مركز الإمام أبي عمرو الداني للدراسات والبحوث القرائية المتخصصةشذور

درر قرآنية (21): اسم الصائم ومتعلقاته (2) حكم صيام الست من شوال وغيرها من نفل الصوم

الحمد لله، والصلاة والسلام على مولانا رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، وبعد:

فإن مما امتن به الله تعالى على عباده الصالحين أن قرر لهم عبادات نوافل تطوعية تكمل نقص فرائضهم، فكان النفل في الصيام والصلاة والصدقة وغيرها من القربات…، وقد ودع الناس قبل أيام شهر رمضان، واستشرفت أنفسهم أول ما استشرفت إلى صيام نفل غيره، وأوله الست من شوال، وقد نشرنا في حلقة سابقة من كلام الإمام أبي بكر ابن العربي -رحمه الله- عن أسرار الصيام وفضائله، ونكمل في هذه الحلقة التالية -وهي الأخيرة- كلامه عن حكم صيام الست من شوال، وغيرها من نوافل الصوم، قال رحمه الله:

«[صيامُ سِتٍّ من شوَّال]:

ولا يُشَيِّعُه بصوم ستة أيام ولا سواها؛ فإن العِلَّةَ التي نُهِيَ عن سَبْقِه بصَوْمٍ هي العِلَّةُ بعينها موجودةٌ مُتَمَكِّنَةٌ في التَّشْيِيعِ، وهي أن الله تعالى قد حَدَّ حُدُودًا ووظَّفَ وَظَائِفَ لكل أمة، ونهاها عن الزيادة في شيء منها أو النقص لها، وأمر بالمحافظة عليها، فغيَّرت الأمم وزادت ونقصت، وترَهَّبت وابتدعت، وحذَّر الله هذه الأمة من ذلك؛ إِقَامَةً للحجة عليهم، ثم أخبرهم أنهم فاعلون ليَنْفُذَ الكتاب عليهم، فقال: «لتركبن سَنَنَ من كان قبلكم، شِبْرًا بشِبْرٍ، وذِرَاعًا بذِرَاعٍ، حتى لو دَخَلُوا جُحْرَ ضَبٍّ لدخلتموه»، وأبى الله لمن سَبَقَ إلَّا أن يُبَدِّلُوا الصوم، فحَذَارِ -أيتها الأمة المرحومة- من ذلك، فلا تصوموا قبل رمضان ولا بعده، وأقْبِلُوا على ما ألزمكم الله بالامتثال، وخُذُوا ما أعطاكم؛ فإنه بكم رؤوف رحيم.

فإن قيل: فقد قال صلى الله عليه وسلم: «من صام رمضان وسِتًّا من شَوَّال فكأنَّما صام الدهر»؟

قلنا: الفائدة في ذلك: أن الله أَعْلَمَ العَبْدَ بأن سِتَّةً وثلاثين يَوْمًا في الفضل تَعْدِلُ ثلاثمائة وستين يومًا في الأجر، تأكيدًا وتنبيهًا، لِمَا أُعْلِمْنَا به عن ربنا في القرآن بقوله: ﴿مَن جَآءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُۥ عَشْرُ أَمْثَالِهَا [الأنعام:161]، وأنت فصُمْ سِتَّةَ أيَّام من أيِّ شَهْرٍ كان مع رمضان، قبله أو بعده، فإنك حَائِزٌ لتلك الفضيلة.

فإن قيل: لفظ الحديث: «ثم أَتْبَعَهُ سِتًّا من شوَّال»؟

قلنا: بإجماع من الأمة أن غَيْرَ شَوَّالٍ أَفْضَلُ من شَوَّال.

فإن قال: أخافُ أن أموت قبل أن أصومها فأتعجَّل؟

قلنا له: ولم لا تخاف أن تموت قبل أن يخرج الوقت للصَّلاة؟ وأنت تؤخرها عن أوَّل الوقت، وصلاةٌ واحدةٌ تفوتك أَعْظَمُ عند الله إثمًا وأحسنُ أجرًا من رمضانَيْن، فأنت تتوانى في الصَّلاة، وتُعَجِّلُ ستة أيام من شوَّال، تالله ما هذا إلَّا من الشَّيطان.

وما رأيتُ أَحَدًا من أشياخي كُلِّهم يفعلُها، إلَّا واحدًا؛ كان يُصْبِحُ ثَانِيَ الفِطْرِ صائمًا لها، وكانت عليه رائحةُ بِدْعَةٍ وكَرَاهَةٍ لمَالِكٍ، فكان يعتمدُ ذلك لذلك، وما كنتُ أراها خالصةً، وربُّك أعلمُ به.

[من آداب الصيام]:

ومن آدابه إذا أكمل صَوْمَ الشَّهْرِ امتثالُ ما رَوَى أبو داود وغيرُه: عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لا يقولنَّ أحدُكم: قُمْتُ رمضان كلَّه، ولا صُمْتُ رَمَضَانَ كلَّه»، ورَكَّبَ الناسُ على هذا: «لا يقولنَّ صَلَّيْتُ»، وزاد فيه بعضهم: «إن شاء الله»، وذلك كلُّه خَطَأٌ، إنما ينبغي له أن يجتنب قَصْدَ التَّزْكِيَةِ، فإذا قال: صَلَّيْتُ أو صُمْتُ، فقد صَدَقَ، حَسْبُه ما استطاع، ولا يقولُ: صَلَّيْتُ كما يجب، أو الصلاةَ كلَّها، ولا صُمْتُ أيضًا كما يَجِبُ، ولا رمضانَ كلَّه، لأنه قد يَغْفُلُ، أو يُقَصِّرُ، فكُرِهَ له لأجل ذلك، فأمَّا لأجل القَبُولِ فلا يدخلُ ذلك فيه.

[صَوْمُ النَّفْلِ]:

وصَوْمُ النَّفْلِ مُرَغَّبٌ فيه، وقد ذكر النبيُّ صلى الله عليه وسلم الشُّهُورَ المُمَدَّحَةَ في الصوم والأيام، كان النبي صلى الله عليه وسلم كَثِيرَ الصيام، ولكنه ما استكمل صَوْمَ شَهْرٍ قَطُّ، وكان أكثر ما يصوم في شعبان، وكان يصوم شعبان إلَّا قليلًا، وقال صلى الله عليه وسلم لعِمْرَانَ: «أَصُمْتَ من سَرَرِ شعبان شيئًا؟ قال: لا، -يعني: من وسطه- قال: فإذا أفطرتَ فصُمْ يومين»، ولم يَذْكُرْ له سِتًّا من شوَّال، لأنَّ المُرَادَ بسِتٍّ من شوَّال ما قدَّمناه من سِتَّةِ أيَّامٍ من أيَّامِ الفِطْرِ، أيّ شَهْرٍ كان. وقال صلى الله عليه وسلم: «أفضلُ الصيام شَهْرُ الله المحرَّم». «وما كان النبي صلى الله عليه وسلم يَتَحَرَّى صَوْمَ يَوْمٍ يُفَضِّلُه على سائر الأيام إلَّا يوم عاشوراء». وقال صلى الله عليه وسلم: «لئن عِشْتُ إلى قَابِلٍ لأصومنَّ التاسع». «وصَوْمُ يوم عَرَفَةَ يُكَفِّرُ سَنَةً قبله وسنة بعده، وصيامُ يوم عاشوراء يُكَفِّرُ سَنَةً قبله». وسُئِلَ صلى الله عليه وسلم عن صوم يوم الإثنين فقال: «فيه وُلِدْتُ، وفيه أُنْزِلَ عَلَيَّ». وكان صلى الله عليه وسلم يصوم ثلاثة أيام من الشهر، لا يبالي أيها كانت. وقال أبو هريرة: «أوصاني خليلي بثلاث؛ بصيام ثلاثة أيام من كل شهر، وركعتين من الضحى، ولا أنام إلَّا على وِتْرٍ». ودخل النبي صلى الله عليه وسلم على جُوَيْرِيَةَ يوم الجمعة وهي صائمة، فقال: «أَصُمْتِ أَمْسِ؟ قالت: لا، قال لها: أتريدين أن تصومي غدًا؟ قالت: لا، قال: فأَفْطِرِي». وفي الصحيح: «أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن صَوْمِ يوم الجمعة». ورُوي في الحَسَنِ أنه كان يَصُومُه، والنهيُّ أَصَحُّ. وفي الحِسَانِ: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا تصوموا يوم السبت إلَّا فيما افتُرِضَ عليكم، وإن لم يَجِدْ إلا لِحَاءَ عِنَبَةٍ أو عُودَ شَجَرَةٍ فليمضغه». ولم يصح. وفي الصحيح: «ما من أيام أحبُّ إلى الله العمل فيها من عَشْرِ ذي الحجة». وفي الصحيح: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من صام يومًا في سبيل الله باعد الله وَجْهَه من النار سبعين خَرِيفًا». وفي الصحيح عن عائشة: «ما رأيتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم صائمًا في العَشْرِ قَطُّ». وقال صلى الله عليه وسلم -في الصحيح من طُرُقٍ-: «ما أفطر ولا صام من صام الدهر»، وهو مكروه، والمأذونُ فيه صَوْمُ داود، «كان يصوم يومًا ويُفْطِرُ يَوْمًا، ولا يَفِرُّ إذا لاقى».

والنَّاسُ في العبادات أقسامٌ، منهم من تَسْهُلُ عليه الصلاة، ومنهم من يَخِفُّ عليه الصوم، ومنهم من تخف عليه الصدقة، فيأخذُ كلُّ أحد قِسْمَه الذي كُتب له، فيدخل على بابه الذي وُعِدَ به، قال النبي صلى الله عليه وسلم: «فمن كان من أهل الصلاة دُعي من باب الصلاة، ومن كان من أهل الصدقة دُعي من باب الصدقة، ومن كان من أهل الصيام دُعي من باب الرَّيَّانِ».

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

سراج المريدين: 2/350-356.

 د. محمد صالح المتنوسي

  • باحث بمركز الإمام أبي عمرو الداني للدراسات والبحوث القرائية المتخصصة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق