مركز ابن القطان للدراسات والأبحاث في الحديث الشريف والسيرة العطرةدراسات عامة

رجب: شهر الزرع

بسم الله الرحمن الرحيم والصلاة والسلام على مولانا رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى آله وصحبه.

       يعد شهر رجب فاتحة أشهر الله الحرم، التي عظمها الله تعالى في كتابه قائلا:  (إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرا في كتاب الله يوم خلق السماوات والأرض منها أربعة حرم ذلك الدين القيم) ([1])، والذي أمرنا أن لا نظلم فيه أنفسنا، هو وبقية الأشهر الحرم المعلومة؛ حيث قال: ( فلا تظلموا فيهن أنفسكم ) ([2]) ، قال قتادةُ -رحمه الله-: “إن الظلم في الأشهر الحرم أعظم خطيئة ووزراً من الظلم في سواها، وإن كان الظلم على كل حال عظيماً، ولكن الله يعظم في أمره ما يشاء”. ([3])، وظلم النفس إنما هو بارتكاب الذنوب والمعاصي التي يتضاعف إثمها في هذه الأشهر ؛ ومنها شهر رجب، قال ابن كثير:  ” (فلا تظلموا فيهن أنفسكم) ([4]):  في هذه الأشهر المحرمة ؛ لأنها آكد وأبلغ في الإثم من غيرها ، كما أن المعاصي في البلد الحرام تضاعف ، لقوله تعالى: (ومن يرد فيه بإلحاد بظلم نذقه من عذاب أليم) ([5]) وكذلك الشهر الحرام تغلظ فيه الآثام” ([6]).

لقد جعل بعض العلماء شهر رجب  شهرا  لزراعة الأعمال الصالحة، وقد تعددت أقوالهم وعباراتهم في هذا الشأن ، من أجل ذلك  ارتأيت أن أفرد هذا الموضوع بمقال،  أروم  إن شاء الله من خلاله التذكير  ببعض أقوال العلماء حول شهر رجب، ثم أختمه بإشارة لطيفة  إلى الأعمال الصالحة التي ينبغي للمسلم أن يحرص على زراعتها في هذا الشهر ، ويعوِّد نفسه عليها، حتى لا يستثقلها إذا دخل شهر رمضان ،وهذا أوان الشروع في المقصود فأقول وبالله التوفيق والسداد:

من أقوال العلماء وعباراتهم حول شهر رجب:

     جعل العلماء شهر رجب شهرا لزراعة الأعمال الصالحة استعدادا  لشهر رمضان، وتعددت أقوالهم في هذا الصدد، ومن هذه الأقوال أذكر:

قول ذي النون المصري  (245هـ)- رحمه الله – : “رجب لترك الآفات، وشعبان لاستعمال الطاعات، ورمضان لانتظار الكرامات، فمن لم يترك الآفات، ولم يستعمل الطاعات، ولم ينتظر الكرامات، فهو من أهل الترهات”([7]).

وقال أيضا: “رجب شهر الزرع، وشعبان شهر السقي، ورمضان شهر الحصاد، وكل يحصد ما زرع، ويجزى ما صنع، ومن ضيع الزراعة ندم يوم حصاده، وأخلف ظنه مع سوء معاده”([8]).

وقال أبو بكر الوراق  (378هـ)-رحمه الله- قال: “شهر رجب شهر الزرع، وشهر شعبان شهر سقي الزرع ، وشهر رمضان شهر حصاد ذلك الزرع”([9]) .

وعنه قال: “مثل شهر رجب مثل الريح، ومثل شعبان مثل الغيم، ومثل رمضان مثل القطر” ([10]).

وقال ابن رجب (ت 795هـ): ” شهر رجب مفتاح أشهر الخير والبركة”([11])  .

وقال بعضهم: “السنة مثل الشجرة ، وشهر رجب أيام توريقها ، وشعبان أيام تفريعها ، ورمضان أيام قطفها ، والمؤمنون قطافها جدير بمن سود صحيفته بالذنوب، أن يبيضها بالتوبة في هذا الشهر ، وبمن ضيع عمره في البطالة ، أن يغتنم فيه ما بقي من العمر([12]).

 رجب شهر لزرع الأعمال.

        صحيح أن شهر رجب كما قال العلماء، ومنهم العلامة الحافظ ابن حجر في كتابه “تبيين العجب بما ورد في فضل رجب” أنه: ” لم يرد في فضله، ولا في صيامه، ولا في صيام شيء منه معين، ولا في قيام ليلة مخصوصة فيه حديث صحيح يصلح للحجة “([13]) ؛ إلا أنه -وكما أشرنا إليه سابقا- يدخل ضمن الأشهر الحرم المعظمة التي عظمها الله في كتابه، وفي هذا يقول  قتادة رحمه الله: «إن الله اصطفى صَفَايا من خلقه.. واصطفى من الشهور رمضانَ والأشهر الحرم.. فعظِّموا ما عظم الله، فإنما تعظم الأمور بما عظَّمها الله عند أهل الفهم وأهل العقل”([14]) ، ومن تعظيم هذا الشهر:  التقرب إلى الله عز وجل بالعبادات الصالحة؛ والحذر كل الحذر من ارتكاب المعاصي والسيئات.

فشهر “رجب” يعد فاتحة الأشهر الحرم الأربعة ،وهو لزرع الأعمال، استعدادا لحصادها في شهر رمضان؛  فعلى المسلم أن يبدأ أولا بالإعداد النفسي والروحي، للأعمال الصالحة في هذا الشهر، وأن يتعهدها بالتجويد والإتقان في شهر شعبان، لكي يستطيع الإتيان بها على أكمل وجه في شهر رمضان ، وقد حثنا النبي صلى الله عليه وسلم على اغتنام الأوقات في مواسم الخيرات وفي غيرها من الأيام وشهور السنة؛لأن الوقت نعمة وسيحاسب عليه المرء يوم القيامة قال: “اغتنم خمسا قبل خمس: شبابك قبل هرمك،          و صحتك قبل سقمك، و غناك قبل فقرك، و فراغك قبل شغلك، و حياتك قبل                موتك “([15])، وقال صلى الله عليه وسلم : “لا تزول قدما ابن آدم  يوم القيامة من عند ربه حتى يسأل عن خمس؛ عمره فيم أفناه، وعن شبابه فيم أبلاه، وماله من أين اكتسبه وفيم أنفقه، وماذا عمل فيما علم “([16])، وروي عنه أنه قال: ” افعلوا الخير دهركم، وتعرضوا لنفحات رحمة الله ، فإن لله نفحات من رحمته، يصيب بها من يشاء من عباده، وسلوا الله أن يستر عوراتكم، وأن يؤمن روعاتكم” ([17]) .

فشهر رجب فرصة لمراجعة النفس عن التقصير الذي وقع فيه خلال الشهور السابقة، وتربيتها على اجتناب الملذات والمعاصي من الصغائر والكبائر، وتنقية القلب من الأحقاد والظغائن على الناس، والتوبة النصوح  والعزم على أن لا يرجع إلى ذلك الذنب، قال تعالى : (يا أيها الذين آمنوا توبوا إلى الله توبة نصوحا عسى ربكم أن يكفر عنكم سيئاتكم ويدخلكم جنات تجري من تحتها الأنهار يوم لا يخزي الله النبي والذين آمنوا معه نورهم يسعى بين أيديهم وبأيمانهم يقولون ربنا أتمم لنا نورنا واغفر لنا إنك على كل شيء              قدير ) ([18])،وأيضا تدريب النفس على حب الطاعات وعدم استثقالها -من قيام وصيام، وقراءة للقرآن وحفظه، وصدقات، والتزام الأذكار الثابتة عن الرسول صلى الله عليه وسلم، وما إلى ذلك من الأعمال الصالحة.

الخاتمة

      ومسك ما أختم به المقال: أن شهر رجب يعد من الشهور المحرمة التي عظمها الله عز وجل في كتابه العزيز، ومن تعظيمه: أن نتقرب إليه سبحانه بصالح الأعمال ؛ ونجتنب الذنوب والمعاصي والسيئات، التي يتضاعف إثمها فيه، فيا له من شهر عظيم لزرع الخيرات، وسقيها في الشهر الذي يليه وهو شهر شعبان، حتى يصل إلى منتهى الاستعداد، والتعود عليها، ومضاعفة ذلك خلال شهر رمضان؛ كي يحصد الأجر والثواب العظيم، ولله در القائل:               

            بيض صحيفتك السوداء في رجب*** بصالح العمل المنجي من اللهب”([19])

والحمد لله رب العالمين.

***********************

هوامش المقال: 

([1]) سورة التوبة من الآية (36).

([2]) سورة التوبة من الآية (36).

([3]) تفسير ابن كثير (2 /399).

([4]) سورة التوبة من الآية (36).

([5]) سورة الحج من الآية (25).

([6]) تفسير ابن كثير (2/ 399).

([7])الغنية لطالبي طريق الحق (1 /326).

([8]) الغنية لطالبي طريق الحق (1 /326).

([9]) انظر: نصائح العباد في بيان ألفاظ منبهات على الاستعداد ليوم الميعاد (ص: 36).

([10]) نقلا عن لطائف المعارف (ص: 234).

([11]) لطائف المعارف (ص: 234).

([12]) نقلا عن لطائف المعارف (ص: 234).

([13]) تبين العجب (ص: 23).

([14]) تفسير ابن كثير (2 /399).

([15]) أخرجه الحاكم في المستدرك من حديث ابن عباس رضي الله عنه (4/ 341)  برقم: (7846)، وقال: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه.

([16]) أخرجه الترمذي في سننه (4 /216)، كتاب:  صفة القيامة والرقائق والورع، باب:  في القيامة، برقم: (2416) وقال: هذا حديث حسن صحيح.

([17]) أخرجه الطبراني في معجمه (1/ 250) برقم: (720)، وقال الهيثمي في المجمع (10 /286): رواه الطبراني وإسناد رجاله رجال الصحيح غير عيسى بن موسى بن إياس بن البكير وهو ثقة.

([18]) سورة التحريم الآية: (8).

([19]) نقلا عن لطائف المعارف (ص: 234).

*********************

لائحة المراجع المعتمدة:

تبيين العجب بما ورد في شهر رجب. لأحمد بن علي ابن حجر العسقلاني.  تحقيق: طارق بن عوض الله مؤسسة قرطبة الأندلس (د.ت).

تفسير  القرآن العظيم. لأبي الفداء ابن كثير الدمشقي. كتب هوامشه وضبطه: حسين بن إبراهيم زهران. دار الفكر بيروت لبنان (د.ت).

الجامع الكبيرمحمد بن عيسى الترمذي. تحقيق: بشار عواد معروف. دار الغرب الإسلامي. ط1/1996. مـ

الغنية لطالبي طريق الحق عز وجل في الأخلاق والتصوف والآداب الإسلامية. لعبد القادر بن أبي صالح الجيلاني. وضع حواشيه: أبو عبد الرحمن صلاح بن محمد بن عويضة. دار الكتب العلمية بيروت. 2018مـ

لطائف المعارف فيما لمواسم العام من الوظائف. لأبي الفرج عبد الرحمن بن أحمد بن رجب الحنبلي. حققه: ياسين محمد السواس. دار ابن كثير بيروت لبنان. ط5/ 1420هـ – 1999مـ

مجمع الزوائد ومنبع الفوائد. لنور الدين علي بن أبي بكر  الهيثمي. تحقيق: محمد عبد القادر عطا. دار الكتب العلمية بيروت. (د.ت).

المستدرك على الصحيحين. لأبي عبد الله محمد بن عبد الله الحاكم النيسابوري. دراسة وتحقيق: مصطفى عبد القادر عطا. دار الكتب العلمية بيروت لبنان 2009مـ.

المعجم الكبير. لأبي القاسم سليمان بن أحمد الطبراني. حققه وخرج أحاديثه: حمدي عبد المجيد السلفي. مكتبة ابن تيمية القاهرة (د. ت).

نصائح العباد في بيان ألفاظ منبهات على الاستعداد ليوم الميعاد لشهاب الدين أحمد بن حجر العسقلاني ويليه: الفتوحات المدنية في الشعب الإيمانية لمحمد بن عمر نووي الجاوي . دار الكتب العلمية بيروت 2015مـ.

*راجع المقال الباحث: محمد إليولو

Science

دة. خديجة أبوري

  • أستاذة باحثة مؤهلة بمركز ابن القطان للدراسات والأبحاث في الحديث الشريف والسيرة العطرة بالعرائش، التابع للرابطة المحمدية للعلماء.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق