مركز الإمام أبي عمرو الداني للدراسات والبحوث القرائية المتخصصةشذور

درر قرآنية (19): اسم الصائم ومتعلقاته (1) أسرار إضافة الصيام إلى الذات العلية.

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله، والصلاة والسلام على مولانا رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، وبعد:

فلا يخفى ما اختصت به الفريضة الرمضانية من أنواع الأسرار والقربات إلى الله تبارك وتعالى، لا جرم أن تولى -سبحانه- صاحبها، وأَبهم أجرها، ونسبها إليه سبحانه: “كل عمل ابن ءادم له، إلا الصوم، فإنه لي وأنا أجزي به”، ومن هنا جرى مداد قلم أئمة الإسلام في بيان فضيلة الصوم، وسر هذه الخصيصى، وكان أن نشرنا -في حلقات- من كلام الإمام أبي بكر ابن العربي -رحمه الله- عن فضل القرءان وحملته وتعليمه وبعض خصائصه، وبما أن الصوم والقرءان في هذا الشهر الفضيل صنوان، فنكمل المسيرة مع ابن العربي نفسه، وننشر -في حلقتين- كلامه عن الصيام وأسراره وفضائله..

وهذه الحلقة الأولى عن سر قوله تبارك وتعالى: “إلا الصوم فإنه لي”.

قال رحمه الله:

«وإذا قامت الصَّلَاةُ بشُكْرِ نِعْمَةِ البَدَنِ، وقامت الصَّدَقَةُ بشُكْرِ نِعْمَةِ المَالِ؛ وَقَعَ الثَّنَاءُ في شُكْرِ نِعْمَةِ البَدَنِ في الصِّيَامِ، فكَانَ:

الصَّائِمُ: وهو الاسمُ الحادي والعشرون

مُقَامًا لشُكْرِ نِعَمِه، بتَسْوِيغِ الغذاء من الطعام والشراب؛ فإنَّ الصحة واستواء الأعضاء لا يعادلهما شيء، وبالحَرَى أن تقوم بها الصلاة بفَضْلِ الله، فتبقى نعمة الغذاء وهي مادة البقاء، شَرَعَ الله له الإمساك عنها بنيَّة العبادة شُكْرًا، ووعد عليه مثوبة وأجرًا، وأَوْسَعَه ثَنَاءً وفَضْلًا، ولو لم يَكُنْ إلَّا قوله تعالى: «الصَّوْمُ لي وأنا أَجْزِي به».

وقد كان الصَّوْمُ في شَرْعِ من مضى على أَصْلِه في العربية: الإِمْسَاكُ عن الكلام والشراب والطعام، قال الله تعالى مُخْبِرًا عن الصَّالحة: ﴿إِنِّے نَذَرْتُ لِلرَّحْمَٰنِ صَوْماٗ فَلَنُ ا۟كَلِّمَ اَ۬لْيَوْمَ إِنسِيّاٗ﴾ [مريم:25].

وكان الصَّوْمُ في أوَّل الإسلام الليل والنهار إلَّا سَاعَةَ الفِطْرِ قبل النَّوْمِ، ثم رَحِمَ الله هذه الأمة فجعل للصَّوْمِ النَّهَارَ دون اللَّيل.

وقالت الصُّوفِيَّةُ: «الصَّوْمُ على ثلاثة أقسام؛ صَوْمٌ عن الطعام والشراب والوَطْءِ، وصَوْمٌ عن جميع المُحَرَّمَاتِ، وصَوْمٌ عمَّا سوى الله تعالى، فلا يَنْظُرْ إلى غيره، وليُمْسِكْ عمَّن سواه».

وهذا كلُّه له وَجْهٌ صَحِيحٌ؛ فإن تَعَلُّقَ القَلْبِ بغَيْرِ الله، وجَرْيَ اللِّسَانِ بذِكْرِ سواه، واستعمالَ الجوارح في عَمَلٍ لا يكونُ له لا يَنْبَغِي، وكذلك المحرَّمات، معلومٌ قَطْعًا أن الخطاب بها مستمرٌّ على العباد دائمًا، ويتأكدُ ذلك بالصوم؛ فإن انتهاك الحُرْمَةِ في غير الصوم ذَنْبٌ، وانتهاكُها في الصوم ذَنْبَانِ، وتتضاعفُ السيِّئات بتضاعف الحُرُمَاتِ، قال النبي صلى الله عليه وسلم: «من لم يَدَعْ قَوْلَ الزُّورِ والعَمَلَ به فلَيْسَ لله حَاجَةٌ في أن يَدَعَ طعامه وشرابه». وقد قال جماعةٌ من السلف: «إنَّ الغِيبَةَ تُفْطِرُ الصائم وعليه القضاء لأجل هذا الحديث؛ وذلك لأن أَجْرَ الصائم لا يفي بإثم الغيبة لأنها من الكبائر، والكبائر من العبادات لا تُكَفِّرُ الكبائر من السيئات إلَّا بالموازنة».

وقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: «إذا دخل رمضان فُتحت أبواب الجنة -وقيل: الرحمة-، وغُلِّقَتْ أبواب النار، وسُلْسِلَتِ الشياطين». ومن الحديث الحسن: «صُفِّدَتِ الشياطينُ ومَرَدَةُ الجِنِّ، وغُلِّقَتْ أبوابُ النار، فلم يُفتح منها بابٌ، وفُتحت أبواب الجنة فلم يُغلق منها باب، ويُنَادِي مُنَادِي: يا بَاغِيَ الخير أَقْبِلْ، ويا بَاغِيَ الشرِّ أَقْصِرْ، ولله عُتَقَاءُ من النار، وذلك كلَّ ليلة».

[فضائلُ الصوم]:

وقال صلى الله عليه وسلم: «قال الله: كلُّ عَمَلِ ابن آدم له إلا الصوم، فإنه لي، وأنا أجزي به، يَدَعُ شهوته وطعامه وشرابه من أجلي، وقال: للصائم فرحتان، فرحة عند إفطاره، وفرحة عند لقاء ربه، ولخُلوف فم الصائم أطيبُ عند الله من ريح المِسْكِ، والصيام جُنَّةٌ».

فهذه أَحَدَ عشر خصلة، كلُّ واحدة منهن تُوَازِي الدنيا:

الخصلة الأولى: «كلُّ عَمَلِ ابن آدم له» فيه قولان:

أحدهما: يعلم مقدار ثوابه.

والثاني: «كل عَمَلِ ابن آدم له»، أي: صفته؛ لأنها حركات وسكنات، وتلك لا تليق بالله.

الخصلة الثانية: «إلَّا الصوم»؛ ويَتَرَكَّبُ القولان على القِسْمِ الأوَّل في الخصلة الأولى، فيكون المعنى: أن الصوم لا يَعْلَمُ أَحَدٌ مقدار ما يُثَابُ عليه، ويَدُلُّ عليه قوله فيه: «الحسنة بعشر أمثالها، إلى سبع مائة ضعف، إلَّا الصوم، فإنه لي وأنا أَجْزِي به». أو يكون المعنى: إلا الصوم، فإنه صِفَةٌ من صفاتي، إذ لا يَطْعَمُ، وأنا الذي لا يَطْعَمُ بحال، ولا يجوز عليه أن يَطْعَمَ، فإذا تَكَلَّفَ ذلك العَبْدُ وتعاطاه فلا تعلم نَفْسٌ قَدْرَ ثوابه.

الخصلة الثالثة: قوله: «لي»؛ وفيه أقوالٌ، لُبَابُها سَبْعَةٌ:

الأوَّل: «لي»، أي: صِفَتِي، كما تقدَّم، فمن تعاطاه فثوابُه غير مُحَصَّلٍ لأَحَدٍ.

الثاني: أضافه إليه إضافةَ تَشْرِيفٍ -وإن كانت الأعمال كلُّها له كما قال: ﴿وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّآئِفِينَ﴾ [الحج:24]، تنبيهًا على شَرَفِه.

الثالث: أي: لا يعلمه غيري؛ فإن كلَّ عَمَلٍ لا يُمكن العبد أن يستره إلا الصوم، فيُمكن أن لا يطَّلع عليه أَحَدٌ إلا الله.

الرابع: من صفة ملائكتي؛ لأن العبد إذا لم يأكل تَشَبَّهَ بالملائكة، وهو أقوى من الأول عندي وأوْلى، فعليه ينبغي أن يكون المعوَّل.

الخامس: أنا الذي أعلمُ مقدار ثوابه، وقد تقدَّم ذِكْرُه في الأقوال.

السَّادس: أن معنى قوله: «الصوم لي» أي: يَقْمَعُ عَدُوِّي، وهو الشيطان؛ لأن سَبِيلَ الشيطان إلى الآدمي الشهواتُ، فإذا تُرِكَتْ خاب وذَلَّ، وانحَسَر وانْخَنَسَ.

السَّابع: رُوِيَ -ولم يصحَّ، فربُّك أعلم-: «أنَّ غُرَمَاءَ العبد لا يُجْعَلُ لهم إلى الصوم سَبِيلٌ»، وذلك عندي -والله أعلم- إذا لم يكن مَعْلُومًا لأحد، ولا مَكْتُوبًا في الصُّحُفِ، فيسترُه الله له ويخبِّؤه عليه رِفْقًا به، حتى يكون له جُنَّة من العذاب، فيطرح أولئك عليه سيئاتهم، فتذهبُ عنهم ويَقِيهِ الصوم، فلا تضر لأصحابها لزوالها عنهم ولا له؛ لأن الصوم جُنَّته.

الخصلة الرابعة: قوله: «وأنا أجزي به»، إشارة إلى أنه لا يتولَّى ذلك نائبٌ؛ من مَلَكٍ أو سِوَاهُ تَشْرِيفًا له.

الخصلة الخامسة: قوله: «يَدَعُ شهوته من أجلي»، ولم يقل: تُعْدِمُ ولا تُضْعِفُ، كما تقول الصوفية، وإنما قال: يَدَعُ شهوته مع وجودها وقوَّتها، وذلك أَعْظَمُ في المجاهدة وأَكْثَرُ في الثواب.

الخصلة السَّادسة: قوله تعالى: «وطعامه وشرابه» بَيَانٌ بأن الشهوة متروكة مقموعة، والطعام والشراب متروك، فهما متروكان:

أحدهما: نَفْسِيٌّ.

والآخَرُ: بَدَنِي.

وهنالك من لا تقوى شهوتُه للطعام، فتكون له الخصلة الواحدة؛ وهي الترك، فإذا اجتمعتا كان أفضل، إلَّا أن يكون ضَعيف الشهوة لخُرْمَةٍ في ذلك، واعتمال وارتياض، فيكون لها من الفَضْلِ مثلُ الأوَّل.

الخصلة السَّابعة: قوله: «من أجلي»، أي: امتثالًا لأمري، وانقيادًا لحُكْمِي، بيانُ الفَرْقِ بين العبادة والعادة.

الخصلة الثامنة: قوله: «للصَّائم فرحتان؛ فرحة عند إفطاره»، قال عَامَّةُ العلماء: فَرْحَةٌ بالأكل لشَوْقِه إليه وصَبْرِه عنه، ويَعْضُدُ هذا قوله: «يَدَعُ شهوته»، أي: يدعها لله تعالى، حتى إذا انتهى الأمد المحدود اقتضى شهوته بعد ما قضى عبادته، وأين أفضل من هذا؟

وقالت الصوفية -وساعدهم على ذلك بعض المتفقهة-: معناه: «الفَرَحُ بتمام العبادة؛ سليمة من نواقصها».

وقلتُ أنا: إنها فرحة لها مفروحان؛ قضاء الشهوة، وسلامة العبادة، ولا تعارض بينهما حتى يمتنع اجتماعهما.

الخصلة التاسعة: «فرحة عند لقاء ربه»، لِمَا يرى من ثوابه.

الخصلة العاشرة: قوله: «ولخُلُوفِ فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك»، يريدُ أن تَغْيِيرَ فَمِ الصائم إلى الرائحة الكريهة أَطْيَبُ عند الله من طِيبِ رِيحِ المِسْكِ عندكم، الإشارةُ إلى أن العباد يستحبون رائحة المِسْكِ الطَّيِّبَةِ، ولا يستحبُّون الدَّفْرَة، وهذه الرائحة الكريهة هي التي يُحِبُّ الله، وضَرَبَ الطِّيبَ مَثَلًا للمحبة، والمحبةُ عبارةٌ عن المثوبة.

الخصلة الحادية عشر: قوله: «والصيام جُنَّةٌ»، وهذا نصٌّ في أنه وقاية، مِنَ المِجَنِّ، وهو ما يُتَّقَى به في الحَرْبِ من الطَّعْنِ والضَّرْبِ.

قال الإمام الحافظ أبو بكر بن العربي رضي الله عنه: ونَاهِيكَ بهذا فَضْلًا، وإنه لكَافٍ في شَرَفِ الصَّوْمِ، فلا تطلبوا بعده فَضْلًا فإنه يُجْزِئكم.

وفائدةُ الصوم تكثرُ وجوهها، وقد مَضَتْ منها في هذا الكلام جُمَلٌ.

وقد قال جماعة من الزهَّاد: إن قوله: ﴿لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ [البقرة:182]، أي: تضعف شهواتكم.

وقيل: لعلَّه يتذكر الجائعين؛ ولذلك قيل له -في أوَّل الأمر-: إن شئت أن تُعَوِّضَ عن الصيام إطعامَ المساكين فافْعَلْ.

وقيل: لتَقِلَّ مؤونته؛ فيَقِلُّ كَسْبُه، فيَتَفَرَّغُ زمانُه للعبادة.

وقيل: ليرتدع عن المعاصي، فإن حَالَةً قد تُحَرِّمُ عليه المباح أَحْرَى أن تمنعه من المحظور.

فركِّبوا على هذا الأُنموذج ما قرَّرناه في «قانون التأويل» من المعاني والألفاظ التي تَحْتَمِلُه.

والسَّحُورُ سُنَّةٌ؛ ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «تَسَحَّرُوا، فإنَّ في السَّحور بركة»، ووجوه بركته كثيرة، وفائدته أن يُقَسِّمَ غِذاءه بين وَقْتَيْنِ، حتى لا يلحقه ضَجَرٌ بالصوم، ولا يناله مرض، ولذلك مُنِعَ من الوِصَالُ.

 وأرادت الصحابةُ أن تُواصل فمنعهم النبي صلى الله عليه وسلم رِفْقًا بهم، ثم وَاصَلَ بهم مُنَكِّلًا لهم؛ لتَعَرُّضِهِمْ لفِعْلِ ما لم يُفْرَضْ عليهم، تشبيهًا بالأمم الخالفة، فإنها كانت تَزِيدُ في الفَرْضِ، ثم تعجز عن الجميع، والناسُ منقسمون في ذلك، فمن قَدَرَ عليه فليفعله، ومن لم يقدر فلا أقلَّ من تَمْرَةٍ اتباعًا للسُّنَّةِ، واغتنامًا للبركة، واعتقادًا للفَرْقِ بيننا وبين أهل الكتاب، ولو لم يكن من بَرَكَةِ السَّحُورِ إلَّا أنَّ في الصحيح؛ قال النبي صلى الله عليه وسلم: «لا تواصلوا، فأيُّكم أراد أن يُواصلَ فليُوَاصِلْ حتى السَّحَرِ».

وتَعْجِيلُ الفِطْرِ سُنَّةٌ؛ ففي الصحيح: «لا يزالُ الناس بخَيْرٍ ما عجَّلوا الفِطْرَ»، «وإذا أَقْبَلَ اللَّيْلُ من هاهنا، وأدبر النهار من هاهنا، فقد أفطر الصائم»، أي: دَخَلَ في وَقْتِ الفِطْرِ.

ورأيتُ المدينة المُقَدَّسَةَ في غَرْبِيِّهَا جَبَلُ أُحُدٍ، فلا يُمكن أحدٌ أن يتحقَّق -وخاصَّةً في أيام الشتاء- غُرُوبَ الشمس، لأنها تسكن وراء ذلك الجبل العظيم، ولكن يَنْظُرُ طلوع الليل من المشرق، وسقوط الشمس عن عمائم الجبال، ولذلك كانوا إذا اغتاموا ربما يُفطرون في زمان النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر، ثم تطلع الشمس.

ولا يتقدَّمُ الشَّهْرَ بصَوْمٍ، قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: «لا يتقدَّمنَّ أحدُكم الشَّهْرَ بيوم ولا بيومين، إلا أن يكون رَجُلٌ كان يصوم صَوْمَه، فليصم ذلك اليوم».

وفي سنن أبي داود وغيرها: «إذا انتصف شعبان فلا يصومنَّ أحدُكم حتى يدخل رمضان».

ــــــــــــــــــــ

سراج المريدين: 2/339-349.

 د. محمد صالح المتنوسي

  • باحث بمركز الإمام أبي عمرو الداني للدراسات والبحوث القرائية المتخصصة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق