مركز الإمام أبي عمرو الداني للدراسات والبحوث القرائية المتخصصةشذور

درر قرآنية (17): اسم القارئ ومتعلقاته (4): انتقاء الآيات لأغراضها، والطريقة المثلى لتنشئة الصبية على القرءان.

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله، والصلاة والسلام على مولانا رسول الله، وعلى ءاله وصحبه ومن والاه، وبعد:

نختم اليوم سلسلة قالة الإمام أبي بكر ابن العربي -رحمه الله- وتحليله لاسم “القارئ” وما يتعلق بأذياله، وقد أخذنا على أنفسنا من البدء ألا نحيل بين القارئ الكريم، وبين كلام الإمام ابن العربي إلا بتقدمة يسيرة بين يدي كلامه رحمه الله، تكون تلخصةً للنقاط الكبرى في كلامه.

وفي هذا الجزء الأخير، ذكر -رحمه الله- ما يعرض للناس من اختلاف تأثرهم بالآيات على اختلاف ما هو مغروس في قلوبهم،فذا متأثر بالصدقة، وذا بالرجاء، وذا بالصيام، وهكذا…

ثم عرج على الطريقة المثلى لتعليم الصبيان القرءان وتنشئتهم عليه، وذكر بعض كتب التفسير مشيدا ومحذرا، قال رحمه الله:

«الانتقاءُ للآيات بحَسَبِ الأغراض:

وقد  تختلف القلوب في القراءة؛ فمنها قَلْبٌ يَخْلُقُ الله له الرجاء، وءاخَرُ يخلق له التخويف، وءاخَرُ يخلق له التوحيد، فينتقون ءايةً ءايةً لأمر يَتَوَجَّهُ.

وفي الحديث الحَسَنِ: أن النبي صلى الله عليه وسلم سَمِعَ بِلَالًا يقرأ هكذا فأَقَرَّهُ ورَضِيَه.

ونَصُّه: عن عبد الله بن رباح عن أبي قتادة: «أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج ليلة؛ فإذا هو بأبي بكر رضي الله عنه يُصَلِّي؛ يَخْفِضُ من صوته، قال: ومرَّ بعمر بن الخطاب وهو يُصَلِّي رافعًا صوتَه، فقال: يا رسول الله؛ أُوقِظُ الوسنان، وأطردُ الشيطان، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: يا أبا بكر، ارفع من صوتك شيئًا، وقال لعمر: اخفض من صوتك شيئًا».

 ورواه عن أبي هريرة بنحوه، وزاد: «وقد سمعتك يا بلال وأنت تقرأ من هذه السورة ومن هذه السورة، قال: كَلَامٌ طَيِّبٌ يَجْمَعُه الله؛ بعضه إلى بعض، قال النبي عليه السَّلام: كلكم قد أصاب»، خرَّجه أبو داود.

 وقد روى أحمد عن سلمان: «أنه اجتمع الناس إليه بالمدائن؛ فقرأ عليهم سورة يوسف، فجعلوا يتفرَّقون عنه، فقال: أَبِزُخْرُفٍ من القول؟ تريدون آية من سورة كذا، وآية من سورة كذا».

 وقد أَذِنَ النبي صلى الله عليه وسلم في اختيار السُّوَرِ.

 وروى أبو داود: «قال رجل للنبي صلى الله عليه وسلم: أَقْرِئنِي يا رسول الله، قال: اقرأ ثلاثًا من ذوات ﴿أَلَٓر۪﴾، قال: كَبِرَتْ سِنِّي، واشتدَّ قَلْبِي، وغَلُظَ لساني، قال: اقرأ ثلاثًا من ذوات ﴿ح۪مِٓ﴾، فقال مِثْلَ مقالته، فقال: اقرأ ثلاثًا من المُسَبِّحَاتِ، فقال مثل مقالته، فقال الرجل: يا رسول الله، أَقْرِئنِي سورة جامعة، فأقرأه النبي صلى الله عليه وسلم: ﴿إِذَا زُلْزِلَتِ﴾، حتَّى فرغ منها، فقال الرجل: والذي بعثك بالحق لا أزيد عليها أبدًا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أَفْلَحَ الرُّوَيْجِلُ».

حقيقة القراءة:

والذي يقرأ القرءان مُتَعَلِّمًا كالذي يقرأه مُؤْتَجِرًا؛ في أنَّ كل واحد منهما يلزمُه أن يكون له مُتَدَبِّرًا، وفيه مُتَفَقِّهًا، وبه عاملًا، فما كان أَحَدٌ من الصحابة يقرأُ ءايةً ولا يتجاوزها إلى سواها حتى يَفْهَمَ معناها، وبذلك كانت كما جاءت الآثار.

 قال النبي صلى الله عليه وسلم: «أيكم يُحِبُّ أن يغدو كل يوم إلى بُطْحان أو العَقِيق فيأتي بناقتين كَوْمَاوَيْنِ في غير إِثْمٍ ولا قطيعة رَحِمٍ؟ قالوا: يا رسول الله، كلنا نحب ذلك، قال: أفلا يغدو أَحَدُكم إلى المسجد فيَعْلَمُ أو يقرأ ءايةً أو ءايتين من كتاب الله؛ خَيْرٌ له من ناقة أو ناقتين، وثلاثٌ خَيْرٌ له من ثلاث، وأَرْبَعٌ خَيْرٌ له من أربع، ومن أعدادِهِنّ من الإبل».

وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أيحب أحدكم إذا رجع إلى أهله أن يَجِدَ فيه ثَلَاثَ خَلِفَاتٍ عِظَامٍ سِمَانٍ؟ قلنا: نعم، قال: فثلاثُ ءايات يقرأ بهن أحدُكم في صلاته خَيْرٌ له من ثلاث خَلِفات عِظَامٍ سِمَانٍ».

وقَوْلُه في هذا الحديث: «يَقْرَأُ ويَعْلَمُ» سواءٌ؛ لأنَّ من قرأ ولم يَعْلَمَ واقتصر على التلاوة دون عَقْلِ المَتْلُوِّ وفِقْهِه فقد خاب سعيَه، وأُفِنَ رأيَه، وغَبِنَ نفسَه، وسَفِهَ عقلَه.

وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم ذَمُّ ذلك في حديثين عظيمين صحيحين:

أحدهما: قوله صلى الله عليه وسلم: «إنكم في زمان كثير فقهاؤه، قليل قراؤه، يَحْفَظُونَ فيه حدود القرءان، ويُضَيِّعُون حروفه، وسيأتي على الناس زمانٌ كثيرٌ قراؤُه، قليلٌ فقهاؤُه، تُحْفَظُ فيه حروفُ القرءان، وتُضَيَّعُ حدودُه».

 الثاني: قوله صلى الله عليه وسلم: «يَخْرُجُ من ضِئْضِئِ هذا -وفي رواية: من قبل المشرق- قَوْمٌ يقرؤون القرءان لا يُجَاوِزُ حناجرهم، يَمْرُقُونَ من الدِّينِ مُرُوقَ السَّهْمِ من الرَّمِيَّةِ»، وذَكَرَ الحديث، فذَمَّهُم على التلاوة دون العمل، وهُمْ يَدَّعُونه ولا يعقلونه، ويقولون: «كتابُ الله إِمَامُنا»، وقد نبذوه وراء ظهورهم.

وقد صحَّ أنَّ ابن عمر أقام على البقرة ثماني سنين يتعلمها.

 وقد قال العلماء: «فيها أَلْفُ أَمْرٍ، وأَلْفُ نَهْيٍ، وأَلْفُ حُكْمٍ، وأَلْفُ خَبَرٍ»، وقال ابن مسعود: «من أراد العلم فليُثَوِّرِ القرءان، فإنَّ فيه عِلْمَ الأوَّلين والآخِرِين».

صِفَةُ التَّعْلِيمِ:

وقد بيَّنَّا في كتاب «قانون التأويل» كيف يُقْرَأُ القرءان ويُعْلَمُ ويُعَلَّمُ، وقد كان عِلْمُ الألفاظ ومدلولاتها عند الصدر الأوَّل؛ لأنهم كانوا عَرَبًا عَرْبَاءَ؛ يعرفون معاني الألفاظ ومقاطع الكلام، ثم اختلط الخلق حتى فَسَدَتِ الأَلْسُنُ، وضَلَّتِ القلوب عن الحقائق حتى فسدت المعاني، فتعيَّن علينا -والحالةُ هذه- أن نبدأ بعِلْمِ الألفاظ؛ على وَجْهِ دِلَالَتِهَا على مدلولها، وأن نعلم مقاطع التعبير عنها؛ وهي الفصاحةُ التي يتميز بها لسانُ العرب الذي ورد القرءان به، وهو الذي نحاول معرفته.

 فينبغي أن يُنَشَّأَ الطفل على تعليم العربية ومقاطع الكلام، ويُحَفَّظَ أشعار العرب وأمثالها، ويُلْقَى إليه من الحساب ما يُقِيمُ به دينه، ويكون دُسْتُورًا لعِلْمِ الفرائض، واستخراج المعلوم من المجهول، ففيه منفعةٌ في الدين، وتمرينٌ للأفهام، ويُدَرَّسُ من القرءان المفصَّل عند استقلاله ببعض هذه المقاصد، حتى إذا رَوِيَ من هذا الغرض مشى إلى العالم فأقرأه القرءان بتفسيره، ودرَّسه إيَّاه بمعناه، ويأخذه به من أوَّله، فلا يخطئ في وجهين:

 أحدهما: أن يُعَلِّمَهُ القرءان منكوسًا، ولا يقرأه كذلك إلَّا منكوس القلب.

 والثاني: أن يُحَفِّظَ الصبيَّ كتاب الله وهو لا يَعْقِلُ منه حَرْفًا، فيتكلَّف استظهارَ ما لا طاقة له به، وإنَّما يَمُرُّ عليه كالعربي يحفظ التوراة بالعِبْرَانيَّة.

 وإن عَقَلَ الصَّبِيُّ منه الألفاظ المستعملة عنده «كجاء» و«قام» و«قَعَدَ» و«جَلَسَ» لم يَقْدِرْ على رَبْطِها بما يتَّصلُ به، ولا فهْم ما تقتضيه فيما انتظمت معه.

فإن قَدَّرَ الله ونظرتُم في شيء من التفسير فأُحَذِّرُكم أنَّ كُتُبَ التفسير مشحونة بالأحاديث الموضوعة والمقاصد الفاسدة، فلا تقرؤوا منها إلَّا الـمُسْنَدَاتِ؛ «كتفسير عبد الرزَّاق»، و«ابن المنذر»، و«الطبري» لمن أراد أن يَتَبَحَّرَ، وأمَّا هذه المجموعات من غير أسانيد؛ فإنها مُشْتَمِلَةٌ على مَغْوَاة، لا يكون لأَحَدٍ معها نجاة، منها ما وَقَعَ فيها مؤلفوها غفلة، ومنها ما اعتمدوه جهالة، وأَسْلَمُ ما في هذه المختصرات «كُتُبُ أبي الحسن الحَوْفِي»؛ التي ترجمها لبعض ملوك الأندلس ابنُ عمَّار المهدوي باسمه، أيَّان ورد عليها؛ عام المجاعة الكبرى، منذ تسعين عامًا، فقد قرأتُها «بالثَّغْرِ المحروس» و«الفُسْطَاط»، ولم أَرَ فيها مُنْكَرًا.

وإيَّاكم و«كُتُبَ القَصَصِ»، فإنكم بقِلَّةِ تَمَـرُّنِكُم بالعلوم تَتَجَرَّعُونَ منها الغُصَصَ، أمَّا في الدنيا فبالجهالات، وأمَّا في الآخرة فإنه يُخاف عليكم أن يُقال فيكم: ﴿وَقِفُوهُمُۥٓ إِنَّهُم مَّسْـُٔولُونَ﴾ [الصافات:24] عن اقتدائهم بالذين لا يعلمون».

——————-

سراج المريدين: 2/105-113.

 د. محمد صالح المتنوسي

  • باحث بمركز الإمام أبي عمرو الداني للدراسات والبحوث القرائية المتخصصة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق