وحدة الإحياءدراسات عامة

نظرية وصل الفضائل الخلقية بالمسائل الفقهية

من أوليات إمام دار الهجرة مالك بن أنس، رحمه الله، أنه سنّ عُرفاَ لم يُسبق إليه في التصنيف الفقهي، وذلك أنه ألحق بآخر موطئه  كتابا مستقلا عن الأبواب الفقهية اختار له اسم “الجامع”، وتابعه في  ذلك سائر من صنف بعده من أنصار مذهبه، فلم يُخلوا تواليفهم منه، استحسانا منهم لاختيار إمامهم واقتداء به فيما نحا إليه، واعتبروا هذا المنهج من محاسنهم في التصنيف وميزة تفردوا بها لا يشاركهم فيها غيرهم، وأن الجامع إليهم ينتسب.

وقد جرت عادة فقهاء المالكية عند افتتاح جوامعهم أن يقفوا وقفة احتفاء باختصاص مذهبهم، وبسبق الإبداع والاختراع لإمامهم، قال ابن العربي: “هذا كتاب أربى مالك، رحمه الله، على المحدثين وطرق لهم في التصنيف وفتح فيه لجماعة من المسلمين المصنفين بابا عظيما فأتى فيه بالعجب العجاب…[1]“، وقال القرافي: “هذا الكتاب يختص بمذهب مالك لا يوجد في تصانيف غيره من المذاهب وهو من محاسن التصنيف…[2].”

لقد أحل المالكية كتاب الجامع موقعا متأخرا في أولويات ترتيب موضوعات مصنفاتهم، حيث يُشعرك موضُعه الذي أقيم فيه باستقلاله كلية عن الأبواب الفقهية، وأن الخيط الناظم بينهما يكاد يكون منعدما، وصار هذا المسلك منهجا مطردا عند المالكية حتى وجدنا لبعضهم عناوين للجامع ليس لها من تأويل غير الإلماح إلى التباين والتباعد بينه وبين ما تقدمه من الأبواب، لعلنا نمثل لها بالعبارة التي صاغها ابن الحاجب، وذلك قوله: “الجامع للمعاني المفردة عن الشريعة[3]“، (فدلالة عنوان كهذا موحية بأن مادة الجامع ليست من الشريعة).

إن الموقع المتأخر للجامع في مصنفات فقهاء المالكية يبدو منطقيا إذا علم أن صنيعهم هذا أملته ضرورة التزام وحدة النسق المعرفي ووحدة المنهج الذي يُسلك عادة في معالجة الأحكام بما تشمله المعالجة من التفصيل في الأركان والشروط والتفريعات الخاصة بكل مسألة فقهية ليصح من المكلفين ما طولبوا به من أحكام العبادات وينضبطوا لما ينظم علاقاتهم من أحكام المعاملات وأحكام الأسرة والعقوبات، ولأجل ذلك وانسجاما مع طبيعة مواضيع “الجامع” ذات السمة التربوية والأخلاقية كان حقه أن يِؤخر بما يشبه “الملحق” بتعبير المحدَثين.

وإذا كان هذا التأخير منطقيا فإن بعض المالكية لم يره كذلك؛ إذ اقترح أن يكون كتاب الجامع مُقدما على الأبواب الفقهية، وهو اختيار القاضي عبد الوهاب البغدادي، واختار غيره من المالكية إفراد الجامع بكتاب خاص ومستقل كما فعل ابن أبي زيد القيرواني وابن الحاجب وبعدهما فعل الشيخ خليل مع أن تذييل المصنفات الفقهية بكتاب الجامع هو الغالب عند المالكية.

ومن وراء تلك الآراء بزغ نظر آخر إلى كتاب الجامع، ليس من زاوية تقديمه أو تأخيره عن الأبواب الفقهية، وليس من زاوية إلحاقه بآخر المصنفات الفقهية أو فصله عنها، وإنما من زاوية أدق نظرا وأبعد أثرا، إنها النظرة الشمولية لقضايا الأخلاق والسلوك والآداب وصلتها الوثيقة بالأحكام الفقهية وبعموم الشريعة.

إنها نظرية أعلن عنها أبو الوليد ابن رشد الحفيد الذي لم يرتض المنهج المعهود عند الفقهاء بعزل كتاب الجامع عن باقي الأبواب الفقهية وقصور استثماره، فأضاف إضافة نوعية حاول بها إرجاع مادة الجامع إلى أهلها ليضُمَّها إليهم، وليقرر ما بينهم من التعاضد والاتصال وليدفع ما يُوهمه العزل من التباعد والانفصال.

فما وجه الجدة في الطرح الذي يعرضه ابن رشد من خلال نظريته؟ ثم ما مدى وجاهة تلك النظرية إذا هي عرضت على أصول الشريعة؟ وما السبيل إلى تفعيلها وإحيائها على مستوى الممارسة العملية؟  وقبل ذلك كله أي كتاب هذا الجامع؟ ما خصوصياته؟ وما مباحثه؟ وما سر إلحاقه بخواتم كتب الفقه؟  تلك أسئلة قضت بانتظام عقد هذه المقالة في المسائل الآتية:

أولا: كتاب “الجامع” وجانب الإبداع المالكي في منهج التصنيف الفقهي

1. إلحاق المصنفات الفقهية المالكية بكتاب الجامع: الدافع والمقصد

لا تخلو المصنفات الفقهية في التراث الإسلامي من هاجس يسيطر على المؤلفين لا يملكون دفعه، هاجس تنبئ عنه المقدمات التي يصدرون بها كتبهم يعرضون فيها مقاصدهم في التأليف، فعلى الرغم من اختلاف أغراضهم وامتزاج الموضوعي فيها بالذاتي، إلا أن  مقصدا واحدا يكاد يكون موضع اتفاق بينهم  وهو تقريب المعرفة الفقهية بما هي الجانب العملي لعلوم الشرع وآلة لزوم الطريق التي رسمها، وبما هي حاجة مرتبطة بالحياة اليومية للمكلفين، فهي طلِبة المبتدئ والمنتهي، لا يستغني الواحد منهم عنها كل بحسب حاجته ومداركه.

وبتتبع مناهج المالكية في مصنفاتهم الفقهية حين يلحقون بها كتاب “الجامع” تراهم يقدمون له بمقدمات يفصحون فيها عن دوافع إلحاقه بها، وقد وجدناها لا تخرج عن دافعين اثنين:

أ. الدافع المنهجي

إن الذي دفع المالكية إلى استحداث هذا الكتاب أنهم بعد إيراد القضايا والمسائل الفقهية وبسط القول فيها في مظانها من الأبواب التي تشاكلها (عبادات، معاملات، جنايات، أقضية) تفضُل مسائل أشتات هي من مهمات الدين ومما لا يحسن بالمكلف جهله، لكنها لا يناسب وضعها في باب من أبواب الفقه، فكان كتاب الجامع ضابطا لما شذ منها عن الأبواب المتقدمة، وهو ما صرح به أبو بكر ابن العربي في تقديمه لكتاب الجامع قال: “هذا كتاب اخترعه مالك، رحمه الله، لفائدتين:

ـ أحدها؛ أنه خارج عن رسم التكليف المتعلق بالأحكام التي صنفها أبوابا ورتبها أنواعا.

ـ والثاني؛ أنه لما لحظ الشريعة وأنواعها ورآها منقسمة إلى أمر ونهي وإلى عبادة ومعاملة وإلى جنايات وعادات نظمها أسلاكا وربط كل نوع بجنسه وشذت عنه من الشريعة معان مفردة لم يتفق نظمها في سلك واحد لأنها متغيرة المعاني، ولا أمكن أن يجعل لكل منها بابا لصغرها، ولا أراد هو أن يطيل القول، فيما يمكن إطالة القول فيها، فجمعها أشتاتا وسمى نظامها كتاب الجامع، فطرق للمؤلفين ما لم يكونوا قبل ذلك به عالمين في هذه الأبواب كلها[4].”

فالدافع، إذن، منهجي اقتضاه تنظيم المعارف المقدمة في المصنف الفقهي، وببعض الترتيب للكلام الذي ذكره ابن العربي يمكن أن نشق هذا الدافع المنهجي إلى شقين:

1. دافع منهجي مرتبط بالشكل

إن طبيعة المعارف التي ترتب تحت الأبواب الفقهية هي أحكام تكليفية لا يستقيم  في منهج الصناعة الفقهية أن تمزج بما لا يلزم عنه أحكام؛ كالسير والزهد والطب ونحوها من المواضيع  التي  يوردها الفقهاء في جوامعهم، لأجل ذلك كان آخر الكتاب هو الموضع الأنسب والأليق بمادة الجامع    وعلى هذا درج المالكية لم يشذ منهم إلا القاضي عبد الوهاب البغدادي  فإن له تصورا تفرد به بخصوص الموضع الطبيعي للجامع.

لقد رأى أن مقدمة الكتاب هي الأنسب له، وعلل رأيه بأن مدار الجامع لما كان “على بيان آداب الشريعة ومندوباتها ومسنوناتها وتفصيل المستحب، والفاضل، والمرغب فيه، والمرخص فيه، والمكروه وما يتعلق بذلك من أحكام المكلفين وجب بيان معاني هذه الأوصاف قبل ذكر الأفعال التي هي محالها ليفهم الدارس معانيها ويقف على الغرض منها، وإلا فمتى وصف الفعل أنه واجب أو ندب وهو ما يعرف معنى الوجوب كان كالحاطب بين ظلام وعشاء؛ فلذلك وجب البدء بهذا الباب وأحكامه، وقد كان من حق التصنيف أن يكون الابتداء أولى به من الخاتمة…[5].”

غير أن اقتراح القاضي عبد الوهاب لا يعدو أن يكون رأيا نظريا لم يتيسر له الالتزام به على مستوى التطبيق، وعذره أنه رأي عنَّ له بعد إتمام مصنفه وانتشار نسخه، قال بعد تعليله المتقدم:  ولكن تجدد هذا الرأي بعد خروج نسخ منه كرهنا إفسادها بالاختلاف فقد خشي وقوعها بين أيدي الناس فينتشر الخلل المنهجي (وهو تباين ترتيب موضوعاتها)، الأمر الذي لا يرتضيه المصنف لنفسه، كيف وقد قيل: “من صنف فقد استهدف  فإن أحسن فقد استشرف وإن أساء فقد استقذف[6].”

 هذا وإن رأيه في البداءة بكتاب الجامع والاستهلال به قد يكون مقبولا لو انحصر الأمر في بيان معاني مصطلحات الأحكام التكليفية فهو مفيد للدارس بلا شك، أما وأن الكتاب خاص باستيعاب القضايا المختلفة والمتباعدة التي لا يناسب وضعها في الأبواب الفقهية، وأغلبها تهتم بالجانب التربوي والأخلاقي  فكان بذلك الموضع الطبيعي له هو آخر الكتاب، ولا ضير، بعد ذلك، في افتتاح الأبواب الفقهية بمعاني المصطلحات التي عليها مدار المصنف الفقهي لتكون مفاتيح لما قد يستغلق فهمه من تلك الأحكام.

وإذا كان الغالب على فقهاء المالكية تذييل مصنفاتهم بالجامع تأسيا بمالك في الموطأ  فقد ظهر اتجاه آخر  في التصنيف  اختار إفراده بكتاب مستقل، ومن هذه الجوامع:

ـ الجامع لعبد الله بن عبد الحكم (توفي 214ﻫ)[7].

ـ الجامع في السنن والآداب والمغازي والتاريخ:لابن أبي زيد القيرواني(توفي 386ﻫ)[8]، وهو مضاف إلى مختصر المدونة.

ـ الجامع: للشيخ خليل (توفي 776ﻫ)[9].

ـ  الجامع لجمل من الفوائد والمنافع: لأحمد زروق[10].

وقد عمد بعض المعاصرين إلى استخراج بعض الجوامع من المصنفات الأصلية التي وردت فيها وإفرادها بكتاب مستقل من مثل:

ـ الجامع من المقدمات لابن رشد الجد[11].

ـ الجامع للآداب: لابن عبد البر مستخرج من كتابه الكافي[12].

غير أن هذا الاختيار الذي نحا إليه بعض المالكية لم يرتضه بعض المتأخرين، فهذا التاودي بن سودة كان يختم تدريسه لمختصر خليل بكتاب الجامع، ولما كان المختصر عريا عن الجامع في خاتمته كان من مقاصد التاودي في شرحه لجامع خليل أن يكون سببا في إلحاقه به، فكأنه رأى أن الانتفاع لا يتم إلا بملازمة الجانب التربوي الأخلاقي للجانب الفقهي  فوجب أن يكون معه حذو النعل بالنعل، قال رحمه الله: وقع في نفسي منذ سنين أن أقيد شيئا على الجامع المنسوب لأبي المودة سيدي خليل، عسى الله أن يكون سببا لإلحاقه بالكتاب، والوقوف على ما اشتمل عليه من الفوائد والآداب، ووددنا أن لو كان الشيخ، رحمه الله، وصله بمختصره كما سلكه ابن شاس في نظم جواهره فيعم النفع به كما عم بالأصل، ويكون في تلك المسائل عليه المعول، ولكنه تبع ابن الحاجب إذ جعله مستقلا[13].”

2. دافع منهجي مرتبط بالمضمون

ارتباطا بالدافع المنهجي فإن المادة الفقهية التي يبسطها الفقهاء تحت الأبواب الفقهية من حيث مضامينها المعروضة قد تحتاج إلى بعض التوسع والتفصيل فيرون أنه ليس من المناسب منهجيا الإطالة بها، ومن ثم يحيلون من أراد مزيدا من الاطلاع والتوسع على كتاب الجامع بما هو موضع لجمع المتفرقات.

ويمكن التمثيل لهذا النموذج بما ذكره ابن رشد الجد في كتاب الصيام في الفصل الذي ساقه لبيان أن شهر رمضان لا يجب صيامه إلا برؤية الهلال أو إكمال شعبان ثلاثين يوما،  قال: والصواب ما ذهب إليه مالك، رحمه الله تعالى، من تفسير حديث ابن عمر بحديث ابن عباس؛ لأن التقدير يكون بمعنى التمام… وقد زدنا هذا بيانا في كتاب الجامع[14].

لقد كان بالإمكان أن يطيل ابن رشد النفس في إتمام تفاصيل المسألة دون الإحالة على كتاب الجامع، لكنه عدل عن ذلك لأن سياق معالجتها يقتضي الانضباط لمنهج عرض الأحكام الفقهية مدعمة بأدلتها، وأما ما زاد على ذلك من البيان فغير مناسب للدارس والقارئ في ذلك الموضع خشية  إبعاد ذهنه عن الموضوع الأصلي، فكان كتاب الجامع هو المكان الأنسب لإتمام جوانب المسألة وإكمال عناصرها، لأن الأصل في وضع الجامع أن يستوعب مختلف المواضيع التي شذت عن الأبواب الفقهية، وقد فصل ابن رشد المسألة في كتاب الجامع في فصل “ما يجوز النظر فيه من النجوم وما لا يجوز[15].”

وقد يكون الدافع عكس النموذج المتقدم وهو أن تكون المادة الفقهية مبسوطة بالقدر الذي يُخشى معه عدم القدرة على تحصيلها، حتى إن الدارس ليظن أنه استكمل التحصيل واستوفى كفايته منه لكنه لا يلبث أن  ينسيه آخرُ الكتاب أولَه.

وقد تنبه المتقدمون إلى هذا الإشكال الذي يعرض لبعض طلبة العلم فحاولوا معالجته بتنويع أساليب تقريب المعرفة الفقهية مراعين ما يصطلح عليه عند علماء التربية اليوم بـ”البيداغوجيا الفارقية” وهي مراعاة الفروق الفردية بين المتعلمين من حيث درجة الاستيعاب وقوة المدارك، وهو النموذج الذي نجده عند ابن أبي زيد القيرواني في خاتمة الرسالة عنونه بـ”باب جمل من الفرائض والرغائب” كرر فيه بأخصر العبارات ما بسطه  في بداية الكتاب، لكنه تكرار مقصده تعليمي، وقد علق عليه الشيخ زروق  بقوله: “هذا الباب وما بعده كالجامع للكتاب وضعه ليقرب به ما تفرق في الأبواب فينتفع به قاصر الهمة عن الاتساع في العلم لعبادة أو غيرها[16].”

ب. الدافع التربوي

في سياق حديثه عن عدم اهتمام المتقدمين من علماء المسلمين بمبحث الأخلاق من حيث تأصيله نظريا ذهب الدكتور الجابري، رحمه الله، إلى أن اهتمام الفقهاء بالجامع ظل أمرا شكليا، قال: “صحيح أن الفقهاء قد اهتموا بمسائل تدخل في نطاق علم الأخلاق؛ إذ خصص معظمهم في كتبهم ملحقا سمي بالجامع منذ موطأ الإمام مالك ذكروا فيه من جملة ما ذكروا أمورا تتعلق بما سمي، فيما بعد، بالآداب الشرعية، غير أن الاهتمام بهذا الجانب كان شكليا[17].”

وهو رأي لا نوافقه عليه؛ لأن الدافع التربوي حاضر وبدهي في التصنيف الفقهي، ولأن إفادة المكلفين بالمعارف الشرعية وإن كان يظهر في مظهر الدافع العلمي المجرد لكنه في حقيقة الأمر قصد مُضمر؛ لأن المعرفة الفقهية هي الموجه للعمل بما يوافق قصد الشارع من تشريع سائر الأحكام.

 حضور الدافع التربوي في كتاب الجامع له خصوص يتفرد به؛ ذلك أن المقصود منه أن يكون منهضا للعمل لتحصيل مقاصد البعثة المحمدية وهي مكارم الأخلاق، ولذلك اعتبره المالكية كتابا “يشتمل على علم وعمل[18].”

وإن من يطالع المؤلفات الفقهية المالكية ليستشعر أن لهذا لكتاب  جاذبية خاصة تهوي إليه أفئدة المطالعين، فكأنه محطة استراحة للطالب من وعثاء السفر في الفروع والجزئيات الفقهية، فقد تطول بالطالب مدة مدارسة مصنف فقهي فيحس ملالا وكلالا فيجد في الجامع من الآداب والسنن ما يستروح به عن نفسه ويُذهب ما قد يغشى قلبه من طول ملازمة الخطاب التكليفي؛ بما يطبعه من الصرامة القانونية التي تنضبط لها النفس، لاسيما وأن الغالب على المصنفات الفقهية الإغراق في المسائل العارية عن ربطها بالجانب التربوي والأخلاقي، فكان الجامع مزيلا للملل وقصده الترغيب في العمل.

إن المكانة التي يحظى بها كتاب الجامع تؤكدها الدلالة الرمزية للمنامات التي تواترت  في بيان قيمته من ذلك ما روي عن عمرو بن أبي سلمة قال: “ما قرأت كتاب الجامع من موطأ مالك إلا أتاني آت في منامي فقال لي: هذا كلام رسول الله حقا[19].”

ومنه قول أبي محمد عبد الكريم بن علي: “وكتاب الجامع هذا عظيم القدر ويدل عليه ما نقله الداودي عن يحيى بن يحيى قال: تشاورت مع أصحابي على قراءة كتاب من كتب الموطأ في غد يومنا على مالك، فلما أن كان بالليل سمعت هاتفا يقول: غدا تقرأ سنة رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فلما أن كان بالغد أتيت المسجد فوجدت أصحابي اجتمعوا على قراءة كتاب جامع الموطأ، فهذا يدل على فضله في كونه سماه سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم[20]“، ثم قال بعدُ: “وناهيك بفضله كونه موضوعا  للعمل[21].”

2. مناهج المالكية في ترتيب موضوعات “الجامع

عند تتبع موضوعات كتاب الجامع في أواخر المصنفات الفقهية ندرك سبب العدول عن تسميته بكتاب الآداب، وإن كانت هي السمة الغالبة عليه، وذلك أن الجامع  ليس متمحضا للآداب فقط، بل فيه مزيج من المعارف في السيرة والزهد والورع والآداب الشرعية وغيرها مما لا يناسب الأبواب الفقهية.

ومما ورد عند المالكية في تحديد المراد به أنه “كتاب يجمع جملا من الواجبات والمسنونات ويضم نتفا من الآداب ومحاسن الشيم والمكملات[22]“. كما أنهم يجمعون فيه: “ما يجب على الإنسان معرفته في خاصته أو يحرم عليه أو يستحب له أو يكره له أو يباح له في مطعمه ومشربه وملبسه وجميع شأنه…[23]“.

وتختلف المسائل التي يضمنها المالكية في كتاب الجامع بين مضيق وموسع، ويمكن تقسيمهم إلى اتجاهين:

أ. اتجاه قصد الإفادة الفقهية في مسائل بعينها لم تنتظم في أبواب الفقه، يمثل له بابن الجلاب وابن الحاجب وخليل.

ب. اتجاه جمع فيها طرفا من علوم وتاريخ ومفاتح لعلوم لا يخلو طالب العلم من العزو إليها، يمثل لهذا المسلك بابن أبي زيد والقاضي عبد الوهاب وابن رشد الجد.

     وتحمل مسائل كتب الجوامع ميزة الكتاب الذي جاءت ضمن أبوابه فهي عند القاضي عبد الوهاب تحمل السمة الاستدلالية وترصع بالنصوص القرآنية و الحديثية  للتدليل عليها، بينما تغلب عليها سمة الاختصار عند ابن الحاجب وخليل.

وموضوعات الجامع وإن كانت قد تبدو متباعدة غير أن بعض فقهاء المالكية حاول جمعها بخيط ناظم فحصرها في ثلاثة أجناس، قال ابن شاس: “واعلم أنها وإن كانت آحادها في نفسها إلا أنها يمكن حصرها وضبطها من حيث الإضافة والنسبة وإذا أخذت بهذا الاعتبار انحصرت في ثلاثة أجناس: ما يتعلق بالعقيدة وما يتعلق بالأقوال وما يتعلق بالأفعال[24].”

وأوسع جامع، في حدود علمي، ما كتبه ابن رشد الجد في البيان والتحصيل حيث ذيله بجامع يقع في جزئين يضمان تسعة كتب جوامع (ج17: من الجامع الأول إلى الجامع الخامس، ج18: من الجامع السادس إلى الجامع التاسع)، بل إن كتب الفتاوى والنوازل لم تخل من كتاب الجامع فقد خصص الونشريسي الجزئين الأخيرين من المعيار لمواضيع مختلفة لا تدخل تحت باب سماها “نوازل الجامع”.

ثانيا: عرض نظرية ابن رشد ورؤيته المقاصدية لكتاب الجامع

أبدع ابن رشد في المجال الفقهي كتابه الشهير “بداية المجتهد وكفاية المقتصد[25]“، فهو من الكتب الرائدة في مجال الدراسات الفقهية المقارنة التي لا يستغني عنها الباحث في العلوم الشرعية، وذلك لما تميز به من عمق في التحليل ومنهجية متفردة تروم إعادة بناء الصناعة الفقهية بما يمكن من تحصيل ملكة الاجتهاد.

وإذا كانت عادة فقهاء المذهب أن يختموا مصنفاتهم الفقهية بكتاب الجامع حيث يُدرجون فيه ما كان من المعارف شاذا عن ربع من أرباع الفقه ( عبادات، معاملات، جنايات، أقضية) لعدم مناسبته لها، فإن ابن رشد قد خالف تلك العادة ولم يخصص للجامع مكانا مستقلا، لكنه لم يغفل الإشارة إليه.

وقد أسعفته دربته في المنهج العلمي والترتيب الصناعي في الربط بين خاتمة كتاب القضاء، وهو آخر ما تناوله في “بدايته”، وبين إشارات لها تعلق بموضوعات الجامع قصد التنبيه إليها، وذلك بما يشبه “حسن التخلص” لئلا تبدو تلك الإشارات غير منسجمة مع مضامين كتابه قال: “وينبغي أن تعلم أن الأحكام الشرعية تنقسم قسمين: قسم يقضي به الحكام، وجل ما ذكرناه في هذا الكتاب هو داخل في هذا القسم و قسم لا يقضي به الحكام، وهذا أكثره هو داخل في المندوب إليه[26].”

 إن خلو كتاب ابن رشد من الجامع سببه، إذن، أن ما ذكره فيه يختص بالجانب العلمي والمعرفي الذي يقضي به القضاة، وأما موضوعات الجامع  فلما كانت ذات سمة أخلاقية وتربوية وليست مما يُقضى به، لدخولها في المندوبات التي لا تحمل صفة الإلزام، فإنه لم يترشح لتناولها.

ومما يدعو إلى الاستغراب أن في خاتمة ابن رشد كلاما يبدو كأن فيه سقطا، وذلك أنه وعد أن يذكر طرفا من موضوعات الجامع لكنه لم يوف بشيء من ذلك.، قال: “وهذا الجنس من الأحكام؛ (أي المندوب إليه) هو مثل رد السلام وتشميت العاطس وغير ذلك مما يذكره الفقهاء في أواخر كتبهم التي يعرفونها بالجوامع، ونحن فقد رأينا أن نذكر أيضا من هذا الجنس المشهور منه إن شاء الله تعالى[27].”

أن يكون ابن رشد لم يلتزم بما وعد به لا يلزم عنه أنه ضرب صفحا عن ذلك الجنس من الأحكام، بل إنه رأى أن يعرض أمام القارئ تصورا جديدا للموضوعات المعروفة في مجال الأخلاق والآداب الشرعية، وينبهه إليه لاحتمال إهماله وعدم الاهتمام به، فكأنه يستدرك الخلل الذي قد يحصل في الجانب العملي خشية الحرص على الانسياق وراء الجانب العلمي من جهة،  والاكتفاء بمندوبات الأفراد من جهة ثانية.

فكانت منه هذه الخاتمة التي رام رسوخها في الأذهان باستحضار مضامينها واستثمار ما تدعو إليه ليتأتى للمكلفين حُسن فهم الخطاب الشرعي الداعي إلى الجمع بين العلم والعمل، ذلك الفهم الذي لا تنفك فيه الأخلاق عن الفقه، قال: “وأما ما ينبغي قبل هذا، يقصد الجامع الذي كان قد وعد به، أن تعلم أن السنن المشروعة العملية المقصود منها هو الفضائل النفسانية[28].”

 فهو يرى أن الشريعة جاءت لتحقيق مقاصد عليا وسامية هي من أمهات الفضائل ومكارم الأخلاق وهي التي عبر عنها “بالفضائل النفسانية” وقد حصرها في أربع، وهي:

  1. فضيلة العفة؛ وفيها تدخل السنن الواردة في المطعم والمشرب، والسنن الواردة في المناكح، والسنن الواردة في الأعراض.
  2. فضيلة العدل؛ ويدخل فيها العدل في الأموال والأبدان، وزاد عليها ابن رشد العقوبات والحروب، وعلل اندراجها تحت هذه الفضيلة بأنها كلها إنما يطلب بها العدل والكف عن الجور.
  3. فضيلة السخاء؛ ويدخل فيها السنن الواردة في جمع الأموال وتقويمها، ومنها الزكاة والصدقات.
  4. فضيلة الشجاعة؛ ويدخل فيها السنن الواردة في الاجتماع، واعتبرها شرطا في حياة الإنسان وحفظ مصالحه العملية والعلمية، وهي المعبر عنها بالرياسة، قال: “ولذلك لزم أيضا أن تكون سنن الأئمة والقوام للدين، ومنها السنن الواردة في المحبة والبغضة والتعاون على إقامة هذه السنن وهو الذي يسمى النهي عن المنكر والأمر بالمعروف وهي المحبة والبغضة الدينية التي تكون إما من قبل الإخلال بهذه السنن، وإما من قبل سوء المعتقد في الشريعة[29].”

وكأنه أراد التنبيه إلى الفضائل التي لها الأولوية وهي الفضائل ذات البعد الاجتماعي والاقتصادي والسياسي أكثر من مندوبات الأفراد المعروفة من سلام وتشميت العاطس وغيرها، ولعل هذا هو مقصوده من  قوله قبلُ “وأما ما ينبغي قبل هذا أن تعلم…”.

ولتأكيد الصلة بين الفقه والأخلاق جعل العبادة على رأس المقاصد وأنها الأولى بالعناية والاهتمام، فقد ذكرها في بداية الفضائل النفسانية قال: “وأما ما ينبغي قبل هذا أن تعلم أن السنن المشروعة العملية المقصود منها هو الفضائل النفسانية، فمنها ما يرجع إلى تعظيم من يجب تعظيمه وشكر من يجب شكره وفي هذا الجنس تدخل العبادات[30].”

 ثم لما أنهى تفصيله للفضائل النفسانية عاد إلى العبادات ليختم بها ولعله بذلك يقصد التأكيد على مركزية وظيفتها في علاقتها بتلك الفضائل قال: والعبادة التي هي كالشروط في تثبيت هذه الفضائل[31].”

بهذه النظرة الشمولية المقاصدية ختم ابن رشد كتابه بداية المجتهد واستعاض به عن تخصيص مبحث مستقل لكتاب الجامع، فقد رأى أن عرض  نظرية التكامل بين الفقه والأخلاق والتنبيه عليها أولى من سوق موضوعات كتاب الجامع بما تشمله من آداب شرعية تساق عادة على نمط يكاد يغلب عليه الجانب التلقيني للمعارف.

عن هذه النظرة المقاصدية الرشدية يقول الدكتور الريسوني: “وفقيهنا أبو الوليد بن رشد، وإن كان كتابه إنما هو كتاب فقه وأحكام فقهية جزئية فقد نثر فيه، كما في غيره، إشارات وإضاءات عن المقاصد والأسس العامة للشريعة الإسلامية، ومن أهم ذلك ما أورده في خاتمة كتاب بداية المجتهد[32].”

إن ابن رشد إذ يربط بين مكونات الشريعة، بما هي عقيدة وأحكام وأخلاق، وبين المقاصد التي أراد الشارع تحققها على مستوى الفرد والجماعة، ينبه إلى ضرورة وعي المكلفين بتكامل تلك المكونات وتعقلها فذلك قمين بتزكية نفوسهم وصلاح أحوالهم، فالشرط، إذن، هو مراعاة الجانب الأخلاقي في تفعيل الأحكام الشرعية المطلوبة لتحصيل المقاصد الشرعية المرغوبة.

   وقد أفصح ابن رشد عن هذا المنحى في الشرع بقوله: “وينبغي أن تعلم أن مقصود الشرع إنما هو تعليم العلم الحق والعمل الحق. والعلم الحق هو معرفة الله، تبارك وتعالى، وسائر الموجودات على ما هي عليه وبخاصة الشريفة منها ومعرفة السعادة الأخروية والشقاء الأخروي. والعمل الحق هو امتثال الأفعال التي تفيد السعادة وتجنب الأفعال التي تفيد الشقاء، والمعرفة بهذه الأفعال هي التي تسمى العلم العملي[33].”

فالعلم الحق هو العقيدة والعلم العملي هو الشريعة؛ وهي عنده تحتوي على الأحكام وعلى الأخلاق، يقول: “وهذه تنقسم قسمين: أحدهما؛ أفعال ظاهرة بدنية والعلم بهذه هو الذي يسمى الفقه والقسم الثاني؛ أفعال نفسانية مثل الشكر والصبر وغير ذلك من الأخلاق التي دعا إليها الشرع أو نهى عنها. والعلم بهذه هو الذي يسمى الزهد وعلوم الآخرة[34].”

ولم يكتف ابن رشد بالتنبيه على نظريته عند مستوى التأصيل لها نظريا وإظهار ميزتها، بل تجاوز ذلك إلى توظيفها في اختياراته الفقهية نضرب لذلك مثلا بثلاثة مسائل:

الأولى: مسألة الاعتصار في الهبة

ذهب مالك وجمهور علماء المدينة إلى أن للأب أن يعتصر ما وهبه لابنه ما لم يتزوج الابن أو لم يستحدث، دينا وبالجملة ما لم يترتب عليه حق الغير، وأن للأم أيضا أن تعتصر ما وهبت إن كان الأب حيا، وقد روي عن مالك أنها لا تعتصر، وقال أحمد وأهل الظاهر: لا يجوز لأحد أن يعتصر ما وهبه، وقال أبو حنيفة يجوز لكل أحد أن يعتصر ما وهبه إلا ما وُهب لذي رحم محرمة عليه وأجمعوا على أن الهبة التي يراد بها الصدقة؛ أي وجه الله أنه لا يجوز لأحد الرجوع فيها.

بعد أن ساق الأقوال في المسألة وسبب الخلاف فيها والدليل الذي تمسك به صاحب كل قول أدلى ابن رشد برأيه فيها مستثمرا نظريته التي دعا إليها، قال: والرجوع في الهبة ليس من محاسن الأخلاق لأن الشارع، عليه الصلاة والسلام، إنما بعث ليتمم محاسن الأخلاق[35].

الثانية: مسألة الأمة التي يكون لها ولد

 وهي مسألة وإن كان أثرها قد زال ولم يعد له موقع في زماننا، غير أن التمثيل بها مفيد في إثبات نظرية ابن رشد المقاصدية المعتمدة على توجيه الأحكام الفقهية بضوابط الفضائل ومكارم الأخلاق.

قال: “واختلفوا إذا ملكها وهي حامل منه أو بعد أن ولدت منه؛ فقال مالك: لا تكون أم ولد إذا ولدت منه قبل أن يملكها ثم ملكها وولدها، وقال أبو حنيفة تكون أم ولد، واختلف قول مالك إذا ملكها وهي حامل، والقياس أن تكون أم ولد في جميع الأحوال إذ كان ليس من مكارم الأخلاق أن يبيع المرء أم ولده وقد قال، عليه الصلاة والسلام، إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلا[36].

الثالثة: هل تقع الفرقة بين الزوجين بعد اللعان أم لا؟

في هذه المسألة رد ابن رشد على القائلين إنه لا يعقب اللعان فُرقة اعتمادا على افتقاد الزوجين لمكارم الأخلاق التي تُديم العلاقة الزوجية، قال: “وحجة الجمهور أنه قد وقع بينهما من التقاطع والتباغض والتهاتر وإبطال حدود الله ما أوجب ألا يجتمعا بعدها أبدا؛ وذلك أن الزوجية مبناها على المودة والرحمة وهؤلاء قد عدموا ذلك كل العُدم، ولا أقل من أن تكون عقوبتهما الفرقة، وبالجملة فالقبح الذي بينهما غاية القبح[37].”

ثالثا: تقييم نظرية ابن رشد ورؤيته المقاصدية لكتاب الجامع 

اتضح من خلال عرض نظرية ابن رشد أنه أسس المقاصد الشرعية على فلسفة أخلاقية سماها الفضائل النفسانية، ومبنى هذه الفلسفة على أن أحكام الشرع العملية غايتها هو تحقيق الفضائل وتثبيتها في حياة الفرد والجماعة، وكون هذه الفضائل محصورة في أربع؛ هو تقسيم لم يكن لابن رشد فيه سبق اختراع إنما هو اقتباس اقتبسه من التقسيم الأرسطي الذي أخذه بدوره عن التصنيف الأفلاطوني، فالتصنيف، إذن، مصدره المنقول اليوناني على قاعدة الحكمة ضالة المؤمن.

لقد استثمر ابن رشد معارفه الفلسفية في فهم أسرار الشريعة ومن ثم عمل على تجديد صياغتها، وأثبت إمكان الاستفادة من شكل لا يؤثر في المضمون الإسلامي، فعلى الرغم من “استعانته بمعارفه في الفلسفة وخصوصا في جانبها الأخلاقي بقي وفيا لمقاصد الشرع باعتماده منهج الاستقراء لنصوصه فملأ تلك القوالب المستفادة بمضامين شرعية[38].”

  وهو مسلك درج عليه من سبقه من علماء المسلمين  متأثرين بالفلسفة اليونانية كابن مسكويه والماوردي والأصفهاني والغزالي، وقد وقفت على نص يبرز هذا التأثر واضحا في كتابات بعض الفقهاء، من ذلك ما ذكره الرملي، من متأخري الشافعية، قال:

“لاشك أن أحكام الشرع إما أن تتعلق بعبادة أو معاملة أو بمناكحة أو بجناية، لأن الغرض من البعثة نظم أحوال العباد في المعاد والمعاش، وانتظامها إنما يحصل بكمال قواهم النطقية والشهوية والغضبية، فما يبحث عنه في الفقه إن تعلق بكمال النطقية فالعبادة إذ بها كمالها أو بكمال الشهوية، فإن تعلق بالأكل ونحوه فالمعاملة، أو بالوطء ونحوه فالمناكحة أو بكمال الغضبية فالجناية، وأهمها العبادة لتعلقها بالأشرف[39].”

إن صحة النظرية وسلامة مبدئها مما تشهد أصول الشريعة وإجماع النظار من أهل العلم على اعتبارها، وقد أبان الشاطبي عن التداخل بين القيم الخلقية والمسائل الفقهية لما جعلهما في مستوى واحد من حيث القوة التكليفية  قال: “كل مسألة مرسومة في أصول الفقه لا ينبني عليها فروع فقهية، أو آداب شرعية، أو لا تكون عونا في ذلك فوضعها في أصول الفقه عارية[40].”

وإن يكن من اعتراض قد تُقابل به نظرية ابن رشد فإنما هو في  حصرها في عدد محدد، بل لك أن تقول الاعتراض على مبدأ الحصر نفسه، ذلك أن الكليات الخلقية الأساسية والمركزية التي وردت بها الشريعة وأسسها القرآن وترجمتها السنة العملية تربو على العدد المنقول عن التصنيف الأفلاطوني، وهو ملمح نبه إليه طه عبد الرحمن بقوله: “مبدأ الحصر هو عندنا مبدأ مقدوح فيه[41].”

إن الخصال النفسية والسلوكية التي تشكل عناصر التزكية الخلقية كثيرة ومتنوعة وبينها تداخل كبير، لأجل لذلك حاول الفلاسفة وعلماء الأخلاق إرجاعها إلى أصول مركزية جامعة وحاكمة. وعلى هذا الأساس شاع عندهم تحديد أربعة أصول يعتبرونها أمهات الفضائل كلها، مع اعتبار أضدادها أصولا للرذائل كلها.

قال ابن مسكويه: “أجمع الحكماء أن أجناس الفضائل أربعة وهي: الحكمة، والعفة، والشجاعة، والعدالة، ولهذا لا يفتخر أحد ولا يتباهى إلا بهذه الفضائل فقط… ثم قال: “وأضداد هذه الفضائل الأربع أربعٌ أيضا، وهي: الجهل، والشَّرَهُ، والجبن، والجور… ثم أورد ما يدخل تحت هذه الأصول الأربعة وأضدادها من الفضائل والرذائل المنضوية تحتها…[42].

وقال الغزالي: “الفضائل وإن كانت كثيرة فتجمعها أربعة تشمل شُعَـبها وأنواعها وهي: الحكمة، والشجاعة، والعفة، والعدالة؛ فالحكمة فضيلة القوة العقلية، والشجاعة فضيلة القوة الغضبية، والعفة فضيلة القوة الشهوانية، والعدالة عبارة عن وقوع هذه القوى على الترتيب الواجب وبها تتم جميع الأمور فلنشرح آحاد هذه الأمهات ثم لنشرح بيانها وما ينطوي من  الأنواع تحتها[43] .

ثم أعاد ذكرها بشكل أكثر توضيحا، فقال: “الفضائل النفسية… أربعة أمور: العقل وكماله العلم، والعفة وكمالها الورع، والشجاعة وكمالها المجاهدة، والعدالة وكمالها الإنصاف”.

أما العلامة شاه ولي الدهلوي فيرى أن تحصيل السعادة البشرية مرجعه إلى أربع خصال أيضا، لكنها عنده مغايرة في تسمياتها لما حدده الفلاسفة وعلماء الأخلاق، وإن كان يلتقي معهم في الجوهر والنتيجة وخاصة في العناصر: الثاني والثالث والرابع.

وهذه هي الخصال الخلقية الجامعة عنده وهي: الطهارة، والإخبات لله تعالى، والسماحة، والعدالة.

وهو يرى أن الأنبياء جميعا إنما بعثوا للدعوة إلى هذه الخصال الأربع، وأن الشرائع الإلهية إنما هي تفصيل لها وراجعة إليها ومنشعبة منها[44].

  وأما الدكتور محمد عبد الله دراز فيرى أن خُلق التقوى هو العنصر المركزي والفضيلة الأم في الشريعة الإسلامية، وأن بقية الفضائل هي صفات أحادية المجال والمضمون، بخلاف التقوى التي تدخل في جميع المجالات.

قال رحمه الله: “قد جرى العرف على تسمية القوانين الأخلاقية بحسب العنصر الغالب في مضمونها فرديًا أو اجتماعيًا، صوفيا أو إنسانيًا: شريعةَ عدل أو شريعةَ رحمة وهكذا… وليس شيء من هذه الصفات ذاتِ الجانب الواحد بمناسب هنا فيما يبدو لنا. إن هذه الشريعة توصي بالعدل والرحمة معًا، وتتوافق فيها العناصر الفردية والاجتماعية، والإنسانية والإلهية، على نحو متين. بيد أننا لو بحثنا في مجال هذا النظام عن فكرة مركزية، عن الفضيلة الأم التي تتكثف فيها كل الوصايا، فسوف نجدها في مفهوم التقوى، وإذن فما التقوى إن لم تكن الاحترام البالغ العمق للشرع[45].

ومن المعاصرين الذين اهتموا بموضوع الأخلاق الجامعة، الشيخ عبد الرحمن حبنكة الميداني فقد عمل على استقراء الصفات الخلقية المحمودة والمطلوبة وإرجاعِها إلى أصول كلية لها ثم عالج من خلالها الأخلاق التفصيلية المندرجة تحتها، وكذلك أضدادها من مساوئ الأخلاق.

قال موضحا طبيعة عمله ونتيجته: “ولدى سبر مفردات الأخلاق في استقراء لا ندعي له التمام والكمال وبعد إجراء تصنيف لها انكشفت لنا الأصول أو الكليات التالية: حب الحق وإيثاره، الرحمة، المحبة، الدافع الاجتماعي: قوة الإرادة، الصبر، حب العطاء، علُوُّ الهمة، سماحة النفس.[46]

ولهذه الأصول التي تنطوي فيها مفردات مكارم الأخلاق، أضدادٌ تنطوي فيها مفرداتُ الرذائل والنقائص الخلقية… وبعد هذه الأصول التسعة، التي عالجها في فصول تسعة، أضاف في فصل عاشر فضيلتين أخريين اعتبرهما منبثقتين عن أكثر من أساس خلقي، وهما: العفة (مع ضدها)، والشجاعة (مع ضدها)، ومعلوم أن هاتين الفضيلتين هما من ضمن الأصول الأربعة المتفق عليها عند علماء الأخلاق.

وإذا كان ابن رشد ليس مخترعا لتصنيف الفضائل  فكذلك ليس هو “الفقيه الوحيد الذي بنى مقاصد الشريعة على الفكرة الخلقية حتى كاد يؤسس نظرية فلسفية خاصة بهذا المنحى في الشرع[47]، فقد كان العبيدي متسرعا في إطلاق هذا الحكم وإرساله إرسالا حتى وصفه الريسوني: “بأنه مجازفة وتعسف وتسرع في إطلاق الأحكام وإلقاء للكلام على عواهنه[48].”

ويمكن الاستدلال على حضور تلك النظرة الشمولية للشريعة بما يجمع بين الفقه والأخلاق في أذهان المتقدمين وكتاباتهم قبل ابن رشد ما نجده عند الراغب الأصفهاني الذي نبه على ضرورة الجمع بين أحكام الشريعة ومكارم الشريعة، قال:” فبالجمع بين أحكام الشرع ومكارمه علما، وإبرازهما عملا، يكتسب (الإنسان) العلا وُيتم التقوى ويبلغ إلى جنة المأوى[49].”

وقال في موضع آخر بعبارة أفصح و معنى أوضح: “وأعلم أن العبادة أعم من المكرمة، فإن كل مكرمة عبادة وليس كل عبادة مكرمة، ومن الفرق بينهما أن للعبادات فرائض معلومة وحدودا مرسومة، وتاركها يصير ظالما معتديا، والمكارم بخلافها، ولن يستكمل الإنسان مكارم الشرع ما لم يقم بوظائف العبادات، فتحري العبادات من باب العدل، وتحري الفضائل من باب الفضل والنفل[50].”

ومنه ما جاء على لسان ابن رشد نفسه في إشارة إلى تقدم غيره عليه، قال: “وإلى هذا؛ (أي الاهتمام بالأخلاق) نحا أبو حامد في كتابه، ولما كان الناس قد أضربوا عن هذا الجنس… وكان هذا الجنس أملك بالتقوى سمى كتابه إحياء علوم الدين[51].”

 والتحقيق أن ابن رشد قد لا يكون مؤسسا ولا مبتكرا لهذا المنحى في الشرع، وإنما هو واحد من أبرز العلماء الذين استكملوا بناء المقاصد العامة للشريعة على الفكرة الخلقية، غير أن إضافته تميزت بنظر مقاصدي عميق وبجدة في الطرح، ومن ثم قد لا نجانب الصواب إن قلنا إن ابن رشد قد تفرد حقيقة بإعلان هذه النظرية، ودليل ذلك من وجوه:

أحدها؛ من حيث انتقاؤه السياق المناسب لعرضها إذ ستعاض بها عن معهود الفقهاء في جوامعهم، ولم يشأ أن يجعلها في حكم ما يرد عرضا أو استطرادا، فلا يبعد أن يكون قصده: أن يُفطن لها فتُستثمر.

الثاني؛ من حيث منهج عرضها بفكرة الفضائل والتعديل في تصنيفها بما يخدم غرضه، فهو وإن تقيد بحصر الفضائل في أعدادها لم يتقيد بها في أفرادها، فلم يذكر الحكمة التي ذكرها علماء الأخلاق المسلمين  واستعاض عنها بفضيلة السخاء واعتبرها أصلا بينما هي عند غيره فرع عن العفة.

 ثم إن غيره يُدخل تحت كل أصل من الفضائل الخلقية الأربعة ما تحتها من الفضائل الخلقية الفرعية، ولكن الذي عند ابن رشد غير هذا، وذلك أنه جعل فروع كل أصل من الفضائل الخلقية ما يدخل تحتها من الأحكام الفقهية.

الثالث؛ تأكيده على قوة حضور العبادات وجعلها كالشرط في تثبيت الفضائل.

الرابع؛ وهو الوجه الأقوى: تفعيله النظرية في بعض ترجيحاته واختيارات الفقهية التي راعى فيها الاستدلال بمكارم الأخلاق.

ولعل للظرف الزمني الذي  قدر لابن رشد أن يعيشه والذي ران فيه التقليد على فقهاء الفروع وشيوع الاستعمال القانوني لمصطلح الفقه حتى اندرس معه المفهوم الكلي للفقه الشامل للأحكام وثمراتها (الأخلاق)، كل ذلك كان له أثر في إماطة ابن رشد اللثام عن مفهوم أصيل في الشريعة وعرضه في ثوب جديد محرك للهمم مُنهض للعمل حتى ظُن به السبق والتفرد برد مقاصد الشريعة إلى الفكرة الأخلاقية.

ومهما يكن من أمر التحقيق في دعوى الأستاذ العبيدي من حيث قبولها أو اطراحها، فليس ذلك من العلم الذي تحته عمل، وحسبه أنه كشف للباحثين عن جوانب مضيئة من شخصية ابن رشد ومنهجه الفقهي وعطائه الفكري، فلا نطيل في الاشتغال به عن إثبات أصالة الفكرة وتجذرها في شريعة الإسلام، واشتغال علماء المسلمين على اختلاف مناهجهم على إحيائها والدعوة إلى تثبيتها في سلوك الأفراد والجماعات  على مدى تاريخ الأمة الإسلامية.

فلا نملك بعد هذا إلا أن نقول مع الأستاذ إسماعيل الحسني في تقييم نظرية ابن رشد: “الحق أن إرجاع مقاصد الأحكام العملية إلى الأخلاق لا يمكن إلا أن نحكم عليه بالسداد والتوفيق لأنه ينم عن فهم عميق وإدراك سليم لما يستهدفه الدين الإسلامي في عقائده وأحكامه التشريعية… وإن اتجاه ابن رشد إلى بناء المقاصد على الأخلاق اتجاه أصيل؛ لأن الصلاح الذي تتجه إليه مقاصد الدين الإسلامي متجذر في نوع الأخلاق التي يأتي بها الفرد والمجتمع وبحسب قيمتها يكون العمل مفضيا إلى المفاسد أو مضيعا للمصالح[52].”

رابعا: نحو إحياء النظرية واستثمارها في الدرس الفقهي

إن المتأمل في واقع المسلمين اليوم يلحظ انفصالا مهولا بين أداء الأحكام الفقهية وتحقيق مقاصدها على مستوى الممارسة العملية والسلوك الفعلي، إنه داء ينخر مجتمع المسلمين، مؤذن بخراب العمران كما عبر ابن خلدون، وهو وضع أنتجته أسباب  متداخلة ومتشابكة، ولعل من أبرز أسبابها عقم المنهج الذي كانت تقدم به المعرفة الفقهية، حيث يغلب عليها الجانب القانوني للأحكام، وهو ما اصطلح عليه الدكتور طه عبد الرحمن ب”الطرفية الظاهرة[53].”

هذا الانحراف عن الفقه الأكبر وما كان عليه الأمر الأول على عهد رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وعهد خير القرون بعده أصاب مختلف العلوم الإسلامية، وقد عبر أبو الحسن الندوي عن المسار الذي انحرف عنه الاهتمام بالجانب الأخلاقي في العلوم الإسلامية فقال: “لما انقطعت هذه الصحبة الكريمة والتحق الرسول بالرفيق الأعلى كان الحديث النبوي الشريف والسيرة العطرة يملآن هذا الفراغ، وكان هو الفقه والحكمة والطب النبوي لأمراض القلوب وغوائل النفوس ومصائد الشيطان، ثم بدأ علم الحديث يقتصر على علم الأحكام على مر الزمان ولتوافر الدواعي القوية غلب الجانب الفقهي والجدلي على الجانب الخلقي والتربوي[54].”

لقد تسرب هذا الداء إلى عقول المشتغلين بالعلوم الشرعية؛ فترى كثيرا منهم يتنافسون في أيهم أكثر وعاء للمسائل الفقهية، وأيهم أكثر حذقا في سرعة استحضارها، وقل أن ترى لذلك أثرا في الممارسة العملية، ذلك أن الانشغال اتجه عند كثيرين إلى جهة النظر، وقد عُلم، قطعا، أن النظر لا يجزئ عن العمل ولكن العمل مجزئ عن النظر.

وقد كان لهذا الاتجاه أثره الواضح في أذهان العامة انجروا إليه بالتبع، فترى منهم حرصا على تحقيق ظاهر الأحكام ضمانا لصحتها وموافقتها لما طلبه الشارع، مكتفين بما به تبرأ الذمة، وقل أن تجد من يستفتي عن مقصود الشارع، حتى انحصر الاهتمام بالفقه في الموافقة الظاهرية وصور الأحكام ورسومها على حساب الموافقة لقصد الشارع من تشريعها.

وقد حذر المحققون من الفقهاء طلبة العلم الشرعي من الانسياق وراء أخذ العلم بالأحكام  مجردا عن جانب تحقيق أسرارها ومقاصدها، وما أحسن ما قعده المقري في هذا المعنى حيث يقول في القاعدة الرابعة والعشرون بعد المئتين: “وما أضعف حجة من ورد يوم القيامة وقد أنفق عمرا طويلا في العلم فيُسأل عما علم من كتاب الله، عز وجل، وسنة رسوله، صلى الله عليه وسلم، فلا يوجد عنده آثارة من ذلك، بل يوجد قد ضيع فرضا كثيرا من فروض العين من العلم بإقباله على حفظ فروع اللعان وسائر الأبواب النادرة الوقوع، بل الواجب الاشتغال بحفظ الكتاب والسنة وفهمهما والتفقه فيهما والاعتناء بكل ما يتوقف عليه المقصود منها[55].”

لقد أسهمت بعض الكتابات الفقهية التراثية في فترة تراجع العقل المسلم والحضارة الإسلامية وشيوع ظاهرة التقليد في اندراس الجانب الأخلاقي، فعندما يكتبون مثلا في أحكام عقد الزواج لا تكاد تلمس إشارة إلى الحديث عما يضمن استمرار تماسك الأسرة ويمنع تفككها، فترى الرجل يسكن مع المرأة ولا يسكن إليها؛ لأن الزواج كما تلقى تعريفه هو “عقد تمليك بضع الزوجة”، وأما المودة والرحمة فليسا من قيود التعريف وكتاب الله صريح في التنبيه إلى مقصديتهما في العلاقة الزوجية.

إن هذه النظرة التجزيئية للأحكام وفصل الأخلاقي منها عن القانوني في التصنيف والدرس الفقهي الأكاديمي تأثر به الدرس الوعظي الذي يخاطب عامة المكلفين، فاحتاج الأمر إلى تجديد النظر في منهج تلقين المعرفة الفقهية بما يجمع بين فقه الأحكام وفقه الأخلاق، وقد فطن لهذا الجمع بعض الفقهاء المعاصرين ممن اهتموا بقضية تجديد الفقه فوضعوا تصورا نظريا صنفوا على أساسه الموضوعات الفقهية التي تحتاج إلى تجديد في أفق الفقه المنشود.

فقد كان مما اقترحه الدكتور جمال الدين عطية في ربط الفقه بالأخلاق أن قال: “والجديد الذي اقترحه هنا هو أن نعيد هذه الفروع مرة أخرى إلى الفقه… والصورة المقترحة بالنسبة للأخلاق والآداب الشرعية والمقاصد والقواعد، إدخالها ضمن الفقه بشكل كلي وجزئي حسب الأحوال[56].”

ونجد من المعاصرين كذلك الدكتور الريسوني حيث دعا إلى ضرورة بذل جهود كبيرة لإبراز الاجتهادات والاستنباطات الفقهية المبنية على مراعاة مكارم الأخلاق، و نبه إلى أن الفقهاء القدامى كانوا يركزون على الأخلاق الفردية وأن التركيز الأولوي الآن وجب أن يتجه إلى الحاجات الخلقية التي تمثل حاجات ظرفية سماها “أخلاق الوقت” وإعطاء تطبيقات لها على الدولة والمجتمع[57]. 

ومن الاجتهادات المعاصرة المتفقة مع ما دعا إليه الريسوني الاختيار الفقهي الذي أنتجه أحد العلماء المقاصديين المغاربة؛ إنه اجتهاد علال الفاسي، رحمه الله، في قضية تعدد الزوجات حيث بناه على مراعاة مكارم الأخلاق قال: “وقد أخذنا نحن بمبدأ توقيف العمل بتعدد الزوجات  بناء على أن الأمر الوارد في القرآن أمر إرشاد للمسلمين أن يواصلوا ما بدأه الشرع من تقييد التعدد كلما خافوا عدم العدل، ولم نحمل العدل المذكور في الآية على العدل في القسم بين الزوجات كما حمله عامة الفقهاء، وهو الذي ملك مناط تفكيرهم… وإنما حملناه على العدل العام وهو ما يدفع الإضرار بالطائفة الإسلامية…

 ولا شك أن منع الأفراد من تعديد النساء إضرار بهم؛ لأنه منع لهم من إرضاء حاجاتهم وعاداتهم، ولكنه إضرار في العصر الحاضر بالمسلمين عموما لما يحدثه من مشاكل لا تحصى، كما أنه إضرار بالإسلام نفسه؛ لأن تطور المرأة وصل إلى درجة لا تقبل معه مثل ذلك النظام الذي كان سائدا في بعض عهود الحضارة، وتحميلها ذلك يؤدي بها إلى الطعن في الدين أو الالتجاء إلى المطالبة بتشريعات منافية للدين، وقد أمرنا الشارع أن نبشر لا أن ننفر[58].”

إن الفاسي إذ يعتمد الكليات الخلقية في عملية الاجتهاد ينطلق من النظرية ذاتها التي نبه إليها ابن رشد، وقد كان، رحمه الله، موفقا في صياغة عنوان كتابه “مقاصد الشريعة ومكارمها” ذلك أن في التسمية إلماح إلى كون مكارم الأخلاق مقياس كل مصلحة عامة وأساس كل مقصد من مقاصد الإسلام[59].

ما أحوج الأمة في ظرفها الحالي إلى هذا المسلك في الاجتهاد يبعثها من مواتها ويحيي فيها الفقه الذي كانت به الأمة تفهم حركة التدين على أنها تخلق بمكارم الأخلاق، وما أحوجها إلى مجتهدين متخلقين تحصل الثقة بما يستنبطونه للناس وتطمئن نفوسهم إليه، وقد اعتبر الفقيه الحجوي أن بلوغ رتبة الاجتهاد في عصرنا أصبحت  متيسرة سهلة أكثر مما قبل الآن، وإنما المفقود أمران:  الأول؛ عزيمة الطالب على إدراكها، فإذا عزم، ومرن نفسه على استقلال فكره، وشغله بتدبر كتاب الله وسنة نبيه، عليه الصلاة والسلام، وترك التمرن على كلام المتأخرين الجامدين، وجعل بدله التمرن على فهم الكتاب والسنة، وكلام أئمة الاجتهاد مثل مالك وأضرابه… فإذا رجعنا لما كان عليه المجتهدون في كيفية تربية ملكاتهم صرنا مجتهدين مثلهم.

الأمر الثاني؛ رياضة النفوس على الأخلاق الفاضلة وترك السفاسف لتوجد الخصلة العزيزة؛ وهي النزاهة التي تحصل بها الثقة العامة كما كانت حاصلة بالمجتهدين، فالذي فُقد أو كاد هو الثقة، وعليه فإنما يعز وجود شرط في الاقتداء لا في الاجتهاد وهو الأمانة التي تنشأ عنها الثقة.[60]

إن التشريع الرباني جعل مكارم الأخلاق مهيمنة على حياة المسلم فردا و أسرة و مجتمعا، بل في العلاقات الإنسانية كلها، إنه ربط الحياة كلها بالأخلاق  فلا انفصال بين العلم والأخلاق، ولا بين السياسة والأخلاق،  ولا بين الاقتصاد والأخلاق، ولا بين الحرب والأخلاق…

فالغاية الخلقيَّة هي مقصود الشارع من التكاليف الشرعية وليست فضائل منفصلة عنها، بل إنها امتداد لتأسيس اعتقادي تنشأ معه وبمختلف تشريعات العبادات والمعاملات وغيرها تظهر سلوكا يضبط حركة المكلفين في حياتهم الخاصة والمجتمعية والعالمية.

وإن الحكم الشرعي لم ينفك عن واحدة أو أكثر من القيم الأخلاقية كما لم ينفك خلق عن حكم شرعي، وقد عبر الشاطبي عن هذا المعنى بقوله: “الشريعة كلها إنما هي تَخَلُّقٌ بمكارم الأخلاق[61]“، ومثله قول محمد الأمين الشنقيطي: “والمتأمل للقرآن في هديه يجد مبدأ الأخلاق في كل تشريع فيه[62].”

 الهوامش

[1]. أبو بكر بن العربي المعافري (توفي 543ﻫ)،  المسالك في شرح موطأ مالك:  قراءة وتعليق: محمد بن الحسين السليماني وعائشة بنت  الحسين السليماني، بيروت، دار الغرب الإسلامي، ط1، (1428ﻫ/2007م) ج7، ص 163.

[2]. شهاب الدين أحمد بن إدريس القرافي (توفي 684ﻫ)، الذخيرة:  تحقيق محمد حجي، بيروت: دار الغرب الإسلامي، ط1، 1994 م، ج13، ص231.

[3]. ابن الحاجب جمال الدين بن عمر (توفي646 ﻫ)، جامع الأمهات: تحقيق: أبو عبد الرحمن الأخضر الأخضري، لبنان: اليمامة للطباعة والنشر والتوزيع، ط2، (1421ﻫ/2000م)، ص560.

[4]. المعافري أبو بكر بن العربي (توفي 543ﻫ)، القبس: تحقيق الدكتور محمد عبد الله ولد كريم، بيروت: دار الغرب الإسلامي، ط1، ج2، ص1082.

[5]. أبو محمد عبد الوهاب بن علي بن نصر البغدادي (422ﻫ)، المعونة على مذهب عالم المدينة: تحقيق محمد حسن إسماعيل الشافعي، بيروت: دار الكتب العلمية، ط1، (1418ﻫ/1998م)، ج2/566.

[6]. السيوطي (911ﻫ)، التعريف بآداب التأليف: تحقيق مرزوق علي إبراهيم، القاهرة: مكتبة التراث الإسلامي، ط1، 1989، ص29.

[7]. شرحه أبو بكر الأبهري (375ﻫ)، حققه الدكتور حميد لحمر، دار الغرب الإسلامي، ط1، (1425ﻫ/2004م).

[8]. تحقيق: محمد أبو الأجفان، وعثمان بطيخ. حققه كذلك عبد المجيد تركي.

[9]. شرحه التاودي بن الطالب المري في كتاب سماه: تقريط المسامع شرح كتاب الجامع، تشنيف المسامع شرح الجامع للشيخ خليل، ذكره مخلوف في شجرة النور الزكية ج1/373. الجامع في التصوف، في الخزانة العامة بالرباط تحت رقم:487/د.

[10]. مخطوط الخزانة العامة رقم: 2207د، الخزانة الملكية 18036-6803 نقلا عن إدريس عزوزي، الشيخ أحمد زروق وآراؤه الإصلاحية تحقيق ودراسة لكتابه “عدة المريد الصادق” المغرب، ط وزارة الأوقاف ( 1419ﻫ/1998م).

[11]. طبع مفردا بتحقيقين أحدهما لفريد عبد العزيز الجندي والثاني للمختار بن الطاهر التليلي.

[12]. ترتيب وتعليق: عبد المجيد رياش.

[13]. عبد الرؤوف حسين علي، تقريط المسامع، نواكشوط موريتانيا، نشر دار يوسف بن تاشفين ومكتبة الإمام مالك، ط1، (1425ﻫ/2004م)، ص3.

[14]. القرطبي، أبو الوليد  محمد بن أحمد بن رشد (520ﻫ)، المقدمات الممهدات، تحقيق الدكتور محمد حجي، بيروت: دار الغرب الإسلامي، ط1، ج1، ص250-251.

[15]. المصدر نفسه، ج3، ص414 وما بعدها.

[16]. نقلا عن  القيرواني: أبو محمد بن عبد الله بن أبي زيد (386ﻫ)، الجامع في السنن والآداب والمغزي والتاريخ، تحقيق: محمد أبو الأجفان وعثمان بطيخ، بيروت: مؤسسة الرسالة، تونس: المكتبة العتيقة، ط2، (1403ﻫ/1983م)، ص83.

[17]. الجابري محمد عابد، العقل الأخلاقي العربي: دراسة تحليلية نقدية لنظم القيم في الثقافة العربية، سلسلة نقد العقل العربي (4)، بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، ط1، 2001، ص536.

[18]. ابن جزي محمد بن أحمد، القوانين الفقهية، بيروت: المكتبة الثقافية، ط (د. ت)، ص269.

[19]. النمري أبو عمر يوسف بن عبد البر (463ﻫ)، التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد: تحقيق: مصطفى بن أحمد العلوي، و محمد عبد الكبير البكري، المغرب، وزارة الأوقاف، ط2، (1402م/1982م)، ج1، ص77.

[20]. محمد بن عبد الكريم بن علي: (ت في القرن 13ﻫ تقديرا  ولم أقف على ترجمته) عمدة البيان: نسخة إلكترونية من مركز نجيبويه للمخطوطات وخدمة التراث www.najeebawaih.net مصورة عن مكتبة جامعة الملك سعود (تحت رقم: 7044)، اللوحة 1.

[21]. المصدر نفسه، اللوحة 2.

[22]. البغدادي عبد الرحمن بن محمد بن عسكر (732ﻫ)، إرشاد السالك إلى أشرف المسالك على مذهب مالك، مصر: مطبعة البابي الحلبي، ط ( د. ت)، ج1/137.

[23]. المقدمات الممهدات، م، س، ج3/348.

[24]. ابن شاس جلال الدين عبد الله، عقد الجواهر الثمينة، تحقيق: محمد أبو الأجفان وعبد الحفيظ منصور، بيروت: دار الغرب الإسلامي،  ط (1415ﻫ)، ج3، ص513.

[25]. اشتهر الكتاب باسم: بداية المجتهد ونهاية المقتصد بينما صاحب الكتاب  يقول: (بيد أن في قوة  هذا الكتاب أن يبلغ به الإنسان كما قلنا رتبة الاجتهاد إذا تقدم، فعلم من اللغة العربية وعلم من أصول الفقه ما يكفيه في ذلك، ولذلك رأينا أن أخص الأسماء بهذا الكتاب أن نسميه كتاب (بداية المجتهد وكفاية المقتصد)، بداية المجتهد، ج 2، وهو العنوان المناسب لمضامين الكتاب وقصد صاحبه؛ لأن الكفاية تعني الحد الأدنى من العلم والنهاية تعني بلوغ الدرجة التي لا يطلب بعدها المزيد.

[26]. ابن رشد أبو الوليد محمد بن احمد، بداية المجتهد ونهاية المقتصد، تحقيق:عبد الله العبادي، دار السلام للطباعة والنشر والتوزيع، ط1، (1416ﻫ/1995 م)، ج4، ص2320.

[27]. المصدر نفسه، ج4، ص2320.

[28]. المصدر نفسه.

[29]. المصدر نفسه،ج4، ص2321.

[30]. المصدر نفسه.

[31]. المصدر نفسه.

[32]. الريسوني أحمد، المنحى المقاصدي في فقه ابن رشد، العطاء الفكري، وقائع الحلقة الدراسية التي عقدت في حرم جامعة آل البيت، الأردن: المعهد العالمي للفكر الإسلامي ط1، (1420ﻫ/1999م)، ص54.

[33]. ابن رشد، فصل المقال في تقرير ما بين الشريعة من الاتصال: إشراف محمد عابد الجابري، بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، 1997م، ص37.

[34]. المصدر نفسه.

[35]. بداية المجتهد، ج4، ص2033 وما بعدها.

[36]. المصدر نفسه، ص2159.

[37]. المصدر نفسه، ج3/ 1543.

[38]. بولوز محمد، بداية المجتهد وكفاية المقتصد ودوره في تربية ملكة الاجتهاد، رسالة دكتوراه مرقونة بكلية الآداب والعلوم الإنسانية/فاس، (2007م)، ص868.

[39]. الرملي شمس الدين محمد بن أبي العباس ابن شهاب الدين (1004ﻫ)، نهاية المحتاج إلى شرح المنهاج، بيروت: دار الكتب العلمية/لبنان، ط3، (2003م/1424ﻫ)، ج1، ص59.

[40]. الشاطبي أبو إسحاق إبراهيم بن موسى اللخمي (790ﻫ)، الموافقات في أصول الشريعة، تعليق عبد الله دراز، بيروت: دار الكتب العلمية، ط1 (1411ﻫ/1991م)، ج1، ص42.

[41]. طه عبد الرحمن، سؤال الأخلاق: مساهمة في النقد الأخلاقي للحداثة الغربية، الدار البيضاء: المغرب المركز الثقافي العربي، ط1، (2000م)، ص55.

[42]. مسكويه أبو علي أحمد بن محمد، تهذيب الأخلاق: بيروت: دار الكتب العلمية/لبنان، ط1، (1405ﻫ/1985م)، ص17.

[43]. الغزالي أبو حامد محمد بن محمد، إحياء علوم الدين،  دار ابن حزم،  ط1، (1426م/2005م)، ج3، ص54.

[44]. الدهلوي شاه ولي الله ابن عبد الرحيم، حجة الله البالغة، بيروت: دار الجيل، ط1، (1426ﻫ/2005م)، تحقيق: السيد سابق، ج2، ص101.

[45]. دراز محمد عبد الله، دستور الأخلاق في القرآن، ترجمة عبد الصبور شاهين، مؤسسة الرسالة، ط10، (1418ﻫ/1998م)، ص681.

[46]. الميداني عبد الرحمن حسن حبنكة، الأخلاق الإسلامية وأسسها، دمشق: دار القلم، ط5، (1420ﻫ/1999م)، ج1، ص517.

[47]. العبيدي حمادي، ابن رشد وعلوم الشريعة، بيروت: دار الفكر العربي، ط1، 1991 م، ص107.

[48]. أبو الوليد بن رشد العطاء الفكري، م، س، ص27.

[49]. الراغب الأصفهاني أبو القاسم الحسين بن محمد بن المفضل، الذريعة إلى مكارم الشريعة، تحقيق أبو اليزيد أبو زيد العجمي مصر: دار السلام، ط1، ( 1428ﻫ/2007م)، ص60.

[50]. المصدر نفسه.

[51]. ابن رشد، فصل المقال، م، س، ص115.

[52]. الحسني إسماعيل، حقائق الاعتقاد ومقاصد الشرع في الخطاب الرشدي، مجلة إسلامية المعرفة، عدد: 375، 38 (1425ﻫ/2004م)، ص50.

[53]. طه عبد الرحمن، رؤية علمية لتجديد مقاصد الشريعة، مجلة قضايا إسلامية معاصرة، عدد 18، (1422ﻫ/2002م)، ص225.

[54]. الندوي أبو الحسن علي الحسني، العقيدة والعبادة والسلوك  في ضوء الكتاب والسنة والسيرة النبوية، الكويت: دار القلم، ط2، (1403ﻫ/1983م)، ص136.

[55]. المقري  أبو عبد الله محمد بن محمد بن أحمد (توفي 758ﻫ)، القواعد، مكة المكرمة: مركز إحياء التراث الإسلامي ط، ج2، ص467.

[56]. عطية جمال الدين/وهبة الزحيلي، تجديد الفقه الإسلامي، سلسلة حوارات لقرن جديد، بيروت: لبنان دار الفكر: المعاصر/لبنان، دمشق: دار الفكر/سورية، ط1، (1420ﻫ/2000م)، ص25.

[57]. مداخلة مرئية في المِؤتمر الأول الذي نظمه مركز دراسات التشريع الإسلامي والأخلاق في 9 مارس 2013، وهو مركز بحثي تابع لكلية الدراسات الإسلامية في قطر تأسس في 15 يناير 2012 يديره الدكتور طارق رمضان عنوان الموقع: www.cilcenter.org

[58]. الفاسي علال، مقاصد الشريعة ومكارمها، بيروت: دار الغرب الإسلامي،  الدار البيضاء: مطبعة النجاح الجديدة، ص183.

[59]. المصدر نفسه، ص191.

[60]. الحجوي محمد بن الحسن بن العربي، الفكر السامي في تاريخ الفقه الإسلامي، بيروت: دار الكتب العلمية، (1416ﻫ/1495م) ط1، ج2 ص519-520.

[61]. الشاطبي أبو إسحاق إبراهيم بن موسى اللخمي (790ﻫ)، الموافقات في أصول الشريعة، تعليق الشيخ عبد الله دراز، بيروت: دار الكتب العلمية، ط1، (1411ﻫ/1991م)، ج2، ص77.

[62]. الشنقيطي محمد الأمين بن محمد المختار (1393ﻫ)، أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن، لبنان: دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع، ط3، (1415ﻫ/1995م)، ج8، ص249.

Science
الوسوم

د. مصطفى القصَّاب

أستاذ الثانوي التأهيلي/آسفي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق