مركز الإمام أبي عمرو الداني للدراسات والبحوث القرائية المتخصصةدراسات عامة

سبْكُ المقال لما بين القرآن والقراءات من لطيف الاتِّصال

الحمد لله رب العالمين وبه نستعين، وصلوات ربنا وسلامه على رسوله الأمين، وعلى آله وصحبه والتابعين

وبعد؛ فلقد مَسَّ جوانبَ القرآن الكريم عنايةٌ سابغةٌ جُلّى، عَزَّ لها النَّسْج وانْبَتَّ لوَحدها المثال، من لدن الصحابة الأخيار ومن وَلِيَهم من الأعقاب الأنجاب، منذ انْبِجاس نَبْعِ آيه الأُوَل، في استطالة أُفق وامتداد طَلَقٍ إلى حاضر الوقت والأوان، ثم هذه الرعاية الضافية قد غَطَّى طيْفُها متقلِّب أَفْنانه الأدائية (رواية ودراية)، وشَمَلَتْ ألْفافُها مُتشعِّب أحنائه القرائية ومَصاير حكومتها؛ تحقيقا لصادق الوعد الإلهي المنجز: (إِنّا نَحْنُ نَزَّلْنا الذِّكْرَ وَإِنّا لَهُ لَحَفِظُونَ) [الحجر/09]، وذلك لمَّا تجرَّد لحفْظ نصِّه وجمْع حروفه والتَّحَفِّي بسائر رسومه قُرومٌ خُلَّص من أماجد الصَّحْب، على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن تلا جَيْئَتَهم من الجَلاوِزَة النُّقّاد الجُدارء، ممَّن لَهِجَتْ برجْع نعوتهم وسيمائهم أسفار الطبقات ودواوين التراجم وتاريخ القرآن، على تعاقب الأزمنة وتنائي الأعصـر والأمكنة، احتفاءً بمرجعيَّته ورعْياً لمنزلته (كلام الله عزو جل) وما إليه، فتواترت لأجل ذلك معالم هذه الكِيانة التامّة، وتفنَّنت من صَوْن مُهجته مطارحُ الفقاهة العامّة، تطلُّباً لصـريح ماهيَّته وتفهُّماً لروائق صيرورته، ولَمْلمةً لما اشتهر من طرائق  تقلُّباته وتصـرفاته، الكافلة بضبط أوضاع رسمه وتعيين عدد آيه، وتحسين لفظه وترتيل تلاوته، ووَعْي وقوفه ورعْي ائْتنافه، ثم تحرير قراءاته وعزو أوجه أدائه وما إليه … فلم تَغْشَهُمْ سُدف الغلط في كَتْبه أو ضبطه أو أدائه أو أَرَقّ من ذلك من ذرائع التَّبيُّن والتَّحرّي، حتى نَموْه إلينا صريحاً رَيِّقاً غَضّاً، كما لم تُصبْهم غَباوةٌ أو ذهولٌ عَن ما يضمن وثاقة نصِّه أو يُفضـي لاقتناص المُراد من تنزيله وتأويله؛ إلا أثاروا مكامنه وقيّدوا مُهمله واستدْعَوا شارده وفارده، بل حَمَلوا الناس على اقتفاء حرْفه ومحاذاة قُذَّةَ أَثره مع ترْك مُشاققة إجماعه أومخالفة ائتلافاته وما إليه، ثم أُلْهموا إحراز أدبيات ذلك وتكريس جُملتها في مواعين مَكينة مُسْفرة، يَعْشو إلى سَنا هُداها الناظر الحسير (صدرا وسطرا)؛ أَنْ تضِلَّ إِحْداهُما فَتُذَكِّرَ إِحْداهُما الأُخْرى، فتمايزتْ لذلك منازلهم في الرواية والدراية، وتباينت خِلالهم في الرعاية والصيانة وغيرها من دلائل السلامة في الديانة وشِيَات متانة الأمانة، فانتصب ذلك تَرْجُمان استئثار كل قطر بأفراد من القرأة دون آخرين، غير غامزين لأعيانهم أو مطَّرحين، وإنما هزَّهم لهذا الصَّنَع في التَّخَيُّر وأَزَّهُمْ إلى الاِجتزاء بآحاد مُمَيَّزين مُبرِّزين؛ حمْلُ المتلوِّ المقروء المُنزل على أحسن الأحوال وأصدق الهيئات (سندا، رسما، لغة)، وتوخِّي سبيل أُولى العَزْم والبقيَّة من النَّقلة الوُعاة، والضبّاط السَّدنة ذوي المَعْدلة ونَهَجَة الجَدَد الأوسط، فَبِتَقَحُّم حَوْمَة هذه الإبانة وتقصُّص هدايتها؛ يُفْرَقُ للمتذكِّر المؤتسي وجْه اقتصار أهل مكَّة المشرفة وإجماعهم على حرف ابن كثير الداري (ت‍ 120 ه‍)، وارث سرِّ مجاهد بن جَبر (ت‍ 103 ه‍) ومُقَرَّب تَجِلَّته واقتصارهم عليه دون صِنوه وتوأم بطنه ابن محيصن السهمي (ت‍ 123ه‍)، الذي كان مجاهد بن جَبر (ت‍ 103 ه‍) يتمدَّح به ويَتَنَدَّرُ على اختياره في العربية وضلاعته فيقول: (ابن محيصن يبني ويرصّص في العربية) [السبعة لابن مجاهد 65]، إذ اتفق مع ابن كثير في عتاقة المشيخة وعراقة الإسناد، لمّا قرآ معا على درباس عن ابن عباس رضي الله عنهما، كما قرآ على مجاهد بن جبر، قال ابن مجاهد (ت‍ 324 ه‍) : (ولم يجمع أهل مكة على قراءته (أي ابن محيصن) كما أجمعوا على قراءة ابن كثير) [السبعة ص 65]، وكان قد نبغ كذلك بالقطر المكي حميد بن قيس الأعرج أبو صفوان (ت‍ 130 ه‍)، أحد متفقِّهة مجاهد ابن جبر الذي كان يقول: (كل شيء أقرؤه؛ فهو قراءة مجاهد) [معرفة القراء للذهبي، الطبقة الثالثة: وهم من التابعين]، ومع كلّ ذلك فلم يلْتئِمْ شَمْلُ الإجماع بالقطر المكي إلاّ على قراءة الإمام ابن كثير رضي الله عنه، فاختصّ برئاسة الإقراء إلى اليوم فَتْحاً من الله وفَضْلاً، زِدْ عليه أنه؛ ما كان غائبا أبداً عن أوهام المسلمين؛ أن الاختلافات الأدائيةَ الحتْميَّة من قَبيل: تحقيق الهمز أو تغييره، وإتمام الحركات أو رَوْمها وإشمامها، وتسكين بنية الكلم أو تحريكها وغيرها من الظواهر اللهجية الفطرية؛ رجّاعةٌ في أصلها إلى أنماط من القول عربية ضاربة في لَوْح الفصاحة بسِماكها، وقد كان أُودع معظمُها في أسانيد القرّاء، وأُحكمت صورها بإجماع الأمة وبما وافق المصاحف العثمانية، وأنَّ التّاليَ بأيّ حرف صحَّ أو أداء نُقل من الأحرف السبعة أو العشرة أو ما زاد عليها؛ لم يكنْ لينقدح في وَهْمه أو يختلج صَدْرَه ثُمامةُ ريبة أو شك أو أدنى من ذلك؛ أنه يتلو نصّاً غير نصّ القرآن الكريم، بل تلك تلاوة قرآنية وأداء قرائي وَفق مذهب إمام معيّن مُرتضـى عن التابعي عن الصحابي عن النبي صلى الله عليه وسلم عن جبريل عن رب العزة جَلَّ وعلا، لا مرْية في ذلك، وعليه؛ فلقد وقعت الخِيَرةُ في تزْييل الدلالة بين كلتا اثنتي النوعين (القرآن والقراءات) على حدٍّ ذاع أمره بين جِلَّة القرأة المتأخرين، واطَّرد ذَيَعانه عن العلامة البدر الزركشـي (ت‍ 794 ه‍) واضع البرهان، ثم تبعه فيه جَمٌّ من الأعيان أمثال: القسطلاني (ت‍ 923ه‍) ناثر اللطائف، وكذا البنّا الدمياطي (ت‍ 1116 ه‍) راصف مباني الإتحاف وجماعة.

قال الزركشي (ت‍ 794 ه‍): القرآن هو الوحي المنزل على سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم للبيان والإعجاز، والقراءات هي اختلاف ألفاظ الوحي المذكور في كُنْه الحروف أو كيفيتها من تخفيف وتثقيل وغيرهما [البرهان للزركـشي (النوع الثاني والعشـرون 1/318)،  ]، فالقرآن والقراءات بهذا الاعتبار ووَفق نظر العلامة الزركشـي ماهيَّتان مُتمايزتان وكُنهان متغايران، وليس ذانِك كذلك؛ لِلوازم عقلية ودلائل نقلية تصحُّ في الشهادة والاعتبار، إذ إنَّ الحد (جمعا ومنعا) يبغي تقييدا في صحَّة التصوُّر، كما يرجو احترازا لسلامة أجزاء النِّسبة الحدِّيَّة المثمرة (طرْدا وانعكاسا)؛ بتعيين الاعتبار أو ضبط الجهة التي بها يصيران حقيقتين مختلفتين؛ خاصة إذا عُلم أنَّ القراءات المعتبرة التي ثبتت صحَّتُها ونُقل اتصال أسانيدها وتلقتها الأمة بعدُ على عيْن الرضا والقبول؛ لا تخرج عن كونها جزءا من أداء القرآن الكريم وهيئات نطقه وأوضاع بثّه، إذ بينهما التصاق شديد واتصال وثيق أكيد مُنِمٌّ عن وجه النسبة التي تَعْقد طرفي الكُلّ بجزئه، ولعل في تتمَّة حدّ العلامة الزركشـي وبقيّته مَنْبَهة عن مَكْمَن هذه الصِّلة صادعة بجوهر حالها، فقد رَدِفَ ذلك قولُه رحمه الله: (ولست في هذا أنكر تداخل القرآن بالقراءات، إذ لا بد أن يكون الارتباط بينهما وثيقا، غير أن الاختلاف على الرغم من هذا يظل موجودا بينهما، بمعنى أن كلا منهما شيء يختلف عن الآخر لا يقوى هذا التداخل بينهما على أن يجعلهما شيئا واحدا، فما القرآن إلا التركيب واللفظ، وما القراءات إلا اللفظ ونطقه، والفرق بين هذا وذاك واضح وبيّن)، وعليه؛ فقد بان من ذلك أن التباين أو التغاير بين القرآن والقراءات ليس مطلقا ومن كل وجه، كَلاّ بل إن التغاير مسلَّم واقع من وجه، إذ إنَّ القرآن متضمِّن مواطن اتفاق واختلاف ثبتت صحة أسانيدها وتواترت نسبتها عن النبي صلى الله عليه وسلم، وما القراءات إلا أوجه اختلاف تواترت أو شذَّتْ، كما أن الاتفاق بين القرآن والقراءات ليس مسلّما به على الإطلاق ومن غير قيد أو ضبط، إذ بينهما (القرآن والقراءات) تداخل واتفاق من وجه كون القرآن وَحْياً منزّلا على النبي صلى الله عليه وسلم على جهة التواتر المفيد للعلم المزيل للعذر القاطع له، والقراءات الصحيحة المعتبرة المتلقاة بالقبول جزءٌ غير منفكّ عن هذا القرآن العظيم، المبلَّغ بالأداء النبوي الأفصحي الأمين صلى الله عليه وسلم، فلا غضاضة بعد هذا من استواء القرآن المتلو حروفا وهيئات متبادلات في غير تضاد أو تعارض [تأويل مشكل القرآن ص 40] متساويات [السبب الموجب لاختلاف القراءات (143)]، هي أجزاء نظمه وصور معانيه المفهومة المنفكَّة (المستفادة) عن طرائق ألفاظه المسموعة المعتبرة، إذْ كلّها (شاف) لصدور المؤمنين لاتفاقها في المعنى، وكونها من عند الله وتنزيله ووَحْيه، (كاف) في الحجة على صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم لإعجاز نظمه وعجز الخلائق عن الإتيان بمثله، كما حكاه البغوي (ت‍ 516 ه‍) وغيره … ، لمّا كان القصد منها (طرائق اللفظ)؛ الدلالة على الكلام الذي أنزل الله عز وجل للإعجاز بسورة منه، وخيّر الله الأمة أن يقرؤوا بما شاءوا من تلك الطرق والأوضاع، إذْ كلها متساو في الدلالة على الكلام المعجز على جهة التظاهر والتناصر (أصلا ووصفا)، فنقلها الصحابة عن الرسول صلى الله عليه وسلم مشافهة ومعارضة، كل واحد منهم نقل عنه ما لقِنه منها، ولم يلقّنها الرسول صلى الله عليه وسلم بجملتها لكل واحد من الصحابة، والواقع المعلوم يدل على صحة ما ذكر، لأن الله تعالى جعلها طرائق متعددة ولحونا متوفّرة، توسعة على الأمة من الله سبحانه ورحمة منه لهم، فحفظ كل واحد من الصحابة الوجه الذي لقنه الرسول عليه الصلاة والسلام، فصار ينسب إليه بلفظ الحرف، فيقال حرف ابنِ مسعود وحرف أبيّ وحرف زيدِ بن ثابت … ولم يُشْعِر النبيُّ صلى الله عليه وسلم أصحابه بهذه التوسعة التي تنزَّلت من عند الله، أو حَمَلهم على استيعاب أوجه التلاوة أو ما شابه، لولا وقوع الاختلاف والاِنْبراء لحسْم مادّته، فترافع المختلفون من الصحب الكرام إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقام بينهم بما يلزم وأَوْحى لكل منهم أن يتلوَ بما سمع وعلى الوجه الذي لَقِن فقال: (اقرأْ؛ فقرأَ، فقال له: أصبْت) [مسائل القيجاطي (مسألة … الفرق بين القرآن والقراءات)] وعليه؛ فمن زعم الاتحاد الكلي أو انتحل التَّماهي التام بين حقيقتي القرآن والقراءات من جميع الجهات وعلى الإطلاق، فقد رام غرابة في الحكم وعالج حِملا شديدا، لأنَّه قد استفاض عند نقاد القراءة ومؤرخي هذا الفن، أن القراءات السبع متواترةٌ عن أصحابها أئمة الأمصار إلى من بعدَهم، وأما من هؤلاء الأئمة إلى سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فمنقولة آحادا ليس إلاّ، كما حكاه العلامة أبو شامة (ت‍ 665 ه‍) [المرشد الوجيز ص 178، 145 طبعة آلتي قولاج] وغيره، قال العلامة القيجاطي (ت‍ 811 ه‍): [ولما كانت القراءة متعددة والمقروء واحدا؛ لم يلزم من تواتر المقروء تواتر القراءات، ومن ادعى قراءة متواترة أو قراءات، فعليه أن يعيّنها غير محتاجة إلى إسناد، لأن المتواتر لا يحتاج فيه إلى إسناد، ولا يصح له أن يستدل على صحة دعواه بتواتر القرآن، لأنه واحد والقراءات متعددة] [مسائل القيجاطي]، وثُمَّتَ أمر آخر متعلق بتواتر الأداء في المد والإمالة وتخفيف الهمز خاصة، إذ إن المتواتر المعروف من ذلك هو ما يتصل بالقدْر الضروري المشترك لهذا الظواهر الصوتية، وذلك المدّ من حيث هو مدّ والإمالة من حيث هي إمالة وما أشبه، فالتواتر متعلق بهذا الحدّ أو القدْر فقط، إذ ذلك أمر نسبي متعلق بأطواق البشر وقُدَرهم، متفاوت بتفاوت أداء الأعضاء الصوتية عند القرأَة والتُّلاّء، فليس ينضبط لأجل هذا [منجد المقرئين ص 72] … فربَّ قارئ أو تالٍ مدُّه أطول زمَناً وأوفى نفَسا من مد آخر، وكذا صلةِ ذاك واختلاسه ثم إدغامه وتسهيله للهمز وتفخيمه للراء وتغليظه للام …، إلى غير ذلك من أصول الظواهر الصوتية، التي هي محلّ اختلاف  في الأداء حتى بين أهل القطر الواحد المتفقهين بمذهب إمام القراءة الواحد، فمن رام تواترا في مثل هذه الهيآت الصوتية وتطلَّبه، وَسامَ له كلَّ دليل أوحجة في كل فرد فرد  أو شكل شكل؛ فقد حاول محالا بَواحا …، زد على كل ذلك ما وقفنا عليه من تصرفات النخل والنقد والاستصفاء من لدن أئمة اللغة والقراءة والتفسير … مثل: سيبويه (ت‍ 180 ه‍) والطبري (ت‍ 310 ه‍) وابن مجاهد (ت‍ 324 ه‍) والزمخشـري (ت‍ 538 ه‍) وابن عطية (ت‍ 541 ه‍) وغيرهم؛ فقد تعرَّضوا لأوجهَ قرائيةٍ معينة فنسبوها إلى الضَّعف والنزول عن الرتبة، لشذوذها وخروجها عن خُويصَّة الأداء العربي الفصيح من كلام العرب، وكذا ازْوِرارها عن المألوف المأنوس من هدْي القواعد اللغوية والأدائية المستنبطة وما إليه، وَهُم في كل ذلك معتقدون أن نقدهم للضعيف من الأوجه النازل من الأداء عن الألْيق الأتم؛ لا يتصل بنفس القرآن المنزّل المقدّس وجوهره بحال، وإنما حملهم على ذلك حميّتهم الفارطة وإيمانهم الشديد بأن الذي عَرَكوه وفَرَوْه من أوجه الأداء؛ مَردُّه إلى اختيار القارئ المؤَدّي أو الحاكي اختيار شيخه لمنحى مخصوص أو ما شابه، فهذا نبْذٌ مما يجلّي ملامح التداخل ومعالم التمايز بين حقيقتي القرآن والقراءات.

على أن نمط القراءة والأداء بأوجهه وعديد ألوانه؛ أنحاءُ متعلقة باللفظ (أصلا ووصفا)، ثم هي – في جوهرها – مبنية على أوجه اللغة التي بها تنزَّل النص القرآني وأُوحي، ثم إن هذا التعدد في اللفظ والتنوع في التأدية والنطق إنما يُستساغُ فَيُسْتمْرأ؛ اعتباراً به مُلتحَداً نابضا بدواعي الإطاقة وتذييع موجبات اليسر والرحمة، واتِّخاذه مَوْئل قوم أُمِّيّين لم يكن لهم باستظهار الشرائع وترجيع تفصيلاتها سابقةُ أُنْسٍ أو بادئةُ عناية أو ما أشبه، مُكافئا لسائر الفروع اللسانية وشُعب النطق ومُهيمنا على ما جرت به فطرة اللغة عند العرب من الأوضاع المتصلة بالنظم والتأليف (جرْسا ومعنى …)، فبتلك الرعاية الربانية في الوحْي والتنزُّل … وباستصفاء ما ثبت صحيحا من بعض ألفاظ القرآن عن النبيّ الأرأف في قراءاته وأدائه، وهو الأكْفل الأقْعد بوجوه لغة العرب وسَنَنها في التخاطب صلوات ربي وسلامه عليه؛ مَلَك كلُّ عربي (شيخ فانٍ، عجوز كبيرة، غلام، جارية …) أمر حاله في تنزيل أحرف القرآن وكلمه وَفْق لحنه الجبلّي، وعلى نهج ما استُرضع من لبان قومه وعشيرته، تنزيلا يتخذ من الملاءمة بين جرْس الحرف وبين طبيعة المعنى والصوت الذي يتأدّى به؛ مطيّة نظمية بيانية تنهض على اعتلاء تصاريف الأبنية اللفظية، واحتمال تقلبات الهيآت اللغوية الأفصحية، بالقدر الذي يشبع الحاجة الفطرية الأدائية، فيستوي سِدادا أجْدى وأنفع لكل ثغر أو صقع … ثم يلائم خصائصه الصوتية وموسيقاه اللغوية بالذي يُضـرَبُ مثلاً أبقى في لغة العرب لما هو أعلى بيانا وأبلغ فصاحة، فَلْيُتأمَّل، ثم هذا التعدد في التأدية والتنوع في البلاغ؛ ليس بضارّ القرآن شيئا أَن لّو نزل على لفظ واحد، وهو ما هو، دقة وجزالة وإحكاما وإبداعا …، بل كل ذلك وغيره مما يَشـي بتمام معاني الإعجاز وتفيُّئ مسارح الإبانة واستطالة مَدِّها، واستيلائه على حذافير الفطرة اللغوية في نفسها وواقع أمرها، فلا وربِّك لن يهدأ رُوعُك أويُفَرَّغ عن قلبك حتى تنقاد فتردّ أمر إعجاز القرآن وبراعة نظمه إلى مُولي البِرِّ العليّ، الذي ركز في العرب فطرة اللغة، ثم مَنَّ ففتَّق من كُنه هذه اللغة ما رجع على تلك الفطرة بالعجز والهُدْنة وتَصَـرُّم دواعي المعارضة والمطاولة أو ما أشبه، فنعْت البيان متصل أبداً بعربية القرآن مُحتبٍ بحيّزها لنْ يُزيَّل بينهما بحال، وذلك في مثل قوله تعالى: (وَهَذا كِتاب مصدِّق لساناً عربيّاً) [الأحقاف/12] وقوله تعالى: (وَهَذا لِسانٌ عَربيّ مبين) [النحل/103] وما أشبه ذلك، ثم إن التعدد في الأوجه والتنوع في الأداء سمات خاصة تشكل غراس أساس البيان العربي في أدبيَّته التامة، فلأجله استوى القرآن مبينا معجزا، فكانت وجوه قراءاته من محاسن خِلال البيان المعجز، ونازلةً على وَفق مألوف العرب وطِبْق ما كانوا يستحسنون …، فهذا نبذٌ طريف مجلٍّ لميسم البيان والإعجاز الجاريين في الحد الآنف.

وعليه؛ فالأداء القرآني لا يتحقق إلا في رواياته المشهورة التي نزل عليها في أحرفه السبعة، قال العلامة مكِّي (ت‍ 437 ه‍) في الإبانة: [إن هذه القراءات كلها التي يقرأ الناس بها اليوم وصحت روايتها عن الأئمة؛ إنما هي جزء من الأحرف السبعة التي نزل بها القرآن، ووافق اللفظ بها خط المصحف، مصحف عثمان رضي الله، الذي أجمع الصحابة فمن بعدهم عليه واطّرح ما سواه مما يخالف خطه] [ص 32، تح عبد الفتاح شلبي]، فيبقى النص القرآني وحيا منزلا على قلب النبي صلى الله عليه وسلم، ثابتا على وجه التواتر ثبوتا باتّاً قاطعا من تطرُّق الريبة أو الشك أو ما شابه، خلافا للقراءات التي هي طرائق في التأدية وأوجه في التبيلغ يعتريها المتواتر والمشهور والصحيح والشاذ وما إليه، لتعلقها باللفظ والنطق لا بالتركيب والنظم، فكل من يقرأ بقراءة معتبرة فإنه يجري عليه أنه يتلو القرآن وَفق مذهب إمام معين في نظام الأداء، ذي ملامح لهجية مستوفية لسمت القرشية التي يستحسنها كل قبيل عربي، من إمالة أو إدغام أو تخفيف همز أو ما شابه، فهو كلام الله ووحيه تأدّى إلينا وتُلقي بأداء نبوي مصطفوي مصفّى صلوت ربنا وسلامه عليه وعلى آله، قال أبو شامة (ت‍ 665 ه‍): [واعلم أن القراءات الصحيحة المعتبرة المجمع عليها؛ قد انتهت إلى السبعة القراء …، واشتهر نقلها عنهم لتصديهم لذلك وإجماع الناس عليهم، فاشتهروا بها كما اشتهر في كل علم من الحديث والفقه والعربية أئمة اقتدي بهم وعُوّل فيه عليهم، ونحن فإن قلنا: إن القراءات إليهم نسبت وعنهم نقلت، فلسنا ممن يقول: إن جميع ما روي عنهم يكون بهذه الصفة، بل قد روي عنهم ما يطلق عليه أنه ضعيف وشاذ … فلهذا ترى كتب المصنفين في القراءات السبع مختلفة في ذلك، ففي بعضها ذكر ما سقط في غيرها، والصحيح بالاعتبار الذي ذكرناه موجود في جميعها إن شاء الله تعالى، فلا ينبغي أن يغتر بكل قراءة تعزى إلى واحد من هؤلاء الأئمة السبعة ويطلق عليها لفظ الصحة، وأنها هكذا أنزلت، إلا إذا دخلت في ذلك الضابط، وحينئذ لا ينفرد بنقلها مصنف عن غيره، ولا يختص ذلك بنقلها عنهم، بل إن نقلت عن غيرهم من القراء؛ فذلك لا يخرجها عن الصحة، فإن الاعتماد على استجماع تلك الأوصاف لا على من تنسب إليه]. [المحرر الوجيز 90 – 91].

وعليه؛ فالاتصال الواقع بين القرآن والقراءات كَمِنٌ في نَجْوة هذا التنوع الأدائي، المنفكِّ المولَّد عن تقلبات الصيغ الدلالية لألفاظ القرآن الكريم، وتعداد صور تنزلاته ومستتبَعات تراكيبه وما إليه، ثم هو لَمِمّا يُعْرب عن مِيسَم الإعجاز القرآني المُتَسَنِّم لِذُرى الأَلَق البياني، المبلَّغ بالأداء النبوي المشـرق صلوات ربنا وسلامه عليه، إذ إنَّ تكاثر المحامل وتنوع الاعتبارات، التي تسمح بها كلم القرآن وتراكيبه وإعرابه ودلالته من قَبيل: الاختلاف في إعراب الكلم أو في حركة بنائها، أو الاختلاف في حروف الكلم دون إعرابها، أو الاختلاف بالزيادة والنقصان …؛ لمما يُكرِّس ظواهر الإعجاز المختزَنة في معنى نزول القرآن على سبعة أحرف، وتلقُّف تأويله رَهْواً على هِينته، من غير وَكْس ولا شطط، قال ابن قتيبة (ت‍ 276 ه‍): (وكل هذه الحروف كلام الله تعالى، نزل به الروح الأمين على رسوله عليه السلام، وذلك أنه كان يعارضه في كل شهر من شهور رمضان بما اجتمع عنده من القرآن، فيُحدث الله إليه من ذلك ما يشاء وينسخ ما يشاء وييسِّـر على عباده ما يشاء، فكان من تيسيره أن أمره بان يقرئ كل قوم بلغتهم وما جرت عليه عادتهم … ولو أن كل فريق من هؤلاء أمر أن يزول عن لغته وما جرى عليه اعتياده طفلا وناشئا وكهلا؛ لاشتدَّ ذلك عليه وعظمت المحنة فيه ولم يمكنه إلا بعد رياضة للنفس طويلة، وتذليل للسان وقطع للعادة، فأراد الله برحمته ولطفه أن يجعل لهم متسعات في اللغات ومتصرفات في الحركات، كتيسيره عليهم في الدين حين أجاز لهم على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم أن يأخذوا باختلاف العلماء من صحابته في فرائضهم وأحكامهم، وصلاتهم وصيامهم، وزكاتهم وحجهم، وطلاقهم وعتقهم، وسائر دينهم) [تأويل مشكل القرآن ص 38] ، فهذه أَوجُه من طرائق الاستعمال التي يشتمل عليها النمط العثماني اشتمال احتمال، كلها وغيرها؛ إذا لم تُفْضِ إلى خلاف المقصود أو الغرض من سياقة النظم؛ حُمل الكلام على جميعها، حتى يُضْحي أحسنَ ويستوي أنبل من أن يكون بَبّاناً واحدا، والقراءات المتواترة إذا اختلفت في قراءة ألفاظ القرآن اختلافا يفضـي إلى اختلاف المعاني؛ لممّا يرجع إلى هذا الأصل. [التحرير والتنوير 1/96]

وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه ومن تبع

Science

د.مولاي مصطفى بوهلال

    • باحث بمركز الإمام أبي عمرو الداني للدراسات والبحوث القرائية المتخصصة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق