مركز الإمام أبي عمرو الداني للدراسات والبحوث القرائية المتخصصةدراسات عامة

شؤم الخصومة والنزاع يؤثر على تجلية ليلة القدر

بسم الله الرحمن الرحيم

غير خاف على مسلم فضل ليلة القدر، وما أنيط بإحيائها من أجر، وما علق على قيامها من ثواب، ليلة لا كالليالي يجود فيها المولى على عباده بكرم التجاوز والتجلي، وإعلاما بمكانتها وتبريزا لشرفها، وما يفيده موافقها من عظيم الغنم وكبير المثوبة  نزلت في شأنها سورة سميت باسمها،   “إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ  وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ  لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ  تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ” [القدر1-5]، وتتولى السنة النبوية بيان خصائصها، مذكية بذلك شغف التعرض لعميم نوالها، فيقول المصطفى صلى الله عليه وسلم: ، «مَنْ قَامَ لَيْلَةَ القَدْرِ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا، غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ، وَمَنْ صَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ»[1].

وإنه لعرض مغر، متاح لكل من صحت نيته، وصدقت عزيمته، وكلل الله سعيه بتوفيق من عنده، وإن المتتبع لنصوص السنة النبوية ليستشف مدى تهمم النبي بهذه الليلة، و كذا استحثاته العزائم للتعرض لفضلها، ثم إنك لتلحظ أنه كاد صلى الله عليه وسلم  أن يكشف عن ليلتها بالتحديد لولا عوارض عنت،  فبقيت في طي الغيب المستور، وبالرغم من ذلك تلمس منه  مقاربة تقليص دائرة تطلبها، فيقول التمسوها في العشر الأواخر، التمسوها في العشر الغوابر،  في أوتار العشـر الأواخر، التمسوها في تسع يبقين، أو سبع يبقين، أو خمس يبقين، أو ثلاث أو آخر ليلة..

عن أنس بن مَالِكٍ، رضي الله عنه  قال: أَخْبَرَنِي عُبَادَةُ بْنُ الصَّامِتِ رضي الله عنه، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَرَجَ يُخْبِرُ بِلَيْلَةِ القَدْرِ، فَتَلاَحَى رَجُلاَنِ مِنَ المُسْلِمِينَ فَقَالَ: «إِنِّي خَرَجْتُ لِأُخْبِرَكُمْ بِلَيْلَةِ القَدْرِ، وَإِنَّهُ تَلاَحَى فُلاَنٌ وَفُلاَنٌ، فَرُفِعَتْ، وَعَسَى أَنْ يَكُونَ خَيْرًا لَكُمْ، التَمِسُوهَا فِي السَّبْعِ وَالتِّسْعِ وَالخَمْسِ»[2]

ولنا مع هذا النص وقفتان

الأولى: تبريز رحمة النبي صلى الله عليه وسلم بأمته، وتهممه الزائد بمصلحتهم، ولقد شهد له ربه بذلك فقال: “لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَاعَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ” [التوبة: 128]..ومن تجليات رحمته في هذا الحديث أنه أراد تمكين أمته من ليلة القدر فلا يتركها مشاعة مطلقة؛ في العام كله على بعض الأقوال، أو في الشهر كله على بعضها، أو العشـر بمجموعها، أو  الأوتار منها، وإنما سعى إلى أن تكون معلومة الليلة يستفيد من فيض كرمها جميع المسلمين، وينهل من ثر سخائها كل أمة التوحيد، لا ينفرد بها فئة مخصوصة من المشمرين المجتهدين فقط.

وشواهد رحمته صلى الله عليه وسلم أكثر من أن تحصـر، حتى إن شعار دعوته  إشفاقه على أمته ، فقد كان يدعوا لها في  مظان الاستجابة، ويسأل الله التخفيف عنها في كل ما اكتنفها من مشقة، أو عرض لها من عنت و كلفة، فقد سأل ربه أن يخفف عنها في أوجه التلاوة، وسأل لها المعافاة والمغفرة، وكان يكثر من الدعاء لها في سجوده، ويلهج بقوله: أمتي أمتي ياغفور، وسأل ربه  نصـرة عصابة أهل بدر، وأكثر من الضـراعة إلى الله وهو يردد اللهم إن تهلك هذه العصابة فلن تعبد في الأرض ..أفيظن بعد كل هذا التهمم أن يضن عليها باستبانة ليلة القدر؟ فلا يبعد أن يكون سأل ربه تعيينها تخفيفا على الأمة، وحملا لهمة المتقاعس منهم عن نيل  المكرمات، فاجتهاد ليلة أهون  عليهم من اجتهاد الشهر كله، ولعل في تعميتها خيرا؛ فلا يتكل الناس على ثواب ليلة و يطرحوا الاجتهاد باقي ليالي العام، و قد كان هذا فقه كثير من الصحابة درءا لاتكال الناس على المواسم، فكانوا يجيبون المستفسر عن ليلة القدر، “من يقم الدهر يصب ليلة القدر”

الوقفة الثانية: في سبب رفع تعيين ليلة القدر

لفظ الحديث صريح أن سبب ذلك خصومة الرجلين وتلاحيهما في المسجد، والتلاحي: التجادل والتخاصم[3]، فبدر منهما ما يشعر بالتنافر، وارتفعت أصواتهما في مسجد رسول الله، وقد أمرت الأمة بتوقير بيوت الله وتعظيم شأنها، “فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ” [النور:36] ، فترتب عن ذلك التنازع التخاصم نسيان رسول الله لها، وكان قد أريها، وخرج ليبشـر الناس بها، وقد ورد في نسيان رسول الله لها سبب آخر، وذلك مارواه أبو هُرَيْرَةَ: أَنَّ رَسُولَ الله صَلى الله عَليهِ وسَلم قَالَ: “أُرِيتُ لَيْلَةَ الْقَدْرِ ثُمَّ أَيْقَظَنِي بَعْضُ أَهْلِي فَنُسِّيتُهَا, فَالْتَمِسُوهَا فِي الْعَشْرِ الْغَوَابِرِ”[4].فيحتمل أن تكون واقعة أخرى، ويمكن أن يجمع بين الحديثين، فيكون المعنى أنه أيقظه بعض أهله فسمع خصومة الرجلين وتحاقهما  فنسيها صلى الله عليه وسلم بسبب تلك المنازعة، قال  ابن حجر في معرض الجمع بين الروايتين: “وهذا سبب آخر، فأما أن يحمل على التعدد؛ بأن تكون الرؤيا في حديث أبي هريرة مناما، فيكون سبب النسيان الإيقاظ، وأن تكون الرؤية في حديث غيره في اليقظة فيكون سبب النسيان ما ذكر من المخاصمة، أو يحمل على اتحاد القصة ويكون النسيان وقع مرتين عن سببين، ويحتمل أن يكون المعنى أيقظنى بعض أهلي فسمعت تلاحى الرجلين فقمت لأحجز بينهما  فنسيتها للاشتغال بهما”[5]

والذي يستوقف الفقيه في هذه الأحاديث، ويسترعي انتباه الناظر فيها، انقداح سؤال في ذهنه مفاده؛ أيبلغ النزاع هذه الدرجة من الخطورة فتحرم الأمة بسببه مصلحة عامة؟ أو يحرم الناس بسبب التلاحي والخصام تنزل البركات؟ وشملهم بعناية رب البريات؟ نص الحديث صريح في حصول الحرمان بسبب نزغات الشيطان، قال ابن بطال: “فرفعت: يعنى رفع علمها عنه بسبب تلاحى الرجلين، فحرموا به بركة ليلة القدر… وهذا يدل أن الملاحاة والخلاف يصـرف فضائل كثيرة من الدين، ويحرم أجرًا عظيمًا؛ لأن الله تعالى لم يرد التفرق من عباده، وإنما أراد الاعتصام بحبله، وجعل الرحمة مقرونة بالاعتصام بالجماعة لقوله تعالى: “وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ” [هود: 118- 119].”

وهذا أصل عظيم من أصول الدين،  فقد أناط سبحانه بالاجتماع والاتحاد الظفر والعزة والنصر، ورتب على التخاصم و التنازع الفشل والمهانة والخذلان، قال تعالى: “وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ” [الأنفال:46] فالحديث فيه  ملمح لطيف لشؤم التنازع والخصام، و التحذير من أثره الوخيم على كيان الأمة.

أعاذنا الله شر الخصومات، ووقانا شر النكزات، وجمع شملنا على ما يرضي رب البريات .

 

[1] الحديث رواه أبو هريرة وغيره وقد أخرجه البخاري في كتاب الصوم، باب من صام رمضان إيمانا واحتسابا ونية، رقم: 1802.

[2] أخرجه البخاري في كتاب صلاة التراويح، باب رفع ليلة القدر لتلاحي الناس، رقم: 1919.

[3] يقال: تلاحى فلان وفلان تلاحيا، ولاحى فلان فلانًا ملاحاة ولحاءً بالمد، قال في التاج: والتلاحى التنازع، نقله الجوهرى، ولاحاه ملاحاة ولحاء استقصى عليه، وأيضا دافعه ومانعه، وأيضا لاومه، وتلاحيا تشاتما وتلاوما وتباغضا. مادة ” ل-ح-ي”

[4] رواه مسلم في كتاب الصيام، باب فضل ليلة القدر، والحث على طلبها، وبيان محلها، وأرجى أوقات طلبها، رقم: 1166

[5] فتح الباري 15/463

د.عبد الجليل الحوريشي

  • باحث بمركز الإمام أبي عمرو الداني للدراسات والبحوث القرائية المتخصصة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق