وحدة الإحياءدراسات عامة

خصوصية النموذج الأخلاقي في التصور الإسلامي

تمهيد

يروم هذا العرض الإسهام في توضيح معالم النموذج الأخلاقي في التصور الإسلامي محاولا بسط أبرز الأسس التي ينبني عليها هذا النموذج وأهم الخصائص المميزة له عن القانون الأخلاقي الغربي، وذلك وفق مقاربة مثبتة ركائزها في نطاق فلسفة الدين واستنادًا إلى منهج تحليلي مقارن، لأجل تشييد تصور مخصوص لهذا النموذج مع تقديم جملة من الخلاصات المتعلقة بالموضوع.

1. المبرر الأخلاقي للوجود الإنساني

 بالانطلاق من جملة من النصوص الدينية من قبيل قوله تعالى: ﴿وما خلقت الجن والاِنس إلا ليعبدون﴾ (الذاريات: 56)، وقوله تعالى: ﴿اِنا عرضنا الاَمانة على السموات والاَرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها، وحملها الاِنسان إنه كان ظلوما جهولا﴾ (الأحزاب: 73)، وقوله عز وجل أيضا: ﴿وإذا قال ربك للملائكة إني جاعل في الاَرض خليفة، قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك، قال إني أعلم ما لا تعلمون﴾ (البقرة: 29). وقوله جل جلاله:  ﴿إن أكرمكم عند الله أتقاكم﴾ (الحجرات: 13). بالإضافة إلى قوله عليه السلام، “إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق”.

 بالانطلاق من هذه الآيات، وغيرها كثير، يبدو أن الإنسان إنما خلق لغاية واحدة هي طاعة أوامر الله التكليفية باختيار مسؤول. والتكليف الرباني هو أساس إنسانية الإنسان، وجوهر هذا التكليف هو الفعل الإنساني الأخلاقي، ولن يكون هذا الفعل الإنساني إلا أساس الوظيفة الكونية للإنسان. ومعنى هذا أن “رسالة الإنسان في هذا الكون هي ملء الوجود بالقيم[1].”

وإذا كانت القيم ثلاث درجات، كما هو معلوم؛ أولية طبيعية، ووسائلية نفعية، وأخلاقية تهذيبية، فإن قيم الدرجة الأولى محكومة بسنن كونية لا دخل للإنسان فيها، فيما قيم الدرجة الثانية محكومة بنفع لا يتجاوز هذه الحياة الدنيا، أما قيم الدرجة الثالثة فوحدها التي ينفرد الإنسان بالقابلية لتحقيقها، لكونها مبنية وجودا وعدما، على إرادته الحرة المسؤولة، وبها يصير صاحب رسالة كونية في هذه الحياة[2]، مستخلفا في الأرض (بوصفه كائنا أخلاقيا) وحاملا الأمانة الموكولة إليه.

أن يتحقق بحرية. والإنسان هو الكائن الوحيد المفطور على نحو يؤهله لفعل ذلك. فتحقق المشيئة الإلهية بالسنن الكونية التي أودعها الله تعالى في الطبيعة يقف عند حد القيمة الأولية أو النفعية، ولا يرقى إلى مصاف القيمة الأخلاقية.

و”مغزى هذه الأمانة الإلهية هي “الوفاء بالشق الأخلاقي من المشيئة الإلهية الذي يقتضي بحكم طبيعته أن تتحقق بحرية. والإنسان هو الكائن الوحيد المفطور على نحو يؤهله لفعل ذلك (…) وحده الإنسان، بقدرته على الفعل أو عدم الفعل يبقى هو المؤهل لتحقيق تلك الإرادة في التعامل مع الأمر الإلهي التكليفي[3].” وعليه يصير سعيه كله أخلاقيا.

إن هذه المهمة الجليلة، إذن، هي الغاية النهائية للوجود الإنساني كما أنها جوهر تعريف مفهوم الإنسان، ومعنى حياته ووجوده على الأرض. لذا ما كان الكون ليكون على ما هو عليه دون “الشق السامي من الإرادة الإلهية الذي هو محل السعي الأخلاقي الإنساني[4]“، وما علة تكريم الإنسان إلا لكونه متفردا بتلك المهمة؛ أي أنه بفعله وسعيه الأخلاقيين يمثل جسرا كونيا يتم من خلاله إدخال الشق الأخلاقي من الإرادة الإلهية، الأسمى من شقيها التكويني والنفعي، إلى عالم المكان والزمان وتصييره تاريخيا[5].

وبما أن للحياة الإنسانية غاية؛ أي لها معنى (فيها خير) فإن قوام هذا المعنى/الخير، في منظور الإسلام، هو تحقيق المشيئة الإلهية التي تتحقق على نحو لا إرادي في غير عالم الإنسان؛ أي (باطراد السنن الكونية) وتتحقق بذات الطريقة (اللاإرادية) في جانب عالم الإنسان، كما هو الشأن، مثلا، في وظائف الجسد الإنساني العضوية والنفسية. إلا أنها تتحقق في الشق الآخر المتعلق بالوظائف الأخلاقية على نحو إرادي حر. بالوظائف الأخلاقية تتحقق القيم الأخلاقية التي هي أسس مقومات هذا الوجود وسنام الأوامر الإلهية التكليفية[6].

حاصل الكلام مما تقدم، أن الإنسان مخلوق متفرد بإمكانية تحقيق القيمة الأخلاقية؛ لأنه الوحيد من بين المخلوقات المتمتع بالحرية المطلوبة لذلك؛ لامتلاكه العقل والرؤية المؤهلين لمثل هذه المهمة. وعليه، فتجرد الإنسان من تأدية وظائفه الأخلاقية هو تجرد في الآن نفسه من “إنسانيته” بمعناها الكامل، فيصير بذلك في مرتبة البهائم أو أحط منها ﴿كالاَنعام بل هم أضل﴾ (الأعراف: 179). مما يؤكد، بما لا يدع مجالا للشك أن “الخَلق” (بفتح الخاء) و”الخُلق” (بضم الخاء) الإنسانيين، وفق التصور الإسلامي، أمران مترابطان متلازمان وجودا وعدما. فلا مخلوقات آدمية دون أخلاق، ولا أخلاق متجلية دون مخلوقات إنسانية.

2. ملازمة الخلق للخلق

لقد تقرر في أذهان الكثيرين[7] ممن انشغلوا بمفهوم الأخلاق أنها أفعال وسلوكات تؤدي إلى السمو بالإنسان منازل لا يدخل فيها وجوده ولا تتحدد بها هويته. ومن ثمة  تكون أفعالا وسلوكات تقترن بما هو زائد (فاضل) على وجوده وهويته. ودليل ذلك الاسم الذي اشتهر بالدلالة على الأخلاق الحسنة وهو “الفضائل”؛ إذ الفضيلة من الفضل؛ أي “ما زاد عن الحاجة” أو “ما بقي من الشيء بعد الوفاء بالحاجة” أو “الصفة التي يكمل المرء بواسطتها”. كما هو مقرر في الأصل اللغوي اليوناني[8].

الأمر الذي يجعل الأخلاق منظورا إليها بوصفها كمالات (زوائد) يمكن الاستغناء عنها وتركها دونما مساس بهوية الإنسان أو تقويض لوجوده. والحال أنها “ضرورات” لا تقوم هوية المرء إلا عليها ولا يستقيم وجوده إلا بها. ولا أدل على ذلك من أن الإنسان لو أتى ضدها؛ أي ساءت أخلاقه، لعد لا في الأنام وإنما في الأنغام[9].

وعلى هذا يتعين اعتبار الأخلاق داخلة في تحديد هوية الإنسان محددة لماهيته، كما يقتضي جعل وجود الإنسان مقترنا بوجود الأخلاق لا سابقا لها أو متقدما عليها. ودليل هذا أن الإنسان أصلا خليقة، وحد الخليقة أن تكون في آن واحد خلقا وخلقا. ومثلما أن الخلق يمر بأطوار، فكذلك الخلق يتقلب في أحوال، وكما أن الخلق يبدأ في غيب الأرحام قبل الخروج إلى الوجود، فمثله الخلق يبدأ في الأرحام قبل أن يتجسد في عالم السلوك كما يستفاد من قوله تعالى: ﴿لقد خلقنا الاِنسان في أحسن تقويم﴾ (التين: 4). (التقويم الخلقي/التقويم الأخلاقي)؛ بمعنى أنه على نحو ما يكون الخلق قويا عند التحقيق في عالم الوجود، يكون كذلك الخلق قويا في عالم السلوك. وبعد الخروج إلى الوجود والدخول في السلوك يبقى الفعل الخلقي غير مفصول عن الفعل الخلقي. أو لنقل يصير الفعلان فعلا واحدا “فضرورة الخلق للإنسان كضرورة خلقه،سواء بسوء؛ إذ لا إنسانية بغير أخلاقية[10].”

3. مرتكزات النموذج الأخلاقي الإسلامي

لاشك أن من أهم ما يتأسس عليه النموذج الأخلاقي في المنظور الإسلامي جمعه بين “سبيل الإلزام” المتمثل في عدد من الأوامر والنواهي التي توجه الإنسان من الخارج من جهة و”سبيل الاعتبار” المتمثل فيما يستبطنه من معان وقيم مما يجري حوله سواء كان قولا أو فعلا[11] الأمر الذي يجعله مخلوقا يعيش في جو من “الرقابة والالتزام” يؤهلانه لحيازة قدر عال من الانضباط سواء في علاقته بذاته أو بربه أو بمن (ما) حوله. ونحسب أنه لا يمكن أن يتحقق هذا المقصد إلا بوجود جملة مقومات أبرزها:

أ. اقتران الأخلاق بالدين

إذا نظرنا إلى الدين على أنه “معرفة الحق الأعلى وتوقيره وعلى الخُلق (بضم الخاء) باعتباره قوة النزوع إلى فعل الخير ولجم النفس عن الهوى واتقاء الشهوات، فإننا نكون أمام فضيلتين: إحداهما نظرية، والأخرى عملية. ولما كانت الفضيلة العلمية يمكن أن تتناول حياة الإنسان في نفسه وفي مختلف علاقاته مع الخلق والخالق، فإن القانون الأخلاقي الكامل هو الذي يرسم طريق المعاملة الإلهية كما يرسم طريق المعاملة الإنسانية.

وكذلك لما كانت الفكرة الدينية الناضجة هي التي لا تجعل من الألوهية مبدأ تدبير فعال فحسب، بل مصدر حكم وتشريع في الوقت نفسه. لما كان ذلك كذلك، كان القانون الديني الكامل هو الذي لا يقف عند حد وصف الحقائق العليا النظرية وإغراء النفس بحبها وتقديسها، بل يمتد إلى وجوه النشاط المختلفة فيضع لها المنهج السوي الذي يسير عليه الفرد والجماعة[12]. وهكذا “يصل القانون الديني إلى بسط جناحيه على علم الأخلاق كله، بل سائر القوانين المنظمة لعلاقات الأفراد والشعوب بحيث يجعلها جزءًا متمّما لحقيقته ويصبغ كل قواعدها بصبغة القداسة[13].”

إن العقيدة، باعتبارها المصدر الرئيس للإحساس بقدسية القوانين الأخلاقية، هي أقوى دافع للإنسان إلى الأعمال الايجابية الخيرة وأقوى رادع يكفه عن اتباع الهوى. وبهذا يظهر مدى تفوق العقيدة الدينية في ضبط الحياة الإنسانية إذا قورنت بالقانون الواقعي؛ لأن القانون مجردا عن الدين لا يكفي لتقوم السلوك البشري.

على هذا الأساس يستحيل في نظر الإسلام الفصل بين الأخلاق والدين؛ لأن الأخلاق مؤسسة بالكلية عليه، لذا لا يعرف التصور الإسلامي أية ثنائيات من قبيل الأخلاق “النظرية والأخلاق العملية”، أو “الأخلاق النسبية والأخلاق” المطلقة الخ. ودليل هذا أن “المبدأ الأول للمعرفة الإسلامية هو وحدة الحق، كما أن مبدأ الحياة البشرية يعود إلى نفس واحدة هي آدم عليه السلام. والمبدأ الأول للوجود هو وحدانية الله تعالى، وكل هذه الوحدات الثلاث مترابطة على نحو لا يقبل الانفصام[14].”

وإذا صح ذلك صح معه كذلك أن أسباب الأخلاق موصولة بأسباب الدين لدرجة لا يمكن رسم حدود بينهما؛ لأن الأخلاق إنما هي أول الأفعال التي تصدر عن ملكات الإنسان فتصير بصفتها تلك أكثر من غيرها تجذرا في الحقيقة الدينية، أو لنقل في مجال الدين، من حيث هو مجال تلتقي فيه المفاهيم الإنسانية والمعنوية والغيبية[15].

ب. ارتباط الأخلاق بجوهر الإنسان وسائر أفعاله

ما يميز الأخلاق في النموذج الإسلامي اتصالها بمختلف جوانب الإنسان سره جهره، باطنه وظاهره، فرده وجماعته، عاجله وآجله؛ أي ارتباطها بكل فعل يأتيه الإنسان سواء كان معنويا مجردا أم ماديا مجسدا، وسواء كان داخلا في نطاق دائرته الشخصية الضيقة أم مندرجا ضمن الدائرة الإنسانية الواسعة، من منطلق أنه “لا حدود للتكليف الذي وضع على كاهل الإنسان فيما يتعلق بمجال وبمسرح الفعل الداخلين في حدود استطاعته ووسعه في الكون كله. فالفعل الأخلاقي خاص بالجنس البشري كله، ومادته ومسرحه هو كل ما في السماوات والأرض. والإنسان مسؤول عن كل ما يحدث في الكون، حتى في أبعاد أرجائه لذا فالتكليف الذي تحمله الإنسان عام وكوني ولا ينتهي إلا يوم القيامة[16].”

وبهذا يصير المرء، ضمن هذا التصور، في منأى عن ظلم نفسه والإضرار بذاته (من حيث هو ذات معزولة) من جهة، وفي منأى عن ظلمه لقرينه في الخلق وضرره  به (بوصفه عضوا داخل الجماعة) من جهة أخرى. لكون أخلاقية الإنسان، هاهنا، إنما تنبثق من “الإيمان بمعية الله تعالى” الذي يعني استحضار وجود الحق والقيمة اللذين يؤسس الإنسان دعوى استخلافه وسعيه عليهما.

ولا شك أن “هذا الوعي، من جانب الإنسان، يأسر لبه تجاه نفسه والعالم من حوله على الفور؛ فهو وعي يتملك نفس صاحبه على نحو يملأها بالخوف والرجاء معا. ومن شأن استيلاء هذا الوعي على نفس الإنسان أن يحيا حياته كلها، بما فيها أدق أسراره الشخصية، في ظل مراقبة الله الذي لا تغرب عن علمه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء، ووفق المعايير المتمشية مع الإرادة الإلهية المتعلقة بكل ما في الوجود، وفي ظل الإحساس بحساب وشيك ينتظره، موازين العدالة فيه مطلقة، لا يمكن تصور وضعية أكثر من هذه الوضعية في الانضباط الذاتي الكامل والتحفيز الذاتي الفعال[17].”

وعلى هذا الأساس يغدو كل ما يصدر عن الإنسان من أفعال وسلوكات، بل وحتى ما يستقر في نفسه من أفكار ونوايا، محكوما بوازع الانضباط الأخلاقي المفضي إلى إتيان الواجب والالتزام به، والإقبال على الحق والتقييد به. وغير خاف أنه انضباط  مؤسس على نوعين من العلاقات، علاقة عمومية، وهي الأسمي؛ أي علاقة الإنسان بربه، ثم علاقة أفقية تابعة للأولى؛ أي علاقته بالناس والكون المحيط به.

ج. عالمية الأخلاق وعموميتها 

لما كانت الأخلاق في النموذج الإسلامي مرتبطة بالدين (العالمي) أولا، ومقترنة بسائر أفعال الإنسان ثانيا، لزم بموجب ذلك، أن تكون أيضا عالمية البعد كونية التوجه، فهي “لا تخص صلاح الفرد الواحد ولا فلاح الأمة الواحدة. وإنما تبتغي صلاح البشرية قاطبة، بل تبتغي صلاح جميع المخلوقات التي في عالم الإنسان، ذلك أنها ترفع همة الإنسان إلى أن يأتي أفعاله على النحو الذي يجعل نفعها يتعدى نفسه وأسرته ووطنه إلى العالم بأسره، بحيث تكون كل بقعة من العالم وطنا له، ويكون كل إنسان فيه أخا له، ويكون كل كائن، سوى الإنسان، نظيرا له[18]” في الخلق.

ووفقا للتصور الإسلامي فكما أن الفرد مكلف بتجاوز نفسه إلى الاهتمام بغيره، فإن المجتمع مطالب بالمثل بتجاوز نفسه إلى الاهتمام بشأن غيره. وبالتالي تصير الانعزالية سواء بالنسبة للأفراد أو المجتمعات ضربا من اللامبالاة الأخلاقية. فالمبادئ الأخلاقية التكوينية للإنسانية، تبعا للرؤية الإسلامية، ثابتة ومسلم بها لأي إنسان حتى لو كان منتميا إلى دين غير الإسلام، أو إلى ثقافة أو حضارة أخرى. وبهذا تسمو عالمية الإنسان على كل الفوارق بين الناس وتعود بهم إلى الفطرة الأولى ﴿فطرت الله التي فطر الناس عليها﴾ (الروم: 29).

وتبعا لهذا يقرر الإسلام بكل وضوح أن التفاضل مشروط بثبات صاحبه على الخير والترقي في الحكمة والصلاح وفعل الصالحات[19]. يقول تعالى: ﴿يأيها الناس إن خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا، إن أكرمكم عند الله أتقاكم﴾ (الحجرات: 13)، ويقول جل جلاله: ﴿يأيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالا كثيرا ونساء﴾ (النساء: 1)، ويقول أيضا: ﴿فأقم وجهك للدين حنيفا فطرت الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون﴾ (الروم: 29).

وإذا تبين هذا تبين معه أن المجتمع الإسلامي ينبذ النواظم الحصرية كمعايير للقيمة لكونه مجتمعا عالمي التوجه يرفض تأسيس منظومة الحقوق والواجبات على أية نواظم تخصيصية حصرية، على العكس، مثلا، مما هو حاصل في الديانة اليهودية (المحرفة) التي تتأسس على قانون أخلاقي يقضي بعدم تعدي الخير دائرة اليهود أنفسهم.

إن النقيض الحقيقي للعالمية، إذن، هو النزعة التخصصية الحصرية التي اتخذت شكل الفردانية   والقبلية في الماضي وشكل العنصرية والقومية في التاريخ المعاصر.

د. تداولية الأخلاق الإسلامية

لما كانت وظيفة الأخلاق في التصور الإسلامي ضبط سلوكات الإنسان وأفعاله، والارتقاء به إلى أسمى مراتب الصلاح وجب أن ترتبط هذه الأخلاق لا بالجانب النظري الاعتقادي فحسب، وإنما بالممارسات الواقعية. بل ليجوز القول إنه لا قيمة للأخلاق إلا إذا اقترنت بأفعال وأعمال، شأنها في ذلك شأن الإيمان: “ليس الإيمان بالتمني ولا بالتحلي وإنما ما وقر في القلب وصدقه العمل”. (الحديث)

وتبعا لهذا، نجد الإسلام لا يقف عند حد عقد النية (من حيث هي جوهر الأخلاق الإسلامية بحكم ارتباطها بجانب القصد ودافع الإنسان للعمل)، بل يربط الأخلاق بالقيام بالعمل. ولذا فإن “الالتزام الخلقي لا ينبثق من الفكرة المحضة بحيث يمكن أن تصير القوانين الأخلاقية ترفا عقليا. وإنما ينبغي أن تكون قواعد للعمل؛ لأن الاتساق بين النظر والعمل أو بين الاعتقاد والسلوك في الدين واجب، ومن ثم كان لوم القرآن الكريم لمن “يقولون ما لا يفعلون[20].”

إن القيم، إذن، لا تقتصر فقط على امتلاك الإنسان النية الصالحة تجاهها، بل يتعين عليه تجسيدها على أرض الواقع. والإنسان هو المخلوق الوحيد الذي خلقه الله تعالى لتفعيل تلك القيم. فيتعين عليه بالتالي “أن يحرك الموجودات ويعيد تشكيل الطبيعة ليجسد بها وفيها البعد الأخلاقي وفق المثال الرباني الذي عرفه بالوحي الإلهي المنزل وهو مكلف بإخراج مكنونات الوجود من حيز الكمون إلى حيز الظهور والتحقق، وبقدر نجاحه في هذه المهمة تكون سعادته الأخلاقية ويتحقق فلاحه[21].” يقول الله تعالى: ﴿فأما الذين ءامنوا وعملوا الصالحات فيوفيهم أجورهم ويزيدهم من فضله، وأما الدين استنكفوا واستكبروا فيعدنهم عذابا اَليما ولا يجدون من دون الله وليا ولا نصيرا﴾ (النساء. 172).

ولأجل هذا المقصد يؤكد القرآن الكريم على عدم رضى الله تعالى على “القعود والسلبية وعدم الفاعلية الإنسانية” ويدين العزلة والانقطاع عن العمل، حتى وإن كان المرء يسعى من وراء ذلك إلى تنمية ما بنفسه من فضائل أخلاقية كما هو الحال في الرهبانية المسيحية أو بعض الطرق الصوفية. يقول عز وجل: ﴿ورهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم﴾ (الحديد: 26).

وإذا تحقق هذا تحقق معه كذلك أن الأخلاق في التصور الإسلامي ذات بعد وظيفي عملي وليست أخلاقا نظرية “موصولة” بالاعتقاد والنظر فحسب. فلا أهمية لفعل خلقي إلا إذا لم يكن ذا أثر تنموي على الفرد والجماعة، على حد سواء، محصلا قدرا من التغيير المادي الظاهر على مستوى الذات كما على مستوى المجتمع، ومؤديا إلى قدر من التعاون والتعارف (خلق الإنسان التعارفي التعاوني) الممتدين بامتداد الزمن الإنساني، والمنفتحين انفتاح الكون البشري. مما يجعل هذا النموذج الأخلاقي نموذجا مواكبا لإيقاع الحياة وطبيعة الإنسان في حركيتهما وتطورهما؛ أي من حيث هو نموذج متجاوز لمنفعة مادية ما، أو لحظة زمنية معينة أو كائن إنساني محدد إلى منافع أوسع (دنيوية وأخروية) وأزمنة متعددة وكائنات عديدة. إنه قانون أخلاقي يتخطى الحياة الأرضية ويتجه بالإنسان إلى الله تعالى. وليس في هذا من الغرابة في شيء؛ لأن أخلاقيات الإسلام إنما تنبع من أصلين أساسيين: التوحيد أولا، والإيمان بالآخرة ثانيا.

4. صور الإلزام في النموذج الأخلاقي الإسلامي

 “يستند أي مذهب أخلاقي على فكرة الإلزام L’obligation فهو القاعدة الأساسية والمدار والعنصر النووي الذي يدور حوله كل النظام الأخلاقي، والذي يؤدي فقده إلى سحق جوهر الحكمة العملية وفناء ماهيته. ذلك أنه إذا لم يكن هناك إلزام فلن تكون هناك مسؤولية[22].”

غير أن ما يميز الإلزام في الشرائع الوضعية كونه إلزاما سطحيا ناقصا؛ لأنه يقف عند حدود الجرائم دون أن يتناول الأخلاق (إلزام تخويف وزجر وليس إلزام إصلاح) من جانب، كما ينص على الزجر بالعقوبات الدنيوية دون الأخروية أو يعتمد علة الاقتناع العقلي فحسب، من جانب آخر، على خلاف النموذج الأخلاقي في التصور الإسلامي الذي يمتاز باستكماله طرق التربية الأخلاقية التي تهذب النفس وتقومها، ومعنى الإلزام في هذا السياق “جعل المكلف يصدق ما قرر من الحق، وينفذ ما شرع من الأحكام، ويأخذ ما وصي به من مكارم الأخلاق ويعرف عما نهي عنه من مساوئها[23]” ويمكن إجمال وجوه الإلزام في القانون الأخلاقي الإسلامي فيما يأتي[24]:

أ. الإلزام العقلي

إذا كان لكل شريعة ما يميزها عن غيرها، ولكل دين ما يوصف به أكثر من سواه، فإن ما يميز الشريعة والدين الإسلاميين إلحاحها الشديد على استخدام العقل، والإكثار من التفكر في مجمل ومفصل ما يحيط بالإنسان مادة ومعنى، تحقيقا وتجريدا. والآيات القرآنية التي تحث على تحكيم العقل وترك اتباع الظن عديدة. ذلك أن عقل الإنسان في بدايته كان عاجزا أمام التجارب المحدودة أن يدرك الخير وأن يحدد مكارم الأخلاق ومساوئها، فكان الوحي الإلهي يتولى هذا التحديد بواسطة الرسل. “فقد أنزل الله سبحانه آخر كتبه على آخر رسله، وجعل للعقل بمقتضى هذه الشريعة الأخيرة السلطان الأعلى في إدراك حكمة ما حدده القرآن من المبادئ لخدمة الحق والخير ومكارم الأخلاق[25].”

وهكذا أبطل القرآن الكريم الحجر على حرية التفكير حيث كانت التقاليد الدينية قد كبلت البشرية. ولئن كان من أشرف ثمرات العقل معرفة الله تعالى وحسن طاعته والكف عن معصيته، فإن من البديهي أن يصبح الإلزام بوازع العقل في المحيط الأخلاقي أولى الأولويات؛ إذ أوضح القرآن الكريم أن الله خلق الإنسان ليعبده وأنه يريد اختباره في هذه الحياة الدنيا كما بين أنه لا إكراه في الدين، ودل على الأوامر والنواهي، لذلك كان الاقتناع العقلي بصمة القضايا العقلية والمبادئ والأحكام أول أصناف الإلزام[26].

ب. الإلزام القبلي أو وازع الضمير

إن الضمير الشخصي للإنسان هو الحكم الأساس على وضعيته الأخلاقية. ويرتبط هذا الضمير بفكرة المسؤولية من حيث هي ذات اتصال وثيق بفكرتي الواجب والجزاء. وضمير المؤمن موصول بالله سبحانه. فهو يعيش في حراسة ضميره ويقظة نفسه اللوامة. ويسمى الضمير في عرف أهل الشرع المراقبة أو خوف الله أو وازع القلب[27]. ذلك أن بإمكان الإنسان أن يخدع القانون أو يستغله لصالحه أو يتحايل عليه أو يفلت من العقاب الذي ينص عليه؛ لأن القانون من صنع الناس أنفسهم، أما ضمير الإنسان فهو بمثابة “محكمة أمن” داخل الإنسان، لا يمكن خداعها أو الإفلات منها لكونها مرتبطة برقابة عليا؛ إنها لوامة دائما، توجه إلى صاحبها إنذارات تأنيب حتى ترده إلى الخير[28].

لهذا فإن من مكونات الضمير الكبرى “الرقابة الإلهية” التي يعبر عنها القرآن الكريم في عدد من الآيات. يقول تعالى: ﴿يعلم خائنه الاَعين وما تخفي الصدور﴾ (غافر: 19).

ج. الإلزام عبر الترغيب والترهيب

   تتوزع أساليب القرآن الكريم وهي تؤسس للقانون الأخلاقي من حيث الترغيب والترهيب. فيما يتصل بالترهيب نجد الخطاب القرآني يحذر العاصي من الانتقام في النفس والأولاد، أو في المال والثمرات دنيويا، والتحذير من أهوال القيامة وعذاب النار أخرويا.

وفي جانب الترغيب وعد بخير الدنيا لمن يشكر، وحفظ النعم على من يحافظون على سلوك طريق الاستقامة، ووعد المتقين الصالحين بالجنة في الآخرة بما فيها من نعيم دائم.

د. الإلزام بواسطة الكفارات

من أساليب ردع الإنسان عن الوقوع في المنكرات ومن صور تربية الضمير، في النموذج الأخلاقي الإسلامي، تفويض الله سبحانه إلى العبد أن يعاقب نفسه جزاء بما اقترفت يداه، وتكفيرا عن بعض الذنوب، بالصوم مثلا وهو عقوبة جسدية، أو عتق رقبة أو إطعام المساكين وهي عقوبة مالية. “وهكذا يظهر لون من امتحان الإيمان وتعود الإنسان على محاسبة نفسه بعد الإقرار بذنبه والإذعان لحكم ربه، وفي هذا تربية للضمير واستحضار للرقابة الإلهية. وتعود على الإيمان، والكف عن بعض المخالفات[29].”

ﻫ. الإلزام بوازع الرأي العام

من وجوه تميز النموذج الأخلاقي في الإسلام الأخذ بمبدأ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. لقوله تعالى: ﴿كنتم خير أمة أخرجت للناس تامرون بالمعروف﴾ (ءال عمران: 110). وقول الرسول الكريم:  “من رأى منكم منكرا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان”.(الحديث)

ويعتمد الإلزام على استثارة غريزة حب الظهور والرغبة في الثناء. وهذه من حكم القرآن التي تحول طاقة الغرائز وتعمل على إعلائها إلى الخير بأسلوب يستهدف تفعيل الطاقة الإيجابية في الإنسان بشكل بارع. وضمن هذا الأفق أخذ القرآن الكريم بأساليب التربية التي تعتمد على نظرة الإعلاء للغرائز مثل تحول المقاتلة للنهب والسلب إلى الدفاع عن الوطن والشرف والمستضعفين، واستبدال غريزة حب الظهور بالكرم والسخاء، والتبذير بالإنفاق في سبيل الله. كل ذلك لتوجيه الإنسان إلى عمل الخير وصرفه عن الشر.

و. الإلزام بواسطة السلطان

قد لا تجدي مع بعض الناس طرق الإلزام السابقة، لذا كان لابد من وازع أعظم وهو وازع السلطان؛ أي “العقوبات المختلفة التي فرضها القرآن على مرتكبي بعض الجرائم وفوض أمرها للحكام.”

وغير خاف أن مختلف وجوه الإلزام المذكورة إنما ترمي إلى تحقيق مقصد أساس يتمثل في توجيه الذات الإنسانية فكرا وشعورا وسلوكا، والارتقاء بها طورا بعد آخر في مدارج “الكمال” الإنساني المؤسس على الوحي أولا، والعقل ثانيا. فتصير بذلك ذاتا تواقة إلى مكارم الأخلاق المؤدية إلى الفلاح الموصول بالفرد كما الجماعة، نافرة من مساوئها المفضية إلى النكوص والتدهور على مستوى الذات كما الغير. وبقدر ما يتحقق هذا الانضباط الذاتي (والجماعي) الموجه بنور الدين والمعرفة تبدو علامات الاستقامة والصلاح التي تنعكس تعارفا وتعاونا بين الناس من جهة، وتنمية وإعمارا للمحيط الخاص والعام من جهة ثانية. وبهذا تكون الأخلاق ضمن هذا التصور أخلاق تعارف وتعاون وتنمية تمتد مفعولاتها من الفرد إلى الجماعة إلى الكون كله.

خاتمة

حاصل الكلام مما تقدم، إذن، أن النموذج الأخلاقي الإسلامي ليس مجرد بناء نظري مجرد أو مثالي لا يمكن  تطبيقه أو تفعيله، وإنما هو بناء يتيسر العمل به في جميع جوانب الحياة الإنسانية. إنه أنموذج يمد الإنسان بأخلاق مؤسسة ومتعدية وشاملة مما يجعلها أنسب الأخلاق لعالم اليوم والغد على حد سواء، لما يتصف به من واقعية وقابلية للتكيف.

فالقواعد الأخلاقية الإسلامية واقعية ومناسبة لطاقات البشر. وليست قواعد تجريدية مثالية يتطلع إليها الإنسان دون أن يتمكن من تطبيقها وبلوغها. وهي مع تلك الصفة الواقعية-الوظيفية فيها  كفيلة إذا طبقت أن تخلق الإنسان المفلح المستقيم في سلوكه وشخصيته المطمئن داخل مجتمعه المتعدي نفعه لغيره سواء كان إنسانا أو حيوانا أو ما سواهما.

وإذا تحقق هذا تحقق معه كذلك أن الأخلاق في الإسلام لها قيمة ذاتية، فهي غايات تقصد لذاتها وليست وسيلة لتحقيق مقاصد أخرى. إنها لا ترتبط بقواعد المنفعة بحيث تدور معها وجودا وعدما. وهي لا ترتبط بمذاهب اللذة التي عرفتها بعض المذاهب الخلقية الغربية. وإنما الأخلاق في التصور الإسلامي أهداف ينبغي السعي إلى تحقيقها في ذاتها  بصرف النظر عن  أية اعتبارات أخرى.

الهوامش

[1]. إسماعيل الفاروقي، التوحيد: مضامينه على الفكر والحياة، ترجمة السيد عمر، دار البحوث العلمية، 2010، ص122.

[2]. المرجع نفسه، ص129.

[3]. المرجع نفسه.

[4]. إسماعيل الفاروقي، أسلمة المعرفة: المبادئ العامة وخطة العمل، ترجمة عبد الوارث سعيد، دار البحوث، 1993 ص60.

[5]. إسماعيل الفاروقي، التوحيد: مضامينه على الفكر والحياة، م، س، ص18.

[6]. المرجع نفسه، ص129.

[7]. طه عبد الرحمن، سؤال الأخلاق، المركز الثقافي العربي، ط2، 2005، ص53.

[8]. المرجع نفسه، ص53.

[9]. المرجع نفسه، ص54.

[10]. المرجع نفسه، ص54-55.

[11]. مصطفى حلمي، الأخلاق بين الفلاسفة وعلماء الإسلام، بيروت: دار الكتب العلمية، ط1، 2004 ص101.

[12]. أحمد صبحي، الفلسفة الأخلاقية في الفكر الإسلامي، دار المعارف، 1969، ص17.

[13]. مصطفى حلمي، الأخلاق بين الفلاسفة وعلماء الإسلام، م، س، ص28.

[14]. إسماعيل الفاروقي، التوحيد: مضامينه على الفكر والحياة، م، س، ص126.

[15]. طه عبد الرحمن، سؤال الأخلاق، م، س، ص25.

[16]. إسماعيل الفاروقي، التوحيد، م، س، ص122.

[17]. المرجع نفسه، ص127.

[18]. طه عبد الرحمن، سؤال الأخلاق، م، س، ص158.

[19]. إسماعيل الفاروقي، التوحيد: مضامينه على الفكر والحياة، م، س، ص154.

[20]. أحمد صبحي، الفلسفة الأخلاقية في الفكر الإسلامي، م، س، ص51.

[21]. إسماعيل الفاروقي، التوحيد: مضامينه على الفكر والحياة، م، س، ص154.

[22]. محمد عبد الله دراز، دستور الأخلاق في الإسلام، تعريب وتحقيق وتعليق عبد الصبور شاهين، دار البحوث العلمية، ط1996، ص134.

[23]. عبد اللطيف العبد، الأخلاق في الإسلام، مكتبة دار العلوم، 1985، ص127.

[24]. ننبه في هذا المقام إلى أننا استفدنا من التصور العام الذي بسطه مصطفى حلمي في كتابه: “الأخلاق بين الفلاسفة وعلماء الإسلام”، بخصوص تصنيفه لأنواع الإلزام في القانون الأخلاقي الإسلامي مع تعديل ما بدا أنه محتاج إلى تعديل.

[25]. نديم الجسر، القرآن في التربية الإسلامية، القاهرة:  مجلة البحوث الإسلامية، 1971، ص102.

[26]. الراغب الأصفهاني، الذريعة إلى مكارم الشريعة، تحقيق طه عبد الرؤوف، مكتبة الكليات الأزهرية، 1973، ص66.

[27]. نديم الجسر، القرآن في التربية الإسلامية، م، س، ص122.

[28]. المرجع نفسه، ص97.

[29]. مصطفى حلمي، الأخلاق بين الفلاسفة وعلماء الإسلام، م، س، ص124.

Science
الوسوم

د. العياشي ادراوي

دكتوراه في اللسانيات التواصلية، أستاذ باحث/المغرب

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق