مركز الإمام الجنيد للدراسات والبحوث الصوفية المتخصصةدراسات عامة

قيم الفتوة في حياة النبي صلى الله عليه وسلم -الرياضة-

إن من جماليات البعد الروحي والأخلاقي في السيرة النبوية هو ارتباط الظاهر بالباطن، ارتباط الجسم بالروح، ارتباط الحس بالمعنى، في تناغم تام وتناسق كامل، وفي القرآن الكريم ما يدل على ذلك، وهو الآية 247 من سورة البقرة: (وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ)، قال ابن كثير: “أعلم منكم، وأنبل وأشكل منكم وأشد قوة وصبرا في الحرب ومعرفة بها، أي: أتم علما وقامة منكم”[1] والبسطة هي الزيادة أي: أن المعايير المعتمدة في الاختيار هو العلم الوافر، والجسم القوي، وهو ما نجده جليا فيما يسمى عند الصوفية بالفتوة، فإذا كانت الفتوة مرتبطة في الباطن بمعاني البذل والعطاء والإيثار والتضحية والسماحة والحلم، فإنها مرتبطة كذلك بمعاني ظاهرية كالفروسية والإقدام، بمعنى أنها تدل على الحيوية والنشاط، وعدم الكسل والبطالة والاتكال والجُبن، فهي إذن من سمات الرجولة والبطولة في أسمى تجلياتها، وهو ما جعل ابن العربي الحاتمي يصف الصوفية بالفتيان، ومقام الفتوة بمقام القوة.[2] ” ومن لا قوة له، لا فتوة له”،[3] يقول الله تعالى: (وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ ) [الأنفال/60]، ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: (المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف وفي كل خير، احرص على ما ينفعك)[4] وقال أيضا: (وإن لجسدك عليك حقا).[5]

فالقوة هنا لا تعني فقط قوة الإيمان، بل تشمل قوة الجسد، وبناء الجسم، فمن لا قوة له أنَّى له أن يؤدي العبادات، وألوان الطاعات، التي تتطلب مجهودا عضليا، خصوصا شعيرة الحج، بل كيف له أن يصمد أمام الأعداء، وأنى له الشجاعة والفروسية في ميادين الوغى.

من هذا الباب كانت الرياضة وسيلة فعالة لتحقيق مقصد بناء الجسم وتقويته، والحفاظ عليه، لا كما يعتقده البعض أنها تصد عن العبادة، وتقلل من الهيبة والوقار وأنها خاصة بالأطفال… فمن المعلوم أن هذا الفهم يجانب الصواب وفيه تقليل لمعاني ومقاصد الدين الذي جاء لبناء الإنسان بناءا متكاملا متناسقا روحيا وجسمانيا وعقليا وأخلاقيا واجتماعيا…

وإذا رجعنا إلى السيرة النبوية وجدنا أن النبي صلى الله عليه وسلم مارس بعض الرياضات بنفسه مثل السباحة والمشي طويل المدى، والعدو والمصارعة والفروسية.

  • السباحة:

تعلم النبي صلى الله عليه وسلم السباحة وهو ما زال صغيرا، عند أخواله بني عدي بن النجار لما ذهبت به أمه آمنة بنت وهب إلى المدينة، جاء في “الطبقات الكبرى“، لابن سعد، و”المنتظم في تاريخ الملوك والأمم” لابن الجوزي مرويًا عن ابن عباس رضي الله عنه قال :”كان رسول الله صلى الله عليه وسلم، مع أنه آمنة بنت وهب، فلما بلغ ست سنين خرجت به إلى أخواله بني عدي بن النجار بالمدينة تزورهم به، ومعه أم أيمن تحضنه وهم على بعيرين، فنزلت به دار النابغة، فأقامت به عندهم شهرًا، فكان رسول الله صلَّى الله عليه وسلم يذكر أمورًا كانت في مقامه ذلك (…)، ونظر إلى الدار فقال: “هاهنا نزلت بي أمي (…)، وأحسنت العوم في بئر بني عدي بن النجار، وكان قوم من اليهود يختلفون ينظرون إليّه، فقالت أم أيمن فسمعت أحدهم يقول: هو نبي هذه الأمة، وهذه دار هجرته، فوعيت ذلك كله من كلامهم، ثم رجعت به أمه إلى مكة، فلما كانوا بالأبواء توفيت آمنة بنت وهب”.[6]

أخرج الطبراني في المعجم الكبير، والحافظ أبي نعيم الأصبهاني في فضائل الخلفاء، وابن شاهين في شرح مذاهب أهل السنة، عن ابن عباس رضي الله عنه، قال: (كان النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه يسبحون في غدير، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ليسبح كل رجل منكم إلى صاحبه، فسبح كل رجل منهم إلى صاحبه، وبقي النبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر، فسبح النبي صلى الله عليه وسلم إلى أبي بكر حتى عانقه، وقال: أنا إلى صاحبي، أنا إلى صاحبي ).[7]

2– رياضة المشي السريع:

كتب العلماء وتحدثوا عن مشي النبي صلى الله عليه وسلم بالتفصيل الدقيق، كما أن الشعراء تباروا في وصف مشيته صلى الله عليه وسلم، مما يجعلنا أمام أعظم إنسان تركت محبته آثارا جليلة حتى جعلت المحبين يتفنون في مدح مشيته صلى الله عليه وسلم، ويتأسون بها حبا وتعظيما لذلك الجناب الأحمدي، ولم يقتصر الحال على المحبين والعاشقين لذات المصطفى صلى الله عليه وسلم بل حتى الرياضيون ينهلون من هدي النبي صلى الله عليه وسلم بحكم قوته الجسدية وعظيم هيئته صلى الله عليه وسلم، وهو ما سنحاول الحديث عنه من خلال استحضار النصوص المرتبطة بالمشي الدالة على قوته وحيويته.

عن يزيد بن مرثد قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا مشى مشى مجتمعا أي قوي الأعضاء غير مسترخ في المشي، وقال علي رضي الله عنه في وصف مشية النبي صلى الله عليه وسلم: (وكان إذا مشى تقَلَّعَ كأنما يمشي في صبب[8] وفي لسان العرب: “تقلَّع في مشيته: مشى كأنه ينحدر، (…) قلعا، والمعنى واحد، قيل أراد قوة مشيه وأنه كان يرفع رجليه من الأرض إذا مشى رفعا بائنا بقوة”.[9]

وعن علي كرم الله وجهه قال: (وكان يَتَكَفَّأُ في مشيته كأنما يمشي من صبب[10] وعن هند بن أبي هالة رضي الله عنه وكان وصافا قال: (إذا زال زال قلعا وتخطى تكفيا، ويمشي هونا ذريع المشية[11] إذا مشى كأنما ينحط من صبب)،[12] قال ابن عباس رضي الله عنه: “أراد به أنه قوي البدن، فإذا مشى فكأنه يمشي على صدر قدميه من القوة.”[13]

ومما يدل دلالة عظيمة على تمكنه من رياضة المشي، ومعرفته التامة بفوائدها، ومما يجعلنا نعتبره كمتخصص في الرياضة والطب الرياضي، كيف لا وهو قد راكم التجارب الطويلة، في هذه الرياضة. جاء في المستدرك عن جابر رضي الله عنه قال: (شكا ناس إلى النبي صلى الله عليه وسلم المشي فدعا بهم وقال: “عليكم بالنَسلان” فنسلنا فوجدناه أخف علينا).[14] ومعنى النسلان لغة من “نسل في العدو ينْسِل ويَنْسُل نَسْلا ونَسَلانا أي أسرع”،[15] والنسلان هو: العدو الخفيف، والهرولة اليسيرة مع مقاربة الخطو الذي لا يزعج الماشي، ولا يسبب الإجهاد الكبير، فالنبي صلى الله عليه وسلم أمرهم بالإسراع في المشي، لأنه يعلم بحكم تجربته وخبرته أن فيه منافعا كثيرة، وكما هو معلوم فإن الطب الحديث يوصي برياضة المشي لما لها من أهمية في الوقاية من الأمراض وتقوية المناعة…

ولقد أورد الشيخ محمد الغزالي ثلاث وقائع تدل على قوة النبي محمد صلى الله عليه وسلم، وممارسته لرياضة المشي، سنقتصر على اثنتين لأنهما محور الحديث في هذا المقال:

– ذهب من مكة إلى الطائف ماشياً على قدميه، ولم يكن الطرق ممهداً كما هو الآن، بل وعراً، ومعروف عنه أنه يقع في منطقة كلها جبال وهضاب ومعنى ذلك أن الرسول صلى الله عليه وسلم، قد تسلق هذه الجبال في مسيرته تلك.

– مشى الرسول صلى الله عليه وسلم هو أصحابه (علي بن أبي طالب، وعبد الله بن رواحة) رضي الله عنهم أجمعين، ولم تكن هناك أي وسيلة نقل، فكانوا يتبادلون السير والركوب نظراً لوجود راحلة واحدة فقط، فكان اثنان يمسيان والآخر يركب، وفد خجلا الاثنان فكيف يركبان ويدعان النبي صلى الله عليه وسلم يمشي، فرفض النبي صلى الله عليه وسلم رفضاً باتاً بأن يستمر في الركوب، وقال إنكما لستم بأقدر مني على المشي ولا أنا بأغنى منكما على الأجر … ومشى المسافة المقررة.

ومما تجدر الاشارة إليه أن رعي الغنم يحتاج إلى قوة بدنية كبيرة كذلك، فلا يخفى على من مارس الرعي أنه يحتاج إلى المشي وأحيانا الركض لتنظيم القطيع وتسويته، والمشي لمسافات طويلة لتأمين حاجيات الأغنام من المأكل والمشرب.

الهوامش:

[1] تفسير القرآن العظيم، لأبي الفداء إسماعيل بن عمر بن كثير القرشي الدمشقي، تحقيق: سامي بن محمد السلامة، دار طيبة، الطبعة الثانية، 1420هـ/1999م، 1/ 666.

[2] الفتوحات المكية، لابن العربي، 4/ 53.

[3] المصدر السابق نفسه، 1/ 68.

[4] رواه مسلم في كتاب: القدر، باب: في الأمر بالقوة وترك العجز، والاستعانة بالله، وتفويض المقادير لله.

[5] صحيح البخاري، كتاب: الصوم، باب حق الجسم في الصوم.

[6] الطبقات الكبرى، لابن سعد، 1/ 116. المنتظم في تاريخ الملوك والأمم، لأبي الفرج عبد الرحمن بن علي بن محمد ابن الجوزي، دراسة وتحقيق: محمد عبد القادر عطا و مصطفى عبد القادر عطا، راجعه وصححه: نعيم زرزور، دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان، الطبعة الثانية، 1415هـ/1995م، 2/ 272.

[7] المعجم الكبير للطبراني، رقم الحديث: 11676، 11/ 260-261، وينظر كذلك: فضائل الخلفاء الأربعة وغيرهم، للحافظ أبي نعيم أحمد بن عبد الله الأصبهاني، تحقيق: صالح بن محمد العقيل، دار البخاري للنشر والتوزيع، المدينة المنورة، ص: 66، وينظر كذلك: “شرح مذاهب أهل السنة ومعرفة شرائع الدين والتمسك بالسنن، لأبي حفص عمر بن أحمد بن عثمان بن شاهين، تحقيق: عادل بن محمد، مؤسسة قرطبة، الطبعة الأولى، 1415هـ/1995م، رقم الحديث: 116، ص: 162، وفي: “مجمع الزوائد ومنبع الفوائد”، للحافظ نور الدين علي بن أبي بكر الهيثمي، بتحرير الحافظين الجليلين: العراقي وابن حجر، تحقيق: حسام الدين القدسي، دار الكتاب العربي، بيروت، لبنان، (بدون ط/ت)، 9/ 44. “وفيه من لا أعرفه”.

[8] دلائل النبوة ومعرفة أحوال صاحب الشريعة، لأبي بكر أحمد بن الحسين البيهقي، تحقيق: عبد المعطي قلعجي، دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان، دار الريان للتراث، الطبعة الأولى، 1408هـ/1988م، 1/ 252.

[9] لسان العرب، فصل القاف، 8/ 346.

[10] دلائل النبوة، للبيهقي، 1/ 252.

[11] ذَرِيع المشي أي سريع المشي واسع الخطوة. لسان العرب، فصل الذال المعجمة، 8/ 112.

[12] مجمع الزوائد ومنبع الفوائد، للهيثمي، 8/ 273.

[13] أراجيز النبهاني الصوفي في مدح خير الأنام صلى الله عليه وسلم، خضر موسى محمد حمود، دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان، 2009م، ص: 74.

[14] المستدرك على الصحيحين، للحافظ أبي عبد الله الحاكم النيسابوري، رقم الحديث: 2491، 2/ 128. وقال: هذا الحديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه.

[15] لسان العرب، فصل النون، 11/ 788.

1 2الصفحة التالية
Science

د.مصطفى بوزغيبة

باحث بمركز الإمام الجنيد التابع للرابطة المحمدية للعلماء

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق