مركز دراس بن إسماعيل لتقريب المذهب والعقيدة والسلوكشذور

تصحيح مفاهيم خاطئة(5) حديث: “لا عَدْوَى وَلاَ طِيَرَةَ” وحديث “لاَ يُورِدَنَّ مُمْرِضٌ عَلى مُصِحٍّ” وحديث”فِرَّ مِنَ المَجْذُومِ فِرَارَكَ مِنَ الأسَدِ” جمع بين التوحيد والحكمة.

قال الإمام سيدي الحسن اليوسي رحمه الله:

 واعلم أن هذه الأمور العادية يضل فيها العامة والقاصرون من الخاصة.

 أما العامة فإنهم إذا رأوا شيئاً عند شيء نسبوه إلى ذلك الشيء، وغفلوا عن الله تعالى، ولم يعلموا أن الله تعالى هو الفاعل وحده، ولا تأثير لشيء من الكائنات بحال، فوقعوا في الشرك، وفاتَهُم التوحيد. وأما القاصرون من الخاصة المعتقدين لانفراد المولى تعالى بالفعل وأن لا شريك له فإنهم يجرون على هذا المعنى، وينكرون حكمة الله تعالى في أرضه وسمائه.

 فإذا قيل لهم: إن هذا الشيء يكون عند وجود هذا السبب قالوا: هذا لا معوَّل عليه، فإن السبب لا تأثير له، ووجوده وعدمه سواء. وهذا أيضاً جهل عظيم، فإن الله تعالى كما أنه قادر مريد لا شريك له، كذلك هو حكيم يفعل أشياء عند أشياء، ويُرتِّب أسباباً ومسببات حكمةً منه تعالى ورفقاً بعباده في تأنيس نفوسهم بالأسباب المشهودة. فإن الإيمان بالغيب وانتظاره عسير عليها، وابتلاء لهم ليتميز من انخرقت له الحجب فأبصر الحق، ومن حُجِب بها فتَاهَ في أودية الضلال. نسأل الله تعالى العافية.

 ألا ترى إلى ما جعل تعالى لعامة الخلق من الشبع عند الأكل والري عند الشرب، والتدفّي عند اللبس، والراحة عند الركوب، واللّذة المخصوصة عند الوقاع، وهكذا مما لا يُحصى، وكل ذلك يجوز من الله تعالى أن يخلقه بلا شيء، فهل ينكر أحد من العقلاء هذه الحكمة فيقول مثلاً: إن الطعام لكونه لا تأثير له، وجوده وعدمه سواء، ويستجهل من يأكل ليشبع، وكذا ما جعله الله تعالى من المنفعة في الأدوية والعقاقير وما لها من الخواص، وأَلْهم ذلك الأطباء وأهل التجاريب، فهل ينكر أحد ذلك؟ وكذا ما نحن فيه من كل أمر جرت العادة بوجود شيء عنده، فلا ينكر بل يعتقد حكمة من الله تعالى مع صحة التوحيد، وهو أن لا ينسب إليه أثراً أكثر من أن وجوده سبب لبروز القضاء الأزلي عنده لا به، فمن نسب إلى شيء دون الله تعالى تأثيراً في وجود شيء أو عدمه فهو مشرك، ومن أنكر الحكمة المودعة في قوالب الكائنات فهو جاهل أعمى البصيرة، ولو لم يكن إلاّ جموده عن إدراك ما جرت به العادات وأفصحت به التجريبات لكان أمراً سهلاً، ولكنه إنكار لحكمة المولى سبحانه وبديع تصرفه في الكائنات الدال على إحاطة العلم والمشيئة بالمصالح والمنافع والمضار وعظمة الملك، فهو ينظر بإحدى العينين دون الأخرى …

والناس في نحو هذا ثلاثة:

شخص يعتبره أخذاً وتركاً مع الغفلة عن الله تعالى، إما مع نسبة التأثير إلى السبب وهم المشركون، وإما بلا نسبة ولكن استغراقاً في الركون إلى الأسباب والالتفات إلى الأغيار، وهو من الغافلين.

 وشخص لا يعتبره أصلاً استغراقاً في التوحيد والتوكل على الله تعالى والفناء عن الأسباب لا إنكاراً للحكمة، وهذا لا بأس به، وإذا صح توكله وتجرده عن الأسباب فذلك سبب لنجاته بفضل الله تعالى من مقتضيات العادة …

 وشخص يعتبر ذلك تأدباً مع الله تعالى في مراعاة الحكمة الجارية مع صحة العقيدة وصحة التوكل على الله تعالى عند الأسباب لا على الأسباب وهذا هو الكامل.

وكان صلى الله عليه وسلم يعالج ويستعمل الرُّقي …

إذا علم هذا كله فكل ما ورد من نصوص الشريعة وأقوال أهل الدين وفعلهم يتنزل على هذا، وبما قررنا يعرف عذر من اعتبر شيئاً من ذلك وعذر من لم يعتبر.

 وفي الحديث: “لا عَدْوَى وَلاَ طِيَرَةَ” فالحق عندنا في تأويله “أنه” إثبات لانفراد المولى جل وعز بكل التأثير، وأن لا تأثير لشيء مما يتوهم العرب أنه مؤثر، لا في باب العَدْوى ولا في باب الطِّيَرَة. لا أنه نفي لما جرت العادة بوجوده عند ذلك بإذن الله تعالى،وهذا هو الجمع بين التوحيد والحكمة،وهو جمع بين الحقيقة والشريعة في المعنى، وقوله صلى الله عليه وسلم: “وَفِرَّ مِنَ المَجْذُومِ فِرَارَكَ مِنَ الأسَدِ” وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم: “لاَ يُورِدَنَّ مُمْرِضٌ عَلى مُصِحٍّ” أي ذو الإبل المريضة على ذي الإبل الصحيحة يحتمل معنيين: أحدهما “أنه” سدّ للذريعة بمعنى أنه ترك ذلك مخافة أن يقع شيء “بإذن الله” فيظن من وقع له أو غيره أنه ناشئ عن ذلك السبب فيقع في الشرك، الثاني أنه إثبات لما جرت به العادة من حكمة الله تعالى كما قررنا، فيعتبر ذلك شرعاً ولو لم يكن إلاّ تنزهاً عن تغيير القلوب وإذاية الناس…

ولا بد من التنبيه في هذا الباب لأمور: منها أن هذه الأسباب الحكميّة قسمان: قسم ظاهر، وهو ما يرجع إلى قوام الإنسان في معاشه غذاء ودواء، مباشرة أو بواسطة قريبة أو بعيدة كما في التمثيل ببعضه، وقسم خفي، وهو ما لم يصل إلى تلك المنزلة بذاته، وإن كان له بها مساس، فالأول لا ينكر على من يتعاطاه لوضوحه، والثاني هو الذي يقع فيه الإنكار كما مرّ كل ذلك.

ومنها أن الأمر العاديّ كما أنه لا تأثير فيه إلاّ لله تعالى كذلك لا ارتباط فيه عقلاً، وإنما هو أمر يجعله الله تعالى وتستمر عادته تعالى به اختياراً منه، ومتى أراد أن يخرقه خرقه، كما شوهد ذلك في معجزات الأنبياء، وكرامات الأولياء، وسحرة السحرة، فكل ذلك خرق من الله تعالى لحكمة كما أجراه أولاً لحكمة…

وهذا هو الذي قررناه قَبْلُ من تحقيق التوحيد وليس فيه إنكار العادة الجارية….

وهي كلها عادات جارية بإذن الله تعالى، والمتنبهون إليها المعتبرون لها منهم من آمن ومنهم من كفر، والمقياسُ الحديثُ السابقُ على ما مرّ من تفصيل أحوال الناس.

المحاضرات في الأدب واللغة، تأليف الحسن اليوسي( ت: 1102)، الطبعة الثانية،2006، دار الغرب الإسلامي، تحقيق: محمد حجي، أحمد الشرقاوي إقبال،  ج1، ص (235/246).

Science

الدكتور عبد الله معصر

• رئيس مركز دراس بن إسماعيل لتقريب المذهب والعقيدة والسلوك بالرابطة المحمدية للعلماء.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق