مركز ابن القطان للدراسات والأبحاث في الحديث الشريف والسيرة العطرةدراسات عامة

إرشاد الأنام إلى بعض وظائف شهر رجب الحرام

بسم الله الرحمن الرحيم

وصلى الله على سيدنا  محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين

دخل علينا في هذه الأيام المباركة شهر من الأشهر الحرم، ألا وهو شهر الله الفرد: رجب، الذي وردت أحاديث نبوية في فضائله، كما ألف العلماء فيه المصنفات، سواء مفردة، أو ضمن الأشهر العربية، وقد كثر الحديث في فضائله، وفي تمييز صحيحها من سقيمها.

إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السماوات والأرض السنة: اثنا عشر شهرا، منها: شهر رجب[1]، الذي هو مفتاح أشهر الخير والبركة، وهو شهر للزرع، والذي يليه: شعبان، شهر السقي للزرع، والذي يليه: رمضان، شهر حصاد الزرع، فرجب مثل الريح، شعبان مثل الغيم، ورمضان مثل القطر، والسنة مثل الشجرة، وشهر رجب أيام توريقها، وشعبان أيام تفريعها، ورمضان أيام قطفها، والمؤمنون قطافها[2].

إن رجب شهر مضاعفة صالح الأعمال، وهو مناسبة للمسارعة إلى الخيرات، واغتنام الأجر والثواب، والبعد عن المعاصي والآثام، وتدريب النفس لشهر شعبان، والاستعداد لرمضان، لأجل ذلك سأتحدث في هذا المقال عن وظائف هذا الشهر الفضيل، وهي:  

الدعاء:

عن أنس بن مالك رضي الله عنه كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دخل رجب قال: «اللهم بارك لنا في رجب، وشعبان، وبلغنا رمضان».

هذا الحديث رواه: أحمد في: مسنده، والبزار في: مسنده، والطبراني في: معجمه الأوسط[3].

الحديث ضعيف الإسناد، فيه: زائدة بن أبي الرقاد وفيه كلام، وقد وُثِّق[4]، ويجوز العمل في الفضائل بالضعيف[5].

هذا الحديث دليل على ندب الدعاء بالبقاء إلى الأزمان الفاضلة، لإدراك الأعمال الصالحة فيها، فإن المؤمن لا يزيده عمره إلا خيرا[6]، وإباحة التهنئة بالعيد والأعوام والأشهر بين الناس، لما ورد في ذلك من أخبار وآثار وإن كانت ضعيفة، لكن مجموعها يحتج به في مثل ذلك، ويحتج لعموم التهنئة لما يحدث من نعمة، أو يندفع من نقمة، بما في الصحيحين[7]، عن كعب بن مالك رضي الله عنه، في قصة توبته عن تخلفه عن غزوة تبوك، قال: «فانطلقت إلى النبي صلى الله عليه وسلم يتلقاني الناس فوجا فوجا، يهنئوني بالتوبة ويقولون: تهنيك توبة الله عليك حتى دخلت المسجد، فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم حوله الناس، فقام طلحة بن عبيد الله يهرول حتى صافحني وهنأني، فكان كعب لا ينساها لطلحة، قال كعب: فلما سلمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال وهو يشرق وجهه من البشر: أبشر بخير يوم مر عليك منذ ولدتك أمك»، وللحافظ السيوطي رسالة سماها: وصول الأمان بأصول التهاني[8]، قال في أولها: “طال السؤال عما اعتاده الناس من التهنئة بالعيد، والعام، والشهور، والولايات، ونحو ذلك، هل له أصل في السنة، فجمعت هذا الجزء في ذلك”[9].

الصيام:

روي عن أبي قلابة رحمه الله تعالى قال: “في الجنة قصر لصوام رجب”.

هذا الأثر أخرجه البيهقي في شعبه، وابن عساكر في تاريخه[10]، وقد قال عنه البيهقي فيما نقله عن الإمام أحمد: “وإن كان موقوفا على أبي قلابة، وهو من التابعين، فمثله لا يقول ذلك إلا عن بلاغ عمن فوقه ممن يأتيه الوحي، وبالله التوفيق”[11].

وفي صيام الأشهر الحرم عموما، جاء حديث مجيبة الباهلية، عن أبيها، أو عمها: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: «صم من الحرم واترك»، قالها ثلاثا، وفي لفظ عن أبي مجيبة الباهلي، عن أبيه، أو عن عمه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: “صم أشهر الحرم».

هذا الحديث أخرجه باللفظ الأول: أبو داود في: سننه[12]، واللفظ الثاني: أخرجه ابن ماجه في: سننه[13].

لقد كان بعض الصحابة، والتابعين، وأئمة السلف يصومون الأشهر الحرم، منهم: عبد الله بن عمر، وأسامة بن زيد، والحسن البصري، وأبو إسحاق السبيعي، وسفيان الثوري، الذي قال: “الأشهر الحرم أحب إلي أن أصوم فيها”[14].

الاعتمار:

روى عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: «أن النبي صلى الله عليه وسلم اعتمر في رجب» فأنكرت ذلك عائشة رضي الله عنها عليه، في حديث عروة بن الزبير رضي الله عنه، قال: «كنت أنا وابن عمر مستندين إلى حجرة عائشة، وإنا لنسمع ضربها بالسواك تستن، قال: فقلت: يا أبا عبد الرحمن، اعتمر النبي صلى الله عليه وسلم في رجب؟ قال: نعم، فقلت لعائشة: أي أمتاه ألا تسمعين ما يقول أبو عبد الرحمن؟ قالت: وما يقول؟ قلت يقول: اعتمر النبي صلى الله عليه وسلم في رجب، فقالت: «يغفر الله لأبي عبد الرحمن، لعمري، ما اعتمر في رجب، وما اعتمر من عمرة إلا وإنه لمعه» قال: وابن عمر يسمع، فما قال: لا، ولا نعم، سكت».

الحديث الأول: أخرجه الطبراني في معجمه الكبير[15]، من حديث: عطاء، عن ابن عمر، والحديث الثاني: أخرجه الشيخان[16]، من حديث: عروة بن الزبير.

وقد استحب الاعتمار في رجب عمر بن الخطاب وغيره من الصحابة، وكانت عائشة تفعله، وابن عمر أيضا، ونقل ابن سيرين عن السلف أنهم كانوا يفعلونه، فإن أفضل الإنساك أن يؤتى بالحج في سفرة، والعمرة في سفرة في غير أشهر الحج[17].

وخير الختام: فجدير بمن سود صحيفته بالذنوب على طول العام، أن يبيضها بالتوبة في هذا الشهر، وبمن ضيع عمره في البطالة أن يغتنم فيه ما بقي من العمر، انتهاز الفرصة بالعمل في هذا الشهر غنيمة، واغتنام أوقاته بالطاعات له فضيلة عظيمة، فلله در قول القائل:

بيض صحيفتك السوداء في رجب***بصالح العمل المنجي من اللهب

شهر حرام أتي من أشهر حرم***إذا دعا الله داع فيه لم يخب

طوبى لعبد زكى فيه له عمل***فكف فيه عن الفحشاء والريب

وقول الآخر:

يا عبد أقبل منيبا واغتنم رجبا***فإن عفوي عمن تاب قد وجبا

في هذه الأشهر الأبواب قد فتحت***للتائبين فكل نحونا هربا

حطوا الركائب في أبواب رحمتنا***بحسن ظن فكل نال ما طلبا

وقد نثرنا عليهم من تعطفنا***نثار حسن قبول فاز من نهبا[18]

 *****************

هوامش المقال:

[1]) في إشارة إلى حديث أبي بكرة رضي الله عنه، الذي أخرجه الشيخان، البخاري في: صحيحه 4/ 107؛ كتاب: بدء الخلق، باب: باب ما جاء في سبع أرضين، رقم الحديث: 3197، ومسلم في صحيحه 3 /1305؛ كتاب: القسامة والمحاربين والقصاص والديات، باب: تغليظ تحريم الدماء والأعراض والأموال، رقم الحديث: 1679، ولفظهما: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض، السنة اثنا عشر شهرا، منها أربعة حرم، ثلاث متواليات: ذو القعدة، وذو الحجة، والمحرم، ورجب، مضر الذي بين جمادى، وشعبان».

[2]) لطائف المعارف فيما لمواسم العام من الوظائف لابن رجب ص: 292.

[3]) مسند أحمد 4 /180، رقم الحديث: 2346، مسند البزار 3 /117، رقم الحديث: 6496، المعجم الأوسط 4 /189، رقم الحديث: 3939.

[4]) مجمع الزوائد ومنبع الفوائد للهيثمي 3 /140.

[5]) تذكرة الموضوعات للفتني ص: 117.

[6]) لطائف المعارف فيما لمواسم العام من الوظائف لابن رجب ص: 291.

[7]) صحيح البخاري 6 /3؛ كتاب: المغازي، باب: حديث كعب بن مالك، وقول الله عز وجل: ﴿وعلى الثلاثة الذين خلفوا﴾، رقم الحديث: 4418، صحيح مسلم 4/ 2121؛ كتاب: التوبة، باب: حديث توبة كعب بن مالك وصاحبيه، رقم الحديث: 2769.

[8]) وصول الأماني بأصول التهاني ص: 7.

[9]) انظر: شرح الزرقاني على المواهب اللدنية بالمنح المحمدية 8 /99-100.

[10]) شعب الإيمان 5 /337، رقم الحديث: 3521، تاريخ دمشق.

[11]) شعب الإيمان 5 /337.

[12]) السنن 4 /95؛ كتاب: الصوم، باب: في صوم أشهر الحرم، رقم الحديث: 2428.

[13]) السنن 1/ 554؛ كتاب: الصيام، باب: صيام أشهر الحرم، رقم الحديث: 1741.

[14]) لطائف المعارف فيما لمواسم العام من الوظائف لابن رجب ص: 286.

[15]) المعجم الكبير 4/ 437، رقم الحديث: 13596.

[16]) صحيح البخاري 3 /2-3؛ أبواب العمرة، باب: كم اعتمر النبي صلى الله عليه وسلم؟، رقم الحديث: 1776، صحيح مسلم 2/ 916؛ كتاب: الحج، باب: باب بيان عدد عمر النبي صلى الله عليه وسلم وزمانهن، رقم الحديث: 1255، واللفظ لمسلم.

[17]) لطائف المعارف فيما لمواسم العام من الوظائف لابن رجب ص: 290.

[18] ) لطائف المعارف فيما لمواسم العام من الوظائف ص: 292.

****************

جريدة المراجع

البحر الزخار (المسند) ج13 لأحمد بن عمرو بن عبد الخالق البزار، تحقيق: عادل بن سعد، مكتبة العلوم والحكم، المدينة المنورة- السعودية، الطبعة الأولى: 1426/2005.

تاريخ مدينة دمشق لعلي بن الحسن بن هبة الله ابن عساكر، تحقيق: عمرو بن غرامة العمروي، دار الفكر، بيروت- لبنان، 1415 /1995.

تذكرة الموضوعات لمحمد طاهر بن علي الصديقي الهندي الفَتَّنِي، إدارة الطباعة المنيرية، الهند، الطبعة الأولى: 1343.

الجامع المسند الصحيح المختصر من أمور رسول الله صلى الله عليه وسلم وسننه وأيامه لمحمد بن إسماعيل البخاري الجعفي، تحقيق: محمد زهير بن ناصر الناصر، دار طوق النجاة، بيروت-لبنان، دار المنهاج، جدة-السعودية، الطبعة: الأولى: 1422، طبعة مصورة عن الطبعة الكبرى الأميرية، بولاق- مصر، 1311.

الجامع لشعب الإيمان لأحمد بن الحسين بن علي البيهقي، تحقيق: عبد العلي عبد الحميد حامد، مكتبة الرشد، الرياض- السعودية، الطبعة الأولى: 1423/2003.

السنن لأبي داود سليمان بن الأشعث السجستاني، تحقيق: شعيب الأرنؤوط، محمد كامل قره بللي، دار الرسالة العالمية، القاهرة- مصر، الطبعة الأولى: 1430/ 2009.

السنن لأبي عبد الله محمد بن يزيد ابن ماجه القزويني، تحقيق: محمد فؤاد عبد الباقي، دار إحياء الكتب العربية، مصر، (د-ت).

شرح المواهب اللدنية بالمنح المحمدية (ج8) لأبي عبد الله محمد بن عبد الباقي بن يوسف الزرقاني، المطبعة الأزهرية المصرية، مصر، الطبعة الأولى: 1328.

لطائف المعارف فيما لمواسم العام من الوظائف لعبد الرحمن بن أحمد بن رجب البغدادي، تحقيق: عامر بن علي ياسين، دار ابن خزيمة، الرياض- السعودية، الطبعة الأولى: 1428 /2007.

مجمع الزوائد ومنبع الفوائد لعلي بن أبي بكر بن سليمان الهيثمي، تصوير دار الكتاب العربي، بيروت- لبنان، مصور عن مكتبة القدسي، القاهرة- مصر.

المسند الصحيح المختصر بنقل العدل عن العدل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لمسلم بن الحجاج القشيري النيسابوري تحقيق: محمد فؤاد عبد الباقي، دار إحياء التراث العربي، بيروت-لبنان، (د-ت).

المسند لأحمد بن محمد بن حنبل الشيباني، تحقيق: جماعة من الباحثين، إشراف: عبد الله بن عبد المحسن التركي، مؤسسة الرسالة، بيروت- لبنان، الطبعة الأولى: 1421/ 2001.

المعجم الكبير لسليمان بن أحمد بن أيوب الطبراني، تحقيق: حمدي بن عبد المجيد السلفي، مكتبة ابن تيمية، القاهرة، الطبعة: الثانية، (د-ت).

وصول الأماني بأصول التهاني لعبد الرحمن بن أبي بكر السيوطي، تحقيق: يحيى بن علي الحجوري، دار الإمام أحمد، القاهرة- مصر، 1427/ 2006.

*راجعت المقال الباحثة: خديجة ابوري

Science

يوسف أزهار

  • باحث بمركز ابن القطان للدراسات والأبحاث في الحديث الشريف والسير ة النبوية العطرة بالعرائش، التابع للرابطة المحمدية للعلماء.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق