وحدة الإحياءدراسات عامة

سؤال المعنى في الفكر الإنساني المعاصر.. الحدود والمآلات

إن تطارح سؤال المعنى[1] في الفكر الإنساني المعاصر، وفي سياق هذه المنتدى الفكري الذي وفق إلى مناقشة قضايا الوجهة والمرجعية في زمننا المعاصر، يعتبر من الإشكالات التي تؤرق الضمير الحضاري للبشرية جمعاء بمختلف مرجعياتها المؤطرة، ورؤاها للعالم الموجهة لمسارات الحياة.

وحسبنا في هذا الحيز الزمني الضيق أن نلامس بعضا من وجوه التعاطي الفلسفي الغربي العام مع سؤال المعنى، وإلا فإن الإحاطة بالفكر الإنساني المعاصر بخصوص هذا الموضوع في حاجة إلى جهود جماعية تعمل على اكتشاف القوة الاقتراحية التي تكتنزها الحكمة البشرية في مرجعياتها المختلفة.

 ويجدر التنبيه بدأً إلى أن سؤال المعنى إشكال مؤرق، وامتحان للحكمة البشرية جمعاء، ولا يمكن لأي مجال تداولي فكري خاص ادعاء العصمة منه، برفع شعار التشبث الهوياتي المنغلق، دون الانفتاح بشجاعة على ما يعج به العالم من حوله من مختلف الشبه الوجودية، والمآزق الحياتية، والانسدادات الآفاقية، والاجتهاد في إيجاد أجوبة تستجيب لتحديات سياقنا المعاصر الشديد التركيب. فـ”لا جرم أن الإنسان الغربي صنع الحضارة المعاصرة، بل صنع العصر نفسه؛ لكن يبقى أنه لا يستقل بكيان “الإنسان المعاصر”، فقد يشاركه في هذا الكيان سواه من الناس، ذلك أن هذه الحضارة نفذت إلى أرجاء العالم كله؛ وهذا لا يعني أن كل فردٍ فردٍ في العالم أضحى يملك الأسباب الحضارية التي يملكها الفرد الغربي؛ فقد لا يملك الشخص هذه الأسباب، ويكون، مع ذلك “إنسانا معاصرا”؛ فلم يعد “الإنسان المعاصر” شخصا من الأشخاص أو ذاتا من الذوات، وإنما صار عبارة عن “نموذج خٌلٌقي ذهني، لا عيْني” أو قل “نموذج سلوكي مجرَّد، لا مشخَّص”؛ وبث هذا النموذج الذهني في كل أقطار العالم، غربيها وشرقيها، شماليها وجنوبيها؛ فمهما اختلفت أجناس شعوبها وثقافاتها ومستوياتها الحضارية، فقد أصبحت تشترك كلها في حفظ هذا النموذج الخُلُقي المجرَّد”[2].

فالمجال التداولي الإسلامي نفسه، على غرار غيره من المجالات الحضارية المختلفة، قد انغمر في السياق الحداثي الغربي، وانخرط في زمانه المعولم، وبات يصرخ بأعلى صوته إلى جانب الأصوات الحضارية بمختلف أديانها ولغاتها وتعبيراتها الفكرية وانتماءاتها التاريخية والجغرافية منذ مطلع الألفية الثالثة، معلنين بأن البشرية اليوم في حاجة ماسة إلى تحديد موقعها من جديد، ومعرفة اتجاه حركتها التي تسارعت وتيرة إيقاعها زمانا ومكانا بشكل غير مسبوق، بل يمكن اعتباره نقلة مفصلية لم تعهد الإنسانية نظيرا لها في تاريخها.

لا شك أن مجمل المفاهيم والأفكار التي أطرت الفكر الفلسفي الغربي الحديث، قد غزت عقول العالمين باعتبارها منتجات مضمونية مواكبة للكسب التقني والعلمي الذي انبهر به من عرفت عنده عجلة التاريخ توقفا أو عطبا، وليس العالم الإسلامي الذي كان رائد العلوم التجريبية، في العصر الوسيط بخارج عن هذا التلقي لعلوم الغرب زمن انحطاطه.

 وبالتالي سوف نقف في هذه العجالة عند نماذج من الفكر الغربي بغية إظهار وعيهم بسؤال المعنى، وكيف أن إجاباتهم عنه أفرزت أنظارا واجتهادات مختلفة تتنافس جميعها في جعل الإنسان مركزا تتمحور حوله الموجودات، وهو ما تبلور لديهم في منابته ومحاضنه، وأضحى بالتالي برامج عمل لمراكز التفكير والتوجيه، مما أفرز منظومة حضارية بشرت بإنسان جديد وحديث.

 لم يكن سؤال المعنى وليد عصور الحداثة، أو العهد الصناعي، وغير ذلك من التوصيفات التحقيبية الحديثة، بل إنه سؤال جِبِلي، وفطري، منغرس في كينونة الإنسان يختصره سؤالان:

لماذا أنا موجود؟

وإلى أين أسير؟

إنها أسئلة تشكل الأسس الأنطولوجية التي يَقُوم ويَتَقَوم بها التركيب الخِلْقي والخُلُقي للإنسان، فهي مركوزة في عمقه منذ وعيه بذاته، ويستوي في هذه الاضطرارية للمعنى من التمس جوابا من عنده ووضعه، أو من أصغى السمع إليه من خلال الشرع والوحي الإلهي الذي حمل أمانة تبليغه الأنبياء والرسل عليهم السلام. والحق، كما قال عالم الأديان ميرتشيا إلياده، “أنه يصعب على المرء أن يتصور كيف يمكن للذهن البشري أن يعمل من دون وجود قناعة لديه بأن ثمة شيئا في العالم هو فعلا حقيقي (real). كما أنه يستحيل على المرء أن يتخيل كيف يمكن للوعي أن يظهر بمعزل عن إضفاء معنى (Meaning) على دوافع الإنسان وتجاربه”[3].

إن السؤال حول المعنى وإن توحدت الحاجة الأنطولوجية إليه، فإن سبل الجواب عنه متعددة ومتنوعة ومختلفة، وهي بمثابة مسارات شديدة الحساسية والخطورة، تتصل بمصير الإنسان في هذا الوجود، وموقعه ومرتبته ضمن جميع الموجودات، فالأمر فصل وليس بالهزل، والتاريخ القريب والبعيد يشهد على ما عانته وتعانيه البشرية من ويلات من جراء “قرارات” تدعي الحسم بخصوص قضايا المعنى والوجود التي تتأبى عن إحاطة عبقرية معينة، أو جيل بأكمله، أو اختيار حضاري بعينه، إذ تنطوي في تلك الأجوبة أسباب تهافتها التي تُظهر عوراتها ولو بعد حين.

لقد ادعى الإنسان أنه قد وجد في الأنساق الفلسفية التقليدية الكبرى أجوبة عن سؤال المعنى الذي يحتوشه إيمانا منه وتسليما وثقة بعقله وبمصدريته المعرفية والقيمية، فرأى فيه استقلالا واقتدارا على تحديد خريطة الوجود واستبانة القيم ووضع المعايير، وكونه مكتفيا بذاته لذاته في غير حاجة إلى الرجوع إلى الحقيقة المتعالية التي تتجاوزه باعتبار محدوديته البشرية.

لقد تجاذب الإنسانية في رحلتها البحثية عن المعنى الاتجاه الشرعي باعتباره دالا على الدين الموحى به من الخالق عز وجل، والاتجاه الوضعي بمعناه العام الذي يعني الوقوف عند ما يمليه العقل في استغناء عن الشرع، ولكلا الاختيارين نتائج يمكن للبشرية أن تفحص “مردودها” المعنوي والمادي على البشرية ماضيا وحالا ومآلا، وتعمل على تقويم مخرجاتها الحضارية.

لقد قطع الزمن الغربي الحديث مع الدين لأسباب تخص سياقه العمراني والروحي بوجه عام، وعكف على الامتثال لما يتلوه عليه عقله الذي بلغ “مداه” النسقي مع الفيلسوف الفرنسي رونيه ديكارت، و“كماله” النقدي مع الفيلسوف الألماني إيمانويل كانط؛ إذ أصبح المشهد العام عبارة عن انعتاق شامل للبشرية من إسار الظلامية والتسلط، مع ما رافقه من “فتوحات” علمية وتقنية بشرت ب”التقدم” من خلال الدخول في الزمن الصناعي عبر الكسب “الأداتي” للآلة الذي تغيرت معه مفاهيم المكان والزمان والرؤية للذات والغير، وما أسفر عنه بفعل التطور السريع من إرادة “إخراج” الخَلق من الظلامية، ودعوتهم “لأنوار” الحداثة المخلصة من براثن التخلف.

إنه زمن كمال تسيُد الإنسان على الطبيعة، والتربع على عرش مركزية الكون، ليصير بذلك مصدرا للحقائق ومتلقيا لها في نفس الآن، بعيدا عن أي آخَرِية وغيرية متعالية عنه تمكنه من اختبار وفحص ما يقدم عليه من قرارات في غاية الخطورة، وتورط النوع البشري بأكمله والذي لم يستفق من غيبوبة سكراتها المعربدة منذ القرن الثامن عشر إلا بعد أن ذاق ويلات الحربين العالميتين، وعانت الشعوب من ويلات سلبه لحرياتها باحتلال أراضيها واستنزاف ثرواتها، ولم تسلم الطبيعة من التخريب التقنوي الأعمى، فأضحت معه البشرية مهددة بالفناء؛

 إذ أصبح عصر الإنسان “الحداثي” موصوما بالأنثروبوسين (Anthropocene)[4)، وليس عصر الأنثروبوسين إلا العصر الجيولوجي البشري الذي دخل فيه كوكب الأرض، وهو عصر جيولوجي جديد أطلق عليه هذا الاسم عليه العالم الهولندي بول كروتزن (Crutzen Paul)، الحاصل على جائزة نوبل في الكيمياء عام 1995؛ واصطلاح أنثروبوسين يعبر عن تأثير الإنسان المتزايد على المحيط الحيوى؛ “أي الكائنات الحية والوسط الذى تعيش فيه”، حيث أن الجزء الأول من المصطلح وهو “أنثروبوس” من أصل يوناني، ومعناه “الإنسان.

ففي سنة 2000، مطلع الألفية الثالثة، ومفتتح القرن الواحد والعشرين، عرفت البشرية حدثا تاريخيا مفصليا بكويرنافاكا بالمكسيك التي احتضنت مؤتمرا متخصصا حول التأثير البشري على كوكب الأرض حيث عرف نقاشا كبيرا صاح فيه صاحب جائزة نوبل في الكيمياء، بول كروتزن، قائلا لزملائه: “لا! إننا لم نعد في الهولوسين (Holocène)، نحن…، وتوقف لبضع ثوان للتفكير، نحن في الأنثروبوسين”.

 فهو العصر الجيولوجي الذي أصبحت فيه المجتمعات البشرية، بسبب أنشطتها الصناعية، عاملا رئيسيا وراء التغييرات الكبيرة لكوكب الأرض. ومنذ ذلك الحين انطلق التوصيف لعصر لم يسبق للبشرية أن عرفت مثيلا له طيلة تاريخها، مما جعل كثيرا من المفكرين والعلماء والفلاسفة يراجعون كثيرا مما تم التسليم به من مبادئ ومنطلقات و”معتقدات”؛ فلاسفة، على غرار أوجست كونت الوضعي الذي بشر بدين جديد للإنسانية، وذلك على مدى قرنين من الزمان أو أكثر، وكيف أنهم أضاعوا الوجهة التي كان عليهم أن يولوا شطرها[5].

فقد دخل التاريخ الطبيعي الكوني إلى مرحلة ابتلائه بمصيبة سببها ما كسبت يد البشر، ولم يكن ذلك ليحدث لو كانت التصورات والرؤى المؤطرة للوجود البشري نابعة من أفق مبين يُبَصر بطبائع الإنسان والطبيعة والعمران، ويميز بين الوسائل والغايات، فالإنسان “المسترشد” بعقله، والمستعدي بهواه، في ذهول وغفلة عن خالقه وخالق الكون الذي يَعْمره. حيث إن المواقع عرفت رجة وخلخلة وأصبح الفرع أصلا، والمحيط مركزا، بمعنى أن الإنسان قد ادعى مكانة ليست له وتعدى قدره الاستخلافي، وعمله الائتماني، ونصب نفسه قبلة تقصد، فكان ما كان مما هو مشهود من آثار مدمرة أتت على البنيان الطبيعي والاجتماعي من القواعد.

لقد عبر نيتشه من خلال مقولته “موت الإله” عن حقيقة مروق العصر من الدين وانسلاخه منه، عاملا على تنزيل ما تراءى له من تصورات عمرانية، ومنجزا للمشاريع بالتعويل والتوكل على نفسه، فهو بالتالي شكل أنموذجا حضاريا يتسيد فيه الإنسان على الطبيعة، رافضا لكل أشكال الحقيقة المتعالية كيف ما كانت طبيعتها وفداحة آثار الثورة عليها، إنه تحطيم لأوعية المعنى التي تأثلت عبر الألفيات البشرية، ليصبح الإنسان متمركزا على ذاته، منه المبتدأ وإليه المنتهى وضعا وتقنينا وتقويما.

فمنذ النصف الثاني من القرن التاسع عشر، بدأت الهجمات الكبرى على الفكر المثالي المطلق، في السياق الغربي دائما، والذي كان الفيلسوف الألماني جورج فيلهلم فريدريش هيغل (Georg Wilhelm Friedrich Hegel) إمامه الكبير، وعمل فلاسفة كبار على تحطيم بنيانه بالدعوة إلى محورية الإنسان، وكونه مستقلا بإنتاج المعنى بمفهومه العام توجيها للحركة وتسديدا لها وتأييدا، وذلك في نفي تام للأطر المرجعية المتعالية، والإيمان فقطب الإنسان ولا شيء غير الإنسان.

وكما كتب هربرت ماركيز (1898-1979) (Herberte Marcus) “فقد كانت هناك موجة اقتناع عميق بأن الفلسفة قد وصلت إلى نهايتها، وانتشرت هذه الموجة في العقود الأولى بعد وفاة هيغل. وذاع اعتقاد مؤكد بأن تاريخ الفكر قد بلغ مفترق طرق حاسم، وأنه لم يتبق إلا وسيط واحد يمكن الاهتداء بواسطته إلى “الحقيقة” وتطبيقها فعليا، ألا وهو الوجود المادي العيني للإنسان…”[6].

 وإذا ما أردنا الوقوف على اللحظة الفارقة مع الفكر المتعالي، أو المطلق، والإخلاد إلى الإنسان والإيمان به وحده دون سواه، نجد لودفيغ فيورباخ (Ludwig Andreas Feuerbach) (1804-1872)، الذي بشر ب”مبادئ فلسفة المستقبل” وترك ما بلي من أوهام مثالية ماضوية فلسفية كانت أو لاهوتية، معلنا، بشكل صريح، “أن الشعور الديني يتولد عن أماني الإنسان، وأن الدراسة الفلسفية الصحيحة هي دراسة الإنسان نفسه”[7]، فاعتبر فيورباخ لذلك برزخا بين الفكر الفلسفي التأملي الهيغلي والفكر الفلسفي المادي الماركسي، إنه معبر الفكر الفلسفي من المطلق إلى الإنسان.. من الروح المطلق وعالم المعاني، إلى الإنسان في تمظهره الحسي والمادي الجسدي. ولا مجال للحديث، في هذا السياق، عن طبيعة فهمه للدين وتمييزه له عن اللاهوت، بتأسيسه لفلسفة الدين[8].

ومن ثم يمكن التمييز بين مسارين عرفهما الاتجاه الفلسفي في صلته بالإنسان: أحدهما؛ تعرف على الإنسان باعتباره بنية داخلية وباطنية، وعني بكينونته ووجوده باعتباره الإنسان الفرد، وهو ما اشتهر بالتوجه الوجودي مع سورين كيركجارد (Søren Kierkegaard) (1813-1855)، الذي سيعرف تطورا كبيرا في القرن الماضي. وثانيهما؛ تعرف على الإنسان باعتباره بنية خارجية وعني بظروفه المادية وتدافعه الاجتماعي، وهو ما كان كارل ماركس(1818-1883) رائده الكبير.[9]

ولذلك تُشكل سنة 1843، في أواسط القرن التاسع عشر، منعطفا حاسما تميز بظهور ثلاثة مؤلفات تأسيسية، عبرت عن روح الوجهات التعرفية، ومحاولات تقديم إجابات عن سؤال المعنى من خلال رؤاها المختلفة للإنسان والعالم، عنوان الأول كما سبق ذكره مبادئ فلسفة المستقبل لفيورباخ، حيث اجتهد في رسم معالم المسار الذي ينبغي للبشرية أن تضع فيه خطاها نحو التحرر من أغلال اللاهوت والتأمل، كما ظهر كتاب نقد فلسفة هيجل السياسية لماركس، وكتاب كيرجارد الشهير إما.. أو Either/Or.

فروح عصر القرن التاسع عشر هي التي هيمنت خلال القرن العشرين عبر الاتجاه الوجودي بمختلف تلاوينه المتصلة بالإنسان الفرد، الكينونة، أو عبر الاتجاه الماركسي بمختلف تنزيلاته المتصلة بهموم الجماعات في تجلياتها الطبقية، أو الجماهيرية، ورغم البحث العميق في هاته الفلسفات، وصلتها بالدين، نقدا أو هدما أو تقويما، أو قبولها ورفضها لمنطق التعالي، بوجه عام، فإنها تبقى دالة على الخصوصية الإنسانية المركبة، المجبولة على البحث عن قبلة تتغياها، ووجهة تسلك وفق هادياتها، وحركية عمرانية ينتظم من خلالها الاجتماع البشري.

وقد زاد من حدة التساؤل عن المعنى والمصير؛ معاناة السياق الغربي من الحربين العالميتين، إذ ظهرت إبداعات فلسفية وجودية مع مارتن هيدجر، وجون بول سارتر، وسيمون دي بوفوار، ويسبرز، ومارسل، وغيرهم وولدت قضايا ومسائل جديدة حاولت الاجتهادات الفلسفية أن تجد لها أجوبة، وهي في عمومها شديدة الصلة بكينونة الإنسان والمقصد من وجوده من مثل المسؤولية، والحرية، وصناعة المستقبل، واتخاذ القرار، إلى جانب قضايا الموت، واليأس، والخطيئة، والقلق، والتناهي، بخلاف ما كان مألوفا في الأنساق الفلسفية التقليدية من نظريات حول المنطق والمعرفة، فقد طفت إلى السطح حيرة الإنسان المعاصر وحاجته إلى حلول لأزمة المعنى التي يتخبط فيها بعد أن تبخرت بشائر”التقدم” التي وعد بها باعتبارها البلسم الشافي لجراحاته، والدواء الكافي لسعادته وكمال تسيده على العالم.

وهو ما عبر عنه “إريك فروم” في جل كتاباته، وهو العالم النفسي، بنهاية وهم الوعد العظيم بالتقدم غير المحدود، وعد السيطرة على الطبيعة، والوفرة المادية، والسعادة القصوى للأغلبية العظمى، والحرية الشخصية غير المحدودة، ذلك الوعد الذي كان محط الآمال، ومنبع الإيمان للأجيال، منذ بداية العصر الصناعي، فمن المؤكد أن المدنية المأمولة بدأت منذ بدأ الجنس البشري سيطرته الفعالة على الطبيعة، غير أن هذه السيطرة ظلت محدودة إلى أن جاء العصر الصناعي.

وبإحلال الطاقة الميكانيكية ثم الطاقة النووية محل طاقة الحيوان والإنسان، إلى إحلال الحاسبات الإلكترونية محل المخ البشري، سارت البشرية في سبل الإنتاج غير المحدود، حيث أصبح التقدم التكنولوجي وكأنه المفتاح السحري القادر على كل شيء، مثلما صار التقدم العلمي وكأنه علم محيط بكل شيء؛

إنها سبل أدت بنا إلى الطريق الذي تشبع فيها الإنسان بوهم التشبه بالإله، علما وإحاطة وقدرة تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا، وكما برهن ذلك إريك فروم بحسه النفسي والسياسي الاجتماعي، في جل كتاباته الشهيرة والمترجم جلها للعربية، فلقد تقوى الإحساس لدى الإنسان “الحديث”، بكوننا كائنات عليا قادرة على خلق عابر آخر، لا تستخدم العالم الطبيعي إلا كأحجار لبناء عالمنا الذي هو من خلقنا… ومن ثالوث؛ الإنتاج غير المحدود، والحرية المطلقة، والسعادة غير المحدودة، تشكلت نواة دين جديد اسمه التقدم، ولن نستطيع أن نفهم الصدمة التي أحدثها التحقق من إخفاق هذا “الوعد العظيم” في أيامنا هذه إلا إذا تصورنا كم كان عظيما ذلك الوعد، وكم كانت هائلة تلك المنجزات المادية والثقافية التي جاء بها العصر الصناعي، فالحق أن العصر الصناعي أخفق في الوفاء بوعده العظيم، ويوما بعد يوم يتزايد عدد الناس الذين أصبحوا مدركين:

– أن إشباع الرغبات ليست سبيل السعادات؛

-ن الحلم بالسيادة والحرية وهم؛ إذ أصبح الإنسان مستعبدا من طرف الآلة البيروقراطية وسطوتها الإعلامية التي تتلاعب بالأذواق والعقول والميولات والتوجهات؛

– أن التقدم الصناعي لم يكرس إلا الهوة بين الأغنياء والفقراء، وزاد من الفوارق المجالية التي تسفه خطاب الخلاص للبشرية جمعاء[10]؛

– ن التقدم التكنولوجي خرب أشكال الحياة على وجه الأرض، مما أضحى اليوم واقعا مشهودا تعانيه أجيال اليوم فكيف بأجيال الغد، حيث تجاوزت البشرية استشعار مخاطر إيكولوجية إلى معاناة آثارها التي تتزايد يوما بعد يوم.

لقد انفصل العلم عن عوالم المعاني والقيم الموجهة والمؤطرة، وصار مجرد وسائل لتحصيل المنافع العاجلة، دون النظر في المآلات التي باتت أجيال بأكملها تؤدي ضريبته، وتئن تحت وطأته، فعندما تغيب القبلة الحقيقية، ويضمحل التوجه للحقيقة المتعالية، ويقع الذهول عن الخالق والبارئ تعالى، السميع العليم المحيط بكل شيء، رب القبلة الحق بكل مقتضياتها العقدية والسلوكية، والنظرية والعملية، التي هي في حاجة إلى تدبر وتفكر في الكتابين المسطور والمنظور؛

 إذ باستغناء الإنسان عن مصدر الاستهداء والاسترشاد، يبقى موكولا لنفسه تعبث به الأهواء والظنون والسعي الحثيث إلى إشباع نهمه الشهواني التكاثري، واهما بأن ما يقترفه من أفعال، ويلقيه من قرارات، إنما يريد به الإسعاد والرفاه، غير أنه سرعان ما يظهر عوارها للعيان مع مرور الأيام والسنين والقرون. فنحن اليوم في الألفية الثالثة، وبحكم موقعنا الزمني نرى اضمحلال خيارات فلسفية وضعية وعلموية وتقنوية، مما يفرض الاجتهاد والعكوف المستديم الذي يُمكِّن من الاستنطاق المبدع لآيات الكتاب العزيز، باعتباره مرجع الوجهة، كما يؤهل للتعامل الراشد معا لكون باعتباره مرجع الحركة، في تواشج ومزج يخرج الإنسان المعاصر من تيهه، وحيرته، وأزمته.

ويبدو اليوم، أن توصيف الأحوال بالتأزم أو أنها في أزمة، بات شائعا يتصدر عناوين التحليلات المختلفة، ولو أن الوضع الكارثي الذي نعيشه، يحتاج إلى توصيف آخر أبلغ من مفهوم الأزمة، ألا وهو الانهيار الشامل.

فالمناشط الإنسانية المتنوعة من مادية ومعنوية، علوما وفنونا وتنظيمات وغيرها تعيش أزمتها الخاصة، أو تتأثر بفعل الأزمة الشاملة التي تعمل على كبح مساراتها وإعاقة إمكانات تطورها من حال اعتبر في لحظته الماضية توقا نحو كمال معين، سرعان ما يتبدى جريا وراء سراب في الزمان الحاضر.

إنها الأزمة (بالتعريف) لأنها لم تبق فقط تشخيصا لأعطاب معينة في قطاع مخصوص يمكن ادعاء القدرة على إصلاحها، أو بمثابة أمراض يعانيها الجسم الإنساني، يمكن التغلب عليها بالحلول العلاجية المقترحة؛ ذلك أنه مع تقدم الزمان أصبح الإنسان المعاصر في القرن الواحد والعشرين يرى فيما تقدم من إصلاحات وحلول وما تجرعه من “أدوية” لأزماته، مجرد مسكنات لم تستأصل جذور الأزمة من أصولها العميقة، بل تم تأجيل تفاقم آثارها الوخيمة جيلا بعد جيل، لترزح تحت نيرها البشرية اليوم.

فأزمة المعنى في الزمن المعاصر هي عنوان المرحلة التي دخلت فيها البشرية بمختلف مللها ونحلها، إذ أن النمط “الحداثي” الغربي أصبح نموذجا أخلاقيا انسلكت فيه البشرية طوعا أو كرها، مما زاد من وتيرة اكتساحه للعقول والوجدانات المصفوفة الرقمية الجديدة، وفقدان الذاكرة الإنسانية الجمعية التي تنطوي فيها صنوف الحكمة المختزنة للخبرات المعاييرية والمعالمية، والتي بها يقتدر الإنسان على الإبحار في الأمواج العاتية لزمننا المعاصر بحثا عن مرفأ للنجاة، غير أن هذه الحكمة بحكم إهمالها بفعل الانبهارية بالنموذج الأخلاقي الغربي، صارت في حكم العدم، إذ الإنسان صار كائنا شاردا وتائها مفتقدا للتوازن بين معطيات المادة ومتطلبات الروح.

يتضمن مفهوم الأزمة بنية انقطاعية تعيق الاستمرار أو تكرس انسدادا يحول دون مزيد”التقدم” إلى الأمام، حيث يرتفع حدث تاريخي لمصاف لحظة مزعجة تؤثر في تطور صيرورة إنسانية (processus)، لدرجة يتشوه فيها المعنى وِجْهةً ودلالة[11].

ولذلك فإننا نعيش اليوم حاضرا تحيط به الأزمة من كل جانب، حيث لم يعد الحديث اليوم عن الأزمات باعتبارها وصفا مخصوصا لمجال معين، بل باعتبارها خطرا يتهدد مختلف مفاصل الحياة الإنسانية من اقتصاد ومالية، وسياسة وثقافة وقيم وسلطة، وتربية، وطفولة وشباب وعائلة، وغيرها، حيث إن مثل هذه الإحاطة والشمول تطرح إشكالا إبستيمولوجيا: فكيف تنضوي كثرة الأوصاف المختلفة المتصلة بمجالات متنوعة تحت مفهوم واحد؟ ومن ثم فما هي طبيعة هذه “الأزمة” التي خولت لها هذا التوصيف الشمولي الموحد للمناشط الإنسانية المختلفة؟

يدل الشمول المفهومي للأزمة على أزمة معرفتنا وفهمنا للواقع، أزمة معيشنا وتجربتنا الذاتية، وأزمة الواقع الموضوعي، الاجتماعي منه على وجه التخصيص، حيث إن مثل هذا التعميم يفرغ ” الأزمة” من معناها الأصلي[12]، فالكلمة اليونانية: (krisis) “كريسيس” تشير إلى الحكم والتمييز والفصل، واتخاذ القرار، إنها لحظة الحسم التي تمكن من التشخيص والاستشراف في مسار غير مؤكد، للخروج في نهاية المطاف من الأزمة، بخلاف ما أضحت تعنيه اليوم من فقدان القرار والحسم في ما أصبح عليه الوضع المأزوم/المعلول من استدامة جعل منه القاعدة، وحالة السواء المنشودة استثناء.

إنه نوع من الدخول في زمن جديد، خرج فيه مفهوم الأزمة من الاستعمال التقليدي والتقني الذي اشتهر به خصوصا في المجال الطبي القروسطي، ليكتسي معان أخر في القرن الثامن عشر مع الحداثيين، لها شديد الصلة بالتاريخانية الحداثية التي بشرت بتحول عميق وقطيعة جذرية مع المألوف من المعايير والمعهود من المعالم، والمعروف من المراسم، بنشدان حلم جاذب للبشرية اسمه “التقدم”، وعبر عن أفقه “المجهول” حينئذ، والمطلوب بلوعة كبيرة، من جراء الأزمة المجتمعية الخانقة، الفيلسوف “جان جاك روسو” حين كتب: “إننا نقترب من حالة الأزمة ومن عصر الثورات، من يمكنه أن يخبرنا حول ماذا سيقع حينئذ؟”[13]؛

ومن ثم ارتبط الفكر المعاصر بمنطق الأزمة المتسلسل؛إذ سرعان ما يصير حل الأزمة نفسه أزمة جديدة، وهو ما يطرح السؤال بشكل جدي عن السبب الرئيسي في أزمة الأزمة التي يتخبط فيها الإنسان، واضعا لها مسميات مختلفة، يمكن اختصارها في غياب المعنى بدءا ونهاية. وهو ما جعل فيلسوف التأويليات الفرنسي “بول ريكور” يتساءل عما إذا كانت الثورات تشكل خصوصية لزمن الحداثة[14].

إن تفسير الأزمة بفقدان المعنى يمكن أن يجد عناوينه التفصيلية في الوعي والإحساس بفقدان البوصلة التي تعين على استبانة الوجهة، والتي تتبدى فيها المعاناة واضحة وجلية، مع فقدان الإطار المرجعي المتعالي من خلال ما تراكم في السياق الغربي من هدم للدين، ونسف للتوجهات الميتافيزقية والأنساق المثالية الكبرى، وغرق في العالم بتصوره العلموي الوضعي، الذي لا يرى في الإنسان أو العالم إلا مجرد آلة للاستنزاف والاستغلال تحيل على نفسها، وليس آية للتفكر والاعتبار تشير إلى معاني وراءها.

ولقد أرجع غير واحد من المقومين لسؤال المعنى في السياق الغربي انسداد الأفق المعنوي في مجال التداول الغربي أو الإنساني بصفة عامة من خلال الفكر العولمي، ووسائل هيمنته القولية والإعلامية والتقنية الأداتية إلى فقدان التوازن بخصوص حاجات خمس لدى الإنسان وهي الحاجة إلى الانتماء، والحاجة إلى التعالي والتجاوز، والحاجة إلى الارتباط بالجذور، والحاجة إلى الهوية، والحاجة إلى إطار توجيهي، وهي كما نلاحظ مقومات المعمار الوجودي الشامل المرتبط بالمرجعية والحركة والوجهة كما هو مسطر في عنوان الندوة، وهو في غاية الدقة والإحكام فلسفيا وإبيستيمولوجيا.

الهوامش

[1]. تدل لفظة المعنى في المعاجم العربية على: المضمون، الفحوى، الدلالة، ما يدلّ عليه اللفظ، وقد جمعت كلمة المعنى بين ما يحصل في الذهن من دلالات الألفاظ أو العبارات والتراكيب، والتحلي بالصفات المحمودة حيث يقال: فلان حَسَنُ المعاني أي ما له من الصفات المحمودة، ولعل الجمع بين الإصابة في النظر والعمل هو كمال المعنى المنشود.

[2]. طه عبد الرحمن، دين الحياء من الفقه الائتماري إلى الفقه الائتماني، الكتاب الأول، أصول النظر الائتماني، ط1، المؤسسة العربية للفكر والإبداع، ص13.

[3]. ميرتشيا إلياده، البحث عن التاريخ والمعنى في الدين، ترجمة وتقديم: سعود المولى، المنظمة العربية للترجمة، ط1، 2007، ص39.

[4]. تراجع القراءة النقدية لعصر الأنثربوسين في:

L’événement Anthropocène. ?La Terre, l’histoire ?et nous? Christophe Bonneuil et Jean-Baptiste Fressoz?, Seuil, 2013 ;

ويرجع المؤلفان آفات هذا العصر لسوء الاختيارات التي سار فيها أسلافنا، وغياب الرؤية المآلية للأمور والتي غالبا ما تفتقد عندما يتم تضييع الموازين.

[5]. “يذكر أن المؤتمر الدولي للجيولوجيا كان قد وافق في عام 1885 على إطلاق مصطلح “هولوسين” على العشرة آلاف عام الأخيرة ويعنى هذا المصطلح “العصر الجديد تماما” وتتفق تلك الفترة مع انتقال الإنسان من مجتمع الصيد وقطف الثمار إلى مجتمع الزراعة. وفي عام 2000، رأى العالم الهولندي بول كروتزن أن مصطلح “أنثروبوسين” هو الأنسب لإطلاقه على القرنين الأخيرين اللذين تزايد فيهما نشاط الإنسان الذي أصبح قادرا على إحداث تغيير عميق في الطبيعة. وأشار كروتزن، في هذا الصدد، إلى أن عالم الجيولوجيا الايطالي أنطونيو ستوباني كانيري في عام 1873 أن الأنشطة الإنسانية أصبحت “قوة أرضية جديدة”.

Steffen, W., Crutzen, P.J. and McNeill, J.R. (2007). The Anthropocene: Are humans now overwhelming the great forces of Nature? Ambio 36: 614-621.

[6]. العقل والثورة: هيجل ونشأة النظرية الاجتماعية، ترجمة: فؤاد زكريا، الهيئة العامة للتأليف والنشر، سنة 1970، ص257.

[7]. نقلا عن إمام عبد الفتاح إمام، كيركيجور رائد الوجودية، دار الثقافة للطباعة والنشر، 1972، ج1، ص7.

[8]. ويمكن تتبع اهتمامات فيورباخ الدينية منذ البداية، حيث كان الدين واللاهوت هما طريقاه إلى الفلسفة، ويمكن قبول تمييز فيورباخ بين الدين واللاهوت وتقبله للأول ورفضه للثاني كما بين كرنوM.CHERNO بقوله “بالرغم من معارضة فيورباخ لما يتضمنه اللاهوت، وبالإضافة إلى شعوره بأنه خطر على التفتح البشري، والرفاهية الإنسانية، فإنه أشار إلى تعاطف ملحوظ لوجهة النظر الدينية، وجوهر المسيحية أوضح دليل على ذلك؛ انظر دراسة أحمد عبد الحليم عطية التي قدم بها ترجمته لكتاب فيورباخ الهام، أصل الدين، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع، ط1، 1991، ص8.

[9]– ركز كيركيجارد، وفيورباخ في نقدهما لفلسفة هيجل على الجوانب الفلسفية، في حين اهتم ماركس في نقده بالجوانب السياسية.أنظر، فريال حسن خليفة، نقد فلسفة هيجل (كيركجورد – فويرباخ – ماركس)،دار التنوير للطباعة والنشر والتوزيع،  سنة 2006.

[10]. إريك فروم، الإنسان بين الجوهر والمظهر، ترجمة: سعد زهران، مراجعة وتقديم: لطفي فطيم، ع، 140، سلسلة عالم المعرفة الصادرة عن المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب الكويت، سنة 1989، ص15-16-17، وفي الحقيقة فإن الكتاب عبارة عن تحليل فلسفي ونفسي عميق لإخفاقات الحضارة الغربية.

[11]. Jean-François Mattei, La crise du sens, Nantes, Editions Cécile Defaut, 2006, p. 9.

[12]. الأَزْمة الأَزْمة الأَزَمة :الضِّيق والشدِّة. انظر: قاموس المعجم الوسيط.

[13]. 4 OC III, p. 468. dans l’édition des Œuvres Complètes, La Pléiade, 5 vol. notés 0C I à OC V.

[14]. Paul Ricœur, «La crise, un phénomène spécifiquement moderne?», Revue de théologie et de philosophie 120 (1988), p. 1-19.

Science
الوسوم

د. عبد الصمد غازي

رئيس مركز الرصد والدراسات الاستشرافية بالرابطة المحمدية للعلماء

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق