مركز عقبة بن نافع للدراسات والأبحاث حول الصحابة والتابعينشذور

درر من مواعظ الصحابة رضي الله عنهم (1).

«وأعلمهم بالحلال والحرام معاذ..»([1])

إنّ للصحابة رضي الله عنهم مكانةٌ عظيمةٌ في قلوب المسلمين، فهم أفضل البشر بعد الأنبياء والمرسلين، فقد جعلهم الله خير أمةٍ أخرجت للناس، يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، ويطيعون الله ورسوله، فجعلهم مثلًا للكتابين؛ لأهل التوراة والإنجيل، خير الأمم أمَّته، وخير القرون قرنه، يرفع الله من أقدارهم؛ إذ أمر الله عزو جل نبيه صلى الله عليه وسلم  بمشاورتهم؛ فقال:{فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ الله لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ القَلْبِ لاَنْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْر}([2])، لما علم من صدقهم، وصحة إيمانهم، وخالص مودَّتهم، ووفور عقلهم، ونبالة رأيهم، وكمال نصيحتهم، وتبيُّن أمانتهم، رضي الله عنهم أجمعين.

فقد أثنى الله عز وجل عليهم في العديد من الآيات، منها قوله تعالى: {مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّـهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّنَ اللَّـهِ وَرِضْوَانًا}([3])، وقوله أيضاً: {وَالسّابِقونَ الأَوَّلونَ مِنَ المُهاجِرينَ وَالأَنصارِ وَالَّذينَ اتَّبَعوهُم بِإِحسانٍ رَضِيَ اللَّـهُ عَنهُم وَرَضوا عَنهُ وَأَعَدَّ لَهُم جَنّاتٍ تَجري تَحتَهَا الأَنهارُ خالِدينَ فيها أَبَدًا ذلِكَ الفَوزُ العَظيمُ}([4]).

وأثنى عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم في كثير من الأحاديث، فقال: «فوالذي نفسـي بيده لوْ أنَّ أحَدَكُمْ أنْفَقَ مِثْلَ أُحُدٍ، ذَهَبًا ما بَلَغَ مُدَّ أحَدِهِمْ، ولا نَصِيفَهُ»([5]).

لقد اصطفاهم الله لصحبة نبيِّه صلى الله عليه وسلم ونشر دينه، فاسترخصوا في سبيل ذلك أنفسهم وأموالهم! وفارقوا أهلهم وأوطانهم! وبذلوا النفوس صابرين، وأنفقوا الأموال محتسبين، وناصبوا من ناوأهم متوكِّلين، فآثروا رضاء الله على الغناء، والغربة على الوطن: {يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ}([6]) .

فأخرجوا من شاء الله من عبادة العباد إلى عبادة ربِّ العباد، ومن ضيق الدُّنيا إلى سعتها، ومن جور أهل الطغيان إلى عدل الإسلام، وعلى أيديهم سقطت عروش الكفر، وتحطَّمت شعائر الإلحاد، وذلَّت رقاب الجبابرة والطغاة، ودانت لهم الممالك. فهم الذين شهدوا الوحي والتنزيل، وعرفوا التفسير والتأويل، وهم الذين اختارهم الله سبحانه وتعالى لصحبة نبيِّه  صلى الله عليه وسلم  ونصرته، وإقامة دينه، وإظهار حقِّه، فرضيهم له صحابةً، وجعلهم لنا أعلاماً وقدوةً، فحفظوا عنه صلى الله عليه وسلم ما بلَّغهم عن الله عز وجل، وما سنَّ وما شرع، وحكم وقضى وندب، وأمر ونهى وأدَّب، ووعوه وأتقنوه، ففقهوا في الدِّين، وعلموا أمر الله ونهيه ومراده بمعاينة رسول الله  صلى الله عليه وسلم  … ونفى عنهم الشكَّ والكذب والغلط والريبة والغمز، وسمَّاهم عدول الأمَّة، فقال  عزَّ وجل  في محكم كتابه: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ}([7]) .

إنَّهم الصحابة رضي الله عنهم  الذين تولَّى الله شرح صدورهم فأنزل السكينة على قلوبهم، وبشَّرهم برضوانه ورحمته فقال: {يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُم بِرَحْمَةٍ مِّنْهُ وَرِضْوَانٍ}([8]) .

من المعلوم عند العلماء وأهل الإيمان أنّ الصحابة رضي الله عنهم متفاوتون في الفضل، وذلك بحسب سبقتهم للإسلام، والهجرة، والإيواء، والنصرة، والجهاد في سبيل الله، حيث إنّ أفضلهم السابقون الأولون من الأنصار والمهاجرين، الذين قاتلوا وأنفقوا في سبيل الله قبل الفتح، حيث قال سبحانه: {لَا يَسْتَوِي مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَـئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِّنَ الَّذِينَ أَنفَقُوا مِن بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّـهُ الْحُسْنَى وَاللَّـهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ}([9]).

لذا وجب توقيرهم جميعا والترضي عليهم والإمساك عمّا شجر بينهم من خلاف. فقد فضّلهم النّبي صلّى الله عليه وسلم على غيرهم، فقال: «خير الناس قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم»([10])، ونهى عن التعرُّض لهم، فقال  صلى الله عليه وسلم: «لا تسبُّوا أصحابي، لا تسبُّوا أصحابي؛ فو الَّذي نفسي بيده، لو أنَّ أحدكم أنفق مثل أحدٍ ذهبًا، ما أدرك مدَّ أحدهم، ولا نصيفه»([11]).

وفي ذلِكَ قال الفقيه المصـريُّ الشّهابُ أحمدُ بنُ حجر الهَيْتميّ المَكّي في كتابِه (أسْنى المَطالب في صلةِ الأقارِب): (يَلزَمُ المُسلمَ أن يتأدّبَ مع صحابةِ رسول الله صلى الله عليه وسلم وأهلِ بيتِه بالتّرضّي عليهم ومعرفةِ فضلهِم وحقِّهم، والإمساكِ عمّا شَجرَ بينهُم مع نَزاهةِ كلٍّ منهُم عن ارتكابهِم شيئاً يُعتقَدُ حِرمَتُه، بل كلٌّ منهم مُجتهدٌ، فهم كلُّهم مجتهدونَ مُثابونَ، المُصيبُ بعشـرةِ أجورٍ، والمُخطئُ منهم بأجرٍ واحدٍ، والعقابُ واللّومُ والنّقصُ مرفوعٌ عن جَميعهِم؛ فتفطَّنْ لذلِك وإلاّ زلَّت قَدمُك، وحَقَّ هلاكُك ونَدمُكَ. ألا وإنّ فَضيلَتَهم على مَن سواهُم من الأمّةِ إنّما هي بفوزِهم بتلكَ الصُّحبةِ الشّـريفةِ، وفضيلةِ المُشاهدةِ التي لا تكونُ لغيْرِ الصّحابةِ… كيفَ لا وهُم الذينَ بَذَلوا أرواحَهُم في محبّةِ المُصطفى، وآثروا رِضاه على هَوى نُفوسهِم، فَنالوا بذلِك رِفعةً وشَرفاً..) ([12]).

قال الإمام أحمد رحمه الله: «ومن انتقص أحدًا من أصحاب رسول الله أو أبغضه لحدثٍ كان منه، أو ذكر مساويه، كان مبتدعًا حتى يترحَّم عليهم، ويكون قلبه لهم سليمًا» ([13]).

وقال أيضا: قال مالك: «الذي يشتم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ليس لهم سهم، أو قال: نصيب في الإسلام»([14]).

وقال شيخ الإسلام رحمه الله فيمن زعم: «أنهم ارتدُّوا بعد الرسول صلى الله عليه وسلم إلا نفراً قليلًا لا يبلغون بضعة عشر نفساً، أو أنَّهم فسقوا عامتهم، فهذا لا ريب أيضًا في كفره؛ فإنَّه مكذِّبٌ لما نصَّه القرآن في غير موضع من الرِّضا عنهم والثناء عليهم، بل من يشكُّ في كفر مثل هذا، فإنَّ كفره متعينٌ؛ فإنَّ مضمون هذه المقالة أنَّ نقلة الكتاب والسُّنَّة كفارٌ أو فسَّاقٌ، وأنَّ هذه الأمة التي هي: {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} وخيرها هو القرن الأوَّل – كان عامتهم كفارًا أو فساقًا – ومضمونها أنَّ هذه الأمة شرُّ الأمم، وأنَّ سابقي هذه الأمة هم شرارها، وكفر هذا مما يعلم بالاضطرار من دين الإسلام؛ ولهذا تجد عامة من ظهر عنه شيءٌ من هذه الأقوال، فإنَّه يتبيَّن أنَّه زنديقٌ، وعامة الزنادقة إنما يستترون بمذهبهم، وقد ظهرت لله فيهم مَثُلاَتٌ»([15]).

قال أبو عروة الزبيري: كنّا عند مالك فذكروا رجلا ينتقص أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقرأ مالك هذه الآية: {مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ} إلى قوله: {لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ} [الفتح: 29]، فقال مالك: «من أصبح من الناس في قلبه غيظٌ على أحد من أصحاب رسول الله  صلى الله عليه وسلم فقد أصابته هذه الآية»([16]).

ومن تأمَّل في كلام الصحابة رضي الله عنهم ومواعظهم، وجدهم قد ساروا على هدي سيد المرسلين، فهم خير هذه الأمة، وأبرُّها قلوبًا، وأعمقها علمًا، وأقلُّها تكلُّفاً – كما وصفهم بذلك الحسن البصريُّ رحمه الله.

قيل لحمدونٍ القصَّار([17]): ما بال كلام السلف أنفع من كلامنا؟ قال: لأنَّهم تكلَّموا لعزِّ الإسلام، ونجاة النفوس، ورضا الرحمن، ونحن نتكلَّم لعزِّ النفوس، وطلب الدُّنيا، ورضا الخلق .

يقول ابن القيِّم رحمه الله – مبيِّنًا هذا المعنى في حقِّ الصحابة  رضي الله عنهم: «فَلَا رَيْبَ أَنَّهُمْ كَانُوا أَبَرَّ قُلُوبًا، وَأَعْمَقَ عِلْمًا، وَأَقَلَّ تَكَلُّفًا، وَأَقْرَبَ إلَى أَنْ يُوَفَّقُوا فِيهَا لِمَا لَمْ نُوَفَّقْ لَهُ نَحْنُ؛ لِمَا خَصَّهُمْ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ مِنْ تَوَقُّدِ الْأَذْهَانِ، وَفَصَاحَةِ اللِّسَانِ، وَسَعَةِ الْعِلْمِ، وَسُهُولَةِ الْأَخْذِ، وَحُسْنِ الْإِدْرَاكِ وَسُرْعَتِهِ، وَقِلَّةِ الْمُعَارِضِ أَوْ عَدَمِهِ، وَحُسْنِ الْقَصْدِ، وَتَقْوَى الرَّبِّ تَعَالَى؛ فَالْعَرَبِيَّةُ طَبِيعَتُهُمْ وَسَلِيقَتُهُمْ، وَالْمَعَانِي الصَّحِيحَةُ مَرْكُوزَةٌ فِي فِطَرِهِمْ وَعُقُولِهِمْ»([18]) .

وفيما يلي درر من كلام الصحابي الجليل معاذ بن جبل، مستوحاة من مشكاة النبوة:

هو معاذ بن جبل بن عمرو بن أوسٍ الأنصاريُّ ثم الخزرجيُّ، إمام الفقهاء، وكبير العلماء. السيد الإمام، أبو عبد الرحمن الأنصاري الخزرجي المدني البدري. وشهد أيضًا أحدًا والخندق والمشاهد كلَّها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، اشتهر بأنَّه أعلم الأمَّة بالحلال والحرام، وله عدة أحاديث.

يعتبر رضي الله عنه من فقهاء أصحاب النبيِّ  صلى الله عليه وسلم  وخاصَّتهم، بل إذا ذُكِرَ العلماء من الصحابة كان في مقدَّمهم، شهد العقبة مع السبعين من الأنصار، أسلم وهو ابن ثماني عشرة سنةً، ولما أسلم كان يكسر أصنام بني سلمة هو وثعلبة بن عنمة، وعبد الله بن أنيسٍ.

كان الرسول صلّى الله عليه وسلّم يُحب أصحابه رضوان الله عليهم، بيد أنّه لمن الفضائل أن يُعلن النبي الكريم ذلك لهم، كيف لا وهو خاتم الأنبياء والمُرسلين صاحب الوحي، وها هو الصحابي الجليل معاذ بن جبل رضي الله عنه حظي بهذا الفضل الكبير، فعن معاذ بن جبل قال: أنَّ رسولَ اللَّه صلَّى اللَّه علَيهِ وسلَّمَ أخذَ بيدِهِ، وقالَ: «يا مُعاذُ، واللَّهِ إنِّي لأحبُّكَ، واللَّهِ إنِّي لأحبُّك، فقالَ: أوصيكَ يا معاذُ لا تدَعنَّ في دُبُرَ كلِّ صلاةٍ تقولُ: اللَّهمَّ أعنِّي على ذِكْرِكَ، وشُكْرِكَ، وحُسنِ عبادتِكَ»([19]).

بالرغم من حداثة سنّ معاذ بن جبل رضي الله عنه إلّا أنّه احتلّ مكانةً رفيعةً عند رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، حيث أهّلته سلامة دينه وصحّة تلاوته للقرآن ليقول عنه الرّسول صلّى الله عليه وسلّم: «خُذوا القرآنَ من أربعةٍ: من عبدِ اللهِ بنِ مسعودٍ، فبدَأ به، وسالمٍ مولَى أبي حُذَيفَةَ، ومُعاذِ بنِ جبلٍ، وأُبَيِّ بنِ كعبٍ»([20]).

وكان ابن مسعود يسمِّيه: الأُمَّة القانت، كان من أفضل شباب الأنصار حلمًا وحياءً، وبذلًا وسخاءً، وضيء الوجه، أكحل العينين، برَّاق الثنايا، جميلًا وسيمًا، أردفه النبيُّ  صلى الله عليه وسلم  وراءه فكان رديفه، وشيَّعه النبي صلى الله عليه وسلم  ماشيًا في مخرجه إلى اليمن وهو راكبٌ، وتوفِّي النبي صلى الله عليه وسلم وهو عامله على اليمن، ولم يعقب.

مات بطاعون عمواس بالشام شهيدًا -في خلافة عمر -وهو ابن ثمانٍ وثلاثين، وقيل: ثلاثٍ، وقيل: أربع وثلاثين.

قال رضي الله عنه:

«تعلَّموا العلم؛ فإنَّ تعلُّمه لله تعالى خشيةٌ، وطلبه عبادةٌ، ومذاكرته تسبيحٌ، والبحث عنه جهادٌ، وتعليمة لمن لا يعلم صدقةٌ، وبذله لأهله قربةٌ؛ لأنَّه معالم الحلال والحرام، ومنار أهل الجنة، والأنس في الوحشة، والصاحب في الغربة، والمحدِّث في الخلوة، والدليل على السَّرَّاء والضَّراء، والسلاح على الأعداء، والزَّين عند الأخلَّاء، يرفع الله تعالى به أقوامًا ويجعلهم في الخير قادةً وأئمةً، تقتبس آثارهم، ويقتدي بفعالهم، ويُنتهى إلى رأيهم، ترغب الملائكة في خُلَّتهم، وبأجنحتها تمسحهم، ويستغفر لهم كلُّ رطبٍ ويابسٍ حتى الحيتان في البحر وهوامُّه، وسباع الطير وأنعامه؛ لأنَّ العلم حياة القلوب من الجهل، ومصباح الأبصار من الظُّلم، يبلغ بالعلم منازل الأخيار، والدرجة العليا في الدُّنيا والآخرة. والتفكُّر فيه يعدل بالصِّيام، ومدارسته بالقيام، به توصل الأرحام، ويعرف الحلال من الحرام، إمام العمَّال والعمل تابعه، يلهمه السُّعداء، ويحرمه الأشقياء».

ومن مواعظه رضي الله عنه، قوله:

«إِنَّ وَرَاءَكُمْ فِتَنًا يكثر فيها المال، وَيُفْتَحُ فيها القرآن حتى يأخذه المؤمن والمنافق، والرجل والمرأة، والصغير والكبير، والحر والعبد، فيوشك قائل أن يقول: مَا لِلنَّاسِ لَا يَتَّبِعُونِي وَقَدْ قَرَأْتُ الْقُرْآنَ، مَا هُمْ بِمُتَّبِعِيَّ حَتَّى أَبْتَدِعَ لَهُمْ غَيْرَهُ، فَإِيَّاكُمْ وَمَا يَبْتَدِعُ، فإن ما ابتدع ضلالة، وأحذركم زَيْغَةَ الْحَكِيمِ؛ فإن الشيطان قد يقول كلمة الضلالة على لسان الحكيم، وقد يقول المنافق كلمة الحق، قلت لمعاذ بن جبل: ما يدريني، رحمك الله، أن الحكيم يقول كلمة الضلالة، وأن المنافق يقول كلمة الحق؟ قال: بلى، اجتنب من كلام الحكيم الْمُسْتَهْتِرَاتِ الَّتِي يُقَالُ: ما هذه؟ وَلَا يُثْنِيكَ ذلك عنه، فإنه لعله يرجع ويتبع الحق إذا سمعه، فإن على الحق نورا»([21]).

ولَمَّا طُعِنَ أَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ الْجَرَّاحِ، قَامَ مُعَاذٌ فِي النَّاسِ خطيبا، فقال:

 «يَا أَيُّهَا النَّاسُ تُوبُوا إِلَى اللَّهِ مِنْ ذُنُوبِكُمْ تَوْبَةً نَصُوحًا، فَإِنَّ عَبْدَ اللَّهِ لَا يَلْقَى اللَّهَ تَائِبًا مِنْ ذَنْبِهِ إِلَّا كَانَ حَقًّا عَلَى اللَّهِ أَنْ يَغْفِرَ لَهُ» ثُمَّ قَالَ: «إِنَّكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ فُجِعْتُمْ بِرَجُلٍ وَاللَّهِ مَا أَزْعُمُ أَنِّي رَأَيْتُ مِنْ عَبَّادِ اللَّهِ عَبْدًا قَطُّ أَقَلَّ غَمْزًا وَلَا أَبَرَّ صَدْرًا، وَلَا أَبْعَدَ غَائِلَةً، وَلَا أَشَدَّ حُبًّا لِلْعَاقِبَةِ، وَلَا أَنْصَحَ لِلْعَامَّةِ مِنْهُ، فَتَرَحَّمُوا عَلَيْهِ رَحِمَهُ اللَّهُ، ثُمَّ أَصْحِرُوا لِلصَّلَاةِ عَلَيْهِ، فَوَاللَّهِ لَا يَلِي عَلَيْكُمْ مِثْلَهُ أَبَدًا» فَاجْتَمَعَ النَّاسُ، وَأَخْرَجَ أَبُو عُبَيْدَةَ، وَتَقَدَّمَ مُعَاذٌ فَصَلَّى عَلَيْهِ حَتَّى إِذَا أَتَى بِهِ قَبْرَهُ دَخَلَ قَبْرَهُ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ وَعَمْرُو بْنُ الْعَاصِ وَالضَّحَّاكُ بْنُ قَيْسٍ، فَلَمَّا وَضَعُوهُ فِي لَحْدِهِ وَخَرَجُوا فَشَنُّوا عَلَيْهِ التُّرَابَ، فَقَالَ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ: «يَا أَبَا عُبَيْدَةَ، لَأُثْنِيَنَّ عَلَيْكَ وَلَا أَقُولُ بَاطِلًا أَخَافُ أَنْ يَلْحَقَنِي بِهَا مِنَ اللَّهِ مَقْتٌ كُنْتُ وَاللَّهِ مَا عَلِمْتُ مِنَ الذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا، وَمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا، وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا: سَلَامًا، وَمَنِ الَّذِينَ إِذَا أَنْفِقُوا لَمْ يُسْـرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا، وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا وَكُنْتَ وَاللَّهِ مِنَ الْمُخْبَتِينَ الْمُتَوَاضِعِينَ الَّذِي يَرْحَمُونَ الْيَتِيمَ وَالْمِسْكِينَ وَيَبْغُضُونَ الْخَائِنِينَ الْمُتَكَبِّرِينَ»([22]).

ومن مواعظه  رضي الله عنه ما قاله لابنه:

«يا بُنيَّ، إذا صلَّيت صلاةً، فصلِّ صلاة مودِّعٍ: لا تظنُّ أنَّك تعود إليها أبدًا، واعلم يا بنيَّ أنَّ المؤمن يموت بين حسنتين: حسنة قدَّمها، وحسنة أخَّرها».

ومن مواعظه رضي الله عنه قوله:

«إنَّك تجالس قومًا لا محالة يخوضون في الحديث، فإذا رأيتهم غفلوا، فارغب إلى ربِّك عز وجل عند ذلك رغباتٍ».

ومن مواعظه رضي الله عنه أنَّه لمَّا حضرته الوفاة، قال:

«انظروا أصبحنا؟»، فأُتي فقيل: لم تُصبح، فقال: «انظروا أصبحنا؟»، فأُتي فقيل له: لم تُصبح، حتى أُتي في بعض ذلك فقيل: قد أصبحت، قال: «أعوذ بالله من ليلةٍ صباحها إلى النار، مرحبًا بالموت مرحبًا! زائرٌ مُغبٌّ، وحبيبٌ جاء على فاقةٍ، اللَّهمَّ إنِّي قد كنت أخافك، فأنا اليوم أرجوك، اللَّهمَّ إنَّك تعلم أنِّي لم أكن أحبُّ الدُّنيا وطول البقاء فيها لجري الأنهار، ولا لغرس الأشجار، ولكن لظمأ الهواجر، ومكابدة الساعات، ومزاحمة العلماء بالرُّكب عند خلق الذِّكر».([23])

————————————————–

([1]) أخرجه أحمد في المسند: 1/ 107، وابن ماجه في السنن-باب فضائل الصحابة رضي الله عنهم -فضائل زيد بن ثابت: 1/107، رقم154، وقال المحقق شعيب الأرناؤوط: (إسناده صحيح).

([2])  سورة ال عمران، آية: 159.

([3])  سورة الفتح، آية: 29.

([4])  سورة التوبة، آية: 101.

([5]) أخرجه مسلم في الصحيح-كتاب فضائل الصحابة– باب النهي عن سب أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وفضلهم على من بعدهم:2/465 رقم: 1746.

([6])  الحشر: الآية، 8.

([7])  البقرة: الآية، 143.

([8])  التوبة: الآية، 21.

([9])  سورة الحديد، آية: 10.

 ([10]) أخرجه مسلم في الصحيح-كتاب فضائل الصحابة– باب فضل الصحابة ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم:4/1963 رقم: 2533.

([11])  سبق تخريحه.

 ([12]) أسْنى المَطالب في صلة الأقارب (فَضائلُ صلة الرّحم وتَحْريمُ قَطيعَتها)؛ أبو العباس أحمد بن محمّد ابنُ حَجر الهَيْتَمي، تحقيق: خلاف محمود عبدالسميع، دار الكُتُب العلمية، 2003م.

([13])  أصول السُّنَّة؛ لأحمد بن حنبل: 1/54.

([14])  السنة للخلال3/ 493 – رقم779. والابانة الصغرى لابن بطة ص 178.

([15])  الصارم المسلول:1/ 586 – 587.

([16])  الحلية لأبي نعيم الأصبهاني 6/ 327، وانظر: «الشفا»؛ للقاضي عياض (2/ 120).

([17]) أبو صالح حمدون بن أحمد بن عمارة القصّار النيسابوري، أحد علماء أهل السنة والجماعة ومن أعلام التصوف السني في القرن الثالث الهجري، وصفه الذهبي بأنه: (شيخ الصوفية). كان عالماً فقيهاً على مذهب سفيان الثوري. توفي سنة 271 هـ في نيسابور ودفن في مقبرة الحيرة. انظر سير أعلام النبلاء للذهبي: 13/50.

([18]) إعلام الموقعين:4/ 113.

([19]) أخرجه أحمد في المسند: 36/429، وأبو داود في السنن-أبواب فضائل القرآن-باب في الاستغفار-2/630-3-631 رقم: 1522، وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب: 2/119.

([20]) أخرجه البخاري في الصحيح-كتاب مناقب الأنصار-باب مناقب أبي لتن كعب رضي الله عنه: 5/36 رقم: 3808، ومسلم في الصحيح-كتاب الفضائل– باب من فضائل عبدالله بن مسعود وأمه رضي الله تعالى عنهما:4/1913 رقم: 2464.

([21]) حلية الأولياء لأبي نعيم: 1/233.

([22])  أخرجه الحاكم في المستدرك على الصحيحين: 3/295، سكت عنه الذهبي في التلخيص.

([23]) -إعلام الموقعين عن رب العالمين. ابن قيم الجوزية. تحقيق: محمد عبد السلام إبراهيم. الناشر: دار الكتب العلمية – ييروت. الطبعة: الأولى، 1411هـ – 1991م.

    -أصول السنة. أحمد بن حنبل. الناشر: دار المنار – الخرج – السعودية. الطبعة: الأولى، 1411هـ.

     – الصارم المسلول على شاتم الرسول. ابن تيمية. المحقق: محمد محي الدين عبد الحميد. الناشر: الحرس الوطني السعودي، المملكة العربية السعودية.(د.ت).

      -مواعظ الصحابة – رضي الله عنهم – «مواعظ علمية منهجية وتربوية». المؤلف: عمر بن عبد الله بن   محمد المقبل. الناشر: مكتبة دار المنهاج للنشر والتوزيع، الرياض – المملكة العربية السعودية. الطبعة: الأولى، 1435هـ.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق