مركز ابن القطان للدراسات والأبحاث في الحديث الشريف والسيرة العطرةدراسات عامة

دروس تربوية من خلال حديث النبي صلى الله عليه وسلم: “إن من أحبكم إلي وأقربكم مني مجلسا يوم القيامة أحاسنكم أخلاقا…”

بسم الله الرحمن الرحيم والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم

      فقد دعا النبي صلى الله عليه وسلم إلى التحلي بجميل الأوصاف ومكارم الأخلاق، وحث الناس عليها، كيف لا؟ وقد كان عليه الصلاة والسلام من أحسنهم أخلاقا ، وبالمقابل دعا إلى اجتناب الأخلاق الذميمة والابتعاد عنها ؛ بهذا دلت العديد من أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم ، ومنها حديث جابر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “إن من أحبكم إلي، وأقربكم مني مجلسا يوم القيامة، أحاسنكم أخلاقا، وإن أبغضكم إلي، وأبعدكم مني مجلسا يوم القيامة، الثرثارون، والمتشدقون، والمتفيهقون”، قالوا: يا رسول الله، قد علمنا الثرثارون والمتشدقون، فما المتفيهقون؟ قال:”المتكبرون” .

      هذا الحديث أخرجه بهذا اللفظ الإمام الترمذي في سننه وقال: حديث حسن غريب من هذا الوجه([1]) ، وله طرق أخرى منها:

حديث أبي ثعلبة الخشني أخرجه أحمد في مسنده([2]) ، وابن حبان في صحيحه([3])، والطبراني في مسند الشاميين([4])بنحو هذا اللفظ. .

وحديث أبي هريرة رضي الله عنه أخرجه أحمد في مسنده([5])،  والبيهقي في شعب الإيمان([6]) بنحو هذا اللفظ.

من خلال هذا الحديث أقف وإياكم على بعض المعاني والدروس التربوية المستمدة منه وهي باختصار:

الوقفة الأولى: في قوله صلى الله عليه وسلم: ” إن من أحبكم إلي وأقربكم مني مجلسا يوم القيامة أحاسنكم أخلاقا”؛ فيه دعوة إلى الاتصاف بالأخلاق الحسنة،  والقيم الفاضلة، للفوز بمحبة النبي صلى الله عليه وسلم في الدنيا، فكلما كان الإنسان متصفا بحسن الخلق، كلما كان قريبا إلى الله  ورسوله صلى الله عليه وسلم، بل وله منزلة القرب منه صلى الله عليه وسلم مجلسا يوم القيامة.

وعن حُسن الخلق روى الترمذي عن عبد الله بن المبارك (181هـ) معناه  قائلا: “هو بسط الوجه، وبذل المعروف، وكف الأذى”([7]).

وقال القاضي (544هـ): “هو مخالقة الناس باليمن والبشر والتودد لهم، والإشفاق عليهم، واحتمالهم، والحلم عنهم، والصبر عليهم في المكاره، وترك الكبر والاستطالة عليهم، ومجانبة الغلظة والغضب والمؤاخذة” ([8])

الوقفة الثانية: في قوله صلى الله عليه وسلم: ” وإن أبغضكم إلي وأبعدكم مني مجلسا يوم القيامة، الثرثارون،  والمتشدقون، والمتفيهقون “؛ فيه بيان من النبي الكريم صلى الله عليه وسلم للصفات الذميمة التي تحرم  المتصف بها من نعمة محبة الله تعالى له، ومن نعمة القرب من الله ورسوله له في الآخرة، وهذه الأخلاق كلها صفات تتعلق باللسان وهي:

الصفة الأولى: الثرثرة

قال الترمذي (279هـ) في تفسير هذه الصفة: “الثرثار هو الكثير  الكلام” ([9])، وجاء في النهاية في غريب الحديث لابن الأثير (606هـ) قوله: ” الثرثارون هم الذين يكثرون الكلام تكلفا وخروجا عن الحق، والثرثرة: كثرة الكلام وترديده “([10])

الصفة الثانية: التشدق

قال الترمذي: “والمتشدق الذي يتطاول على الناس في الكلام ويبذو عليهم”([11])، وقال          ابن الأثير  (606هـ ) في معناها: “هم المتوسعون في الكلام من غير احتياط واحتراز ، وقيل: أراد بالمتشدق: المستهزئ بالناس يلوي شدقه بهم وعليهم “([12])

قال النووي (676هـ) في الأذكار:  “يكره التقعير في الكلام بالتشدق، وتكلف السجع، والفصاحة والتصنع بالمقدمات، التي يعتادها المتفاصحون وزخارف القول، فكل ذلك من التكلف المذموم، وكذلك  تكلف السجع، وكذلك التحري في دقائق الإعراب ووحشي اللغة في حال مخاطبة العوام، بل ينبغي أن يقصد في مخاطبته لفظا يفهمه صاحبه فهما جليا، ولا يستثقله “([13])

الصفة الثالثة: التفيهق

والمتفيهقون وصفهم النبي صلى الله عليه وسلم  بالمتكبرين كما في آخر الحديث “فما المتفيهقون؟ قال:”المتكبرون”.

قال الزمخشري (538هـ) في الفائق: “المتفيهق: من الفهق؛ وهو الامتلاء، يقال: فهق الحوض فهقا وأفهقته؛ وهو الذي يتوسع في كلامه ويملأ به فاه، وهذا من التكبر” ([14]).

والمتكبر  لا يكلمه الله تعالى يوم القيامة ولا ينظر إليه ولا يزكيه مصداقا لحديث النبي صلى الله عليه وسلم كما رواه مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم: “ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة ، ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم…..: -وذكر منهم- عائل مستكبر “([15])

ومن خلال ما تقدم يمكن أن نخلص في هذا الحديث إلى الآتي:

أولا:  بيان فضل المتصف بالأخلاق الفاضلة ومنزلته ومكانته عند الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم في الدنيا والآخرة.

ثانيا: بيان منزلة المتصف بالأخلاق الذميمة عند الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم في الدنيا والآخرة .

نسأل الله تعالى أن يوفقنا وإياكم لمحاسن الأخلاق، ويصرف عنا مساوئها إنه سميع مجيب.

                                                         ***************

هوامش المقال:

([1])  أخرجه الترمذي في سننه (3 /545)، كتاب: أبواب البر والصلة، باب:  ما جاء في معالي الأخلاق، برقم: (2018).

([2])  أخرجه أحمد في مسنده (29 /267) برقم: (17732).

([3])  صحيح ابن حبان بتقريب ابن بلبان (12/ 368) برقم: (5557).

([4])  مسند الشاميين (4 /337-338) برقم: (3490).

([5])  أخرجه أحمد في مسنده (14 /418) برقم: (8822).

([6])  الجامع لشعب الإيمان (7/ 42) برقم: (4617).

([7]) سنن الترمذي (3/ 537) برقم: (2005).

([8]) نقلا عن الديباج على مسلم (5/ 322).

([9])  سنن الترمذي (3/ 545).

([10]) النهاية في غريب الحديث (1 209) مادة: “ثرثر”.

([11])  سنن الترمذي (3 /545).

([12]) النهاية في غريب الحديث (2/ 453) مادة”شدق”.

([13]) الأذكار النووية (ص: 320).

([14]) الفائق في غريب الحديث والأثر (4 /68-69) .

([15]) أخرجه مسلم في صحيحه (1/ 60) في كتاب الإيمان ، باب: تحريم إسبال الإزار، برقم (107).

*****************

لائحة المصادر والمراجع المعتمدة:

الأذكار النووية. لمحيي الدين يحيى بن شرف أبي زكريا النووي. دار الفكر (د.ت).

الجامع الكبير. لأبي عيسى محمد بن عيسى الترمذي، حققه وخرج أحاديثه وعلق عليه: د بشار عواد معروف. دار الغرب الإسلامي بيروت. ط1/ 1996م.

الجامع لشعب الإيمان. لأبي بكر أحمد بن الحسين البيهقي. أشرف على تحقيقه وتخريج أحاديثه: مختار أحمد الندوي. مكتبة الرشد السعودية. ط1/ 1423هـ- 2003م.

الديباج على صحيح مسلم بن الحجاج. لجلال الدين السيوطي. حققه وعلق عليه: أبو إسحاق الحويني، دار ابن عفان السعودية. ط1/ 1416هـ- 1996م.

صحيح ابن حبان بترتيب ابن بلبان. لعلاء الدين علي ابن بلبان الفارسي. حققه وخرج أحاديثه وعلق عليه: شعيب الأرنؤوط. مؤسسة الرسالة بيروت لبنان ط2/ 1414- 1993م.

صحيح مسلم. وفي طليعته: غاية الابتهاج لمقتفي أسانيد كتاب مسلم بن الحجاج للزبيدي.دار طيبة. الرياض. ط1/ 1427-2006.

الفائق في غريب الحديث. لجار الله محمود بن عمر الزمخشري. تحقيق: محمد أبو الفضل إبراهيم- علي محمد البجاوي. من منشورات عيسى البابي الحلبي. ط2/1971م.

مسند أحمد (ج 14و 29). لأحمد ابن حنبل. تحقيق: مجموعة من الباحثين. مؤسسة الرسالة بيروت. ط1/ 1417هـ- 1997م و 1419هـ- 1999م.

مسند الشاميين. لأبي القاسم سليمان بن أحمد بن أيوب الطبراني. حققه وخرج أحاديثه: حمدي عبد المجيد السلفي. مؤسسة الرسالة بيروت ط1/ 1409هـ- 1989م.

النهاية في غريب الحديث والأثر. لمجد الدين أبي السعادات المبارك بن محمد ابن الأثير الجزري. تحقيق: محمود محمد الطناحي- طاهر أحمد الزاوي. دار إحياء التراث العربي بيروت لبنان. (د.ت) .

*راجع المقال الباحث: يوسف أزهار

Science

دة. خديجة أبوري

  • أستاذة باحثة مؤهلة بمركز ابن القطان للدراسات والأبحاث في الحديث الشريف والسيرة العطرة بالعرائش، التابع للرابطة المحمدية للعلماء.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق