مركز الإمام أبي عمرو الداني للدراسات والبحوث القرائية المتخصصةدراسات عامة

روح المبادئ

لكل إنسان عاقل في هذه الحياة دوافع تقوده نحو مبتغاه، وهي التي تحرك إرادته ورغبته، لما يرنو إليه من سلوكات أو قرارات. والدوافع بذاتها لا تنفك عن هوادي التعرف لما تصبو إليه النفوس من خير أو شر، أو حُكْم أو قناعة؛ إذ لا عبث في تفكير الذات العاقلة، ولا صدفة في السلوكات الواعية، بل تبتني على تصورات تنشأ مع الإنسان منذ طفولته، تَعَلَّمها أو رُبِّي عليها في أحضان أسرته ، أو بين أفراد مجتمعه، وهذا ما يمكن التعبير عنه بالمبادئ.

والمبدأ في اللغة الطبيعية هو:المفتتح، وما منه مُبتدأ الشيء ومنطلقه[1]، ثم صارا دالا على الأسس والمنطلقات التي تحرك المرء نحو هدف ما، وهي أشبه بفلسفة الإنسان في حياته، والرؤى التي تحكمه وتهديه نحو الغاية التي يترجى.

 وعلى ذلك صار لكل إنسان مبدأ أومبادئ في الحياة، ينماز بها عن الجنس الحيواني، ومن أجلها صاحبته التربية بين الحاضنين له منذ الصغر. وقد أضحت الحضانة من حقوق الطفل التي تلزم وليه من أجل رعايته، وهي تستلزم تربيته وتهذيب طبعه من منازع النفس الشريرة، على كل ما يقتضيه فعل التربية من التنشئة وفق ما عليه المربي من مبادئ ومثُل. وهكذا عدت المبادئ على وِزان القواعد التي تُحاكَى، ويلزم السير على هداها لمن رام الاستقامة والمُضي في صراط مستقيم لا اعوجاج فيه ولاخوف.

والمبادئ لا تستقر في الذاكرة، ولا تنال لها مكانة حتى تتضح معالمها وتتراكم أجزاؤها في خط ومدى بعيد ممتد في التاريخ؛  يأخذ من مختلف الروافد، ويتأسس على متعدد الجوانب:  بعضها متجدِّر في العادات التي تواطأت عليها العقلية الاجتماعية، حتى صارت قوانين تحكم المنتمين إليها، لا تنفك عنها ضمائرهم، ولا تنفصل عنها رغباتهم، ولا تضعف أمام التيارات المهدِّدة لها الراغبة في بتها عن جذورها. ولطالما استحكمت تلك العوائد في المجتمعات حتى صار لها الحُكْم  في تسييسها، والفصل بين متنازعيها؛ أفرادا أو أسرا أو هيئات. وقد تثمر مع توغُّلها في البنية الاجتماعية أحكاما جميلة تهيِّج العواطف السليمة نحو قيم الجمال وأخلاق الفضيلة ترقى بالبشرية نحو الصفاء الخالد والكمال المتوقد؛ عرفانا وتحضرا، ترتضيه العقول المنَشَّأة عليها بعد تهذيبها وصقل منازع الشر فيها، وحينئذ لا يضيرها أن تسود أضداد هذه القيم وتجد من ينصرها على حساب غيرها.

وهذا قد لا يندفع في بعض الطبائع البشرية، أعني استحكام العوائد فيها، مهما احتفى العُرف العِلمي بما توجبه نوازع العقل الصارمة إذا خالف منْبتها وائْتَسى بما يفِد إليه من خارج، وقد يصير العِلم مجرد آلة لتحوير المدركات العرفية إلى نسق معرفي، وحينئذ يرقى بها من مشاركة الكافة في بثها بينهم، إلى حصر أمرها في المنظِّرين من أهل العلم بالتاريخ والاجتماع البشري.

غير أن العادة قد تسوء فتتَّفق أفرادها على قرارات، وإن عُدَّت مبدأً عرفيا في المنظور الاجتماعي يسري في كيانه ويُسَرُّ بتفعيله، فقد لا يطرد صلاحه ولا يجمل في الحقيقة، وذلك بالقياس إلى منطلقات أخرى تُعد أقوى في الامتثال من العادة؛ ومن هنا لم يرتض التشريع الإسلامي مصدرية الأعراف في قوانينه مطلقا، متى ما عارضت مقاصده ولم تنسجم مع مقتضياته؛ والسبب في ذلك أن العرف الاجتماعي تعتريه أنظار مختلفة لا تصلح جميعها لسن مبادئ تليق بالإنسانية جمعاء؛ ففيه نظر عالم قوي الحجة سديد النظر خبير بما يسعد وما يضر، تنبثق من تفكيره رؤى اجتماعية تنضم لمثيلاتها فتُنتِج مبادئ عامة تليق أن تتأسس عليها الدوافع البشرية في خدمة المجتمع وأفرده. غير أن الكثرة المهيمنة من العادات، إنما تصدر عن العامة الذين ينوط بأفعالهم تحقيق الرغبات من غير بحث عن مرجعية منطلقاتها وحال مآلها، فلا تستدُّ على سبيل النظر العلمي الذي ينظر في العواقب، ويخبر الأشياء لا بالهوى المنحاز لمجرد المصلحة، بل بمنطق مسدد عظيمة نتائجه.

 فليس إذن أقومَ نهجا اتخاذُ العوائد مصدرا مطلقا في تبني المبادئ التي تحمي النفس من الخور، وتعصمها من الزلل، بل هي ذات اتجاهين؛ قد لا تؤمن غوائل الضارة منهما، أم الصالحة فلا تقوى قوتَها في الهيمنة على العقلية الاجتماعية؛لأن أربابها (وهم ذوو النظر العلمي والخلقي) يغلب عليهم العزلة، والبعد عن الجمهور، ومن ثم يقل تأثيرهم ويضعف، والتجارب خير دليل على ذلك؛ فلابد من حُكم آخر تستند إليه المبادئ حتى تُرى خيرَ ما ينقذ الناس مما هم فيه من الاضطراب الفكري والتباغض الاجتماعي؛ ولا أجمل وأسعد لها من الدين.

وللدين قوة خارقة في صنع الإنسان بطريقة تجعله لا يضعف أمام التيارات المعاكسة لمبادئه؛ لأنها ترتد في عمقها إلى مصدر رباني لا يتردد المؤمن في الخضوع لمقتضياته، ولا يعمل بما يخالفه متى صح إيمانه وسلم منهجه الديني من متغيرات محدثة لا تنتسب للدين بالكلية؛ لأن تلك لا تقبل منه بين الصالحين، بل هي مرفوضة في ميزان الدين الحق نفسه (ومن يبتغ غير الاسلام دينا فلن يقبل منه وهو  في الاخرة من الخاسرين)[2]فالمبدأ المنبعث من هذا القرار القرآني يسري في كيان المسلم كما يجري الدم في عروقه، متناغما مع هديه؛ عابدا لربه بما أوحي إلى نبيه. وإن العبودية المثلى هي تلك التي يحس العبد معها بالضعف التام أمام المعبود خضوعا مطلقا لا قوة فيه على أحد، ولا غل ولا حسد. والسر في ذلك  راجع إلى بداية قصة خلق الإنسان، حين استودع هذا السر الرباني في جَنانه، وحُمِّله أمانة في فؤاده (إنا عرضنا الامانة على السموات والارض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الانسان)[3]وهي عهد بين الله وبني آدم (ولقد عهدنا إلى آدم من قبل فنسي ولم نجد له عزما)[4]  (وإذ اخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذرياتهم وأَشهَدهم على أنفسهم ألستُ بربكم، قالوا: بلى شهدنا..)[5] وهو أيضا نوع من السر في السجود الملائكي لآدم بعد نفخ الروح فيه، ولم يكن ذلك السجود قبله؛ دلالة على أن قيمة هذا الكائن التي جعلته مكَرَّما على سائر المخلوقات  (ولقد كرمنا بني آدم )[6]آتيةٌ من عظمة صاحب هذه الروح (فإذا سويتُه ونفخت فيه من روحي فقعوا له سجدين)[7]فكان إذن المبدأ الأعظم الذي يحرِّك فعل الإنسان هو ذاك المتعلق في فطرته؛ وهوالدين السماوي، وما تعلق بها من شأنه أن لا تُزعزعه جوائح الشر، ولاتستحيل معه إلى ما يضادها، إلا إذا تكدَّرت فطرته بعوامل خارجية، فحينئذ تنتكس وتصير إلى غيرهدي[8] ظانة أنها على على سنن سوِيّ، وهْما لا تيقنا، وتلبيسا من الشيطان لا تحققا، وإنما التحقق بآيات الله التي عليها مدار اليقين في هذا الكون، (قل إنما الايت عند الله وما يشعركم أنها إذا جاءت لا يومنون)[9].

أفتكون إذن مبادئ الدين الذي سلم مصدره من الوهن، واتصف بالإطلاق والحقيقة على وِزان المبادئ الموصولة بما يحتمل، وما يغلب عليه الشرود والوهن؟ ذلك ما لا سبيل إلى ادعائه، ولا قول فيه إلا للقرار الإلهي: (ومن يعتصم بالله فقد هدي إلى صراط مستقيم)[10]ولا بد من السعي  إلى تبين ما يقتضيه مبدأ الاعتصام هذا؛ فإن كُلِّية مفهومه يوقع المَرأ الآخذ بظاهر الأشياء، والغير المتشبع بأصول البيان القرآني ومقاصده، في التنطع في تطبيقه لمبادئ الدين، أو في التقصير في امتثاله؛ وكلا الطرفين ذميم، وإنما القصد في الفهم والتنزيل وفق ما تقرر لدى المتخصصين في فهم الدين، الآخذين بمبدأ الوسط المتورعين في اجتهادهم، الزاهدين من أهل الله وخاصته، وهم أهل العلم الذين شهد لهم الله تعالى ذكره بقوله: (شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولو العلم قائما بالقسط لا إله إلا هو العزيز الحكيم، إن الدين عند الله الإسلام)[11].

وتتفرع عن روح الدين منطلقات أخرى تُعد من روح المبادئ التي تُزَين حياة المرْء وقراراته وسلوكاته؛ فلا تراه متقلبا مع هبوب الرياح المتغيرة، ولا ساعيا لمجرد المصلحة الفردية، إذا هو صاحبها وكدَّ في سبيلها؛ بعضها ذو علقة بالجانب الفردي وبعضها بالمجتمع، وكلٌّ في تكامل وتعاضد:

فالمبادئ الأخلاقية خير رافد في تمييز الخير من الشر مما يستحسن أن يؤتى وما يسوء، وهي للأمة جوهر مادتها وعمود وجودها، فلا يقوى كيانها إلا بها، وهي في كل الحضارات ذات وزن ثقيل، من ثم وكلوا أمر خدمتها لنظارهم من الفلاسفة والمربين، واعتبرت لديهم العيار في التقويم الذاتي والاجتماعي، وهي من جملة الحكومات التي تفزع إليها الأفراد حين يسود الشرود عن الحقيقة والفوضى في الأمة، فاتخاذها مبدأً في الحياة من شأنه أن يجعلها حياة مرضية محمية من الاختراق. والمجتمع الذي تحكمه أخلاقيات مثلى، ولا يركن إلى عوائده الواهية يصدر عن مبادئ رصينة في نُظُمه، وتتماسك أفراده على حمايته؛ دفاعا عن حقوقه، وسهرا على ثقافته، والذود على بنيه. وهكذا تعلو القيم على مُهج الأفراد فتستقيم طباعهم وتجمل علاقاتهم منصهرين في خدمة الأهداف التي تصلح لهم جميعا.

وما أعظم أن تكون من جملة المنطلقات الراجعة إلى المبدأين السابقين، أعني الدين والأخلاق،مبدأ الوطنية! تلك التي تخدم الفرد والجماعة وتحمي بَيضتهما مما يتسلل إليها من معاول الهدم؛ فالوطن في قلب المؤمن جزء من ذاته، يحس بأفراحه وأتراحه، ويدعو إلى التلاؤم على خصوصياته، حتى كأنه عضو من جسد الأمة جميعها، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد، وما دام الفرد يشعر بقيمة وطنه لا شك يصبح مصدر الثقة لبقية الأفراد، ويكون كثير النفع لهم دؤوبا على الخير، يتفادى كل ما يضر بني جلدته، ويعمل على ما يرفع مستوياتهم؛ طلبا لسيادة الروح الوطنية كمبدأ أعلى يرجع إليه في تدبير المختلفات،ومعالجة الهموم والحسرات، ومن ثم تترسخ في عقليتهم قيم وطنية عليا تحمي وحدتهم ورؤاهم الاجتماعية من كل الرعونات التي تذهب بهم شذر مذر، فلا يهمهم إلا السيادة العليا متجلية في الدولة، مفعلة في المؤسسسات والمرافق والنظم التي هي بالجملة لمصلحة كل مواطن، وحينئذ لا تبصر إلا أناسا يخدمون مصالح هذا الوطن بما ينفع الناس ويحقق عمارة الأرض والشهود الحضاري للأمة. وخدمةُ الوطن في الحقيقة والتشبع بمادئه البديعة خدمةٌ للذات ونهوض بها نحو الرقي والازدهار، فكما لا تُهجر قيمه المثلى ولا تُتخذ من أجل الغمز فيها، والسعي إلى إنهاء مسارها المتألق، كذلك هو يتغيَّى مبادئ تفيد المنتمين إليه، وتحصنهم من مكايد الهدم وأيادي البؤس والشقاء، وهذه العلاقة إذا تجردت عن غشاوة التنظير، واندمجت في محيط العمل، وكان الرائد فيها الصدق والإخلاص، لا ريب تتحول كثير من الأوطان إلى مراتع تؤمها الأنظار كنموذج في التنظيم الاجتماعي، وتُتخذ مثالا لدى كثير من الأمصار؛ للتقارب الذي تحققه بين المفهوم الوطني لكثير من القيم المختارة، والتوظيف العملي لها، وهذا ما لا سبيل إليه إلا بتغيير جذري لكثير من الفهوم التي طغت على بعض القناعات، حتى صيرت التفكير السلبي الطارئ عليها هو المنطلق والمبدأ المثال، وما تلك برؤية قادرة على المسير لتعبُر العقول كافة، بل مقابلها الإيجابي الذي يصنع الأمل هو الذي له البقاء والامتداد، وأهلُه هم من تتفيأ ظلالَهم النفوس المتعطشة فترى فيهم قدوة نحو الأفضل، وتلك سنة التدافع الفكري الذي لم يزل سنة من سنن الله في عباده (ولولا دفاع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض ولكن الله ذو فضل على العالمين)[12] وكم في القرآن الكريم من هذه القوانين التي يجمل تبينها وتدبر أمرها في سبيل تنوير المجتمع على هذا الهدي الإلهي الذي له الكمال المطلق والصلاح التام، ويثمر السعادة السرمدية ..والله الموفق والهادي لا إله إلاهو.


[1]– يقول ابن فارس: “الباء والدال والهمزة من افتتاح الشيء، يقال: بدأت بالأمر وابتدأت من الابتداء، والله تعالى المبدئ والبادئ” [معجم مقاييس اللغة: بدأ ]

[2]– آل عمران: 85

[3]– الأحزاب: 72

[4]– طه: 115

[5]– الأعراف: 172

[6]– الإسراء: 70

[7]– سورة ص: 72

[8]– في الحديث المشهور المروي في الصحيحين : “كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه، أو ينصرانه، أو يُمَجِّسانه، كما تُنتِج البهيمة بهيمةً جمعاء، هل تُحِسُّون فيها من جدْعاء، ثم يقول أبو هريرة -رضي الله عنه: ( فطرةَ الله التي فطر الناس عليها، لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم). ” قال ابن الأثير: “والمعنى  أنه يولد على نوع  من الجِبلَّة والطبع المتهيئ لقبول الدين، فلو تُرك عليها لاستمر على لزومها، ولم يفارقها إلى غيرها، وإنما يَعدل عنه من يعدل لآفة من آفات البشر والتقليد” [ النهاية  في غريب الحديث والأثر: لابن الأثير 3/ 457 تح محمود الطناحي وطاهر أحمد الزاوي.  ط. المكتبة الإسلامية]

[9]– الأنعام: 109

[10]– آل عمران: 101

[11]– آل عمران: 18

[12]– البقرة: 251

د.الطيب شطاب

  • باحث متعاون بمركز الإمام أبي عمرو الداني للدراسات والبحوث القرائية المتخصصة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق