبيانا لما فيه منها، فلا تجد في السنة إلا ما هو راجع إلى تلك الأقسام”[4].

وأصول العقائد اثنان: القرآن والسنة، ومَكْمَن معرفة مقاصد العقائد يكون أيضا من خلال هذين الأصلين، فالسنة بما تضمنته من أحاديث عقدية، إضافة إلى القرآن، تعتبر حقلا خصبا للبحث ودراسة مقاصد العقيدة. وعلاقة المقاصد بأحاديث العقيدة تدور حول إبراز فكرتين محوريتين:

  1. إن غاية إيجاد الكون والحياة هو تسخيرهما للإنسان، وغاية إيجاد الإنسان هو استخلافه في الأرض، وغاية الاستخلاف هو إفراد الله بالعبادة.
  2. إن الغرض الأسمى من بعثة الرسول صلى الله عليه وسلم هو تحقيق الرحمة في الدنيا والآخرة.

إذن، فقد جاءت السنة لتبين مقاصد القرآن الكريم في العقائد وتؤكدها وترسخها، وهي على هذا تعمل على رعايتها وحفظها وتثبيتها.

وانطلاقا من أهمية هذا الأصل في تقرير مقاصد العقيدة، فقد ارتأيت أن تكون دراستي لمقاصد العقائد من خلال مُؤلف عظيم لعالم كبير هو موطأ الإمام مالك، واخترت لهذه الدراسة بعض الأحاديث العقدية الموزعة على مسائل الاعتقاد، ودراستي لبعض الأحاديث دون  غيرها هو من باب الاختصار ولضيق المقام وإلا فإن دراسَة مقاصد العقيدة من خلال الموطإ تحتاج إلى مجلدات إذا سلّمنا أن كل أحاديثه هي في صميمها أحاديث عقدية، باعتبار أن أحاديثه تَدُورُ مضامينها حول أقوال النبي صلى الله عليه وسلم وأفعاله وتقريراته، وهذه السنن الثلاثة تستلزم التصديق والعمل، والعمل يستلزم الطاعة واتباع الأوامر واجتناب النواهي، فهو بهذا عبادة، والعبادة كما عرفها ابن كثير “هي طاعته،  تعالى، بفعل المأمور وترك المحظور”[5]، والعبادة أيضا هي رأس التوحيد، والتوحيد هو مخ العقيدة، فيتحصّل لدينا من مجموع ذلك أن ما بين دفَّتي الموطأ من أحاديث جاءت لتقرير مقصد عقدي عريض هو: أن طاعة الرسول، صلى الله عليه وسلم، من طاعة الله، وبعثته إنما كانت لإيقاع الحجة العامة على الخلق، وغاية رسالته البشارة والنذارة وصلاح الدارين.

وهذا المقصد العقدي الجامع تم استنتاجه من مجموع المقاصد العقدية العامة لكل معقد من معاقد الإيمان الستة بعد توظيف منهج الاستقراء لأحاديث الموطأ المتعلقة بمسائل الاعتقاد وهي: الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقضاء والقدر خيره وشره.

وقد سلك الإمام مالك في موطئه منهج السلف الصالح في مسمى الإيمان، ودافع عنه بالحجج والأدلة، وكان مقصده من ذلك هو رده على الذين قالوا إن الإيمان هو اعتقاد ونطق أو هو قول فقط.

كما ساق، رحمه الله، عدة أحاديث في أسماء الله تعالى وصفاته، كحديث النزول الذي قصد منه إثبات معاني هذه الأسماء والصفات، وتفويض كيفيتها إلى الله تعالى تنزيها له عن كل تمثيل وتكييف وتشبيه  وتعطيل، والرد على أهل البدع والأهواء والآراء المخالفة.

أما المقصد العقدي العام من الإيمان بالله، عز وجل، من خلال الموطأ فهو معرفة الله تعالى المعرفة الحقة التي تليق بجلاله والتي توصل إلى تحرير الألوهية والربوبية والحاكمية والشفاعة والقاهرية والولاية له سبحانه، وبالتالي تحرير الإنسان نفسه حتى يصلح حاله وينعم في مآله.

كما أورد الإمام مالك في موطئه بعض الأحاديث في عقيدة الإيمان بالملائكة، مثل الحديث الذي رواه أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: “يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل، وملائكة بالنهار ويجتمعون في صلاة العصر وصلاة الفجر ثم يعرج الذين فيكم فيسألهم وهو أعلم بهم كيف تركتم عبادي فيقولون تركناهم وهم يصلون وأتَيْنَاهم وهم يصلون”[6]. وهي أحاديث تتحدث في مجملها عن وظائف الملائكة ومهماتهم، ومقصده رحمه الله من إيراد هذه الأحاديث هو السير على منهج القرآن والسنة وطريقة السلف وبيان عقيدتهم الصحيحة في هذا الأصل، وتثبيت عقيدة الإيمان بالغيب، ويتحصل من مجموع هذه الأحاديث أن المقصد العقدي العام من الإيمان بالملائكة هو إيقاع رحمة الله، تعالى، بالخلق بأن وكل بهم ملائكة تحفظهم وتكتب أعمالهم ليستشعروا مراقبة الله تعالى الدائمة لهم، فيبادروا إلى إصلاح أعمالهم، ويعرفوا منن الله عليهم فيقابلوها بشكر الواهب سبحانه.

ومما يوجب الشكر أيضا رحمته، تعالى، بعباده بأن أنزل عليهم كتبا سماوية توضح لهم معالم الطريق وترسم لهم منهج الحياة، ورحمته تعالى لخير أمة أخرجت للناس بأن أنزل عليها قرآنا معجزا طافحا بالخير والبركات، فيه هدى ونور وصلاح، يورث العاملين به المغفرة والجنة والفلاح.

وقد نقل الإمام مالك عدة أحاديث في موطئه تتحدث عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن معجزاته وأسمائه وسننه، وسعى في تحصيلها وحفظها وتدوينها وتلقينها لتلامذته، ولم يكتف بذلك، رحمه الله، بل كان من الناقلين العاملين بهذه السنن والآثار، وسيرته أعظم شاهد على ذلك، ومقصده من هذا هو الاقتداء به، صلى الله عليه وسلم، ومتابعته، ليعطي بذلك هو وغيره من العلماء العاملين درسا لهذه الأمة بأن الإيمان يصدقه العمل، وأن المحبة تقتضي الاقتداء، وأن ناقلي الآثار يجب أن يكونوا أول    العاملين بها.

ومثال الأحاديث التي تحدثت عنه صلى الله عليه وسلم، آخر حديث أورده الإمام مالك في موطئه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “لي خمسة أسماء: أنا محمد، وأنا أحمد، وأنا الماحي الذي يمحو الله به الكفر، وأنا الحاشر الذي يحشر الناس على قدمي وأنا العاقب”[7].

أما المقصد العقدي العام من الإيمان بالرسل عليهم السلام من خلال الموطأ فهو إصلاح الاعتقاد الآيل إلى إصلاح الحال والمآل واكتساب منهج التصديق بالدليل والحجة والبرهان.

ومما لا شك فيه أن الإيمان بالبعث والجزاء مما يقتضيه السمع والعقل تحقيقا لقاعدة العدل.

وقد أورد الإمام مالك مجموعة من الأحاديث تتحدث عن هذا اليوم  وما يكون فيه من نعيم أو جحيم مثل الحديث الذي رواه أبو هريرة عن النبي، صلى الله عليه وسلم، أنه قال: “نار بني آدم التي يوقدون جزء من سبعين جزءا من نار جهنم فقالوا: يا رسول الله إن كانت لكافية قال: إنها فضلت عليها بتسعة وستين جزءا”[8].

ومقصد الإمام مالك، رحمه الله، من إيراده لهذه الأحاديث هو التأكيد على أن منهج القرآن والسنة واحد في إثبات أمر الله الجزائي في الثواب والعقاب باعتباره الغاية من خلق الإنسان ومحاسبته على أمره الشرعي التكليفي، ومعرفة وجه الاستجابة من عباده، بالإضافة إلى مقصد تثبيت عقيدة هذا اليوم في النفوس والمبنية على منهج الترغيب والترهيب والخوف والرجاء.

والمقصد العقدي العام من كل هذا هو تكوين قناعة بأن هذه الدنيا كلها بما فيها إنما جعلت لأجل ذلك اليوم، وأن عذاب الله تعالى يكون بعدله، وأن جنته رحمة بعباده، وهو بهذا يحفز النفوس على العمل لصلاح حالها ونعيم أخراها.

ولقد شكل مبحث القضاء والقدر جدلا واسعا بين الفرق الإسلامية، ومن هنا كان تقرير الإمام مالك لهذه العقيدة من خلال بعض مروياته مثل قوله صلى الله عليه وسلم: “كل شيء بقدر حتى العجز والكيس أو الكيس والعجز”[9]. هو تصديه لفرق القدرية نفاة القدر والمرجئة والرد عليهم والسير على ما أثبته القرآن الكريم في ذلك، وما أجمع عليه السلف الصالح من أن كل شيء من خير أو شر واقع بقدر الله تعالى، وعلى أن أفعال العباد مخلوقة له واقعة بمشيئته وقدره وإرادته.

والمقصد العقدي العام من الإيمان بالقضاء والقدر هو تحقيق معاني الأنس بالله تعالى والتسليم له في كل صغيرة وكبيرة، وأنه لا يكون في ملكه إلا ما قضاه الله سلفا وقدره، وأن ذلك من الإيمان والتوحيد الذي أمرنا به والذي يعتبر العمل داخلا في مسماه.

إن التحدي الذي تطرحه قضية العقيدة ومقاصدها في حياة البشرية يجعلها محط دراسة مستمرة لوجود التحدي بها ولها في كل عصر ومصر، مما يفرض استمرارية الصياغة المعرفية لها للتحدي بها في مواجهة العقائد والمذاهب والأفكار، وإن الاستناد في بحث موضوع العقيدة ومقاصدها على مصنف حديثي مثل الموطأ وعلى رجل عظيم مثل الإمام مالك لهو من أولى المهمات وأوجبها، لأن أهمية العقيدة تفرض النهل من ينابيعها الصافية، ومن الينابيع الصافية التي لا تجف ولا تنضب مع مرور الأزمان وتغير الأعصار، موطأ الإمام مالك ومذهبه الذي يعتبر أحد روافدها، وهذا يرجع إلى عظمة شخصية الإمام مالك نفسه، وهي العظمة التي لم تنفك تتحدث بها المجامع جيلا بعد جيل، وأخلافا بعد أسلاف، وكانت السر في تمسك المغاربة بمذهبه، وثباتهم عليه، ملتزمين بوحدة الكلمة والصف؛ لأنه المذهب الذي يحمل في بنيته القدرة على الاستجابة للنوازل التي يجدُّون عبر العصور في إيجاد حلول لها، فوجدوا بذلك ضالتهم واطمأنت أحوالهم وأنسوا به في وحشتهم، فخلد عندهم بخلود عظمة إمامهم مالك بن أنس رحمه الله تعالى.

الهوامش

  1. للتوسع يمكن الرجوع إلى الشيخ الطاهر بن عاشور، مقاصد الشريعة الإسلامية، ص190.
  2. إحدى محاضرات الأستاذ الباحث عبد المجيد المرواني.
  3. نور الدين الخادمي، الاجتهاد المقاصدي: حجيته، ضوابطه، مجالاته، ج: 1، ص78-79.
  4. الموافقات، ج4، ص20.
  5. فتح المجيد شرح كتاب التوحيد تأليف الشيخ عبد الرحمن بن حسن آل الشيخ ص24.
  6. أخرجه الإمام مالك في موطئه في كتاب “النداء للصلاة” باب “جامع الصلاة”، وأخرجه الإمام البخاري في كتاب “مواقيت الصلاة” باب “فضل صلاة العصر”، وأخرجه الإمام مسلم في كتاب “المساجد ومواضع الصلاة” باب “صلاتي الصبح والعصر والمحافظة عليهما”، وأخرجه الإمام النسائي  في كتاب “الصلاة” باب “صلاة الجمعة”.
  7. أخرجه الإمام مالك في كتاب “أسماء النبي صلى الله عليه وسلم” باب “أسماء النبي صلى الله عليه وسلم “، وأخرجه الإمام البخاري في كتاب “المناقب” باب “ما جاء في أسماء رسول الله صلى الله عليه وسلم”، وأخرجه الإمام مسلم في كتاب “الفضائل” باب “في أسمائه صلى الله عليه وسلم “، وأخرجه الإمام الترمذي في كتاب “الأدب” باب ” ما جاء في صلى الله عليه وسلم  أسماء النبي”.
  8. أخرجه الإمام مالك في كتاب “جهنم” باب “ما جاء في صفة جهنم”، وأخرجه الإمام البخاري في كتاب “بدء الخلق” باب “صفة النار وأنها مخلوقة” مع زيادة واختلاف في اللفظ، وأخرجه الإمام مسلم في كتاب “الجنة وصف نعيمها وأهلها” باب “جهنم أعاذنا الله منها”.
  9. أخرجه الإمام مالك في كتاب “القدر” باب “النهي عن القول بالقدر”.
Science
الوسوم

ذة. أمامة السحابي

باحثة في العقائد والفكر الإسلامي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق