مركز الإمام أبي عمرو الداني للدراسات والبحوث القرائية المتخصصةشذور

درر قرآنية (11): نكتة في ذكر كلمة «شهر» مضافا إلى رمضان في القرآن، وعدم ذكرها في بعض الأحاديث

الحمد لله الذي فرض علينا صوم رمضان، ووعد من صامه إيمانا واحتسابا بالمغفرة والرضوان، والصلاة والسلام على محمد سيد ولد عدنان، وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان، في كل حين وآن.

وبعد:

فقد أهل علينا شهر رمضان المبارك، ومن بركات هذا الشهر الفضيل أن نزول القرآن العظيم كان فيه، قال جل ذكره: «شَهْرُ رَمَضَانَ اَ۬لذِےٓ أُنزِلَ فِيهِ اِ۬لْقُرْءَانُ هُديٗ لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَٰتٖ مِّنَ اَ۬لْهُد۪يٰ وَالْفُرْقَانِ» [البقرة: 184]، ومن بركاته أيضا أن وعدَ اللهُ صائمَه بالغفرانِ لما تقدم من الذنوب والآثام، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من صام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه»(1).

ولِسائل أن يسألَ: لم ذُكرت كلمة «شهر» في الآية الكريمة، ولم تذكر في الحديث النبوي الشريف؟

والجواب عن هذا هو ما أفاده الإمام أبو القاسم عبد الرحمن بن عبد الله السهيلي (ت581ه‍)، رحمه الله، دفين مدينة مراكش، في بحث قيم، في كتابه الماتع: «نتائج الفكر»، ثم بعد تحريره للمسألة، قال رحمه الله: «فإذا فهمت فَرق ما بينهما، بعد تأمُّلِ هذه الفصول وتدبُّرها، ثمَّ لم تعدل عندك هذه الفائدةُ جميعَ الدنيا بأسرِها، فما قدَرتها حقَّ قدرِها.

والله المستعان على واجب شكرها». وإليكم كلام الإمامِ السهيلي كاملا.

قال رحمه الله(2): «واعلم أنه ما كان من الظروف له اسم علمٌ، فإن الفعل إذا وقع فيه تناول

جميعَه، وكان الظرف مفعولاً، على سعة الكلام. فإذا قلتَ: «سِرْتُ غَدْوَةً» فالسير وقع في الوقت كلِّه. وكذلك: «سِرْتُ السَّبْتَ وَالجُمُعَةَ»، و«سِرْتُ المحَرَّمَ وصَفَرَ».

وكلُّ هذا مفعولٌ على سعة الكلام لا ظرف للفعل، لأن هذه الأسماء لا يطلبها الفعل ولا هي في أصل موضوعها زمان، إنما هي عبارة عن معان أخر، فإن أردت أن تجعل شيئا منها ظرفاً، ذكرت لفظ الزمانِ وأضفتَه إليها، كقولك: «سِرْتُ يَوْمَ السَّبْتِ، و«شَهْرَ المحَرَّمِ».

فالسير واقعٌ في الشهرِ، ولا يتناولُ جميعَه إلا بدليلٍ، والشَّهر ظرفٌ، وكذلك اليومُ.

قال سيبويه(3): «ومما لا يكون الفعل إلا واقعاً به كلَّه: «سِرْتُ المحَرَّمَ وصَفَرَ». هذا معنى كلامه.

وإذا ثبت هذا، فرجب ورمضان وأشباهُهما أسماءُ أعلامٍ إذا أردتهما لعام بعينِه، أو كان في كلامك ما يدلُّ على عام تضيفُهما إليه. فإن لم يكن ذلك صار الاسم نكرة، تقول: «صُمْتُ رَمَضَانَ ورَمَضَاناً آخرَ»، و«صُمْتُ الجمُعَةَ وجُمُعَةً أُخْرَى»، إنما أردت جمعةَ أسبوعِك ورمضانَ عامِك.

وإذا كان نكرة لم يكن إلا شهراً واحداً، كما تكون النكرة في قولك: «ضَرَبْتُ رَجُلاً»، إنما تريد واحداً. وأما إذا كان معرفةً يكون بما يدلُّ على التمادي وتوالي الأعوام، لم يكن حينئذٍ واحداً، كقولك: «المؤمنُ يصومُ رمضانَ»، فهو معرفة؛ لأنك لا تريده لعام بعينِه، إذ المعنى: يصوم رمضان من كل عام على التمادي، وذِكرُ الإيمانِ قرينةٌ تدل على المراد، ولو لم يكن في الكلام ما يدل على هذا، لم يكن مَحملُه إلا على العام الذي أنت فيه، أو عامٍ تقدم له ذكر.

وإذا ثبت هذا فانظر إلى قوله سبحانه: «شَهْرُ رَمَضَانَ اَ۬لذِےٓ أُنزِلَ فِيهِ اِ۬لْقُرْءَانُ». وقال صلى الله عليه وسلم: «من صامَ رمضانَ إيماناً واحتساباً»، وقال: «إذا دخلَ رمضانُ فُتحتْ . .». الحديث. وترك لفظ «الشهر»(4).

ومحالٌ أن يكون فعلُ ذلك إيجازاً واختصاراً؛ لأن القرآن أبلغُ إيجازاً وأبينُ إعجازاً، ومحالٌ أيضاً أن يدع، عليه السلام، لفظَ القرآن مع تحريه لألفاظه، وما عُلِمَ من عادته من الاقتداء به، فيدع ذلك لغير حكمة، بل لفائدة جسيمةٍ ومعان شريفةٍ اقتضت الفرقَ بين الموضعين، وقد ارتبكَ الناسُ في هذا الباب، فكرهت طائفةٌ منهم أن يقولوا: «رمضان» ولا «شهر رمضان». واستهوى ذلك الكتاب. واعتان بعضهم في ذلك برواية منحولة إلى ابن عباس، رضي الله عنه، أن رمضان اسم من أسماء الله تعالى، ولذلك أضيف إليه الشهر، وبعضهم يقول: إن رمضانَ من الرَّمضاء، وهو الحرُّ، وتعلق الكراهية بذلك، وبعضهم يقول: إنما هذا استحباب واقتداء بلفظ القرآن(5).

وقد اعتنى بهذه المسألة أبو عبد الرحمن النسويّ، لعلمه وحذقه فقال في مصنفه: «باب جواز أن يقال: دخل رمضان، أو: صمت رمضان»(6). وذلك فعل البخاري(7) وأورد الحديث المتقدم.

وإذا أردت معرفةَ الحكمة والتحقيق في هذه النكتة، فقد تقدم أن الفعل إذا وقع على هذه الأسماء الأعلامِ فإنه يتناول جميعَها، ولا يكون ظرفا مقدراً بـ«في» حتى يُذكرَ لفظُ الشهر أو اليومِ الذي أصلُه أن يكون ظرفاً. وأما الاسم العلمُ فلا أصل له في الظرفية. 

وإذا ثبث هذا فقوله سبحانه: «شَهْرُ رَمَضَانَ اَ۬لذِےٓ أُنزِلَ فِيهِ اِ۬لْقُرْءَانُ»؛ في ذكر الشهر فائدتان، وربما كانت أكثر من ذلك:

الأولى: أنه لو قال: «رمضان الذي أنزل فيه القرآن»، لاقتضى اللفظُ وقوعَ الإنزال على جميعه، كما تقدم من قول سيبويه. وهذا خلاف المعنى؛ لأن الإنزال كان في ليلة واحدة منها، في ساعة منها، فكيف يتناول جميعَ الشهر؟. فكان ذكر الشهر، الذي هو غيرُ علم، موافقاً للمعنى، كما تقول: «سِرْتُ في شَهْرِ كَذَا». فلا يكون السيرُ متناولاً لجميع الشهرِ.

والفائدة الأخرى: أنه لو قال: «رمضان الذي أنزل فيه القرآن» لكان حكمُ المدح والتعظيمِ مقصوراً على شهر واحدٍ بعينِه، إذْ قد تقدّم أن هذا الاسمَ وما هو مثله، إذا لم تقترن به قرينةٌ تدلُّ على توالي الأعوام التي هو فيها، لم يكن محملُه إلا العام الذي أنت فيه، أو العام المذكور قبله. فكان ذكر الشهر، الذي هو الهلال في الحقيقة، قال الشاعر(8):

وَالشَّهْرُ مِثْلُ قُلَامَةِ الظُّفْرِ

يريد: الهلال؛ فكان ذكرُه مضافاً إلى «رمضان» مقتضياً لتعليق الحكم الذي هو التعظيم بالهلال، والشهرِ المسمى بهذا الاسم، متى كان، وفي أي عام كان. مع أن «رمضان» وما كان مثلَه، لا يكون معرفة في مثل هذا الموطن، لأنه لم يُرد العام بعينِه، ألا ترى أن الآية في سورة البقرة، وهي من آخر ما نزل. وقد كان القرآن أنزل قبل ذلك بسنين.

ولو قلت: «رمضان حجَّ فيه زيدٌ»، تريد فيما سلف، لقيل لك: «أيّ رمضان كان؟».

ولزمك أن تقول: «حجَّ في رمضانَ من رمضانات»، حتى تريد عاماً بعينه، كما سبق.

وفائدة أخرى في ذكر «الشهر»، وهو التبيين في الأيام المعدودات؛ لأن الأيامَ تتبينُ بالأيام، وبالشهر ونحوه، ولا تتبين بلفظ «رمضان»؛، لأنه لفظ مأخوذ من مادة أخرى، وهو أيضاً علَمٌ فلا ينبغي أن تبين به الأيام المعدودات، حتى يذكرَ الشهر الذي هو في معناها، ثم تضافَ إليه.

وأما قوله صلى الله عليه وسلم: «من صام رمضان»، ففي حذف الشهر، وتركِ ذكره فائدةٌ أيضاً، وهو تناولُ الصيام لجميعِ الشهرِ، فلو قال: «من صام شهر رمضان»، لصار ظرفاً مقدراً بـ«في»، ولم يتناول الصيام جميعَه. فرمضان في هذا الحديث مفعول على السعة، مثل قوله تعالى: «قُمِ اِ۬ليْلَ إِلَّا قَلِيلاٗ» [المزمل: 1]؛ لأنه لو كان ظرفاً لم يحتج إلى قوله: «إِلَّا قَلِيلاٗ».

فإن قيل: فينبغي أن يكون قولُه: «من صام رمضان» مقصوراً على العام الذي هو فيه، لما تقدم من قولكم: إنه إنما يكون معرفة علماً إذا أردته لعامِك أو لعامٍ بعينِه؟.

قلنا: قوله: «من صام رمضان» على العموم، خطابٌ لكل قرنٍ ولأهل كلِّ عامٍ، فصار بمنزلة قولك: «من صام كلَّ عام رمضان غفر له»، كما تقول: «إن جئتني كل يوم سحراً أعطيتك»، فقد اقترنت به قرينةٌ تدلُّ على التمادي، وتنوبُ مناب ذكرِ كلِّ عام. وقد اتضح الفرق بين الحديث والآية.

فإذا فهمت فرق ما بينهما بعد تأمل هذه الفصول وتدبرها، ثم لم تعدل عندك هذه الفائدةُ جميعَ الدنيا بأسرها، فما قدَرتها حقَّ قدرِها. والله المستعان على واجب شكرها».

  1.  أخرجه البخاري في كتاب الإيمان في باب «صوم رمضان احتسابا من الإيمان»، وأخرجه مسلم في كتاب صلاة المسافرين في باب: «الترغيب في قيام رمضان، وهو التراويح» من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
  2.  نتائج الفكر ص293-297.
  3.  ينظر الكتاب: 1/216-217.
  4.  أخرجه البخاري في كتاب الصوم، باب هل يقال رمضان أو شهر رمضان، وأخرجه مسلم في كتاب الصيام، باب فضل شهر رمضان.
  5.  ينظر: فتح الباري 4/113.
  6.  المجتبى 4/130، والسنن الكبرى 3/97 وفيهما: «الرخصة في أن يقال لشهر رمضان رمضان».
  7.  باب: هل يقال رمضان أو شهر رمضان، ومن رأى كله واسعا، من كتاب الصوم.
  8.  قال الخطابي في غريب الحديث 1/130 قال الشاعر أنشده الفقعسي، فذكره، وقال في معالم السنن 2/ 97: وأنشد ابن الأعرابي.

ذ.سمير بلعشية

  • باحث بمركز الإمام أبي عمرو الداني للدراسات والبحوث القرائية المتخصصة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق